أكرم خروبي أو كيف ينبثق النور من الظلال
كان كمن يمشي بخفة في طريقٍ مليءٍ بالألغام، غير أن مشيه لم يكن لذاته، إنما تلمّسًا ليهتدي، ويُهدي من حوله ما يعين على التماسك والاستمرار. تترتب الرؤى في عقله فلا ينطق بها بل يمشيها، هذا ربما ما جعل الدكتور أكرم خروبي مناسبًا تمامًا لمرحلةٍ تلت أوسلو رفضت فيها "حماس" التحوّل إلى حزب سياسي في المجال الذي تتيحه السلطة الفلسطينية الناشئة، وحاولت الحفاظ كما بعض الفصائل الأخرى على الأذرع العسكرية، مما جعلها موضعَ تركيز الاستعمار الصهيوني حينها وعرضةً للملاحقة، هذه الفترة ذاتها التي اغتيل فيها يحيى عياش وخاض حسن سلامة عملياته للثأر، واستشهد محيي الدين الشريف وعماد وعادل عوض الله، واستولى فيها الاحتلال على مراسلات الشهيد عادل مما كشف خيوط الاتصال للحركة في الضفة الغربية[1]. هذا السياق الذي عمل فيه د.أكرم بعد عودته من الولايات المتحدة حيث أسس ونشط هناك في الجمعيات والمؤسسات الإسلامية والخيرية بالإضافة لإدارته لحياته ومن ثم أسرته لفترة طويلة في غربةٍ عن البلاد وأهلها، دون أن يدّخر جهدًا في مسيرته الأكاديمية، كل هذا صقل شخصيته، غير أنه أيضًا امتزج مع شعورٍ سبق كل هذا وأسس له، شعور بالفقد والهزيمة التي باتت واقعًا جديدًا يراه الفلسطيني ويقارنه بما سبق ليجد نفسه وحيدًا أمام العالم، في فترةٍ بدأ الفلسطيني فيها بحثه عن طريقٍ للعودة أثناء محاولته البقاء على قيد الحياة. لا تنفك العودة عن الحياة في سيرة د.أكرم، كما في سير كل من عاش تلك المرحلة، وكأن فلسطين أرسلت أبناءها خلف الآفاق ليفهموا كيف حصل كل هذا ومن ثم ليعودوا إليها محمّلين بالأجوبة والتجارب (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: ٤٦]. هي سيرتنا نحن، أراها في كلمات آبائنا عن تلك الفترة وهم يقصّون رحلتهم الصعبة، من اليمن إلى الجزائر والعراق ومصر والسودان وصولًا إلى الاتحاد السوفيتي -حينها- وأمريكا اللاتينية.
هذا النص محاولة لاستعراض ما يمكن معرفته عن د.أكرم خروبي، ويمكن اعتباره أرشيفًا للوصول إلى ما كتب/ أنتج عنه من مواد، مع أهمية العودة إليها مباشرةً، وعدم الاعتماد على هذا الملخص القاصر، لذا جمعتها وطرقَ الوصول إليها في هوامش النص. اعتمدت اسم العائلة "خروبي" بدلًا من "الخروبي" وذلك بملاحظة الشهادة التي أرسلها الدكتور لابنته من السجن، حيث كتب اسمه "أكرم خروبي".
في الولايات المتحدة في أثناء دراسة الدكتوراه سنة ١٩٨٠
التعرّف على أكرم خروبي
لم ألتقِ بالدكتور أكرم من قبل، ولا أبالغ إذا قلت بأني لم أسمع باسمه أيضًا قبل رحيله، كان هذا الخفاء سمته وصفةً ميزته حيث لم يكن "مشهورًا إعلاميًا". لا يضرّه أننا لا نعرفه فالله يعرفه، لكن يضرّنا نحن، فصفة الخفاء هذه باتت حاجزًا بعدما فقدناه، وها أنا الآن أبحث عنه في شوقٍ لمعرفة من هو، فكيف لي أن أعرف؟ وهذا السؤال بينما يبدو بديهيًا إلّا أنه يشي بعجزنا عن المعرفة، معرفة من كان بيننا قبل قليل ورحل. في سبيل هذه المعرفة كتب أ.عوني فارس كتابًا[2] جمع فيه ذاكرة أهل الدكتور أكرم وأصدقائه وزملائه وتلاميذه من خلال مقابلات شخصية تركّزت بين شهري آذار/ مارس وتموز/ يوليو من العام الذي تلا رحيل الدكتور وألحقها بمقابلات هاتفية في تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة ذاتها، ليصدر هذا الكتاب تحت عنوان "الدكتور أكرم الخروبي: أكاديمي من أجل فلسطين ١٩٥٤ - ٢٠٢١" عن "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" بعد عامين تقريبًا من رحيل الدكتور.
كتاب "الدكتور أكرم الخروبي.. أكاديمي من أجل فلسطين"، تأليف: عوني فارس
أجاد أ.عوني في تفْصيلِ مراحل حياة الراحل وربطها بالسياقات حينها، تارةً في المتن وتارةً في الهوامش النافعة. وكما بدأ بتوضيح أهمية الكتاب: "الكتابة عن سِيَر أعلام الفلسطينيين في الأرض المحتلة كتابة عن الألم، والتضحية، والشجاعة، والمواجهة... خصوصًا أن فلسطين في مواجهة مفتوحة مع مشروع استعماري استيطاني إحلالي من أكثر من قرن"[3]، وانتهى الكتاب بدعوةٍ للمزيد من الكتابة عن د.أكرم ومن سبقه ممن كان لهم أثر في طريق فلسطين: "نحن نتوقع أنّه برحيله رحلت معه الكثير من الأفعال الجليلة والمواقف التفصيلية الشجاعة والنبيلة، لكن وبكل تأكيد تمكّن النص من حفظ بعض من إرثه، والبوح ببعض آثاره، ولعله يدفع آخرين لاستكمال العمل على شخصية الدكتور وتاريخه"[4]. احتوى الكتاب أيضًا على مجموعة من الصور الأرشيفية المهمة التي تعكس مراحل مختلفة من حياة الدكتور أكرم، استخدمتُ بعضًا منها في هذا النص.
هذا الكتاب هو المصدر الأول الذي لجأت إليه لمعرفة د.أكرم، فبالإضافة إلى النص ذاته أُشهِرَ الكتاب في ندوة من تنظيم "مركز بيت المقدس للأدب" وبلدية البيرة[5]، حيث أُلقيت عدة كلمات كان لها السبق إلى مسمعي لتقديم سيرة الدكتور على لسان أهله ومحبيه، بينما كان الدمع يهمس بين الحضور مبديًا ما اختلجت به الصدور.
رغم هذا كنت بحاجة لسماع صوته، حتى أدرك تلك البحّة التي وصفها زملاؤه في السجن، والتي قالوا بأنها جعلت صوته كصوت الشيخ أحمد ياسين[6]، ولحسن الحظ وجدت مقابلةً معه قبل ٧ سنوات تقريبًا[7]، فتأكّد لديّ المعنى وسمعت ما سمعوا. كما لفت انتباهي شكر طلبته له في التعليقات -حينها- حيث تتذكر إحداهنّ أنها درست عنده مساقًا عام ١٩٩٨، وهذا في حد ذاته امتداد في ذاكرة تلامذته يتبدى بعد كل هذه السنوات.
أخيرًا، أنتج "مركز القدس للدراسات" فيلمًا وثائقيًا بعنوان "أكرم الخروبي - قائد في الظلال"[8]، ركّز على تجربته التنظيمية.كما كُتبت عدة مقالات[9]،[10]،[11]وألقيت الكلمات في جنازته وبعدها[12]،[13]،[14] مما أثرى وقرّب صورته إلى المخيّلة.
في سجن النقب سنة ٢٠٠٦
مسؤولية الأكاديمي الفلسطيني
يتحدث علي شريعتي في كتابه "مسؤولية المثقف" عن نوعين من المثقفين، الأول: المثقف الأصيل، والثاني: المثقف المقلّد، ويعيد تعريف المثقف ليكون كلُّ من يشتغل بالفكر كالمعلم والأكاديمي والسياسي من طبقة المثقفين وفقًا لطبيعة عملهم ثم لأثرهم في المجتمع. ثم يصنّف المثقف المقلّد أو حامل الشّهادة الذي تعلّم العلم ولقّنه دون أن ينظر لحاجة المجتمع ودون أن ينطلق من أهدافه: "إن الذي تُطرح أمامه مشاكل تمس مجتمعه وتمس حياته لكنه لا يستوعبها، ولا يدري أنها تمس حياته، فيكون تعليقه أنها ليست من شأنه في حين أنها من شأنه تمامًا، مثل هذا الشخص ليس مثقفًا بالمرة"[15]. كان د.أكرم العكس لهذا الوصف مثقفًا أصيلًا نبع من ظروف شعبه واحتياجاته، فسد الثغر ولم يُؤتَ من قبله.
تكمن أهمية التركيز على مسيرة الدكتور أكرم في السياق الذي تعيشه الضفة الغربية الآن، بعد أن ضعف الحس الديني والوطني، وزادت التصورات الاستهلاكية والمواقف التطبيعية، وسادت الهزيمة في النفوس. لكن في اللحظة ذاتها، نجدها تنتفض من جديد في النفوس وتحيا من جديد بأيدي فصائل المقاومة بطيفها المتنوع. في اللحظة التي تشكّل فيها المواطن الفلسطيني الحيادي ودافع الضرائب الذي ربطته البنوك بالديون والرواتب لتدجينه وتشكيله بما يتلاءم مع حاجات الاستعمار، وبينما ساح الفلسطيني وسرح في حلم الدولة، عاد الدور الطليعي للأحزاب ليحاول إنقاذ ما تبقى ولينظّم الصفوف في المواجهة المتجددة مع الاستعمار الصهيوني. لم تغب المواجهة يومًا، ولكن غاب العمل الحزبي والتنظيمي عن ساحات الضفة الغربية، لذا نجد في مراجعة سيرة الدكتور أكرم ضرورةً لربط ما انقطع ولاستعادة ما فقدته الذاكرة الجمعية عن تاريخ تنظيماتها وعملها السياسي ومحوريّته في مواجهة الاستعمار.
يربط كتاب عوني فارس جهود د.أكرم بجهود من سبقه، فيسرد خطًا تاريخيًا لعدد من الأدباء والمثقفين والأكاديميين الذين شغلتهم فلسطين، من واصف كمال إلى ممدوح أحمد السخن وعبد الرحيم محمود وغسان كنفاني وحنا ميخائيل وأخيرًا جمال الزبدة.
تمكن الدكتور من تشكيل قيادة واحدة لحركة حماس في الضفة الغربية لأول مرة عام 1996، وكان يرأسها بالإضافة لإدارته مكتب وسط الضفة، ما ميّز تلك القيادة قدرتها على التواصل فيما بينها بالإضافة إلى كونها داخل الضفة وبقي الحال كذلك حتى شهر أيلول/ سبتمبر من سنة ١٩٩٩ تقريبًا. لم يُكتشف د.أكرم بسبب عمله التنظيمي في الضفة إنما بسبب الملاحقة الأمريكية للجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة، فقد أوصلتهم خيوطها إليه وأدت إلى التضييق عليه، ومن ثم اعتقال الاحتلال له، وفي ضغط التحقيق تعرض لنوبة قلبية على إثرها توقف التحقيق بعد أربعة أشهر.
قدّم في السجن دورات في اللغة الإنجليزية باستمرار، وساعد الطلبة داخل السجن وخارجه لإكمال دراستهم وكتابة رسائلهم، كما أشرف على أول رسالة دكتوراه تكتب وتناقش من داخل الأسر للأسير ناصر عبد الجواد. ولم يتوقف عن العطاء حتى واراه الثرى.
في سجن النقب سنة ٢٠٠٦
في خط الزمن
استعنت بالمصادر السابقة -الكتاب بشكل رئيسي- لإعادة ترتيب الخط الزمني لحياة الدكتور أكرم خروبي، حيث أذكر السنة ومن ثم المشهد الذي ارتبط بها -وهي مشاهد انتقائية-، هذا الشكل الخطي لترتيب الزمن قاصر عن تبيان الأثر العميق للمعاني المستقرة في النفس على الإنسان والمواقف، ويبدو سردًا باردًا لمسيرةٍ حيةٍ وتفاعليةٍ وعميقة. غير أن هذا النمط من الترتيب مهم لنا لتذكّر السياق الشخصي والمحلي والإقليمي الذي عاشه الدكتور.
١٩٢٢: ولد والد الدكتور أكرم، الأستاذ طه محمد الخروبي من حمولة عيدة في قرية لفتا.
١٩٢٤: ولدت والدة الدكتور أكرم، مريم سعيد مصطفى عبيدي من حمولة عيدة في قرية لفتا.
١٩٤٢: تزوّج والده من والدته وانتقلا للعيش في غرفة ببيت عائلة الخروبي.
١٩٤٧-١٩٤٨: تهجّر والده ووالدته وكافة أهالي لفتا بفعل هجمات الصهاينة. وانتقلوا للعيش في البيرة، أصرّت والدة أكرم على امتلاك العائلة لقطعة أرض وبناء بيت عليها.
١٩٥٢: عين أ.طه مدرسًا في مدرسة مخيم الجلزون التابعة لوكالة الغوث.
١٩٥٤: ولد د.أكرم طه محمد خروبي، في مدينة البيرة بتاريخ ١٧ شباط/ فبراير ١٩٥٤.
١٩٦٧: لحظة اللجوء الثاني للعائلة واللجوء الأول للدكتور أكرم، شعور الهزيمة والحس الثوري. يقول شقيقه وليد الخروبي: "لما صارت الحرب، طلب من والدي الذهاب إلى البلدية وفحص إذا بوزّعوا سلاح، وأبوي وقتها كان عنده حس ثوري. رحت على البلدية وكانوا مسكرين وما في حدا".
١٩٧٢: أنهى الدكتور أكرم دراسة الثانوية العامة، وقدّم طلبًا لمنحة دراسية في مصر، قُبل الطلب وسافر.
١٩٧٦: تخرج د.أكرم من جامعة عين شمس بدرجة البكالوريوس في تخصص الكيمياء الحيوية بامتياز مع مرتبة الشرف.
١٩٧٧-١٩٧٨: عاد إلى فلسطين وعمل في مستشفى رام الله ثم في قسم الكيمياء الحيوية في مختبر الصحة العامة برام الله. ثم حصل على منحة الإمديست لاستكمال دراسته في الولايات المتحدة حيث التحق بجامعة ولاية نيويورك.
١٩٨٣-١٩٨٤: نال درجة الدكتوراه وعاد إلى فلسطين وعيّن محاضرًا في كلية العلوم والتكنولوجيا بجامعة القدس.
١٩٨٤-١٩٨٨: سافر إلى الولايات المتحدة وعمل باحثًا في جامعة جورج واشنطن. في الوقت ذاته كانت تدرس أ.نجاح الخطيب -وهي من سوف تصبح زوجته لاحقًا- في الجامعة المستنصرية بالعراق حيث تخرّجت منها عام ١٩٨٦.
١٩٨٩: تزوج الدكتور أكرم من أ.نجاح محيي الدين الخطيب، من مواليد البيرة وأصلها من قرية قالونيا المهجّرة وهي قرية قريبة من لفتا.
١٩٨٩-١٩٩٤: عمل باحثًا في قسم الكيمياء الفسيولوجي في جامعة جورج واشنطن. في الفترة نفسها رزقا فراس سنة ١٩٩٠ ثم عمرو سنة ١٩٩٢ ثم مريم سنة ١٩٩٤. هناك اعتقاد بأن د.أكرم كان جزءًا من قيادة حركة حماس السياسية منذ سنة ١٩٩١. في سنة ١٩٩١ أيضًا توفي والده بجلطة قلبية بعيد صلاة الفجر. وفي سنة ١٩٩٣ تصاعد الضغط على الفلسطينيين الإسلاميين في الولايات المتحدة باعتقال محمد صلاح بتهمة تشكيل حلقة وصل بين فلسطين وكوادر الحركة في الولايات المتحدة.
١٩٩٤-١٩٩٦: عاد إلى فلسطين وعمل محاضرًا في دائرة المختبرات الطبية بجامعة القدس.
١٩٩٦-١٩٩٨: عمل رئيسًا لدائرة المختبرات الطبية فيها. وفي الفترة نفسها قاد حركة حماس في الضفة الغربية. كما تبنى رأي المشاركة في هبّة النفق سنة ١٩٩٦. مُنع من السفر سنة ١٩٩٧ ومن ثم اعتقل في نهاية ١٩٩٨. في سنة ١٩٩٧ رزق محمد.
١٩٩٩-٢٠٠٠: ساهم الدكتور في إقرار آليات جديدة في الانتخابات التنظيمية العامة داخل سجون الاحتلال.
٢٠٠٥-٢٠٠٦: كان مسؤول أسرى حماس في سجن النقب الصحراوي. وشارك في النقاشات التي سبقت قرار الحركة بالمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي.
٢٠٠٧-٢٠٠٩: خرج من السجن وعاد إلى التدريس في جامعة القدس مباشرة، حيث كان يعدّ المحاضرات أثناء اعتقاله.
٢٠٠٩-٢٠١٢: صار رئيسًا لدائرة المختبرات الطبية مجددًا، وحصل على جائزة التميز في التعليم من الإمديست عام ٢٠١٠. كما حصلت ابنته مريم على درجة الماجستير في التنمية المستدامة وبناء المؤسسات من جامعة القدس عام ٢٠١١.
٢٠١٢-٢٠٢١: تولى عمادة كلية المهن الطبية بجامعة القدس، وحصل على عدة جوائز (جائزة جامعة النجاح للبحث العلمي ٢٠١٧، جائزة البنك الإسلامي الفلسطيني للبحث العلمي ٢٠١٧، جائزة المسروجي للأبحاث التطبيقية والأفكار الإبداعية ٢٠١٩). في سنة ٢٠١٣ اكتشف إصابته بمرض السرطان.
٢٠٢١: توفي الدكتور أكرم خروبي مساء يوم الخميس بتاريخ ٤\٣\٢٠٢١ وشيّع إلى مثواه الأخير في اليوم التالي، رحمه الله رحمةً واسعة.
مع أولاده فراس ومريم وعمرو سنة ١٩٩٦
ملاحقة ما يطفو من السرديات
بينما تشعبت بنا الطرق وكأنها جذورٌ تسري من فلسطين باتجاه العالم لتبقينا متصلين بها، أو كأنها شبكةٌ من العلاقات كما يحلو للعلوم الاجتماعية أن تسميها، تسببت كذلك بإعادة تشكّل أهالي البلاد ولكن بعيدًا عنها. رافق د.أكرم أصدقاء كثر في رحلته، حيث يقول د.هشام درويش إنه رافقه طيلة حياته في الدراسة والسفر والعمل، وكانا يذهبان لاستقبال الطلبة العرب والمسلمين من المطار أثناء دراستهم في الولايات المتحدة. كما يخبرنا د.عماد البرغوثي عن قدرة الراحل العالية على التحليل، فبعد أن شارك في بناء الموقف من المشاركة بانتخابات المجلس التشريعي، بدأ بوضع تصورات لتشكيل الحكومة، في إشارة منه إلى عمله وتفكيره المستمر وجلده على التخطيط، وكلاهما تحدّث في ندوة إشهار الكتاب.
بينما يعمل العقل على تفضيل سلوك أو خيار ما من عدة خيارات، نجد هذا التفضيل يتأثر بما سبق من تجارب حفرت عميقًا في الذات، يصعب الجزم بهذا الأثر، كما أنّ معرفة ما يجول في الذات غير ممكنٍ إلّا بما فاض منها فظهر. ما يظهر أيضًا لا يصل إلينا كما هو، إنما يمرّ من خلال من شهدوا الحدث معه ومن رافقوه، وهو ما يزيد صعوبة عملية المعرفة، فكأنما نحن أمام مداخل متعددة لذات الشخص ولا تفضي بعضها للآخر، دون تخيّلٍ يصل ما أسقطته الذاكرة، هذا التخيل لا يكون بمعنى التزييف إنما بمعنى الرسم، فإذا ما كان العقل عقدًا من الأعصاب متصلة فيما بينها ومنفصلة، أيما يعمل منها يشكّل صورةً فإذا عملت ذات العقدة مع عقدٍ أخرى شكّلت صورةً ثانية وثالثة وهكذا، فإن العقل كذلك متاهة إلّا أن المداخل فيها جميعها توصلنا إلى تفصيل ما، ولا وجود لطرق مسدودة وهناك عدة مخارج. ما أحاول قوله من هذا التخْيّل أن ما نشاهده ما هو إلّا جزء من تعقيدات يمارسها العقل باستمرار لتظهر على شكل سلوك خفيف وبسيط، بينما هو تراكم طويل لتجارب واختيارات مسبقة ومبادئ محفورة عميقة في الذات، ويكفي للتدليل على هذه السرديات ما ذكر في الكتاب عن سردية بحّة الصوت: "يرى أخواه محمد ووليد بأنّه وقع في أثناء اللعب، وقد أعطي علاجًا من قبل الطبيب كان من تداعياته هذه البحة. أما زوجته أم فراس فترى أن السبب يعود إلى أنّه مرض ذات يوم وهو صغير وكانت درجة حرارته عالية، فأعطاه الطبيب دواءً كان من مضاعفاته تضرر إحدى الأوتار الصوتية، وحدوث البحة في الصوت"[16]، ومثال آخر على تعدد الروايات وتعقّد ما يبدو بسيطا ما ذكره الكتاب: "يعتقد البعض بأن الدكتور أكرم كان جزءًا من قيادة حركة حماس السياسية منذ سنة ١٩٩١"[17].
هذه المشاهد وغيرها يغلب عليها الظن أثناء إعادة تخيلها حيث لم يخبرنا بها د.أكرم صراحةً، وبينما تتفق الروايات على شيء، نجدها تختلف قليلًا وفق زاوية رؤية الشاهد للحدث، بينما المشاهد السابقة حملت بعض الظن كانت مشاهد أخرى للدكتور في غاية الوضوح، فمثلًا موقفه عندما جلب شهودًا أثناء حياته ليخبر ابنته مريم بحبه لها حيث أشهَدَ على حبه ثلاثةً من عمداء الأسرى: الأسير نائل البرغوثي، الأسير -حينها- الحاج أحمد جبارة، الأسير محمود عيسى في شهادة أرسلها إليها من سجنه، فشهد عمداء الأسرى على حب د.أكرم في أوضح صورةٍ ممكنة. كذلك أخبرنا في حديثه عن الشهيد أحمد خروبي (حيث يكون ابن عم والده): "تعرض والده وأقرباؤه للاعتقال، وتربى على حب الوطن، علاوةً على أن أحمد معروف في العائلة أنه شجاع، ومن الناس الذين يرمون أنفسهم على الموت. ودائمًا يكون في الصف الأول بالمواجهات مع الاحتلال، وكان الجميع يتوقع له نهاية مشرفة. ربنا أكرمه بالشهادة وهي منزلة لا يصلها أي إنسان"[18].
شهادة حب وتقدير أرسلها من سجن عسقلان لابنته سنة ١٩٩٨
في مشاهد أخرى من الكتاب يتتبع فيها أ.عوني بعضًا من آثار الطفولة على شخصية د.أكرم، فمثلًا كان والد الدكتور يقرأ له ولإخوته من كتاب رياض الصالحين صبيحة كل يوم جمعة بعد الفطور، كما أنه لم يعنّفهم مرةً رغم ما مروا به من تهجير، وهذه التربية انعكست على شخصيته فكان متدينًا طيبًا حنونًا، لا ينزل عن صفاته تلك وهو يتجاوز العقبات التي مرّت به وبعائلته. في موقف آخر رفض والد د.أكرم اللجوء إلى الضفة الشرقية، بل وقرر العودة إلى منزله قبل الإعلان عن وقف القتال، هذا الموقف يعيدنا إلى قرار د.أكرم العودة إلى فلسطين والتدريس فيها بينما كانت الجامعات والجنسية الأمريكية والمؤسسات التي ساهم فيها تفتح أبوابها له وترجوه البقاء فيها. هذه المواقف تشير إلى تعقّد مسألة الخط الزمني في علاقته مع الذات حيث تجد أحداث الماضي ماثلةً في الحاضر وفاعلةً فيه، وتجد أحداث الحاضر عاملةً في الذاكرة فتنتقي منها ما يدفعها إلى المستقبل.
لا أدّعي في هذا النص أنني عرفت الدكتور أكرم، لكن آمل أنني تمكنت من جمع المتاح لنقترب منه قليلًا.
مع والدته بعيد خروجه من السجن سنة ٢٠٠٧
[1] ساري عرابي، الدكتور أكرم الخروبي.. نظرة على قائد فلسطيني. ١٠ مارس ٢٠٢١، https://bit.ly/45VJo2I .
[2] عوني عبد الغني فارس، الدكتور أكرم الخروبي: أكاديمي من أجل فلسطين. ٢٠٢٣، https://bit.ly/3J3aQl3 .
[3] المصدر السابق، صفحة ٥.
[4] المصدر السابق، صفحة ٦٠.
[5] مركز بيت المقدس للأدب، إشهار كتاب "الدكتور أكرم الخروبي أكاديمي من أجل فلسطين". ٣١ أيار ٢٠٢٣، https://bit.ly/3P2G0wY .
[6] عوني عبد الغني فارس، الدكتور أكرم الخروبي: أكاديمي من أجل فلسطين. ٢٠٢٣، صفحة ٢٠.
[7] قناة معا. عميد كلية المهن الصحية الدكتور أكرم خروبي في برنامج "حديث الصباح". ١٩ حزيران ٢٠١٦، https://bit.ly/3oUpK6p .
[8] مركز القدس للدراسات، "أكرم الخروبي - قائد في الظلال". ٢٦ كانون الثاني ٢٠٢٢، https://bit.ly/3MZLrdc .
[9] عربي٢١، وفاة الدكتور أكرم الخروبي.. رائد تحويل سجون الاحتلال لجامعات. ٧ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/3WZco5F .
[10] المركز الفلسطيني للإعلام، أكرم الخروبي.. القائد الخفي. ٥ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/3P3XLfo .
[11] مركز رؤية للتنمية السياسية، أكرم الخروبي. ١٢ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/3NkRWsI .
[12] J Media، تشييع جثمان القيادي البرفسور اكرم الخروبي. ٦ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/3NlKVrE .
[13] J Media، تشييع جثمان القيادي البرفسور اكرم الخروبي من مدينة البيرة. ٥ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/43xJH20 .
[14] ساري عرابي، من هو البروفيسور أكرم الخروبي. ٦ آذار ٢٠٢١، https://bit.ly/43SoXSv .
[15] علي شريعتي، مسؤولية المثقف. دار الأمير، الطبعة الثانية ٢٠٠٧. صفحة ٥٢.
[16] عوني عبد الغني فارس، الدكتور أكرم الخروبي: أكاديمي من أجل فلسطين. ٢٠٢٣، صفحة ٢٠ في الهامش.
[17] المصدر السابق، صفحة ٣٦.
[18] محمود السعدي، الشاب الفلسطيني أحمد الخروبي.. تمنى الشهادة ونالها. ٢٢ كانون الأول ٢٠١٦، https://bit.ly/3MW1poM .