أيديولوجيا "الانسِلال" في زمنِ الطُّوفان

أيديولوجيا "الانسِلال" في زمنِ الطُّوفان
تحميل المادة

ليومِ السّبتِ، السّابع من تشرين الأول 2023 معانٍ مُتباينة: الرّاحة والسُّبوت "للشّعب المُختار"، وبِدءُ الطّوفان المُقاوِم. فبمعناه الميثولوجيّ الأوّل؛ يختتم الربُّ عمليّة الخلق في اليومِ السّادس، ويستريح في السّابع. "وفرَغَ اللهُ في اليوم السابِع من عمَلِهِ الذي عمِل، فاستراحَ في اليومِ السابع." (سفر التكوين، الإصحاح 2).[1] وبالمعنى الواقعيّ الثاني، تُحيلُ المُقاومة في غزّة سُبوتَ (راحَة) المُستعمِر إلى أرَق، وتُعلنُ "طوفان" الحرب عليه. وفيما "تتسللّ" وحدةٌ "للجيش الإسرائيليّ" فجرَ السبت 21 تشرين الأول لإحدى القُرى الفلسطينية في الضفّة الغربيّة لتمارسَ طقوسَ الاختطاف الليلي واستعادة كرامة "شمشون" التي ضاعت في غزة؛ تتركُ لافتةً بعبارة مكتوبٌ عليها: "رمتني بدائِها وانسلّت".

تعبَثُ المنظومة الاستعماريّة في العبارات -كما الأجساد- وتعيدُ تحديد سياقات النُّصوص (Re-Contextualization). وتبدو "الإعادة" مألوفةً، فقد مارَست إعادة تحديد "المكان" (الفلسطينيّ في المنفى، اليهوديّ في أرض الميعاد)،[2] وإعادة تقسيم "الأجساد" في الحرب إلى إنسانية وحيوانيّة. وفي الوقتِ ذاتِه الذي تستحضرُ فيهِ العبارةُ المكتوبة مُصطلحَ "انسلّ": أي خرج في خِفيةٍ وخِلسة، و "الأسَلُّ" هو السّارق، واصفةً المُقاومة في غزّة بصفاتِ المَكرِ والاحتيالِ والسّرقة؛ "تسلُّ" الآلة الاستعماريّة الصهيونيّة "سيوفها الحديديّة" على رِقاب الأطفالِ والنّساء والمعمدان في الحَرب.

يَطّردُ معنى "الانسِلال" على جُملة المُمارساتِ الصهيونية في السِلمِ والحرب؛ مُخفياً ومُجلّياً -في الوقت ذاته- أسلوباً مُلازماً للأيديولوجيا الاستعماريّة. ولإعادة موضَعة المثَل، "رمتني بدائِها وانسلّت" في سياقاته الواقعيّة، نُعيد طرحَ سؤالِ العبارة: مَن الذي "يَنسلُّ" في الحربِ ومن الذي يرمي "الدّاء"؟

 "الطّوفان" يجرفُ الفاسِد مِن الخِطاب

يُصرّح وزير الدّفاع الإسرائيليّ في معرَض محاربته "الإرهاب" قطعَ "الكهرباء والطعام" عن ما أسماهم "الحيوانات البشريّة" في غزّة. وفي خطابٍ إعلاميّ درَجَ على التستّر والتواري بالعبارات، يجرفُ "الطّوفان" معهُ ما فسَدَ من البشَر والحَجر وزيف العبارات. فينكشف الغطاءُ عن خطابِ السّلام السياسيّ؛ ويَستحلُّ "الحاخام" الإعلاميّ ممتلكات "الأغيار" وأرواحهم وأجسادهم بالمعنى التلموديّ. ثُمّ تُصبحُ غزّة بسُكّانها تجمّعاً يضمّ "حيواناتٍ بشريّة" بوصفِهم، توصَمُ "بالإرهاب"، وبالتالي تجب إبادتُها بالمجازر الجماعية و"التطهير العرقيّ". وفي خِطابٍ آخَر، يُعيدُ أصحابُ المجازِر في "حيّ الرِمال" و "مخيّم الشاطئ" تقسيمَ البشر إلى "حيوانات" و "بشر". ولإحباك السرد، و "الانسِلال" من الحقيقة الاستعماريّة التطهيريّة؛ تُعيد الآلة الإعلاميّة "تَسمِية" الأشياء أيديولوجياً ودينيّاً. فتُصبح المُقاومة "إرهاباً"، والغزيّون "حيواناتٍ بشريّة"، أمّا مجزرة الإبادة للمرضى والنازحين في المستشفى المعمدانيّ فهي "موتٌ رحيم". وهذه الأخيرة أعجَزَت الحُكومةَ الإسرائيليةَ عن مُداراتها بخداعِ العبارات والتسمِيات، وعِظَم فاجعة العالمَ بالدَم النازف، "فانسلّت" من الجريمة إعلامياً لترمي بها المُقاومين في غزّة.

تَستحضرُ الأيديولوجيا الصهيونية أسطورة "مَسادا" و"قلعة مَسادا" في إحالةٍ إلى معاني البُطولة والتضحية في القتال، وتأخذ الأسطورة بُعداً سياسياً في تطبيق "حنبعل" المُستخدم حالَ الحرب. وبهذا التوظيف السياسيّ للتاريخ والميثولوجيا الملحميّة؛ تحاول الحكومة الإسرائيليّة -على نحو ما- "الانسِلال" من ملف الأسرى الإسرائيليين في القطاع بالتنصّل من مسؤولية استرجاعهم والإشادة بإمكان التضحية بهم في الحرب. إنّ كُمون الأفكار في الخطاب الإعلاميّ الصهيونيّ، و"إعادة تسمية" الأشياء وقلبَ سياقاتِها، يستهدفُ توجيهَ فهمِ الجمهور وإعادة صياغته على مُسلّماتٍ تكونُ إسرائيل فيها "الضحية"، والفلسطينيّون ومُقاومتُهم هُمُ "الإرهاب".        

 "الانسِلال" من أرضِ المعركة ومن لَعنةِ الأجساد

تحدّث البعضُ عن ما أسمَوهُ "عُبورَ الأجساد". وفي ذات السّياق، أعلَن "دانيال هاغاري" عدد القتلى والأسرى في صفوفهم؛ مُتحدثاً عن الهجوم المُباغت للمقاومة في غزة بعد قطعِها السياج الأمنيّ الحدوديّ والوصول إلى المستوطنات المُجاورة لقطاع غزة. وفي الوقت الذي كان المقاومون ومن ثمّ الغزيّون يعبرون بأجسادهم "جهاراً نهاراً" السياجَ الاستعماريّ العازِل منذ سنوات، يتنفسون كل شبرٍ مُحتلّ ويطؤونه بأقدامهم، مُتجاوزين حِصار "المكان" الذي فرضه الاستعمار عليهم لسنوات، "انسلّت" الطائرات الحربيّة ليلاً تقصف البيوتَ الآمنة دونَ سابق إنذار. ومما جاء في "المَشناه" التلموديّ في أحكامِ قتلِ ونجاسة "الأغيار"؛ القاتل "اليهوديّ" معفيّ من العِقاب، أمّا الأغيار فهُم نجَسٌ وممتلكاتُهم نَجسة.[3] وبينما تحلُّ التعاليم التلموديّة محلّ "قيم الحرب"، يُعلنُ "الضّيف" الطوفان بألّا "تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً". وهكذا، "تسلُّ" الآلة الحربية "سيوفها"، بأطنان من المتفجرات المُحرِقة على المدنيين في غزة، و "تنسلّ" وفي الوقت ذاته من العِقاب، وتُصبحُ بلغة السياسة "فوق القانون".

كشَفَ شلالُ الدَم في مجزرة المُستشفى المعمدانيّ الوجهَ النازيّ "الوحيد" للمُستعمِر الإسرائيليّ. وفيما اعتادَت الأيديولوجيا "الانسلاليّة" إلغاءَ الوجود الفلسطينيّ "العينيّ" واستباحة الأرض باعتبارها "خالية"؛ كانت "أجسادُ" المرضى والنازحين والشُهداء في ساحة المعمدانيّ تؤرّقها. فالفلسطينيّ -عِندها- دونَ قسَماتٍ وملامح. ولا وجودَ بشريّ على الأرض؛ لا شيءَ إلاّ "الوحوش الإسرائيليّة" التي وعدَها الربّ بالأرض. كانت ساحةُ المعمدانيّ في غزّة "بشريّة" للغاية. أمّا تجمعُ الأجساد "الإنسانيّة" فيها، فهو مُزعجٌ للآلة الاستيطانيّة. الأجساد الفلسطينيّة ما زالت بملامحَ وقسَمات تلتحمُ بالأرض، والدمُ النازف يُخضّب التراب ويُذكّر في كُلّ مرّة أصلانيّة وجوده. فشرعَت الطائرات الحربيّة بإبادة ساحة المعمدانيّ بأطنان المُتفجرات الحارِقة للأجساد حتّى تمحي أثرَ الجريمة والتهديد الوجوديّ: الدَمَ والقسَمات والأجساد.           

 تَرمي وتنسلّ

استيقظَ "أصحابُ السّبت" من "سُباتِهم"، السّبتَ 21 تشرين الأوّل، بعد أن جرَفَ "طوفان الأقصى" منظومتهم الأمنيّة، للتلاعُب والاحتيال بالعبارات كما "احتالوا" على الربّ "يومَ السّبت". وفي تصريحِ الموصومينَ "بالإرهاب" للعاَلمِ أجمع، يقول المُلثّم: "يأكلون مما نأكُله، ويشربون مما نشرَبُهُ"، في إشارة إلى القيمِ الإنسانيّة في الحرب للتّعامل مع أسرى العدوّ المُستعمِر. أمّا الأسرى الفلسطينيّون في السجّون، يقطعُ "المُنسلّون" أخبارهم عقبَ بدءِ "الطُّوفان"، ويحاولون استعادة كرامتهم في غزة بالتنكيل بهم خِلسَة عن العالَم.

كما أن الرمي والانسِلال لعبةٌ تمارسها الآلة الحربيّة الاستعماريّة في "طوفان الأقصى" الجاري؛ فهي أيضاً تتنصّل من هذا النهجِ لترمي بهِ المُقاومة والفلسطينيين. فتنسلّ من "الانسلال" لترمي الآخر بتُهمة الانسلال ذاتِها. وفي وصفِ "الضّيف" للطّوفان وسفينتهِ، وانتشارِ "الفساد" في الأرض، لن تحمل السفينةُ إلّا البشرَ وأصنافاً من الحيوانات الناجية، للحفاظ على "النوع البشريّ". أمّا "المُنسلّون" من "الوحوش الاستعماريّة" و "سَلِيلوهُم" من أتباعُهم، فسيَغرَقون في الفيضان الجارف، ويُتاحَ لأبطالِ الطّوفان "الخلود" في الملحمة.             


المَراجِع:

حمود بن غازي الحربي."الآخر في اليهوديّة: التلمود نموذجاً". مجلّة الدراسات العَقديّة. 2021. 

 راوية زعموشي."البنية الميثولوجية للقصة التوراتية: قصة الخلق أنموذجاً". مجلّة رسالة المَشرق. 2017.

سِفر التكوين. الإصحاح الثاني.

عبد الوهاب المسيري. الأيديولوجيا الصهيونيّة: دراسة حالة في علم الاجتماع. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.1982.


[1] راوية زعموشي."البنية الميثولوجية للقصة التوراتية: قصة الخلق أنموذجاً". مجلّة رسالة المَشرق. 2017.

[2] عبد الوهاب المسيري. الأيديولوجيا الصهيونيّة: دراسة حالة في علم الاجتماع. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.1982. 

[3] حمود بن غازي الحربي."الآخر في اليهوديّة: التلمود نموذجاً". مجلّة الدراسات العَقديّة. 2021.