أوبنهايمر.. الفيلم والقنبلة والعالِم .. والضحايا الغائبون
على سبيل التقديم..
تزامن عرض الفيلم الجديد Oppenheimer، للمخرج البريطاني/ الأمريكي كريستوفر نولان، مع الذكرى الثامنة والسبعين لإلقاء القنبلتين النووييتين الأمريكيتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتن. لم يكن هذا التزامن هو الذي أثار الجدل، حول فيلم أحد أكثر مخرجي هوليود أهمّية، ولكنّها الطريقة التبجيلية التي تناول فيها الفيلم السيرة الذاتية لأوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، وما تضمّنته من تغييب لضحايا القنبلتين، لهذه الأسباب، ولكونها لحظة تاريخية غيّرت عالمنا إلى الأبد، ولعلاقة أوبنهايمر بـ "إسرائيل"، تراجع هذه المادة الفيلم، وأوبنهايمر الحقيقي، بالاستناد إلى المعلومات التاريخية، وتعيد قراءة أوبنهايمر العالِم/ الفيلم في ضوء أعمال سابقة لنولان.
· التحرير
"عليكم بالشيخ الأعور، ابن جنّي فسلوه فإنه يقول ما أردت، وما لم أرد" *
* المتنبي[1]
لم يُبق كريستوفار نولان الكثير لتأويل فيلمه الأخير Oppenheimer، الذي قد يكون الأكثر إثارة للجدل من بين جميع أفلامه، وإن لم يكن الأفضل من بينها، حتى نولان نفسه حينما سئل بعد عرض Oppenheimer إن كان فيلمه Interstellar هو الأفضل، رفض الإجابة[2]، فـ Oppenheimer، هو الثالث على قائمة نولان من الأفلام الطويلة، من بعد عرض فيلم Interstellar، فضلاً عن فيلم رابع قصير هو Quay، وعدد آخر من الأفلام التي ساهم في إنتاجها، فلن يقول، والحالة هذه، إنّ ذروة إبداعه ظلّت على حالها بلا صعود فنّيّ منذ العام 2014 عند فيلم Interstellar.
لن يكون اللعب على الأبعاد الزمانية والتوظيف المربك للنظريات الفيزيائية هو باعث الجدل هذه المرّة، وإنّما ستكون المقولة السياسية/ الأخلاقية للفيلم هي محور ذلك الجدل، دون أن تخلو صناعة فيلم كهذا من تحدّيات فنّيّة، طالما أنّها تتناول سيرة ذاتية لشخصية معروفة وبالاستناد إلى كتاب منشور منذ العام 2005، وهو السيرة الذاتية التي قدّمها كلّ من كاي بيرد، ومارتن ج شيروين، لأوبنهايمر، بعنوان " American Prometheus: The Triumph and Tragedy of J. Robert Oppenheimer" (بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر)[3]، والذي قيل إنّه أخذ 25 عامًا من الوقت لإنجازه[4]، وهو العمل الذي قالت عنه صحيفة بوسطن غلوب بأنّه يقف "مثل جبل إيفرست بين جبال الكتب حول مشروع القنبلة وأوبنهايمر، فهو إنجاز من الصعب تجاوزه أو معادلته"[5]، وبالرغم من هذا التحدّي، فقد صعد الفيلم بالسيرة الذاتية الورقية إلى صدارة قوائم المبيعات في الولايات المتحدة[6].
فما الذي جذب نولان، المغرم بالتعقيدات الفيزيائية والأسئلة الفلسفية الصعبة، إلى تنفيذ فيلم سيرة ذاتية، لن يتوفّر على الكثير من الفرص لمفاجأة الجمهور؟!
كيليان مورفي مؤدّي دور أوبنهايمر في فيلم كريستوفار نولان الجديد
"ترينتي" .. الدمار والدراما
بحسب نظرية نولان في الصناعة السينيمائية، ينبغي أن يتقدّم الصانع السينيمائي بقدر ما على الجمهور، ليس كثيرًا، ولكن لا يجوز أن يتأخّر أصلاً[7]. هذه المعادلة ربما لم ينجح فيها كفاية في فيلم Tenet، الذي تقدّم فيه كثيرًا على الجمهور، حتّى وإن أمكن فهم قصّته بمجرد مشاهدته، فإنّه لا يمكن فهم النظريات الفيزيائية الكثيرة التي صارت حامل القصّة في الفيلم؛ إلا بعد قراءة الكثير من المقالات الشارحة للفيلم ونظرياته، وأيضًا، لأن التنفيذ لتلك الأفكار في فيلم استخباراتي طويل سيجعل منها فوضوية وغير مفهومة للمشاهد.
لكن ماذا يمكن أن يفعل في فيلم سيرة ذاتية، أحداثه كلّها معروفة، للمتلقّي، لكي يسبق هذا المتلقّي؟ بالتأكيد سيلعب على الخطوط الزمنية، ليس بتوظيف النظريات الفزيائية عن الزمن، ولكن بتقنيات التداخل السردي، والارتداد إلى الخلف، وهي التقنيات التي يرى نولان أنّها الأصل في العمل السينيمائي، منذ الأفلام الصامتة وبدايات الأفلام الملونة، حتى جاء التلفزيون في الخمسينيات وأفسد هذا الأصل، بيد أنّه بات الآن، بسبب وسائط العرض الجديدة، مثل المنصّات، ممكنًا أكثر من أيّ وقت مضى العودة إلى القدرة على مفاجأة الجمهور بهذا التداخل السردي، حتى في فيلم سيرة ذاتية معروفة أحداثه، فقد اختار نولان ثلاثة خطوط زمنية في سيرة أوبنهايمر، للانتقال المستمرّ بينها، محورها جلسة الاستماع للجنة الطاقة الذريّة التي جرّدت أوبنهايمر من تصريحه الأمني بسبب علاقات سابقة له بالشيوعيين وتحفّظه على تطوير القنبلة الهيدروجينية، وهو محور السيرة الذاتية الورقية نفسها. كما اعتمد التغاير اللوني، بين الملوّن، والأسود والأبيض، للتمييز بين رؤية أوبنهايمر، والرؤية "الموضوعية" للأحداث، وهذا التغاير اللوني المستند إلى التداخل الزماني في السرد استخدمه كذلك في فيلمه Memento.
لكن يبقى السؤال عن الدافع السينيمائي، لتنفيذ فيلم سيرة ذاتية، تتقلّص فيه الفرص للتجارب السردية المفاجئة للجمهور. لا بد، والحالة هذه، من لحظة عاطفية درامية، تشدّ الصانع السينيمائي، لمحاولة إبداع تلك التجارب لتكون الحامل الفنّيّ للقصّة. هذه اللحظة، هي لحظة "ترينتي" الاسم الرمزي الذي أُطلق على الاختبار النووي الأول في صحراء نيومكسيكو.
العلماء الفيزيائيون في مشروع "منهاتن" لصناعة القنبلة النووية الأولى، فشلوا في تحييد احتمال حصول تفاعل نوويّ تسلسليّ بعد إطلاق القنبلة الأولى، ممّا من شأنه أن يدمّر العالم كلّه، لا اليابان وحدها! كان الاحتمال ضئيلاً، لكنّه ظلّ قائمًا، وبالرغم من ذلك ضغطوا على الزرّ! هذه هي اللحظة الدرامية التي جذبت نولان أكثر من أي شيء آخر لصناعة فيلم عن أوبنهايمر، وهي اللحظة التي تمثّل مفتاحًا لمحاكمة نولان على فيلمه هذا.
تبدأ القصّة كما يقول نولان نفسه[8]، مع فيلم Tenet، في ذلك الفيلم تكتشِف عالمة مجهولة من المستقبل خوارزمية من شأنها أن تعكس القصور الحراري (Entropy) للعالم، مما يعني في النتيجة فناء العالم. في واحدة من حوارات هذا الفيلم، يأتي ذكر أوبنهايمر، بالمقارنة مع تلك العالمة المستقبلية المجهولة، فقد ندمت على اختراعها، ووزّعته على تسع قطع دفنت كلّ واحدة منها في ماضي البشر في أكثر الأماكن سرّية وأشدّها حراسة، أي في تسع منشآت نووية، ثمّ انتحرت. بحسب تعبير إحدى شخصيات فيلم Tenet، كانت تلك العالمة متمرّدة، بينما أوبنهايمر، ضغط على الزر بالرغم من احتمالية التفاعل النووي التسلسليّ، وهو ما يعني أنّه، بحسب مفهوم المخالفة، وفي أحسن أحواله، لم يكن متمرّدًا.
نقد في هامش الدعاية
بناءً على هذه المحاورة، قد يُفهم أن نولان سيقدّم قراءة نقدية لأوبنهايمر، إلا أنّ ما حصل كان خلاف ذلك، ودون أن نجهد أنفسنا بتأويل فيلم أوبنهايمر الذي يعطي مقولته بوضوح، فقد تبرّع نولان نفسه، وبسخاء، في شرح رؤيته، غير النقدية، والتي لم تخل من حيرة بخصوص أسئلة، بحسب ما يقول، تصعب الإجابة عليها.
يرى نولان، أن الذرّة جزء من حقائق الوجود، وبهذا الاعتبار تعامل معها العلماء الطبيعيون، وبكلمة أخرى، أن السيرورة الحتمية للعلم، كانت سوف تفضي إلى انشطار الذرّة في النتيجة، فحتى، وبالرغم من أنّ العالم أفضل، دون أسلحة نووية، فإنّ الأسلحة النووية حقيقة طبيعية، لأن الذرّة حقيقة طبيعية، تمامًا كما أن الشمس قنبلة هيدروجينية كبرى، مما يعني أنّ القنبلة الهيدروجينية البشرية ستكون حقيقة.
قال نولان ذلك بالرغم من أنّ صناعة القنبلة الهيدروجينية كانت واحدة من أهمّ العقد الدرامية للفيلم، حينما تحفّظ عليها أوبنهايمر، الأمر الذي جعل تحفّظه من موضوعات مساءلته وأسباب سحب ترخيصه الأمني، وهو ما يعني بالضرورة أنّ اتخاذ موقف رفضيّ أمر ممكن.
تلتقي هذه القضية، بقضية التسابق مع النازيين على صناعة القنبلة النووية الأولى، وهو الأمر الذي يتوقف عليه مستقبل العالم. جوهريًّا، ولو جرى التسليم بحجّة كهذه في سياق التدافع البشريّ، فإنّه لا معنى لتعميم مقولة أنّ امتلاك الولايات المتحدة لقنبلة نووية سيكون أفضل من امتلاك النازيين لها، بدليل التاريخ نفسه، فالولايات المتحدة القوّة الوحيدة في العالم التي استخدمت هذه القنبلة مرّتين، حتى الآن، وأبدت استعدادًا دائمًا لاستخدامها، فقد اقترح الجنرال الأمريكي دوغلاس ماك آرثر، خطته للفوز بالحرب الكورية، بعد تدخل الصين، والتي تقضي باستخدام ما بين 30 إلى 50 قنبلة نووية تكتيكية. يقول دوغلاس ماك آرثر عن خطته تلك، في مقابلة أخذت منه عام 1954 في عيد ميلاده الرابع والسبعين: "من بين 20 حملة كبرى قدتها في حياتي، فإنّ الحملة التي حرمت منها، هي التي كنت فيها أكثر ثقة بالنجاح من غيرها. كان بوسعي إنجاز الانتصار في الحرب الكورية في مدّة أقصاها عشرة أيام، وهو ما كان من شأنه أن يغيّر التاريخ"[9]، وقد كان يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر 1962، والذي عُرِف بالسبت الأسود، الظرف الأكثر احتمالاً لنشوب حرب نووية، بين القوتين النوويتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في أزمة الصواريخ الكوبية[10]، وهذا الاستعداد الأمريكي لاستخدام أيّ سلاح، أظهر الفيلم إدراك أوبنهايمر له، ممّا عزّز من تحفّظه على إنتاج القنبلة الهيدروجينية، ولكن ذلك لا يخلو من مفارقة، تجعل ما أدركه أوبنهايمر عديم المعنى، إذ كان يعلم أصلاً أنّ قنبلته النوويّة سوف تستخدم في هذه الحرب، ضدّ اليابان تحديدًا!
ينبغي أن يضاف إلى ذلك، ما يُقال تحديدًا، عن إفشال العلماء الألمان لمشروع صناعة القنبلة النووية الألمانية لأسباب أخلاقية، وهو ما يُنقل تحديدًا عن العالم الألماني الحائز على جائزة نوبل فيرنر هايزنبيرغ، وهو أمر جدير بالبحث في مقابل الدعاية الأمريكية/ الغربية، التي بات يصطفّ اليوم في طليعتها فيلم نولان عن أوبنهايمر، لكن ومهما كانت حقيقة تخريب العلماء الألمان لجهود الرايخ الثالث في إنتاج السلاح النووي، فإنّه بات مؤكدًا أنّ ألمانيا لم تكن قادرة وقتها على توفير الموارد اللازمة لإنتاج هذا السلاح[11]، فقد شارك 100 شخص في المشروع الألماني مقابل 250 ألف شخص في مشروع "منهاتن" الأمريكي؛ كانت لهم أدوارهم المتنوعة، وأنفقت ألمانيا مليون دولار على مشروعها، مقابل أكثر من ملياري دولار أنفقها الأمريكان على مشروعهم[12]، ممّا يجعل الحجّة الأساسية في الفيلم داحضة، وهي الحجة ذاتها التي أنطق نولان بها الفيلم، وجعلها منظاره الشخصيّ للأمر برّمته.
نولان في إحدى لقاءاته: من الصعب أن تتعمق في أسئلة القنبلة الذرية، كيف آلت إلى ما آلت إليه؟ ما هي القنبلة الذرية؟ وما ستؤول إليه؟
أمريكا: باسم القنبلة
قد يكون الدفع العلمي، ابتداءً لإنتاج القنبلة النووية، لاسيما من العلماء اليهود، مرتبطًا باحتمالات نجاح ألمانيا في صناعة السلاح النووي. الجهود على هذا الصعيد مؤكّدة تاريخيًّا، كما في رسالة آينشتيان التي أرسلها إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزففلت في 2 آب/ أغسطس 1939 ينبّه فيها إلى أهمّية التفاعلات النووية التسلسلية في تطوير القنابل النوويّة، محذّرًا من كون ألمانيا قد أوقفت بيع اليورانيوم وأنّ فيزيائييها يجرُون أبحاثهم على اليورانيوم[13]، لكنّ هذه الرسالة كانت مع بداية الحرب العالمية الثانية، التي انتهت فعليًّا بهزيمة هتلر، في 8 أيار/ مايو 1945، بعد ست سنوات على تلك الرسالة، أي قبل ثلاثة شهور من إلقاء القنبلة النووية الأولى في 6 آب/ أغسطس على هيروشيما و9 آب/ أغسطس 1945 على ناكازاكي اليابانيتين، بالإضافة إلى ذلك لا يمكن التجاوز حين الحديث، عن تشجيع العلماء السياسيين على المضيّ نحو صناعة القنبلة النووية، عمّا كتبه أوبنهايمر في آب/ أغسطس 1943، وقال فيه: "من الممكن أن يكون لدى الألمان، بحلول نهاية هذا العام، ما يكفي من المواد المتراكمة لصنع عدد كبير من الأدوات [القنابل الذرية] والتي سيطلقونها في وقت واحد على إنجلترا وروسيا وهذا البلد"[14]، وقد بات في حكم التاريخ المؤكد أنّ ذلك لم يحصل.
هزم الجيش الأحمر السوفييتي ألمانيا النازية التي لم تطوّر أيّ أسلحة نووية. لن تغيب هذه الحقيقة عن صنّاع الفيلم، الذين استخدموا حجّة السباق النووي مع ألمانيا كثيرًا لتوفير الذرائع الأخلاقية لعلماء مشروع "منهاتن"، ومن ثمّ، لا بدّ من الانتقال إلى حجّة أخرى مفادها، أنّ استخدام السلاح النووي الوسيلة الوحيدة لإنهاء الحرب مع اليابان، بالرغم من أنّ اليابان كانت قد دخلت في طور البحث عن صيغة مشرّفة للاستسلام، ففي شهري حزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو، أي بعد هزيمة هتلر، حاولت اليابان الدفع بالاتحاد السوفييتي ليكون وسيط مفاوضات بينها وبين الولايات المتحدة، أي قبل أن يعلن الاتحاد السوفييتي حربه على اليابان في 8 آب/ أغسطس 1945، بعد اتفاق حياد وقعه معها في نيسان/ إبريل 1941،[15] وفي حين أنّ مفاوضات مباشرة لم تحصل بين اليابان والولايات المتحدة، فقد اعترضت الولايات المتحدة رسائل للحكومة اليابانية تكشف عن تأييد أوساط فيها للاستسلام التام، وهو ما كانت تدعو إليه كذلك شخصيات دبلوماسية يابانية تعمل خارج اليابان، وبينما لم يكن الاستسلام غير المشروط مجمعًا عليه لدى اليابانيين، فإنّ معارضي الاستسلام التام من اليابانيين كانوا يوافقون على سلام تفاوضي مشروط[16]، وهذا القدر من الحكاية، هو رواية أمريكية على أيّة حال، وليست رواية خصوم الولايات المتحدة، ومهما كانت المزاعم الأمريكية بخصوص المخاوف من الشروط اليابانية، فإنّه لا يمكن ولا بأيّ حال اختراع حجة تغطّي إلقاء القنبلة الثانية على ناكازاكي، بعدما كانت واشنطن أصلاً قد أحرقت نصف طوكيو بالسلاح "التقليدي"! فضلاً عن دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضدّ اليابان مما كان سيجعل من استسلامها حتميًّا.
لماذا أُلقيت القنبلة على ناكازاكي، وقد كانت القنبلة الأولى على هوروشيما كافية لإنهاء الحرب وفق الشروط الأمريكية، لو سلّمنا بالحجّة الأمريكية؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، دون النظر في طبيعة كلّ من القنبلتين، فالأولى التي سمّاها الأمريكان "الولد الصغير" اعتمدت على اليورانيوم، بينما القنبلة الثانية والتي سمّوها "الرجل السمين" اعتمدت على البلوتونيوم[17]، فهل يمكن استبعاد الاحتمال القائل، بأنّ الولايات المتحدة اتخذت من عشرات آلاف البشر والمخلوقات الأخرى، وكلّ ما يتصل بحياتهم ووجودهم، مختبرًا حيًّا لتجريب أكثر من نوع من القنابل النووية؟!
بالإضافة إلى ذلك، وما دام قد وقع أوبنهايمر ضحية المكارثية، وأخذ يدفع ثمن صداقاته السابقة مع شيوعيين، حينما كان للشيوعية غوايتها في عقر دار الرأسمالية، وأوبنهايمر يفتخر بقراءته "رأس المال" لماركس، باللغة الألمانية، قبل أن يقطع ذلك كلّه مع دخوله في مشروع "منهاتن" موديًا بحياة عشيقته الشيوعية التي انتهى بها الاكتئاب إلى الانتحار، فمن الضروري القول، إنّ أمريكا كانت تستعرض قوتها "التي لا تقهر" إزاء حليفها ضدّ النازية، وخصهما الأيدولوجي، الاتحاد السوفييتي، وتؤسّس فعليًّا بذلك إلى حرب باردة[18]، كادت أن تضع العالم أكثر من مرّة على حافة حرب نووية مدمّرة، لكن ما لا يقلّ أهمّية عن ذلك أنّ إدارة ترومان، أرادت، بأرواح أكثر من 300 ألف ياباني، ماتوا مباشرة أو بفعل الإشعاع والعواقب الأخرى الناجمة عن القنبلتين النوويتين، في إحصائيات غير دقيقة، الإعلان الأمريكي، للسيادة على العالم باسم القنبلة النووية. هذه الحرب الباردة، تحوّلت في المملكة المتحدة، إلى ثقافة شعبية تبشّر بنهاية العالم، في هذه الأجواء ترعرع نولان، وعلى أمثال أفلام جيمس بوند في الستينيات التي دارت حول توتّرات الحرب الباردة، نشأ، ومع ذلك، أنتج فيمًا تبجيليًّا للرجل الذي فعل كلّ شيء لإطلاق القنبلتين على اليابان!
أوبنهايمر: اقتلهم .. ذلك ضروري
في مقابلة أجريت مع أوبنهايمر على قناة فرنسية العام 1962، يسأله المذيع إيتيان لالوف: "يعتقد الكثير من الناس أنّ اكتشافنا للانشطار النووي، هو أكبر من قدرة البشر على التعامل معه، ممّا يعني أننّنا نلقي بأيدينا إلى التهلكة"، يجيب أوبنهايمر: "هذا قد يحدث. لستُ متفائلاً، لكن الأمل لديّ لم يمت بعد"[19]. يعلّق نولان على كلمات أوبنهايمر هذه، مبديًا إعجابه بقدراته التواصلية، ينتبه إلى حذر أوبنهايمر ودقّته في انتقاء كلماته. يقول نولان إنّ أوبنهايمر بعد إلقاء القنبلتين كان حريصًا على ألا يعتذر، وألا يتحمّل المسؤولية، لكنّ ما قام به بعد ذلك، كان ينمّ عن الشعور بالعار والإحساس بالمسؤولية، أي ما صار إليه من المناداة بفرض الرقابة الدولية على الأسلحة النووية، فبالرغم من صعوبة الاحتفاظ بالتفاؤل إزاء أسئلة القنبلة النووية، فإنّ أوبنهايمر ظلّ حريصًا على تقديم المساعدة.
هذا الملخّص الذي يقدّمه نولان في واحدة من اللقاءات[20] التي أجريت معه، يكثّف مقولته في الفيلم، والتي تستند إلى بعض الحجج السابقة التي يسهل تفنيدها، بحكم التاريخ، وإلى بعض الحجج الواقعية، من قبيل أنّ ما فعله أوبنهايمر وزملاؤه هو اكتشاف موجود أصلاً في الطبيعة، وأنّه لا يمكننا التخطيط لكيفيات التعامل مع أيّ اكتشاف قبل ظهوره وتطوّره. هذه المقولة الأخيرة تبدو واقعية، ولكنّها لا تبتعد عن واحدة من أخطر حجج أوبنهايمر الدافعة نحو إلقاء القنبلة النووية على البشر، والتي وردت على لسانه في الفيلم "لن يخشوها حتى يفهموها، ولن يفهموها حتّى يستخدموها"، أوبنهايمر قال ذلك فعلاً، ولم تكن هذه جملة درامية موضوعة على لسانه، فقد قال لهنري ستيمسون، وزير حرب الولايات المتحدة حينها: "بأنّ أيّ عرض توضيحي للقنبلة النووية، لا يمكن أن يكون له التأثير النفسي المدمّر لتفجيرها الواقعيّ"[21]، أوبنهايمر الذي قال ذلك، أعطى تعليماته للضابط الذي سلّمه القنبلة في طريقها إلى هيروشيما، بما يضمن أن تحقق القنبلة الدمار المطلوب[22]، وبعد تفجير القنبلة في هيروشيما، لم يكن أوبنهايمر قادرًا على إخفاء سعادته، بل أبدى أسفه لأنها لم تكن جاهزة قبل ذلك[23]!
بالرغم من أن أوبنهايمر، كما قال نولان، وكما يؤرّخ له الجميع، أصرّ حتى آخر أيّام حياته، على أنّه لم يعان من آلام الندم، إلا أنّه قدّم استقالته، وقطع علاقاته الرسمية، وقال لترومان في اللقاء الذي صوّره الفيلم: "يداي ملطّختان بالدماء"، وبدأ يدعو للرقابة على الأسلحة الذرّية. هذا الندم الملتبس، لم يكن يكفي لتبييض صفحته تمامًا، بحجج واهية، صرّح بها الفيلم، كما صرّح بها نولان في لقاءاته، وبالتباس يشبه ذلك الذي يحفّ ندم أوبنهايمر غير المفهوم.
لم تكن مشكلة نولان في فيلمه فقط في تبنّي حجج، حكم التاريخ ببطلانها. لم تكن ألمانيا في طور إنتاج قنابل ذرية، وكانت اليابان تبحث عن استسلام يحفظ لها ماء الوجه، هذه الحقائق تبنّى نولان نقيضها، ثمّ أضاف إلى حججه؛ ما رآه رؤية نافذة لأوبنهايمر حتى زماننا مفادها أنّ هذه القنابل لن تستخدم مرّة أخرى، ولأنّ الأمر لا يخلو من بشاعة، فقد اتخذ موقفًا مركّبًا لردّ الاعتبار الأخلاقي لأوبنهايمر، وللولايات المتحدة، وذلك بتحويل أوبنهايمر إلى ضحية ألاعيب سياسية، يديرها رئيس لجنة الطاقة الذرية لويس ستراوس، الذي ساهم العلماء في إفشال ترشيحه لمنصب وزير التجارة في جلسات عقدها الكونغرس لهذا الغرض، هذه الجلسات كانت واحدة من الخطوط الزمنية المتداخلة في تقنية السرد التي اعتمدها الفيلم، ممّا يعني في آخر الأمر، أنّ الولايات المتحدة وإن كانت لا تخلو من الشرّ، فهي قادرة على تصحيح أخطائها وتنظيف نفسها، وبمدّ هذا الادعاء حتى آخره، فإنّها وحدها المستأمنة على الأسلحة النووية!
أوبنهايمر والقنبلة النووية
أمريكا .. الجريمة المباحة
هذا التصوّر عن أمريكا الخارقة، المضطرة لأن تكون مجرمة أحيانًا، والقادرة في الوقت نفسه؛ على تصحيح نفسها، يُذكّر بأمرين، بالأبطال الخارقين الذين مثّلوا العنصر الأهمّ في مجلات الكوميكس الأمريكية، وتحولوا إلى رموز سينيمائية، عن طريق عالمَي Marvel وDC، وبأسطورة بروموثيوس التي جُعِلت أصلاً عنوانًا للسيرة الذاتية التي اقتُبس عنها الفيلم، أمّا الأبطال الخارقون، فقد ساهم نولان في إخراج وإنتاج سلسلة أفلام لـ DC، أهمّها ثلاثية The Dark Knight، عن بات مان.
يكتشف بروس واين أن فشله في الانتقام لوالديه، ناشئ عن جهله بعالم الجريمة، فينطلق للتعرّف على المجرمين من داخل عالمهم، وبالرغم من عمله معهم، ورميه في السجن بينهم، فإنّه في أعماق نفسه لم يكن واحدًا منهم. هذه الطريق، قادت إليه عصبة "رأس الغول"، التي تُصلح أخطاء العالم بالعنف، ورأت في بروس، الشخص المناسب، لتدمير مدينة "غوثام" التي لم يعد إصلاحها ممكنًا، لتغلغل الفساد والجريمة في أحشائها. تلقّن "رأس الغول" لبروس تعاليمها، وتقول له: "إذا جعلت من نفسك أكثر من مجرد إنسان، وكرّست نفسك لنموذج، ولم يتمكّنوا من إيقافك، ستصير شيئًا آخر، ستصبح أسطورة.. حتى تقهر الخوف يجب أن تكون أنت الخوف ذاته".
بروس من طفولته، ولحادثة وقعت له، أرعبته الوطاوط في كوابيسه، فقرّر بعد تدريباته لدى "رأس الغول" أن يحوّل خوفه إلى قوّة، وكوابيسه إلى رمز يرعب به عالم الجريمة[24]، العالم الذي دخله وتعرّف إليه، وبينما يفرّ من عصبة "رأس الغول" التي أرادت تدمير "غوثام"، فإنّه يقرّر بدلاً من تدمير "غوثام" مخالفة القانون، حينما يفشل القانون نفسه، وتحمّل المسؤولية لمواجهة الجريمة، وإذا صار بروس؛ بات مان، الذي ينتهك حقوق الأفراد داخل مجال اجتماعيّ واحد لتحقيق العدالة، فإنّ الولايات المتحدة، تنتهك حقوق البشر كلّهم، لتحقيق العدالة التي تزعمها، أو تكريس نموذج "الحلم الأمريكي"، أمريكا التي تعرف الشرّ جيدًا، مع شعورها العميق من الداخل بأنّها ليست شريرة، تحوّل مخاوفها، من هتلر، اليابان، الشيوعية، الإسلام، الصين.. الخ، إلى قوّة، لأنّها النموذج المكبّر من بات مان، لإصلاح العالم، وعلى قدر النموذج، وقدر المهمة، تكون الأخطاء، مثل إبادة مئات آلاف البشر بالقنبلة النووية!
بروميثيوس الأمريكي .. واهب القنابل
يتخذ محمد قطب، من أسطورة بروميثيوس، مفتاحًا لفهم العقل الغربي، من حيث إنّها عقدة تنمّ عن علاقة صراع مع الله[25]، فبحسب الأسطورة اليونانية، أوكل زيوس إلى بروميثيوس مهمّة خلق البشر، أحبّ بروميثيوس البشر، وسرق لهم العديد من المعارف من زيوس، الذي كان يرى أنّ المعارف لن تجلب للبشر إلا الشقاء، وأنّ الخير لكليهما، لزيوس والبشر، أن يظلّ البشر ضعفاء خاضعين لقدرته، فحذّر زيوس بروميثيوس ممّا يفعله، من منح البشر تلك المواهب، إلا أنّه لم يعاقبه إلا بعدما سرق شعلة النار، وأعطاهم قبسًا منها، يستضيئون به في عتمتهم، ويتدفؤون به في بردهم. طوّر البشر على هذه النار علومهم كلّها. قيّد زيوس بروميثيوس إلى صخرة وأمر نسرًا عملاقًا أن يهبط عليه وينهش كبده الذي يعود للنموّ ليأكله من جديد، وعاقب البشر بامرأة ساحرة الجمال خفيفة العقل "باندورا" ومعها صندوق مليء بالشرور، وما أن فتحته حتى ملأت العالم به .. بعد أجيال يأتي هرقل، ابن زيوس وابن الإنسان، ويقتل النسر ويحرّر بروميثيوس!
بروميثيوس، والحالة هذه صاحب نبوءة، وقد عرف من البداية أنّه سينجو آخر الأمر، ومع أنّ الرابط المباشر بينه وبين أوبنهايمر منعدم، فالقنبلة النووية ليست خيرًا مهدى إلى البشر، ليجوز التخمين، والحالة هذه، بأنّ بروميثيوس، هو أمريكا، المتعالية على البشر، وبما يذكّر بتعاليم "رأس الغول" لبروس، بأن يصير أكثر من إنسان، ويصبح أسطورة، من قلب الظلام. أمريكا أكثر من كونها دولة للبشر، إنّها الدولة التي تفعل ما تشاء، رغمًا عن البشر، ولكن لصالح البشر، فهي بين بروميثيوس الذي يخلق البشر ويهبهم المعرفة، وهرقل نصف إله، يصحح أخطاء الجميع، وأمّا تجسيد بروميثيوس في أوبنهايمر، فهو تجسيد لأمريكا فيه، ويمكن أن يصير لنولان نصيب في ذلك كلّه، كأن يكون هرقل الذي أنصف أوبنهايمر (بروميثيوس) بعد عقود بهذا الفيلم!
بالعودة إلى السيرة الورقية التي حملت اسم "بروميثيوس الأمريكي"، ستكون حكاية بروميثيوس، أليق بالولايات المتحدة من جهة أخرى، يبدو الأمر تجاريًّا وساذجًا في وقت واحد، الاسم مستوحى من النار، كون القنبلة هي في النتيجة نار، والعنوان قد يكون جذّابًا، لكنّ (كاي بيرد)، الشريك في كتابة السيرة، رأى العنوان غامضًا[26]، ربما كان الغموض متعلقًا بماهية الهِبة التي منحها أوبنهايمر للبشر، وهو أمر لا ينطبق على القنبلة النووية، لكن في أثناء النقاش، اقتُرِح أن يضاف "الأمريكي" إلى "بروميثيوس"، ليصير العنوان "بروميثيوس الأمريكي"[27]، ومع أنّ الاقتراح لم يكن مقنعًا مباشرة، فإنّ الأمر استقرّ على هذا العنوان، فطالما كان البطل أمريكيًّا، فتصوّره بروميثيوس ممكن. كان النقاش حول العنوان الأنسب دعائيًّا، وبدت الاقتراحات ساذجة في دواعيها، لكن هذا الاختيار متعدد الأطراف لبروميثيوس، يكشف ذلك الكامن في الوعي الغربي الذي تحدث عنه محمد قطب، وهو ما تجسّد بوضوح مع كريستوفار نولان.
يمكن ملاحظة هذه القراءة، في مصاديق أخرى لها، في أفلام نولان ذات الطبيعة التاريخية، التي طمس فيها تمامًا أيّ رواية أخرى، سوى رواية الحلفاء، مثل فيلم Dunkirk الذي خصصه، لتقديم تجسيد إنساني، لـ "ملحمة" الإجلاء البريطاني المستحيل لأكثر من 335 ألف جندي بريطاني وفرنسي يحاصرهم النازيون في دونكيرك، من خلال ثلاث شخصيات بظروف مختلفة؛ جنديّ بريطانيّ على الشاطئ يسعى للنجاة، وطيار بريطاني في الجوّ يغتنم أيّ فرصة للاشتباك مع العدوّ، ومدني بقاربه الصغير جاء للمساهمة في الإجلاء. في هذا التداخل السرديّ المتسم بالنسبية الزمنية بين الثلاثة في ظروفهم المتباينة، تغيب ماهية "العدوّ"، الذي لا يكاد يذكر باسمه. يمكن تأويل فعل نولان هذا، بأنه يريد تجريد تجربة المقاتل في الحرب، بقطع النظر عن هويّته، أو الحرب التي يخوضها، لكنّ الشخصيات الذين نُسجت من ظروفهم المتباينة في الحرب الواحدة قصة الفيلم، كانوا معلومي الهوية، كانوا بريطانيين، والفيلم انتهى وفي خلفيته خطاب تشيرشيل، حول عملية الإجلاء هذه، وفيه إصراره على القتال حتى النهاية وفي الظروف كلّها حتى النصر الكامل والواضح!
في فيلم أوبنهايمر، لا تُغيَّب ماهية العدوّ، ولكن تُغيَّب روايته، لأجل رواية، مثّلت الأساس الدعائي والذريعة الأخلاقية/ السياسية لصناعة القنبلة النووية، ثم لإلقاء القنبلتين على اليابان. التغييب هنا ليس لرواية "العدو"، المتدحرج، ألمانيا، فاليابان، ثمّ الاتحاد السوفييتي، في عودة لقضية أنّ القوّة تصنع من الخوف، ولكن التغييب في الجوهر كان للمعلومات التي عرفتها الأوساط الأمريكية النافذة، لأجل الاستمرار في القول، "كان علينا أن نسبق هتلر"، أو القول: "إلقاء قنبلتين نوويتين أقلّ كلفة على الجميع من استمرار الحرب مع اليابان"، غير أنّ الأسوأ في ذلك كله، تغييب الضحايا، في فيلم مدته ثلاث ساعات، لم تُعرض فيه لقطة واحدة لضحايا القنبلتين في اليابان!
لم يكن التجاهل التامّ للضحايا، وآثار القنبلتين حتى اليوم، ليغيب عن النقاش، وعن تبرير نولان، الذي رأى أن الالتفات للضحايا سيخرق شروط السرد المركّزة في شخصية أوبنهايمر[28]، حتى الشخصيات الأخرى المحيطة بأوبنهايمر، والمتصلة بالقصة، بدت مسطحة، لأجل التركيز على أوبنهايمر، أمّا التنويع الواسع في الممثلين البارعين، والاعتماد النولاني التقليدي على التصوير في الأماكن الطبيعية -حتّى أنّه صور في بيت أوبنهايمر نفسه الذي بُني له في لوس آلموس-[29]، واعتماد تقنيات الـ IMAX في التصوير، والاستغناء عن الرسوم الحاسوبية CGI، لم يكن ليعوّض القصور الدرامي بالنسبة لبقية الشخصيات، لقد وصل التمركز حول "بروميثيوس الأمريكي" إلى درجة تجاهل سكان المنطقة، في نيو مكسيكو، الذين تضرروا من إشعاعات اختبار "ترينتي"[30]، بالرغم من أنّ الانتباه إلى معاناتهم لن يخلّ بشروط السرد، فقد اقتصر الانتباه لهم على اقراح أوبنهايمر على ترومان بإعادة سكان لوس آلموس الأصليين إلى موقعهم الذي هجّروا منه، وهو اقتراح أقرب إلى النكتة السوداء!
لكن وبما أنّ تأنيب الضمير الغامض، الذي جرى تصويره فنيًّا، كان حاضرًا في الفيلم، لاسيما في لحظة الاحتفال بإلقاء القنبلة الأولى في القاعة، التي تخيّل فيها أوبنهايمر للحظات إشعاعًا يمزّقه ويمزّق الجمهور الأبيض الذي يصفق لهم، ألم يكن بالإمكان استحضار صور لضحايا القنبلتين، أو قصص لبعض الناجين منهما، تدمج في السرد في إطار شروطه، وبالنحو المتداخل النسبيّ الذي يفضّله نولان عادة؟!
في مقابل هذا التغييب الكامل لضحايا أوبنهايمر جميعهم، كان التركيز الكثيف على جلسات المساءلة التي عقدتها لجنة الطاقة الذرية، وانتهت بسحب التصريح الأمني من أوبنهايمر، ليكون هذا الأخير، بحسب أوساط علمية واسعة "شهيد المكارثية"، والمكائد السياسية الرخيصة التي تتسم بها السياسة الأمريكية، ولكنه في الوقت نفسه، بحسب ما أراد الفيلم قوله، رمز تصحيح أمريكا لأخطائها، ذلك التصحيح الذي ظهر في إسهام المجتمع العلمي في فضح لويس ستراوس، صاحب المؤامرة على أوبنهايمر. يمكن القول بذلك؛ إنّ آلام "بروميثيوس الأمريكي" تفوق آلام البشر، وإنّ الجوهر الأمريكي، هو التصحيح الذاتي المستمرّ، والذي كان من صوره، قبل إنتاج فيلم نولان عن أوبنهايمر، ما فعلته وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم، أواخر العام 2022 حينما أعادت لأونبهايمر تصريحه الأمني بالرغم من وفاته؟!
أوبنهايمر: الشرارة اليهودية .. النووية
لكن هل تأخر الأمر إلى هذا الحدّ؟! لقد ظلّ نادي النووي الغربي موغلاً في تكريم أوبنهايمر، فقد منحته فرنسا في العام 1957 وسام جوقة الشرف، وانتخب في العام 1962 عضوًا أجنبيًّا في الجمعية الملكية البريطانية، ومنحه الرئيس الأمريكي ليندون جونسون عام 1963 جائزة إنريكو فيرمي، بمعنى أنّه ظلّ يكرّم حتى آخر سنواته. لكن ماذا عن بقية النادي النووي الغربي؟!
بالرغم ممّا يقال عن أنّ أوبنهايمر كان ملحدًا، وغير مهتمّ باليهودية، ولا حتى بالصهيونية، فقد التقى رفقة آينشتاين، في برينستون في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، حاييم وايزمن، الذي سيصير تاليًا أوّل رئيس لدولة العدوّ الصهيوني، ثمّ التقى بعد ذلك بسنوات برفقة أدوارد تيلر بديفيد بنغوريون، لإعطاء المشورة بشأن أفضل الطرق لتطوير احتياطات البلوتونيوم في "إسرائيل". في لقائه بديفيد بنغوريون، أخبره أوبنهايمر بأنّه ناقش مع وايزمان، بناء مفاعل نووي، وحذّره من علاقات عبد الناصر بالاتحاد السوفييتي. بحسب بعض الروايات، كان أثر أوبنهايمر على بنغوريون حاسمًا بعد هذا اللقاء، إذ عبّأه بالهوس من التهديد النووي المحتملّ ضدّ "إسرائيل"، ليضع بنغوريون خطّة عشرية لتطوير برنامج نووي إسرائيلي[31]، أصبح أوبنهايمر بعد ذلك زميلاً فخريًّا في معهد "وايزمان للعلوم"، وعمل عضوًا في مجلس محافظيه، ومع ما يقال عنه من عدم مبالاته باليهودية، فقد رأى بنغوريون نوعًا من الشرارة اليهودية قد أضاءت فيه[32]، ولا ينبغي أن يفوت الانتباه، أنّ اجتماع أوبنهايمر كان برفقة تيلر، خصم أوبنهايمر، الذي شهد ضدّه، وأخذ مكانه، وطوّر القنبلة الهيدروجينية. هذه إذن؛ هي أمريكا التي تصحح نفسها، وهذا هو أوبنهايمر صاحب الشعور الملتبس إزاء مسؤوليته! وهكذا تحدّث عنه وعن زملائه اليهود بن غوريون حينما قال: "ما فعله أينشتاين وأوبنهايمر وتيلر - اليهود الثلاثة - من أجل العالم. في الولايات المتحدة، سيفعله العلماء في إسرائيل من أجل شعبهم."[33].
في آخر الأمر؛ هل تبقى مساحة للتأويل، وبالاستناد إلى نولان نفسه، لأجل قراءة أخرى لأوبنهايمر؟!
نولان: السحق التسلسلي على طريق العظمة
في فيلمه القصير Doodlebug، ذي الدقائق الثلاث، الذي أنتجه نولان وهو طالب في كلية لندن الجامعية، يلاحق شاب مضطرب بحذائه، حشرة "يرقة أسد النمل"، التي تبدو في حركاتها كالشاب نفسه تمامًا، ثمّ يتبين أنّها نسخة مصغّرة منه، وحينما يسحقها بحذائه، يهوي حذاء آخر على الشاب يسحقه، وهكذا، يبدو الأمر سلسلة من السحق بالسلاح نفسه الذي هو الحذاء. حكاية القتل المتسلسل هذه، ألا تذكّر باحتمالات التفاعل النووي التسلسلي الذي غامر، بالرغم من إمكانيته، أوبنهايمر وضغط على زر التجربة الأولى، ليضع البشرية كلّها على احتمال الفناء؟ أما وأن التفاعل التسلسلي لم يحصل، فإنّ هوليود نفسها، التي صار نولان من أهمّ أيقوناتها، أكثر من يبشّر باحتمالات الفناء البشري، نتيجة حرب نووية، أو انفلات نووي، على أيدي متمردين، أو مهووسين، حتى من داخل الدولة نفسها "المستأمنة أكثر من غيرها على السلاح النووي"، بكملة أخرى، ومهما كانت الدعاوى العلمية عن حتمية شطر الذرة، كون الذرة شيئًا من حقائق الطبيعة، فإنّ هذا لا يلغي دور أوبنهايمر، في الصراع التسلسليّ على امتلاك السلاح النووي، إلا أنّ ما يمكن الانتباه له في فيلم Doodlebug، هو كون الصراع التسلسلي يبدأ من الأدنى إلى الأعلى، فالأضخم يقتل من هو دونه، حتى يأتي من هو فوقه فيقتله، وكأنّها رؤية دارونية للوجود، فإن كانت الذرة حقيقة في الوجود "إن لم نشطرها نحن سيشطرها غيرنا"، فينبغي أن نكون نحن الفوق الدائم، الأسطورة، النموذج فوق الإنساني، الضامن لعملية السحق التسلسلي.
ثمّة من يقرأ أعمال نولان في ضوء أفكار الفيلسوف الاجتماعي والناقد الأدبي "رينيه جيرار"[34]، التي تركّز على المحاكاة، بمعنى أنّ السعي للتشابه، من أهمّ دوافع الصراعات البشرية، مما يخلق صراعًا وتنافسًا على ما لا يمكن اقتسامه، وفي هذا الإطار يمكن الإمساك بمسألتين في أطروحة جيرار، الأولى في كون الرغبة الإنسانية إيمائية محاكية، بمعنى أنّ الفرد ينظر إلى غيره بوصفه نموذجًا ثمّ يسعى إلى استنساخ هذا النموذج في ذاته، والرغبة بهذا التصوّر، واضحة في الطفل الذي يبدأ في محاكاة الراشدين، لكنّ الراشدين يمتنعون عن إظهارهم رغبتهم في إهاب هذه الحقيقة خجلاً من انكشاف نقصهم الكياني، فيزعمون رضاهم عن ذواتهم، وأمّا المسألة الثانية، فهي أن السعي إلى المحاكاة، ينتهي إلى العنف، أو بحسب تعبير جيرار: "إنّ المحاكاة القائمة على الرغبة تفضي تلقائيًّا إلى الصراع لأنّ انصباب رغبتين على موضوع واحد يؤدّي إلى اعتراض كلتيهما الأخرى"[35].
يمكن القول إنّ كلا المسألتين تحضران في فيلم نولان الطويل الأوّل Following (تتبّع)، ومختصر قصّته أن شابًا (يطلق عليه في الفيلم اسم الشاب)، مهووسًا بأن يصير كاتبًا، يأخذ في مراقبة الناس للبحث عن قصّة لروايته، حتّى يقع ضحية مستغلّ له (اللص كوب)، يستثمر في هوس ذلك الشاب بأن يكون كاتبًا، فيجعله في آخر الأمر تابعًا له، في اقتحام الشُّقق، والسطو على أغراض الناس المخفية، حتى ينتهي به الأمر متهمًا بقتل امرأة شقراء بمطرقة عليها بصمات أصابعه، بينما يفرّ القاتل الحقيقي الذي هو كوب.
باستخدام تقنيان نولان السردية، يمكن الربط بين فيلم Tenet الذي توصف فيه العالمة المستقبلية مخترعة خوارزمية عكس القصور الحراري، بـ "التمرد" مع حضور أوبنهايمر في المقارنة في الفيلم نفسه، مع "الشاب" في فيلم Following، حيث قاده هوسه لأن صار تابعًا، لصًّا، متهمًا بالقتل، فهل هوس أوبنهايمر، جعله تابعًا للسياسي/ العسكري الأمريكي، حتى "مأساتُه" باستهدافه المكارثي، كانت تأسيسًا لزمن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وهيمنته على أمريكا؟!
ليس بسحب تصريحه الأمني، فآينشتاين نفسه لم يكن يحمل هذا التصريح، ولكن بإذلاله العلني، وهو أمر لا يذكر بالقياس إلى ما جرى لآخرين في زمن المكارثية، صار أوبنهايمر، الدرس التأديبي الذي أراده المجمع العسكري الصناعي الآخذ بالانبثاق، للوسط العلمي، بغض النظر عن مؤامرة ستراوس، فلا كبير في وجه المجمع، ولا أحد يمكنه أن يقف أمام رؤيته للإطباق على أمريكا، والسيطرة على العالم[36]، وهكذا في انتصاره و"مأساته"، لا كـ "بروميثيوس"، بل كـ "الشاب" في فيلم Following، يخدم اللصَّ، ولكن اللصّ الكبير، المجمع الصناعي العسكري، ليس فقط بمجرّد "المأساة" بل وأيضًا بتعاونه مع لجنة الاستماع ممّا أضرّ بمعارفه من الشيوعيين السابقين، وإذا كانت رغبات "الشاب" غامضة، غير مفهومة، في تتبعها للبشر، وفضولها نحو أشيائهم المخفية، ومن حيث علاقتها بطموحه أن يصير روائيًّا، فإنّ طموح أمريكا، ورغبات مجمعها الجشعة غير مفهومة، وغامضة، في ذلك الإصرار على تطوير القنبلة الهيدروجينية، وفي قصفها القنبلة الثانية على نكازاكي، هكذا يصير التابع والمتبوع، من حيث الرغبات، كغربال أفلاطون، في محاورته على لسان سقراط، حينما شبّه النفس الإنسانية، في غموض رغباتها، وامتناعها على الشبع، بالغربال، أو بالدنّ المثقوب، الذي كلما صببت فيه الماء تسرب منه، فلا بدّ من الصبّ الدائم، في نفس كهذه[37]، وبالرغم من أن موقع التابع من المتبوع، ليس مكافئًا، كصراع الساحرين المتنافسين في فيلم The Prestige، لنولان، فإنّ السعي إلى العظمة، كان مدمّرًا، سعي أوبنهايمر والولايات المتحدة، كما كان سعي الساحرين. وخارج حيّز التابع والمتبوع، كان مدمّرًا بالتنافس على السلاح النووي، وهذا التنافس، والصناعة، والسعي إلى العظمة، وموقع المتبوع من التابع، كلّه يحتاج إلى الوهم والإيحاء لخلق العظمة كحاجة الساحر لذلك تمامًا!
هكذا، وبالاستعانة بفيلم نولان Inception، لا يحتاج الإنسان وسط السطوة، سطوة الدعاية والخوف والنموذج والرغبة في المحاكاة، إلى غزاة أحلام، يزرعون الأفكار في طبقات عميقة من الوعي الباطني للمنوّمين، فحكاية القنبلة النووية حتى آخر لحظة، فكرة تُزرع في اليقظة، وحتّى هذه اللحظة، ليس من المجازفة القول إنّ نولان حاضر في هذه العملية، بفيلمه Oppenheimer، وكأنّه الضابط جون تيدي، في تلاعبه بليونارد شلبي في فيلم Memento، تمامًا كما تلاعبت أمريكا بالعلماء، وكما تلاعب بعض العلماء معها بالعالم!
[1]. ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، (أبو ظبي، المجمع الثقافي، 1423 هـ): ج7، ص116
[2]. Christopher Nolan on Oppenheimer, Al and the future (exclusive interview)، https://youtu.be/ilIefxbSJT8?si=Nyf4eTtgCW3r1K5P
[3]. صنعت العديد من الأعمال عن أوبنهايمر، غير برومثيوس الأمركي، منها:
· ج. روبرت أوبنهايمر: الدماغ وراء القنبلة (المخترعون الذين غيروا العالم) بقلم جلين شيرير ومارتي فليتشر (2007)
· أوبنهايمر ومشروع مانهاتن: رؤى حول ج. روبرت أوبنهايمر، " "أبو القنبلة الذرية"، بقلم سينثيا سي كيلي (2006)
· مسلسل أنتجته الـ BBC عام 1980 وفاز بثلاث جوائز.
· إنتاج فيلم وثائقي عام 1980 بعنوان " The Day After Trinit" (اليوم التالي على ترنتي)، ورشّح للأوسكار، وفاز بجائزة بيبودي.
· فيلم عام 1989 بعنوان " Fat Man and Little Boy" (الرجل السمين والولد الصغير).
· فيلم تلفزيوني عام 1989 بعنوان " Day One" (اليوم الأول).
· عرضت مسرحية عنه في العام 2015
· أوبرا كتبها الملحن جون آدمز عام 2005
انظر: https://bitly.ws/Tddf
[4]. Behind ‘Oppenheimer,’ a Prizewinning Biography 25 Years in the Making، https://bitly.ws/T3qg
[5]. المصدر السابق.
[6]. Paperback Nonfiction، https://bitly.ws/T3qo
[7]. Christopher Nolan on Oppenheimer, Al and the future (exclusive interview)، مصدر سابق.
[8]. وثائقي، INSIDE CHRISTOPHER NOLAN'S, OPPENHEIMER
[9]. Douglas MacArthur’s Plan to Win The Korean War، https://bitly.ws/T3qU
[10]. Cuban missile crisis, 60 years on: new papers reveal how close the world came to nuclear disaster، https://bitly.ws/T3uP
[11]. The Atomic Bomb That Never Was: Germanys Atomic Bomb Project، https://bitly.ws/T3By
[12]. المصدر السابق.
[13]. Timeline of Events: 1938-1950، https://bitly.ws/T44H
[14]. The Atomic Bomb That Never Was، مصدر سابق
[15]. Why did Japan surrender in WWII?، https://bitly.ws/Ti7B
[16]. JAPAN SURRENDERS، https://bitly.ws/T4aJ
[17]. Hiroshima, Then Nagasaki: Why the US Deployed the Second A-Bomb، https://bitly.ws/T4tD
[18]. The Hiroshima Bombing Didn’t Just End WWII—It Kick-Started the Cold War، https://bitly.ws/T4K6
[19]. Christopher Nolan on Oppenheimer, Al and the future (exclusive interview)، مصدر سابق.
[20]. المصدر السابق.
[21]. Was It Right?، https://bitly.ws/T5pH
[22]. المصدر السابق.
[23]. المصدر السابق.
[24]. جوزيف جي فوي وتيموثي م دال، "لقد حوّلوه إلى رجل لم يفهموه بشكل تام": فارس الظلام ودراسة محافظة حول التحرير السياسي، في: كريستوفار نولان فلسفيًّا، ترجمة إيناس حلمي عبد الحميد، (جدة: يتخيلون، 2022): ص124.
[25]. تحدث عن ذلك في عدد من كتبه منها: منهج الفن الإسلامي، (القاهرة: دار الشروق، 1983):ص 24.
[26]. Behind ‘Oppenheimer,’ a Prizewinning Biography 25 Years in the Making، مصدر سابق.
[27]. المصدر السابق.
[28]. 'Oppenheimer' draws debate over the absence of Japanese bombing victims in the film، https://bitly.ws/T8V4
[29]. وثائقي، INSIDE CHRISTOPHER NOLAN'S, OPPENHEIMER، مصدر سابق.
[30]. ‘Oppenheimer’ extols atomic bomb triumph but ignores health effects on those living near test site، https://bitly.ws/T8YK
[31]. (1904 – 1967 J. Robert Oppenheimer, (، https://bitly.ws/Tddf
[32]. المصدر السابق.
[33]. דרומה، דוד בן־גוריון، https://bitly.ws/Tdfg
[34]. انظر مثلا: جورج أ. دن، الخداع والرغبة وازدواجية المحاكاة في أفلام "كريستوفار نولان"، في كريستوفار نولان فلسفيًّا، ترجمة: إيناس حلمي عبد الحميد، (جدة: يتخيلون، 2022).
[35]. رينيه جيرار، العنف والمقدس، ترجمة: سميرة ريشا، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009): ص248.
[36]. Oppenheimer paradox: power of science, weakness of scientists، https://bitly.ws/TetY
[37]. محاورة جورجياس لأفلاطون، ترجمة: محمد حسن ظاظا، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970): ص101