أحزانُ القبّة: كيف تكيّفت حماس مع التقدّم التكنولوجيّ الفائق للجيش الاسرائيلي؟

أحزانُ القبّة: كيف تكيّفت حماس مع التقدّم التكنولوجيّ الفائق للجيش الاسرائيلي؟
تحميل المادة

مقدمة الترجمة

منذُ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والمُراجعات لأسباب الإخفاق الإسرائيلي تملأ صفحات المواقع الإخباريّة ومراكز الأبحاث، لكنّها، على اختلافها، تكاد لا تخلو من الإشارةِ إلى فرط الاعتماد على التطور التكنولوجي وإهمال العمل على الجوانب التكتيكيّة والروح القتالية للجنود وقادتهم ممن يديرون المعارك من "الغرف المغلقة خلف الشاشات" بدلَ الميدان. تعتبر المقالة أنَّ القدرة على التكيف شكّلت القدرة الفارقة في إدارة حماس للمعركة، في وقت كانَ الجيش الاسرائيلي يُهمل عمليّة التكيف المضادّ باعتماده المفرط على صورته كجيش متقدّم تكنولوجيًّا.

نَصّ الترجمة

في حلقةٍ جديدة من الموسم الأخير لمسلسلِ "لوبّان"، يُعرضُ مشهد استرجاعيّ الشخصيّة الرئيسة، أسيان ديوب، مع صديقٍ لهُ، بينما يخطّطان للسطو الأوّل لهُما في سنوات الصبا، كهدفٍ لهُما، يختارُ ديوب منزلًا يعجُّ ببهارجِ الثراء وتقنيَّات الأمنِ الباهظة. صديقه متردّد، أمّا ديوب فمرتدِع، مذكّرًا شريكهُ الحذِر بحقيقةٍ جوهريّة "الشعورُ بالأمان ليس نفسهُ التنعّمَ بالأمان". وقد برهن ديوب على بعدُ نظرِ هذه العبارةِ، إذ تغلَّب على شبكة الأمن المعقّدة، وعلى مدار الأسبوع، برهنَ عليهَا مقاتلو حماس بإنهاكِ واحدٍ من أكثر الأنظمة الدّفاعية الجويّة تقدّمًا وترابطيّة في العالم: قبّة إسرائيلَ الحديديّة.

في مواجهة القبّة الحديدية

عندما شنّت حركة حماس هجومها المنظّم صبيحة يوم 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، استهلّته بوابلٍ من الصواريخ التي أطلقتها من داخل غزّة. هذه بالضبط فئة الهجوم التي توجد القبّة الحديديّة من أجل التصدّي لها، مع تنصيبها الأوّل عام 2011، سجّلت أول اعتراضٍ ناجحٍ لصاروخٍ أُطلق من غزّة بعد عدّة أيام فحسب.

خلال فترةٍ من الهجمات في مارس/آذار 2012، اعترضت القبّة الحديديّة خمسة وعشرين صاروخًا من أصل تسعين صاروخًا أُطلقت باتّجاه الأراضي "الإسرائيليّة"، وفي تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، حينما أُطلقت مئات الصواريخ خلال فترةٍ من المواجهات المُحتدمة، قدّر مسؤولون بأنَّ وتيرةَ اعتراض القبّة الحديدية للصواريخ قد بلغت85  في المئة. بحلول 2014، خلال عمليّة "الجرف الصامد"، نُشرت عشرة بطّاريّات، معترضةً 90  في المائة من الصواريخ القادمة. وفي 2018، زعمت إسرائيل بأنَّ القبّة الحديديّة قد اعترضت الصواريخ الأربعة التي اشتبكت معها بعد أن أطلقها أفرادٌ في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني من سورية. وعندما اندلعت التوترات مرة أخرى في أيار/مايو 2021، اعترضت القبة الحديدية بنجاح مرَّة أخرى 90  في المئة من القذائف على مدار فترةٍ من عشرة أيام.

على خلفيّة هذا الإحصاء، يبدو العدد الهائل من صواريخ حماس التي أصابت إسرائيل في الهجوم الأخير، بما في ذلك المدن المأهولة بكثافة، أمرًا لافتًا، لكن ثمّة متغيًّرًا آخر هنا وهي الكميّة.

على مدار السنوات الأولى من نشر القبة الحديديّة، تراوحَ العدد الأقصى من الصواريخ التي أُطلقت باتجاه "إسرائيل" يوميًّا، حتى خلال فترات الصراع المفتوح، بين192  إلى 312  صاروخًا. خلال معركة أيار/مايو 2021، ارتفع ذلك العدد ارتفاعًا ملحوظًا بواقع 470  صاروخا أُطلقت على مدار الساعات 24 الأولى من هجوم حماس. في صبيحة يوم السبت، أُطلق نحو 2200  إلى ما يزيدُ على 3000  صاروخ خلال20  دقيقة فحسب، وقالت حماس إنها أطلقت 5000  صاروخ.

كانت هذه الكميّة ببساطةٍ أكبر بكثيرٍ من قدرة القبة الحديديّة على التعامل معها. ومن المعروف بأنَّ صواريخ حماس تفتقد للدقةِ، والقبة الحديديّة مصممة بحيث لا تستخدم الذخيرةَ باتّجاه رشقاتٍ قادمةٍ لا يُشيرُ مسارُها بأنّها ستؤثّر على المناطق المأهولة بالسكّان. بالتّالي، إن أطلقت حماس عشرة صواريخ وأخطأت بتسعة، فمن المرجّح أن تتمكّن القبة الحديدية من اعتراض القذيفة العاشرة الحاسمة.

إن أطلقت حماس مئة صاروخ وأخطأت بتسعين، فهذا وضع صعب، لكن بالنظر إلى وتيرة النجاح المثبتةِ للنظام، فمن الممكن إفشال مُجمَل هذا التهديد إن لم يكن كلّه. لكن فلننظر إلى هذه الديناميكيّة عند  إطلاق ألف أو ألفين أو أزيدَ من الصواريخ، وستنتقلُ هذه الأفضليّة في نهاية المطاف لصالحِ المهاجم.

التكيّف التكتيكيّ بشقّيه: التطوريّ والثوريّ

في أيّ صراع كان، يتشكّل نمطٌ لا تخطئه العين من التكتيكات الهجوميّة الجديدة التي يُقابلها تكيّف دفاعي يسعى إلى تحييدها. فالتطوّرات في القوة الجويّة الهجوميّة تتبعها تطوّرات في القدرات الجويّة الدفاعيّة، بالإضافة إلى الصّراع الأبديّ على تحقيق الأفضليّة بين الدبّابات ومضادّاتّ الدبابات. وقد انقلبت أساليب عريقة في تنظيمِ القوات البريّة بعدَما كشفت تكتيكات جديدةٌ نقاط ضعفها. إنه نمط محتومٌ من الفعل ورد الفعل، لأنّ الحرب في جوهرها هي حقلٌ تفاعليّ. وهذا ما تخبرنا بهِ تأملات هيلموث فون مولتكه من أنَّ لا خطة عسكريّة يمكنُ أن تنجوَ من الاحتكاك الأول بالعدوّ. وبناء على ما سبقَ، فلا عجب أن يكون النّصر حليفَ الطرف الأكثر مرونة واستعداديةً للتكيّف.

لكنّ هذه الحقيقة، مهما بدت صحيحة، فإنها تحجبُ تمييزًا مهمّا بين التكيّفات الصّغيرة التراكميّة وبين الكبيرِ الجسيمِ منها، وبعبارةٍ أخرى فإنّها تحجب التمييزَ بينَ التكيّفات التطوريّة والتكيّفات الثورية، والتاريخ الحديث للعبوات الناسفة (IED)  في العراق مثالٌ توضيحي.

حينما ظهرت العبوات الناسفة على ساحة المعركة لأول مرةٍ في عام 2003، كان العديد من القوات الأميركية وقوات التحالف يتنقّل حول مناطق عمليّاتهِ في البلاد باستخدام عربات الهامفي خفيفة الدروع.

عندما اتّضحت معالم التهديد، سرعان ما أُضيفت الدروع إلى العربات وتمّ الأمرُ في بعض الحالات عبر تثبيت أي صفيحة توفّرت من الفولاذ بالمساميرِ لإنشاء ما بات يعرف بمدرّعة "هيل بيلي". تكيّف المقاتلون العراقيّون عبر تثبيت عبوات ناسفة ذات أحجام أكبر، ثمّ أضيفَ المزيد من الدروع للمركبات.

شهدَ التكيّف التالي للمقاتلين ظهور العبوات الناسفة المطوّرة التي كانت أقلّ قابليّة للكشف، مثل العبوات الناسفة في المركبات، وقدّمت إمكانيّة المناورة في توصيل العبوات، بالإضافة إلى العبوات الناسفة الأقحوانيّة [1]  التي حسّنت من استهداف تجمّعات التحالف، وحتّى العبوات المخبأة في جثث الحيوانات النافقة على قارعة الطريق.

كل واحد من المذكور أعلاه كان تكيّفًا تطوريًّا كان متبوعا بتكيّفٍ تطوريّ آخر بهدف التصدّي لتهديد جديد. غير أنَّ التكيف الثوري كان يلوحُ في الأفق، وبحلول عام 2006، حلَّ شكل جديد من العبوات الناسفة، "العبوات النَّاسفة الخارقة"، وكان وقعه كارثيًا على قوات التحالف المتنقّلة على طرقات العراق.

لم تكن هذه لدغةً من فئة الحجم أو أسلوب توصيل المتفجّرات التي يمكن مواجهتها بقليل من الدروع الإضافية أو حذرٍ أكبرَ من الجنود، بل تغييرًا في شكل السلاح نفسه، بما أنّها تألّفت من طبقٍ نحاسيّ مقعّر بشكل حادّ عند نهاية اسطوانةٍ محشوّة بالمتفجّرات، كان الانفجار يعكس اتجّاه التقعّر في الطبق إلى الخارج بحيث تعطيه شكل مقدّمة الصاروخ، بمقذوفةٍ مُذابة تمتلك القدرة على اختراقِ أي درعٍ في متناول قوات التحالف.

 طيلة عامين، وحتى إرسال فئة جديدة كليًّا من المدرعات بأعداد كبيرة في إنجازٍ مثير للإعجابِ، من حيث سرعة التسليم، كان السلاح الجديد يفتكُ بقوّات التحالف في شوارع العراق، وما أنجزته قوّات حماس قبل أيام إنجاز مشابه. ولو أنَّها تروّت في زيادةِ حجم الرشقات الصاروخيّة، كما فعلت سابقًا، لتجهّزت "إسرائيل" للردّ بزيادةٍ مماثلة، عبر رفع عدد بطاريات القبة الحديديّة على الأرض، وإضفاء تحديثاتٍ تقنيّة لتحسين أنظمة تعقّب الصواريخ والتزود بمزيدٍ من الذخيرة.

لكنّ حماس بدلًا من ذلك زادت من حجم رشقاتها الصّاروخية دراماتيكيًّا، وأنهكت القبة الحديدية. في غضون عامين، انتقلت الحركة من إطلاق حد أقصى يبلغ 470  صاروخًا في يوم واحد، بمعدل ما يقل عن عشرين صاروخًا كل ساعة، إلى عدة آلاف صاروخ في ظرف ساعة.

بريقُ التكنولوجيا المعمي

الفشل المقارَن للقبة الحديديّة يُرينا القيود التي تفرضها التكنولوجيا في حل المشكلات التكتيكيّة والعمليّاتيّة. لسوء الحظّ، فإن الانحياز للحلول التكنولوجيّة يهيمن على التخطيط الدفاعي في الولايات المتحدة وحلفاء مثل إسرائيل، ويعمل كنقطة انطلاقٍ لتصنيف جيش على أنه "بالغ التطوّر".

صواريخ حماس والعبوات الناسفة في العراق وأفغانستان مع أحد الأمثلة الأحدث، مثل أسراب المسيّرات على ناجورنو-كاراباخ وموجات الانتحاريين [من تنظيم الدولة] في سوريا، تبرهن على أنَّ بالإمكان تخطّي عقبة التقدم التكنولوجي. يمكن تجاوزها بالحجم أو نتيجة للرغبة السياسية من أطراف فاعلةٍ بعينها القيام بأي شيء من أجل تحقيق نتيجةٍ تكتيكية.

يعترفُ التحيز التكنولوجيّ المُبرز أعلاهُ بالطبيعة المتغيرة للحرب بالمعنى الكلاوزفتزي [3]. بالتأكيدِ أنَّ ثمّة علاقة تاريخيّة قويّة بين النمو التكنولوجي والإبداع العسكري، والجيوش الطامحة عليها أن تتنافس في المجال التكنولوجي لكي تُلمَّ بأعدائها. وبكلماتٍ أخرى، فإنَّ منطق الواقعيّة البنيويّة في العلاقات الدوليّة، أو الثقافة الأحدث من ديناميّات السوق التي تقول بمنطق المتحرّك الأوّل-التابع السريع [2] تضع أفضليّة التكنولوجيا العسكريّة نواةً لها، لكن التحيّز التكنولوجيّ لا ينبغي أن يُعمي المنافس عن الجزء الآخر من استبصار كلاوزفيتز، بأنَّنا إن وضعنا الإبداع العسكري التقني جانبًا، فإنَّ الحرب أساسًا هي صراع محتدم بين إرادات متعاكسة تخدم أهدافًا سياسيّة. عندما لا يمتلك منافسك أفضلية تكنولوجيّة، تأكّد من أنّ لديه استثمارات تضاهيها في العنف والإرادة والسياسة.

القبة الحديدية هي أحدث الأمثلة لعقبةٍ تكنولوجيّة حُيّدت بالقدرة على التكيّف، ويجب أن يكون واضحًا بعد عطلة نهاية الأسبوع الماضية النقطة التي يستطيع عندها التكيّف أن يتجاوز النظام، وبأي الطرق يمكن أن يحدث ذلك، حتى أكثر هذه الطرق خيالًا واستبعادًا. بعبارة أخرى، أن تتضّح نقطة التحول بين التكيّف التطوّري والتكيف الثوري.


هوامش:

[1] العبوات الناسفة الأقحوانيّة (Daisy Chained-IED) هي سلسلةٌ من العبوات الناسفة الطوليّة الشكل التي تأخذ شكل بتلات زهرة الأقحوان والموصولة معًا.

[2] في استراتيجيّات السوق فالمتحرّك الأوّل هو الذي يبتكرّ الأفكار الجديدة أما التابع السريع فهو الذي يلحظ على الفورِ هذه الأفكار ويتحرّك وفقًا لها.

[3] كلاوزفتزي* نسبة إلى الجنرال والمؤرّخ الحربي البروسي كارل فون كلاوزفيتز.

تُرجم بتصرّف، رابط الموقع الأصلي من هُنا