ألا تُعدَم قبرًا: ملابسات ما بعد الاستشهاد في غزة

ألا تُعدَم قبرًا: ملابسات ما بعد الاستشهاد في غزة
تحميل المادة

لماذا يدلف الإنسان من بابٍ كهذا إلى الحديث عن مأساةٍ من مآسي هذه الحرب؟ أما المأساة فهي وإن تلونت وتفرعت وتركَّبت واتخذت كسكينٍ مشنشرٍ ألفي حدٍّ مسنون سام، فسيبقى اسمها مأساة، وتبقى مشمولةً ببردةِ القهر الواحد الكبير. ولأننا لن نملك يومًا مجامع اللغة التي سنبثُّ شهاداتنا في مذراة حروفها للزمان، فقد حتِّمَ علينا أن نختنق بما لا قِبَل للحروف به إلى أن تدفعه الصدور في زفراتٍ هائلةٍ ستتبخر في الأثير، وبذلك تمسي هذه الشهادات إما هواءً يتنفسه الخلق، وإما أنها -وعساها- ستغيثنا في العام القابل بشتاءٍ سخي.

لكن، ومن أجل الإجابة على السؤال الأول هنا- أجِل معي بصرَك عشوائيًا في شارعٍ من شوارعنا، لا تغفِل الأرصفة والجزُر والأزقة والدكاكين، في مدارس اللجوء، في جامعات اللجوء كذلك، في أفنية البيوت.. في أي مكان اختصارًا؛ قطعًا ستجد قبرًا، مرةً باسم ساكنه وأخرى بعبارة (مجهول الهوية)، وإذا استفهمت عن قصة الدفن فستسمع غالبًا عباراتٍ من قبيل: "كانت الكواد كابتر/ القناصة تطلق النار على كل ما يتحرك فاضطررنا لسحبه ودفنه هنا،" أو "خِفنا أن يتحلل جسده إن تركناه إلى أن يتعرف عليه أحد،" "الطريق للمستشفى/ المقبرة لم يكن سالِكًا،" "هذا قبر مؤقت وسننقله -لما تفتح المقابر-.." إلى آخره مما يُندي الجبين. -وإن كان يبدو كارثيًا أن يدفَن إنسانٌ هكذا، هكذا بهذا الذعر الطاغي على كل إحساسٍ وأيِّ محاولة تعقُّل للموقف أو تحسسٍ لما يُفتَرضُ أنه ألم؛ فإن هذه أمنية جارتنا: أن تعود لتدفن أخاها. ولو على الرصيف. على الأقل حتى يسكُتَ هذا الضمير الجازع-.

لماذا مجددًا؟ لا لتفزع الإنسانية الكامنة في النفوس، ولا ليغتمّ مؤمنٌ ولا لينزعِج غافل؛ لكن وأولًا لأنه واقعٌ قد حصل، ونحن نعرف. ولأن النسيان تفريطٌ أثيمٌ مقيت، والثأر مفتقرٌ إلى ذاكرةٍ عصيّة، فوجب أن نرتق ثقوبها برُقَعٍ من فولاذٍ قاسٍ. ثم حتى يسجِّلها عندهم كتَّاب التاريخ وعدَّادو الجنايات، والواقفون على أبواب محاكم العالم بالدليل القاطع على الجرم المشهود.

وبعد أي شيء، لأنه حق أهلنا علينا، حق أصحابنا علينا؛ ألا نبدو كمن لا يدري ولم ينتبه ولم يرَ، أو كمن تمزق عنقه وهو يحاول أن يشيح بوجهه بعيدًا، جدًا، وهو لا يقدر أن يبرح مكانه.

هذه شهاداتٌ من شمال القطاع، عن تفاصيل التبسَت بمَصارع الشهداء، الذين دفِنوا منهم والذين لم يُدفَنوا، فلم يلبثوا كثيرًا حتى تقاسمت أبدانهم أكبادٌ رطبةٌ واختلطت عظامهم بأديم الأرض.

شهداؤنا طعام للجياع

شهادة (١): في تل الهوى، أعقاب انسحاب آليات جيش الاحتلال من الحي في أواخر ديسمبر الماضي وحين تجرَّأ بعض الأهالي على العودة لتفقد بيوتهم، تبيَّن أن الجيشَ قد ترَك قناصًا في المنطقة، فكان يتسلى باصطياد من يشاء في اللحظة التي تحلو له، فمرةً يقنصه وهو ذاهب، ومرةً يتركه ليقنصه وهو عائدٌ محملًا بأشياء استنقذها من بيته أو ركام بيته، وهكذا يومًا بعد يوم، كانت أعداد المفقودين في ازدياد. وفي تل الهوى كانت الجثث تتناثر في أرجاء المنطقة، على الأرصفة وفي الأزقة وعلى مداخل البنايات، والذاهب للتفتيش عنهم قد لا يعود.

أمام مخبز اليازجي في شارع تل الهوى، وبعد قرابةِ العشرين يومًا، توصَّل بهاء الدين إلى جثة صديقه ت.ج.

يروي بهاء الدين ما رآه وقصة دفن بقايا صديقه:

"كانت رِجلاه سليمتين لكن منتفختين، ربما لأنه كان يرتدي بنطالين، أما نصفُه العلوي فكان ثيابًا ممزقةً تحوي لحمًا منهوشًا بلا معالِم، وقد بدأ يتحلل. بعض عظامه كانت مبعثرةً حوله، مسحوبةً من جسده. الكلابُ الجائعة أكلته." "عرفتُه من حذائه؛ حذاؤه كان مميزًا رسميًا لونه بيج. جمعنا بقايا جثته ودفنَّاه في ساحة الكتيبة." أما زوجة ت.ج وصغيراته الثلاث فكنَّ قد نزحن جنوبًا. "بعدما علمَت زوجته باستشهاده بقيت تتصل بنا وتسأل: بالله عليكم دفنتوه؟ لكن حسرتها لم تطُل كثيرًا فبعد أقل من شهرين استشهدت هي وصغيراته الثلاث معًا في قصفٍ استهدف المنزل الذي نزحوا إليه جنوب القطاع".

شهادة (٢): يقول محمود أنه رأى غربانًا تحوِّمُ فوق مكانٍ محدد، ثم رأى عن كثبٍ غرابًا يحلِّق مبتعدًا وفي منقاره شيءٌ من لحم، ليتبين له عند الاقتراب أن جثة شهيدٍ كانت هناك. "لا أدري إن دفنها أحدٌ لاحقًا". 

شهادة (٣): حتى القطط.. روى عُمَر شتيوي أنه اكتشف جثةً على جانب الطريق، وكان ما دلَّه عليها أنه رأى قريبًا من عشر قطط تتجمَّع فوق بعضها على الجثمان. وكان هذا في أشُدِّ فترة الجوع، وليس هناك تفسيرٌ آخر لتجسُّر القطط على نهش لحم الإنسان، إذ لم تجِد هي الأخرى طعامًا. "عندما استوعبت المشهد سألتُ الله أن أجد من يدفنني عند موتي قبل أن تأكلني القطط." هذا ما قاله عُمر الذي امتنَّ الله عليه بأن وجد من يواري جسده في التراب عند استشهاده مؤخرًا.

ويتكرر المشهَد، فليست هذه الشهادات إلا قصصًا سمعتُها دون بحثٍ مقصودٍ مني بدايةً، وليسَت بسوابق لا شبيه لها، لكنها تكرَّرت وتداول أخبارها حتى الأطفال، وسمعها ذوو المفقودين العشرة آلاف الذين لا يعلمون إن كانت الأرضُ تقلُّ أحبابهم أم تواريهم.

وجديرٌ بالذكر أن الحوادث التي تكشَّفَت عنها مذبحة مجمَّع الشفاء في غزة ومجمَّع ناصر في خانيونس في مطلع ومنتصف نيسان الماضي تفوق هذه البشاعات بشاعةً ودموية، وقد حظيَت بتوثيقٍ إعلاميٍّ مكثَّف، على أن أشباه هذه الحوادث موزَّعةً على كلِّ الأحياء التي اجتاحها جيش الاحتلال بريًا تفوقُ بأضعافٍ حجم ما يظهر للإعلام، بل تفوق ما يظهر لنا ونحن في الحدث. وما صنعته قوات الاحتلال خلال المذبحتين بالأحياء ثم بجثامينهم هناك يجعل الإنسان يفضل أن تأكله كلاب غزة على أن تمس جسده تلك الأيدي النجسة، وهو ما يتفق عليه جلُّ من أعرفه هنا.

ويُذكَر هنا أن المقاطع والتقارير التي أصدرتها هيئة البث الإسرائيلية حول ملاحقة مئاتٍ من الكلاب الغزية الضالة لجنودٍ إسرائيليين، وشكاوى الجنود من مهاجمة الكلاب لهم في شمال القطاع، قد لا يبدو أمرًا مستغربًا إذا علمتَ أن هذه الكلاب يحتَمَلُ أنها تغذت على لحمٍ بشري سابقًا.

الرمادي بالأرجواني: اللحم والدم من أسفل الركام

على إثر كل مجزرةٍ سلاحها الصواريخ والقذائف: هنالك الأشلاء. وهناك بقع الدم المسفوح الذي أعيا الأرض أن تنْشِفه. وهناك مارةٌ ومفتِّشون، لن يبهت الزمَن مشهَد ما وعَته عيونهم من الذاكرة.

تختم أم حازم قصة استشهاد ابنتها مع عائلتها الذين احترقوا في منزلهم في حي المشاهرة: "والله راضيين ومتقبلين، بس لو إنها موتة مستورة!" لكن الرد الحاضر من السامعين يقول: "الحمد لله لاقيتوهم ودفنتوهم، غيركم لسة بيدور على بقايا أولاده."

وتبدو حسرةُ المفجوعين دائمًا ساربةً من هذا المنفَذ، ليست الحسرةُ في أنهم ذهبوا، ولكن في الميتة السوية الكاملة. في أن يمنعَك الممرض من الكشفِ عن وجه فقيدك، لأنه شيءٌ فوق الاحتمال، في ألا تجِدَ لشهيدك قبرًا تزوره، في ألا يضمَّ القبرُ كاملَ الجسَد.

وقد يكون تفسيرُ مأساةِ الأشلاءِ هذه، في عبارةٍ عجيبة سمعناها في الشهور الأولى للحرب، تقول:

"هادي الصواريخ مش مصنوعة للبشر يا عمي!"

هكذا خرجت الجملة المنبثقة من المذياع عن منكوبٍ غضِّ الاندهاش يهتِف من عمق النازلة. والحقيقة أننا لم نمنَع أنفسَنا بادئ الأمر ونحن نستمع من الابتسام -الأبله، شاذِّ اللون- استغرابًا من العبارة العجيبة. الناس على المذياع عمومًا يقولون أشياء عجيبةً حقًا، أعني أبناء الحدث أمام كاميرات الصحافة، وهذه واحدةٌ منها. أيُّ صاروخٍ هذا الذي صنِع (لِ) البشر يا عم؟!

لكن تلك الابتسامة البلهاء سرعان ما تلاشت إلى وجومٍ مريب، وبدت عبارته معقولةً إلى الحد الأقصى من المعقولية التي قد تنطوي عليها عبارةٌ بهذا الحجم. أدركتُ هذا والمشاهد تحاصرني وتتوالَد في ذهني؛ أول الجثامين، بقايا دماغ أسامة، الأكياس السوداء، الهشيم الذي كان قبل دقائق منزلًا.. صدَق العَمّ، لا يبدو أن هذه الصواريخ تستهدِف بشرًا عاديين كالبشَر، يحتمون بحجارةٍ كالحجارة، وصحيحٌ أنه بنصف صاروخ من هذه يمكنُك أن تقتل فيلًا متحصنًا على الفور إن أردت.

لمَ كلُّ هذا الإسراف؟ ما الداعي إلى استنفاد مخازن أسلحة القوى العظمى في العالم علينا، مع أن ربع هذه الذخائر يكفي ليؤدي غرضَ قتلِنا؟ ومع تذكر أن على هذه المخازن كذلك أن تغطي تكاليفَ محتملةً لموتِ آخرين غيرنا وتكاليف الحرب في جغرافيات أخرى؟ وبالمناسبة، هذه أسئلة لا تريد أجوبتها حقًا.

القتل وحده يكفي لينهي مسألة وجودِك، لكن التبشيع في القتل -وهو أشبه بعدوِّنا- يُستَجدى منه أن يكفيَ العدو مؤونة الناجين من بعد، على اعتبار أن القتلى لا يضيرهم تقطيعهم، لكنهم الأحياء الذين توهِنُ قواهم وتفتِّت عزائمهم وقلوبهم هذه المشاهد.

أما الأشلاء المتبقية فمصيرها: إما أن يُعثَر عليها وتُكرَم بالدفن، أو أن تصير طعامًا للمخلوقات التي شاطرت القوم الجوع ثم شاطرتهم أجسادهم، أو أن يشكِّل رُفاتُها مكوِّناتٍ جديدة ثريّةً تبارِكُ تراب الوطن وتربو به.

"وذلك في ذاتِ الإِلٰهِ وإن يَشَأ

يُبارِك على أوصالِ شلوٍ مُمَزَّعِ"

 

كيف تعامَل الناس مع "مجهولي الهوية"؟

منذ بداية الحرب، كان على الشعب أن يتعامل مع هذه القضية. بادئ الأمر حين كان الشهداء يجدون من يحضرهم إلى المشفى، كانت جثثهم تبقى في ثلاجات الموتى لأكثر من ثمانٍ وأربعين ساعة، حتى إذا لم يتعرف عليهم أحد، جهِّزوا للدفنِ الجماعي، بعد التقاط صورٍ لهم أو الاحتفاظ بشيءٍ من ثيابهم أو مقتنياتهم كالساعة والحذاء والخاتم. وقد تكرر الدفن الجماعي لعشراتٍ من مجهولي الهوية مراتٍ ومرات. ولا إحصائية دقيقة تفيد بأعداد هؤلاء، خاصةً بعد الاجتياح البري، حين تفاقَمت القضية.

وبعيدًا عن الدفن الجماعي ومقابر الطوارئ، ارتجَل الناس وسائل لمحاولة التوصل إلى ذوي الشهداء. على أحد المفترقات في جباليا ستجد ضريحًا كتِب عليه "شهيد مجهول الهوية، يوجد صور له عند (فلان الفلاني)" مع رقم للتواصُل. وفي تلِّ الهوى وجِدَ قبرٌ وضِعت فوقه الثياب التي كان يرتديها الشهيد لعلَّ أحدًا يتعرف عليها. قبور بلا أسماء كتِبَ عليها وصفُ أصحابها، قبور كتب عليها قصة استشهاد أصحابها، قبور لن تنتبه لكونها قبورًا، قبور بتواريخ وأخرى بلا تواريخ. قبورٌ بزهور وأخرى بلا زهور.

وربما تجد مارًا كلَّما وجَد قبرًا هرع إليه يقرأ ما عليه ويسأل عنه، أو آخَر يُمَشِّطُ منطقةً بعينِها بحثًا عما يُشتَبه أن يكون قبرًا.

وحديثًا بدأت سيارات وزارة الصحة تجوب الشوارع والزقاقات والحواري بحثًا عن القبور العشوائية لإحصائها وتسجيل التفاصيل بحيث تصيرُ الشواهد التي ارتجلها الناسُ مراجِع لوزارة الصحة، تفتش من خلالها عن الأسماء والأرقام والقصص، وتبحَثُ للناس عن ذويهم، وتحاول التعرف على مجهوليهم.

 

في بطون السباع وحواصل الطير: الكرامة لا تُمَسُّ بسوء

يبقى تطييبًا للنفوس القولُ أن كرامة الشهيد لا تُمَسُّ بسوء، دفِن أم لم يُدفَن، ومهما كان شكلُ جثمانه، وقد مثِّل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعِلت بهم لأفاعيل.

روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "لما انصرف المشركون عن قتلى أحد، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرًا ساءه، رأى حمزةَ قد شقَّ بطنه، واصطُلِمَ أنفه، وجُدِعَت أذناه، فقال صلى الله عليه وسلم: لولا أن تحزن النساء أو تكون سنةً من بعدي لتركتُه حتى يبعثه الله من بطون السباع وحواصل الطير…"

قال الخطابي: "إنما أراد ذلك ليتم له به الأجر ويكمل ويكون كل البدن مصروفا في سبيله تعالى إلى البعث، أو لبيان أنه ليس عليه فيما فعلوا به من المثلة تعذيب، حتى إن دفنه وتركه سواء." [تحفة الأحوذي] أيُّ فناءٍ بعد هذا الفناء؟ إن نفوسَ هؤلاء لتطيب بأن تكون أجسادُهم ترابًا يطؤه البرُّ والفاجِر، فكيفَ لا تطيب بأن تكون غذاءً لخلقٍ لله يسبح بحمده؟

كما لا يصحُّ من أي وجهٍ أن الشهيد لا يتحلل جسده ولا يأكله دود الأرض، وإن كان لبعض الشهداء هذه الكرامة، كما لقتلى أحُد، الذين أثيرَ عنهم في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فأخرِجوا "تتثنى أطرافهم رِطابًا." وتثعب جراحهم دمًا.

وقد حدث في اجتياح جيش الاحتلال لحي الجلاء في غزة أن حوصِرَت عائلة الحسني في بيتها هناك، ولما نفد الماء خاطر الابن عوني بالخروج لجلب الماء، وعلى الفور أطلِقَ عليه النار وسقط شهيدًا، فاضطر أهلُه إلى سحبه وإدخاله إلى المنزِل من فوق جدار السور الخلفي، ثم دفِن في قبو المنزل، فكان صغاره يجلسون عند قبره يصيحون ويتوسلون إليه بالخروج، فلما انسحب الجيش قرر الأهلُ نقل جثمان ابنهم من المنزِل، فنبشوا عنه فوجدوه كما لو كان قُتِل لتوه بدمائه على صدره. "كان عوني شابًا عاديًا، حسَن الخلق، عاديَّ التديُّن." يقول صديقه. "يبقى الذي بينه وبين الله، وما لا نعرفه".

إلا أنه لم يثبُت في الكتاب ولا في السنة أن أجساد الشهداء محرمةٌ على الأرض، فإن أرواحهم تُجعَلُ "في حواصل طيرٍ خضرٍ تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش" كما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليتم لهم النعيم.

وقد جاء في الخبر عن أنسٍ رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "امتنَّ الله على ابن آدم بثلاثٍ بعد ثلاث: بالريح بعد الروح؛ فلولا أن الريح يقع بدَّ الروح لَما دفَن حميمٌ حميمًا…" حتى رائحةُ المسكِ اختُصَّ بها شهداء في الدنيا وهي من جراحهم خالصةٌ يوم القيامة" تفجر دمًا اللون لون الدم، والعرف عرف المسك."

وربَّما أروَحَت جثامينُهم لطول مكثِها، وربما نهشَتها السباع، ولا يرى أهلهم أن في ذلك انتقاصًا من قدرِهم، وكيف وهم أدرى الناسِ بهم، وإنَّ منهم لمَن لا نرى لهم نظيرًا إلا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتزين بشرَفِ وكرامة سيَرهم كتب التاريخ لو أنها تحويها.

 

خاتمة

إلى هذه اللحظة من الكتابة لا زالت القصص تنثال عليَّ، وتزورنا صديقةٌ لتحدثنا كيف رأت بِكرَها مجندلًا في الطريق بعد اشتباكٍ طويل، وكيف عرفته من حذائه الذي بقي أسفل عظمة ساقه، وكيف لملمت عظامه وكفنته، ومغامرتها من أجل دفنه. هكذا تبدو كل الشهادات، متشابهةً من بعد، مختلفةً في التفاصيل، ونحن بينها في حاجةٍ لحوحةٍ إلى آذانٍ مع آذاننا وعيونٍ مع عيوننا، وقلوبٍ مع قلوبنا، حتى نصادر الحقيقة كاملةً وافية الكثافة، لئلا نعبر الموقف كالمستترِ من الأقدار خنوسًا، وحتى لا تتمزَّق أعناقنا ونحن نشيحُ بوجهنا بعيدًا دون أن نبرح المكان، وحتى تبقى التفاصيل حاضرةً في ذاكرة الشعب، بعيدًا عن النسيان.