أوراق باسل غطاس.. الحياة في وكر الوحش

على سبيل التقديم...
الكتابة داخل الأَسْر عمل شاق، ومهمة معقدة، تستنزف النَفْس وتتعب الجسد، فكيف يتأتى للمرء صفاء الذهن وهو داخل وكر الوحش[1]! وكيف له تطريز نصه وهو مقيد اليدين ومسلوب الحرية! إنَّ الكتابة داخل السجن عمل فدائي بامتياز، يدفع فيه الكاتب ثمنًا غاليًا من وقته وأعصابه وجهده الذهني الذي لا ينتهي عند إفراغ الحبر على الورق، وإنما عليه أن يبقى متوقدًا حيث "المهمة المستحيلة" في تدبر أمر إخفاء النصوص عن أعين السجان ومعاونيه، ثم التخطيط لإخراجها إلى الحرية، وقد كنتُ شاهدًا على نصوص إبداعية، نُسجت سرًا داخل زنازين الاحتلال، وخرجت إلى النور، وأصبحت بين يدي القراء الأعزاء يتبادلونها كما يتبادلون الهدايا الثمينة، وأستحضر هنا أدبيات الروائي وليد الهودلي التي كَتبَ مسوداتها في هداريم والنقب ومجدو.. ثمَّ قدَّر المولى أن تخرج إلى الحرية وأن يتلقفها جمهور القراء بكل تقدير ومحبة، وللحقيقة فإن الهودلي ليس وحيدًا، فقد خاض التجربة أسرى آخرون منهم باسل غطاس القيادي في حزب التجمع الوطني الديمقراطي في الداخل المحتل، والذي نتناول كتابه في هذه المراجعة.
وحتى نتصور بعضًا من المشاق التي كان يعانى منها الكُتَّاب داخل سجون الاحتلال، نقتبس جُمَلًا باح بها غطاس في الصفحات الأولى من كتابه تحدث فيها عن متاعب واجهها أثناء الكتابة عندما كان مقيمًا في سجني جلبوع وهداريم، عجَّل الله في فرج نزلائهما: "تدبرتُ الأمور بصعوبة حيث كنت أكتب جالسًا على كرسي أو مستلقيًا على البرش واضعًا البلوك على ركبتي، بعد ذلك صنع لي رفاقي من الأسرى كَتَّابة من الكرتون المقصوص والملصق، وبعد أسابيع وصلتني من الأسير وليد دقة هدية كانت فعلًا من أكثر الهدايا التي حصلت عليها قيمة طوال حياتي، حافظت عليها كأنها أغلى ما أملك، وهي كَتَّابة يمكن وضع بلوكات الورق والدفاتر عليها، وتثبيتها من الأعلى بمشبك يمنع انزلاقها وميلانها. جالت هذه الكتابة معي خمسة سجون وسبعة أقسام، ورافقتني حتى اليوم الأخير من الأسر، فشهِدت كل ما كتبته من يوميات ومذكرات ونصوص شعرية ونثرية... واجهتُ محنة نفسية حقيقية عندما صادرت قوات وحدة "دورور" التابعة لسلطة السجون كل المواد التي كتبتها وذلك في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وكان ذلك في سجن هداريم أيامًا قليلة بعد نقلي إليه من سجن ريمون " (ص 21-22).
إطلالة على يوميات باسل غطاس
صدرت يوميات باسل غطاس قبل ثلاث سنوات، بعنوان أوراق السجن، وهي من منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، تناول فيها تفاصيل حياته اليومية داخل سجون الاحتلال، حيث قضى قرابة السنتين متنقلًا بين جلبوع (منطقة بيسان)، وهداريم (شمال غرب طولكرم)، ومجدو (بين حيفا وجنين)، والنقب (صحراء النقب)، وبئر السبع – إيشل (قرب مدينة بئر السبع)، وشطَّة (منطقة بيسان)، ونفحة (صحراء النقب)، ورامون (صحراء النقب)، ومركز تحقيق الجلمة (بين حيفا والناصرة).
والكتاب عبارة عن يوميات خطّها المؤلف في 319 صفحة مبتدئً من 4/7/2017 أي بعد يومين من دخوله السجن حتى 27 /5/2019 تاريخ تحرره، وتظهر أهميتها ليس في خصوصية معاناة غطاس في الأسر، إذ أنَه مرَّ بما مرَّ به عشرات الآلاف من الأسرى، وبعض هؤلاء تعرضوا لمعاناة أشد وأنكى، نجد أمثلة كثيرة عليها داخل النص، ولكنَّ لأنَّ يومياته تقدَّم توصيفًا حقيقيًا لحياة الأسرى داخل سجون الاحتلال، وترسم بِحِرَفية لافتة صورًا دقيقة عن زنازين السجن، وممراته، وساحاته، وأبوابه، وجدرانه، وسقوفه، وسجَّانيه، وقوانينه، وإجراءاته، وتتحدث بصراحة عن هموم الأسرى وأحزانهم وخيباتهم وعذاباتهم النفسية والجسدية، وتكشف عن قدرتهم العالية على الصمود وتحدي أدوات القمع والاضطهاد، وتقديم نموذج للمقاومة، ورفض الموت البطيء، والإصرار على الحضور عبر الإبداع اليومي، سيما في مجالات المطالعة والمعرفة والكتابة والتعليم، وفي التأسيس لعلاقات اجتماعية داخلية قائمة على قيم المودة والمحبة والتآخي، وفتح المجال أمام تسلل أجواء الفرح رغم شيوع الكآبة وظلمة الواقع، والتأكيد في كل وقت وفي كل سجن على حيوية الأسرى، وجدارتهم بالحرية.
يتناول الكتاب بلغة آسرة، وبتفصيل واقعي مجموعة من الموضوعات الرئيسة التي تخص الحياة الاعتقالية وهي: الفورة، والبريد، والأوضاع الصحية، والدراسة الجامعية، والبوسطة، وزيارات الأهل والمحامين والأطباء، والمناسبات الاجتماعية داخل السجن، وحياة الطبيعة في السجن (النباتات)، والكتب، والأسرى، واليوم الأخير في السجن.
يحوي الكتاب مواقف عاشها المؤلف داخل الأقسام أو في الزنازين مع عشرات الأسرى، ويسرد مقاطع من تجارب متعددة معهم منها ما هو اجتماعي ومنها ما يتعلق بالتعليم والبرنامج اليومي للأسير وغيرها، وقد واجه بصحبة هؤلاء الأسرى ظروفًا غاية في القسوة وتفتقر لمعاني الرحمة والإنسانية، فرضتها القوانين والإجراءات المتبعة من قبل سلطة مصلحة السجون المسماة "الشاباس".
يُعرِّفنا الكتاب على بعض الأسرى (أغلبهم محكومين بالمؤبد أو بسنوات طويلة) فنقرأ في النص عن واقع أسرى[2] باقة الغربية: إبراهيم أبو مخ، ورشدي (صالح) أبو مخ، ووليد دقة، وكذلك أسرى الداخل المحتل مثل: ماهر يونس/ عارة، ومحمد إغبارية/ أم الفحم، ويوسف أبو الخير/ عكا، ومحمد جبارين/ مشيرفة، وأحمد أبو جابر/ كفر قاسم، وإسلام عيسى/ كفر قاسم، وأمير مخول/ حيفا، وكذلك أسرى القدس ومحيطها: مراد عجلوني، وأحمد الهندي، وعلاء المزيان، وسامر عيساوي، ومحمد الفيراوي، ووسام الجلاد، وجون قاقيش، وحسام شاهين، ومحمد عبَّاد، وأحمد شاهين (السريع)، ومجد بربر، وناصر أبو خضير، بالإضافة إلى الأسير الغزي ضرار أبو سيسي.
ونقرأ أيضًا عن معايشة المؤلف لثائر حماد/ سلواد، وأحمد سعدات/ رام الله، ومروان البرغوثي/ كوبر، وناصر ضراغمة/ الأردن، وعمار مرضي/ رام الله، وعاهد غلمة/ بيت فوريك، وكفاح خطاب/ طولكرم، وعلاء عبد الكريم/ مخيم الدهيشة، ونزار زيدان/ بيرنبالا، وإبراهيم حامد/ سلواد، وعبد الله أبو لطيفة/ بيت لحم، وناصر عويص/ مخيم بلاطة، وجمعة آدم/ الأردن، ومحمد داود/ قلقيلية، وماجد المصري/ نابلس، ومحمد مصطفى ذرة/ قلقيلية، وناصر صلاح/ دار صلاح، وحاتم الأعرج/ الولجة، وعلي أبو هليِّل/ الدوحة، ومحمد الشطاوي/ محافظة نابلس، وبسام أبو سفاقة/ محافظة طولكرم، وسعيد اشتية/ سلفيت، وصدقي التميمي/ الخليل، وجهاد الروم/ مخيم قدورة، وعصام الفروخ/ رام الله، وحمزة محمد/ نابلس، ومحمد الزواهرة/ محافظة بيت لحم، ورائد مراغة، وخليل أبو عرام/ يطا، وخالد حلبي/ بيت لحم، وعيسى التكروري/ محافظة أريحا، وإبراهيم مسعد/ الخليل، ونايف عبيات/ محافظة بيت لحم.
الأسير والعائلة.. الظمأ الذي لا ترويه الزيارة
من الموضوعات الهامة التي تناولها المؤلف علاقته بعائلته أثناء فترة الاعتقال، فيتحدث في أكثر من محطة عن زوجته سوسن، وابنته سهيلة، وإخوته داود ورائد، وأخواته فاتنة وبوران وبثينة، ويسرد بعض التفاصيل حول حياتهم الاجتماعية والمهنية، وعلاقته بهم، ولا ينسى أن يكتب عن تجربته في التواصل معهم عبر الرسائل، وهي إحدى أهم وسائل الصمود التي يتشبث بها الأسرى، إبقاءً للأمل وتعبيرًا عن استمرار الحياة، وقد شاعت هذه الوسيلة بشكل كثيف في السنوات الأولى من الاحتلال، وأخذت بالتراجع في السجون التي تمكَّن فيها الأسرى من إيجاد طرق بديلة للتواصل مع الأهل، وبقي أسرى العزل أكثر من استخدم هذه الوسيلة، ونستحضر هنا الأسير إبراهيم حامد، فرَّج الله عنه، الذي ربما كتب آلاف الرسائل للأهل والأقارب والأصدقاء أثناء مكوثه في العزل الانفرادي أكثر من ست سنوات، لذا تلجأ إدارة السجون عمدًا إلى وضع المعيقات أمام الأسير، عبر منع الرسائل أحيانًا أو مصادرتها أو تأخير وصولها، وهذا ما حدث بالفعل مع الرسائل المتبادلة بين غطاس وأهله.
كتب غطاس عن زيارات الأهل، وشرح المعاناة التي كانوا يمرون بها يوم الزيارة، خصوصًا مع السفر الطويل، وصعوبة إجراءات سلطة مصلحة السجون "الشاباس" وقسوتها، مقابل ما يعانيه الأسير من توتر نفسي عال يسبق يوم الزيارة، وبعض الإجراءات والقوانين التي تنغِّص عليه فرحته برؤية أهله، ويتوقف عند حدث وفاة شقيقته بثينة وحسرته على فراقها وعدم قدرته على المشاركة في مواراة جثمانها الثرى، ويعرِّج على نماذج أخرى من العلاقة بين الأسير وعائلته وما يكتنفها من مشاعر الشوق والحنين والأسى والحزن ولحظات الفرح القصيرة، كما في حديثه عن الأسرى إبراهيم حامد، وأحمد أبو جابر، وجمعة آدم، وعيسى التكروري، وعلاء المزيان، وغيرهم.
التعليم الجامعي والمطالعة.. أَشْكَال البقاء والحيوية
يتناول الكتاب جوانب من قصة التعليم داخل سجون الاحتلال، خصوصًا برنامج التعليم الجامعي الذي يشرف عليه الأسير مروان البرغوثي، فرَّج الله عنه،[3] إذ يشيد بصرامته الإدارية وحرصه على خَلق حياة أكاديمية هادفة، ويشير إلى جدية المساقات الـ 12 في برنامج الماجستير التابع لجامعة القدس/ أبو ديس، تحديدًا الدراسات الإسرائيلية، لكنَّ غطاس لا ينتبه إلى نخبوية هذا البرنامج مقابل آلاف الأسرى الذين لن يتمكنوا من الاستفادة منه، وإلى جملة الانتقادات التي توجه له باعتباره جزءًا من حمَّى الدراسات الإسرائيلية التي اجتاحت دوائر البحث والدراسات الفلسطينية بفعل ولوج مسار التسوية واتفاقيات السلام والتداعيات السلبية لهذه البرامج على مستوى المعرفة العلمية وما ينتج عنها من مواقف واستراتيجيات، مقابل ما كان قائمًا سابقًا من أبحاث ودراسات للمشروع الصهيوني تعتمد فلسفة معرفة العدو في جو من التحفز لمواجهته في الميدان والرغبة الجامحة في الانتصار عليه.
ويستعرض الكتاب تفاصيل أخرى حول التعليم الجامعي لمرحلة البكالوريوس والذي كان يدار بالتعاون مع جامعتي القدس المفتوحة والأقصى، ويسلط الضوء على بعض ما يكتنف البرنامجين من تحديات. يصف غطاس عقد امتحان للطلبة في الفورة (ساحة السجن) أثناء نزول المطر، فيقول: "الفورة مغطاة جزئيًا بغطاء واقٍ من المطر. توزع الطلاب على طول الفورة تحت الغطاء الواقي، كلٌ على كرسيِّه ومعه طربيزة بلاستيكية يكتب عليها. وهكذا جرى الامتحان"(ص 98)، ويقول في موضع آخر: "دب الحماس والنشاط في العملية التعليمة منذ عودة مروان من سجن الجلبوع، وصرتُ ألحظ أن حلقة طلاب الماجستير تزداد اتساعًا. قبل أيام كان موضوع الحلقة الجهاز القضائي في إسرائيل، وكان موضوع النقاش عن قانون القومية الجديد الذي سنَّه الكنيست مؤخرًا" (ص 99).
ويلفت غطاس النظر إلى إحدى برامج البكالوريوس في سجن رامون الصحراوي فيكتب: "في قسم 7 الذي قضيت فيه فترة قصيرة أيضًا، ثمَّة برنامج تعليم جامعي بإشراف جامعة الأقصى، مسؤوله الأكاديمي كان الدكتور ضرار أبو سيسي من غزة، المهندس الفلسطيني الذي اختطفه الموساد من أوكرانيا، حيث كان يعيش مع زوجته الأوكرانية، وهو يسعى إلى أن يبدأ أيضًا برنامج تدريس الماجستير، بصفته يحمل شهادة الدكتوراه" (ص 93).
أمَّا النشاط الثاني، فهو المطالعة، وهو أحد أهم النشاطات التي حرص الأسرى على تنفيذها منذ أن انتزعوا حق اقتناء الكتب، وعملوا على افتتاح المكتبات في كل سجن وفي كل قسم، وصارت المطالعة من المعالم الرئيسة للبرنامج الثقافي اليومي، لكنَّ هذا نشاط تراجع تدريجيًا منذ اتفاق أوسلو عام 1993، خصوصًا في أقسام حركة فتح، حتى بات نادر الحدوث، مع بقائه فاعلًا لدى أسرى التنظيمات الأخرى تحديدًا أسرى حركتي حماس والشعبية. ولابد أن أذكر هنا نوادي الكتاب التي أبدع الأسرى في تأليفها داخل أقسامهم، وإلى تخصيص بعض التنظيمات، سيما الشعبية، وقتًا محددًا يوميًا للقراءة الجماعية داخل الغرف، فإذا زرتها وقت القراءة، وجدت كل أسير على برشه وفي يديه كتاب يقرأ فيه، ولابد من أن نسجل الموقف النبيل للمؤسسات الثقافية ومراكز الأبحاث ومكتبات بيع الكتب في رام الله والخليل وغيرها من مدن الضفة الغربية التي لم تبخل على الأسرى يومًا، فكانت الإصدارات الجديدة تصل الأسرى بشكل دائم من خلال الزيارات.
أمَّا على المستوى الشخصي فقد انكب غطاس على المطالعة، فقرأ كتبًا في الفلسفة والفكر والتاريخ مثل هكذا تكلم ابن عربي، والدين والعلمانية في سياق تاريخي، والوجه الآخر للمسيح، ومغامرة العقل الأول، وقرأ المذكرات مثل مذكرات حسين الخالدي "ومضى عهد المجاملات"، ومذكرات خليل السكاكيني، ومذكرات معين بسيسو "دفاتر فلسطينية"، ومذكرات القائد الجنوب أفريقي أحمد كاثرادا، وقرأ الكثير من الروايات مثل: وليمة لأعشاب البحر، وواحة الغروب، وزغرودة الفنجان، وغابة الأقزام، وثلاثية غرناطة، والطنطورة، والأعمال الكاملة لغسان كنفاني، في المقابل لاحظ غطاس (قضى معظم سجنته في أقسام يديرها أسرى حركة فتح) عُزوف الأسرى عن القراءة، خصوصًا الشباب منهم، وضحالة ثقافتهم، وعاب على رفاقه ذلك، ودعا إلى ضرورة وضع برنامج ثقافي فعال يُعرِّف الأسرى بتاريخ شعبهم ونضالاته، ويزيد من انفتاحهم على الثقافات الأخرى والتجارب النضالية حول العالم.
ونشير أخيرًا إلى ذكر المؤلف لبعض تجارب الأسرى في الكتابة الإبداعية، والتي شهدت قفزة كبيرة نوعًا وكمًا في السنوات الأخيرة، مثل كلامه عن كتابات كميل أبو حنيش وحسام شاهين وباسم خندقجي وثائر حماد، ويلفت النظر في هذا المقام عدم تطرق غطاس لكتابات وليد دقة رحمه الله، رغم أنَّه كان من أكثر الأسرى حضورًا في هذه اليوميات، وقد كتب كلمة افتتاحية للكتاب[4] أشاد فيها بغطاس وبسالته وإنسانيته، وخاض معه تجارب داخل الأسر تركت أثرًا طيبًا في النفس وولَّدت صداقة متينة، كما أن كتاباته من أكثر نتاجات الأسرى عمقًا وجدية، وقد خرج إلى النور عدد من مؤلفاته قبل اعتقال غطاس بسنين مثل كتابي يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002 (2004)، وصهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب (2010)، ومن المؤكد أنَّه كان خلال فترة سجن غطاس ما زال منهمكًا في الكتابة والتأليف، على الرغم من أمراضه وظروفه الاعتقالية الصعبة.
البوسطة.. الطريق إلى جهنَّم
يعتبر نظام التنقلات عمومًا، والبوسطة على وجه التحديد، من أكثر أشكال التعذيب والإذلال التي يمر بها الأسير خلال اعتقاله. فالنقل من سجن إلى آخر قطعٌ لروتين الحياة اليومية، ودخول في أجواء عدم الاستقرار، وبالتالي التشويش على أي برنامج مفيد أعده الأسير المنقول سواءً كان ثقافيًا أو اجتماعيًا أو تعليميًا، وربما كان المنقول رقمًا وازنًا داخل قسمه، الأمر الذي يؤدي إلى ضرب الكثير من الترتيبات التي أعدها الأسرى اعتمادًا عليه، ناهيك عن ضياع مقتنيات المنقول، وقد يكون النقل وسيلة لعقاب الأهل الذين غالبًا ما يضطرون لقطع مسافات طويلة من أجل زيارة أبنائهم.
لقد جرَّب المؤلف أولى النقليات من سجن جلبوع في الشمال إلى سجن رامون في الجنوب في منتصف شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2017، ويصف حالة الاضطراب التي سادت القسم بعد تبليغه بقرار إدارة السجن نقله " غدا قسمنا كله في حالة تأهب وقلق. حضر مسؤولو التنظيمات كلها من باقي الأقسام للتشاور معنا في شأن نقلنا الإجباري. قررنا أن نكون جاهزين للنقل صباح اليوم التالي، مع الاستمرار في محاولة إلغاء أو تأجيل القرار. صحيح أن قرار سلطة السجون بنقلي غير منطقي، وواضح أنه يستهدف تصعيد معاناتي وعائلتي التي تقطن في الرامة، في الجليل الأعلى، على بعد أكثر من ثلاثمئة كيلومتر عن سجن رامون.." (ص 107).
وكتب عن معاناة البوسطة بصحبة وليد دقة رحمه الله ".. وجدت نفسي في سيارة البوسطة الكبيرة مكبل اليدين والرجلين بالأصفاد. حُشرنا أنا ووليد في خلية العزل المخصصة لأسيرين، وهي عبارة عن شبه خزانة تتسع طولًا لشخصين وعرضًا لجلوس شخص مع بضع سنتيمترات أمام الركبتين، فإذا أردت الجلوس بنوع من الراحة تصطدم ركبتاك بجدار الخلية، فتعود للجلوس منتصبًا" (ص 110).. "في مشهد لا أنساه عند الوصول إلى المعبر في أقفاص الرملة، رأيت عشرات الأسرى الفلسطينيين ينزلون من البوسطات، وتفك الكلبشات من أرجلهم، فيحمل السجانون هذه الكلبشات في أيديهم لتتدلى مرتبة الواحدة بعد الأخرى على طول ذراع السجان. وتصدر أصوات احتكاك الحديد ببعضه. غابة من الكلبشات، المئات منها في أيدي السجانين في مكان واحد.. مشهد سلب الحرية من شعبنا بلوحة بسيطة قاتمة من دون ألوان أمام عيني. هل يمكن أن يكلبش شعبنا إلى الأبد؟ .. في الطريق من سجن الجلبوع، وبعد وقت قصير من تكبيلنا بالأصفاد بدأ يظهر احمرار على يد وليد اليمنى، وازداد مع الوقت، وتحول اللون إلى الأزرق، ثم بدأ ورم يظهر في الرسغ والذراع، وتفاقم الوضع قبيل الوصول إلى معبر الرملة، فظهرت فقاعات من داخل الورم ممتلئة بسائل، كادت تنفجر في أي لحظة. كان واضحًا أن القيد المعدني هو السبب" (ص 114- 115)
خاتمة
صدر هذا الكتاب قبل اندلاع الطوفان بسنوات قليلة، حين كانت الظروف الاعتقالية أقل قساوة، وكان المعتقلون أكثر قدرة على مواجهة سياسات سلطة مصلحة السجون، وتحقيق المزيد من الإنجازات في معركتهم الطويلة ضد سجانيهم، لكنَّ غطاس لاحظ أن هنالك تحولات قادمة لن تكون في مصلحة الأسرى، وأن المستوى السياسي في دولة الاحتلال عاقد العزم على تحويل حياة الأسرى إلى جحيم، فكتب في يوم الأحد 2/9/2018 " لقد زارت القسم قبل أيام، كما علمنا من الدوفير عمَّار مرضي، اللجنة التي عيَّنها وزير الأمن الداخلي، غلعاد أردان، بهدف فحص أوضاع الأسرى السياسيين، لتنقل إليه توصيات عن كيفية التضييق عليهم وإساءة ظروف سجنهم وسلب المكاسب التي حصلوا عليها على مر السنين بالنضال... بدأ تأثير عمل اللجنة على السجون حتى قبل أن تنهي عملها وتصدر تقريرها. مجرد تعيين اللجنة وبدء عملها خلق أجواءً سلبية في سلطة السجون التي تشعر أن عليها أن تثبت أمام اللجنة أنَّها متشددة تجاه الأسرى، وهذا سيجلب نتائج وخيمة" (100-101).
لقد كانت مخاوف غطاس في محلها، فالتضييق على الأسرى أخذ بالاتساع شيئًا فشيئًا، وكان اندلاع حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة في تشرين أول/ أكتوبر عام 2023، نقطة تحول كبرى في سياسات الاحتلال تجاه الأسرى، فبات الأَسر قطعة من جهنم، خصوصًا بعد أن سلبت إدارة السجون الأسرى كل انجازاتهم، فلا عيادات ولا مستشفيات، ولا دواء [5]، ولا طعام ألا ما يبقي الأسير على قيد الحياة، ولا كتب أو دفاتر أو أقلام، ولا تلفاز أو راديو، ولا فورات، ولا أحذية، ولا دفء في ليالي الشتاء القارصة، ولا تبريد في أيام الصيف الحارقة، ولا زيارات للأهل، ولا رسائل ولا صليب أحمر.. ناهيك عن سلسلة طويلة من الإهانات الجسدية والنفسية التي تمارس بحق الأسرى على مدار الساعة.
لقد تحرر غطاس من الأسر في أواخر أيار/ مايو عام 2019، وترك وراءه آلاف المحرومين والمكلومين والمعذبين، فهل يأتِ اليوم الذي ينعمون به بالحرية كما نعم بها زميلهم؟
[1] استل هذا المصطلح من المناضل باسل غطاس.
[2] لابد من الإشارة إلى أن بعض الأسرى الذين وردت أسماؤهم في الكتاب تحرروا من سجون الاحتلال سواء بفعل صفقات التبادل الأخيرة بين المقاومة وسلطات الاحتلال أو بانتهاء فترة محكوميتهم، وبعضهم ارتقى شهيدًا داخل الأَسر وما زال الاحتلال يحتفظ بجثمانه الطاهر.
[3] بالإضافة إلى الدور المحوري لمروان البرغوثي، فقد كان لبعض الأسرى بصماتهم المؤثرة في تثبيت برنامج التعليم الجامعي في سجون الاحتلال، نذكر منهم البروفيسور الراحل أكرم الخروبي، عميد كلية المهن الطبية في جامعة القدس/ أبو ديس، رحمه الله، والذي كان أسيرًا بين عامي (1999-2007).
[4] قدَّم للكتاب أيضًا الأسير مروان البرغوثي.
[5] ارتقى العديد من الأسرى شهداء خلال السنتين الماضيتين بفعل الإهمال الطبي.