أزمة الانتاج الكتابي لدى النساء الفلسطينيات
قد تبدو الكتابة في موضوع كهذا سهلةً وواضحةً كإجابات معظم النساء المتعلمات اللواتي تحدثتُ معهن واللاتي يسارعن للتعذر بالوقت والمسؤوليات العائلية وأحيانا العمل، أو إجاباتٍ أخرى ربما تكون أكثر صدقًا مع النفس كأن تجيب بعضهن بـ: "ما بعرف أكتب" أو "عن شو بدي أكتب" أو "وين بدي أنشر"...
غير أن تلك النظرات الحائرة وأحيانًا المستغربة، والتي كانت تسبق إجابات أغلب النساء اللواتي قابلتهن، جعلتني أشعر وكأن سؤالي مستهجن، وكأنهن يسألن: "ولماذا أكتب أساسًا؟" تجيبني إحداهنّ: "أنا معلمة أدرس الأطفال"، وأخرى: "أنا طبية أعالج المرضى"، وأخريات يجبن بأنهنّ تخرجن وتزوجن وأنهنّ الآن يربين الأطفال .. فـ "أين موضع سؤالك وما معناه؟"، وأجيبهن أنا: "أوليست الكتابة جزءًا متممًا لعملك، منظمًا لأفكارك، معممًا لتجربتك، مساهمًا في رقي مجتمعك" ..
ذلك الجمود الذي استوقفني جعلني أتساءل إن كان الإنتاج الكتابي[1] لخريجات الدراسات العليا وطالباتها في الجامعات الفلسطينية أفضل حالًا؟ وهنا أنبه بأن ورقتي هذه ليست في مقام البحث الكمي لأعتمد في حجتي وتحليلي على الأرقام والإحصاءات التي يصعب الحصول عليها، غير أني استطعت أن أرسم تصورًا ما، بعد مقابلتي لعدد من طالبات الماجستير والدكتوراه، واللواتي لم يكن لهنّ أي مساهمه كتابية، فسألتهن عن أعداد الطلبة الإجماليّ في دفعتهن، وأعداد الطلبة الذين لهم مساهمات كتابية، فوجدت الأمر صادمًا حقًا، فمن بين تعداد طلاب بلغ (إناثًا وذكورًا) ما بين 15-20، في كل دفعة تقريبًا، كانت الإجابات أن هناك شخصًا واحدًا له مساهمات كتابية! ورغم أنه لا يمكن تعميم هذه النتيجة، ولكن، ألا يمكن أن نستشف أن هناك مشكلةً حقيقيةً تتمثل في وجود حاجزٍ ما يمنع تحول الإنتاج المعرفي إلى ثقافة، حتى في المجتمع الأكاديمي نفسه، فالسؤال هنا ما الدرجة العلمية التي ينتظرها هؤلاء المتعلمون لينطلقوا نحو الإنتاج المعرفي؟
ففي مقابلة مع طالبة الماجستر (نهى. ق) برّرت عدم خوضها لغمار الكتابة بصعوبة الأمر واحتياجه الى غزارة لغوية، وبأنها يعوزها التشجيع والإرشاد، فهي لا تعرف أين تنشر، وما هي الجهة التي يجب أن تتوجه لها، كما تعذّرت -من جهة أخرى- بضيق الوقت والمسؤوليات العائلية، إلى جانب مهامها الدراسية. وحين سألتها: "ألم تفكري بنشر أحد الأبحاث التي تنجزينها للمساقات؟ ردت بأنها فكرة جميلة ولكنها لم تخطر ببالها، وأن أيًا من أساتذتها لم يطرح موضوع النشر سابقا".
في دراسة * حول الأسباب التي قد تدفع المعلمة لتكون باحثةً وُجدَ أنّ:
- لا فروق ذات دلالة متعلقة بالدرجة الأكاديمية (بكالوريوس/ماجستير).
- لا فروق واضحةً بين من لديها مسؤوليات عائلية أو تلك المتفرغة.
- المعلمات الممارسات للبحث العلمي يمِلن إلى اعتباره عاملًا تطويريًا للعملية التعليمية والأداء الشخصي، على عكس غير الممارسات.
*دراسة ""متى يغدو البحث العلمي ثقافةً مجتمعيةً" أنوار قدح
عن إحجام المعلمات عن البحث
وفي دراسة سابقة كنت قد أعددتها بعنوان "متى يغدو البحث العلمي ثقافةً مجتمعيةً؟ دراسةٌ في تعاطي معلمات المراحل العليا في المدارس الفلسطينية مع البحث العلمي"، قمت بعمل دراسة على عينة من المعلمات الباحثات[2] وغير الباحثات في حينها -في المجمل فإن فئة المعلمات الباحثات في المدراس الفلسطينية هي فئة نادرة وأعدادها محدودة جدًا- ، وبحثت في الأسباب التي قد تدفع إحداهن لتكون باحثةً ولها مساهمات فكرية بينما تحجم الأخريات، وتوصلت الدراسة الى عدم وجود فروقاتٍ دلاليةٍ لها علاقةٌ بالتحصيل الأكاديمي للمعلمة الباحثة، (أي فروقاتٍ بين حملة درجتي الماجستير والبكالوريوس)، أو فروقاتٍ واضحةً بين من لديها مسؤوليات عائلية أو تلك المتفرغة، وتأثير ذلك المباشر على البحث العلمي.[3] بينما أظهرت الدراسة أرقامًا تدلّ على أنّ المعلمات الممارسات للبحث العلمي يمِلن إلى اعتبار هذا العامل (البحث العلمي) مساهمًا في تطوير العملية التعليمية، وتطوير أدائهنّ التعليمي الشخصي، فيما لا ترى غير الممارسات للبحث العلميّ من المعلمات أي علاقة بين البحث والتطوير.
كما أظهرت الدراسة أن فقدان البحث العلمي للجاذبية المادية من العوامل المخفّضة لخوض المعلمات لتلك التجربة، وذلك لقلة -وأحيانا انعدام- المكافآت المادية التي تقدمها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، سواءَ قصدنا بذلك الجوائز التي يمكن أن يحصل عليها المعلم أو المدرسة أو حتى الطالب نفسه؛ أو قصدنا ندرة تحول ذلك الإنجاز النظري إلى منجز مادي حقيقي، وبالتالي اختفاء "الفائدة المترتبة على المنجز"، وهو معيار مهم في الثقافة السائدة، وحافز مهم لانتشار الظاهرة.
وفي العموم، فقد أدّت كل تلك الأسباب السابق ذكرها مجتمعةً إلى الحيلولة دون تحول البحث العلمي لظاهرة ثقافية في المدرسة، وعزوف معظم المعلمات عن الخوض في غماره.
لذا فإن اختزال فعل الكتابة بشكله النهائي الذي يأتي على صورة حروف متراصة تفصل بينها فراغات تعرف على أنها كلمات تحمل دلالات ومعانيَ؛ في الأسباب الظاهرة التي تحول دون تحوّل الكتابة إلى ظاهرة مجتمعية، لهو عملٌ منقوصٌ سطحي. فالكتابة هي مُخرَجٌ لعملية طويلة معقدة يدخل في غمارها مجتمع بأكمله، فأنت لا تستطيع أن تطالب بذلك المُخرَجِ دون أن تنظر لمدخلاتك، فالحرية والقراءة والفضاء الرحب والتعليم المتحرر وحب الذات وسمو الروح على المادة، هي مُدخلاتٌ مهمةٌ لتنتجَ كاتبًا متصالحًا مع مجتمعه، وغير خائف على نفسه. فالكتابة حالة انفعالية يلجأ إليها الفرد في محاولة لإعادة اكتشاف ذاته ومحيطه معا.
وفي هذا الإطار اختزلت د. نوار ثابت في مقابلة معها أسباب إحجام النساء المتعلمات عن الكتابة في عدة نقاط منها: قلة القراءة والمطالعة، وضعف القاموس اللغوي، والافتقار إلى الخط الناظم في الكتابة، وضعف عمليات إنتاج الباحثين في الجامعات وتأهيلهم، وانتشار آفة شراء الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه، وقلة المراكز البحثية، والمردود المادي المتدني، وأحيانًا المعدوم للعمل الكتابي. أما أخصائية التغذية آية قدح فرغم اقتناعها بأهمية الإنتاج الكتابي ووجود بعض الحالات التي تستفزها أحيانًا للكتابة، فإن اقتناعها بضعف شريحة الجمهور الذي يقرأ يجعلها تختصر ما تريد قوله في منشورات بسيطة، تأتي عادةً على شكل بضعة سطور وبخطوط عريضة، مع إضافة الكثير من الصور الجاذبة، وقد بيّنت أنها لا تمانع خوض غمار الكتابة إذا توافر جمهور قارئ، ومنفعة مباشرة مترتبة على ذلك.
غير أن تلك الأسباب التي ذُكرت تنطبق على الذكور كما الإناث، فلماذا إذن تفوق نسبة الإسهامات الكتابية للرجال في فلسطين نسبة النساء، رغم أن عدد الإناث الجامعيات أكبر من الذكور، فقد أظهر الدليل الإحصائي السنوي لبيانات قطاع التعليم العالي الفلسطيني للعام الأكاديمي 2020-2021 أن نسبة الإناث في الجامعات الفلسطينية لدرجتي البكالوريوس والماجستير هي 61%، لاسيما في ظل الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تدفع عددًا كبيرًا من الذكور إلى الانخراط في سوق العمل. وفي هذا الإطار تتابع ثابت بأن هناك أسبابًا خاصةً بالنساء منها: عدم تأهيل الأماكنبما يتناسب واحتياج الأمهات الباحثات –فالمكتبات مثلًا غير مؤهلة لاحتضان الأمهات-، ومعيقات أخرى اجتماعيةتُفرض على الأنثى تتمثل في: صعوبة تنقلها، وحساسيةٍ تتعلق بالزيارات الميدانية والمقابلات.
أما طالبة الدكتوراه (ن، ق)، والتي تؤجّل فكرة الكتابة والنشر إلى ما بعد التخرج، فهي لا تنفي -إلى جانب كل الأسباب التي سبق ذكرها- أن هناك أسبابًا حقيقيةً تتعلق بالأعباء العائلية، وارتفاع نسبة خصوبة المرأة الفلسطينية نسبيًا، والمسؤوليات المنزلية، وأحيانًا بعض الوصاية الذكورية على المرأة، حتى وإن كانت المرأة عاملةً ومتعلمةً.
ولكن، وراء كل تلك الأسباب، ألا تقف أسباب أخرى تتعلق بهاجس الكتابة؟ خوفٌ من نوع ما يجعلنا نحجم عندما نتعامل مع النص؟ ففي ثقافتنا مثل يُقال: "الحكي ببلاش"، بينما المكتوب قد يرهنك أو يجرّمك أو يجرّك الى خانة الاعتراف، أو "يمسك عليك ممسكًا" كما يقولون، أي أنّ النص يمكن أن يتحوّل إلى مستندٍ يُستخدم ضدّك. ولكن أليست الكتابةُ فرصةً أخرى لنعيد رسم الصورة التي نرتضيها لأنفسنا؟ صورة نصبو فيها للمثالية ونرجو من ورائها أن تبقى كلماتنا وحروفنا شواهدَ على ذواتنا في الأزمنة الممتدة، فهي سيف نشهره في وجه الموت بأننا خالدون، وفي وجه القهر والضعف بأننا قادرون؟
ولكن، ماذا عن خوفنا من الخطأ في الكتابة؟ أخطاء تتعلق بالأفكار أو الأحداث أو ضياع الخط الناظم مما يخرج النصّ ضعيفًا ركيكًا؟ وماذا لو لم نمتلك من حبّ ذواتنا ما يجعلنا قادرين على إعادة كتابتها بصورة أجمل وأكثر مثاليةً؟ وماذا لو كنا خائفين من المواجهة، مواجهة ذواتنا؟ لنختبِئَ ونتعذّر بالأحداث اليومية والمشاغل العابرة لئلا نتواجه مع الأنا، فنقف أمامها عراةً متجردين من كل المكتسبات المادية، نسأل سؤال الإنسان الأول: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ ماذا عن خوفنا بأن نبوح بشيءٍ ما نخفيه عن ذواتنا قبل الآخرين؟ إذن سنكون كما قالت بلقيس الكركي في كتابها "إرادة الكتابة": "قد خسرت مرتين: صورتك، وحياتك". وتتابع بأنّ "الخطأ اليومي لا يصير خطأً مؤلمًا طالما لم يظهر للآخرين، وهو في عالم الارتجال، فالأخطاء اليومية في النهاية ليست أخطاءً حقًّا بل محض تفاصيل عابرة... أمّا الخطأُ في الكتابة هو الأصعب، تستطيع استدراك الأخطاء بالكتابة إذا كنت مؤلفًا جيدًا، لكن ماذا لو كان قرار الكتابة بحد ذاته خطأً؟".[4]
والخطأ في المجال العام للمرأة في ثقافتنا ممنوع، إذ إن المجتمع الفلسطيني لايزال يفضل مجالات محددة يمكن للمرأة خوضها كعملها في سلك التعليم والمهن الصحية والوظائف المكتبية. أما حين تقرر المرأة الخوض في فضاء أوسع فإن عين الرقيب تكون عليها أوسع، حتى أن أمثالنا الشعبية حين تأتي لتمتدح امرأةً لعمل ما فإنها تقول: "أخت رجال"، أو "امرأة بألف رجل"، ورغم أنّ قيم الرجولة تجاوز الذكورة ولا تنحصر فيها، إلا أنها كذلك في الموروث الشعبي، ومنها المثلان اللذان سقتهما واللذان يجعلان الرجولة محصورة في الذكورة. فالمرأة عليها أن تبذل أضعاف الجهد والمعاناة لتصل أولًا إلى مستوى الذكرِ، وهو ما يتحصّلُ عليه بشكل طبيعي فقط بسبب جنسه، وفي فلسطين يزيد الأمر تعقيدًا بسبب الاحتلال والعوائق التي يفرضها على التنقل والسفر والمراقبة الدائمة بكل أدواته القمعية لأي حراك ثقافي يصنف على أنه وطني؛ وهنا يزيد الخوف على المرأة من الاعتقال، فيتمثل إحجام آخر.
أخيرًا، إن أزمة الإنتاج الكتابي أزمة مستفحلة تعاني منها مجتمعات العالم الثالث بشكل عام رغم ارتفاع نسبة التعليم في بعضها، غير أنه تعليم قهري يمارس على المعلم والطالب على حد سواء، ترمي من خلاله الأنظمة المتسلطة إلى صهر الأجيال الجديدة في بوتقة النظام السياسي والنسق الاجتماعي.[5] هناك بالتأكيد حاجز بين النساء المتعلمات وعالم الإنتاج الفكري، لست متأكدةً من أن هذا سيتغير على الإطلاق. نتحدث عن تمكين المرأة وندعوها إلى خوض عالم الكتابة، لكننا لا نوفر لها فرصًا كافية (الوقت/ الموارد) للقيام بذلك. حتى المؤسسات النسوية التي تشعر وكأنها تحرك البلاد، فإنها لا تقدم شيئًا إلا في إطار خدمة رؤيتها التغريبية، بل وتقف عائقًا في وجه امرأة تبحث عن حرية فكرية دونما سطوة. ربما يتغير الوضع ببطء ولكن إلى أن يصبح ذلك واقعًا، أعتقد أن مفهوم الإنتاج الكتابي سيواجه صعوبةً كبيرةً في طريق تحوله لثقافة مجتمعية لا تربط هذا المَخرج بمهنة محددة أو شريحة بعينها.
الكتابة هي مُخرَجٌ لعملية طويلة معقدة يدخل في غمارها مجتمع بأكله، فأنت لا تستطيع أن تطالب بذلك المُخرَجِ دون أن تنظر لمدخلاتك، فالحرية والقراءة والفضاء الرحب والتعليم المتحرر وحب الذات وسمو الروح على المادة، هي مُدخلاتٌ مهمةٌ لتنتجَ كاتبًا متصالحًا مع مجتمعه
[1] يقصد بالإنتاج الكتابي القالب الذي يصب فيه المتعلم أفكاره بلغة سليمة، وبتصوير جميل، وهو الغاية من تعلم اللغة. وإتقانه يعد دلالة على ثقافة الكاتب وقدرته التعبيرية عن أفكاره بلغة سليمة وبليغة.
[2] ونقصد بهذا المفهوم تلك المعلمة ذات الإنتاج البحثي المحكّم سواء قدّم على شكل ورقة في مؤتمر أو نشر في كتاب أو مجلة.
[3] قدح، أنوار. البحث العلميّ كثقافة مجتمعيّة: توجّه معلمات المراحل العليا في المدارس الفلسطينيّة الحكوميّة نحو البحث العلمي
[4] الكركي، بلقيس. إرادة الكتابة
[5] باولو فريري، تعليم المقهورين، ترجمة نور عوض، (بيروت، دار القلم، 1980)،