"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون": تحرير المدن في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1938 - الجزء الأوّل
مقدمة
تسلط هذه الدراسة الضوء على مهاجمة الثوار للوجود البريطاني في المدن الفلسطينية خلال المرحلة الثانية من الثورة الفلسطينية الكبرى، فيما عُرف في أدبيات الفلسطينيين بـ "تحرير المدن"، أو "معارك المدن" أو "احتلال المدن"، وقد تبنى الثوار هذا التكتيك العسكري بشكل واسع عام 1938، وطبَّقوه في أكثر من مدينة فلسطينية منها: البلدة القديمة في القدس، وطبريا، ورام الله، وبئر السبع، والخليل، وجنين، وبيسان.
وتقدم الدراسة استعراضًا أوليًا لأبرز الخصائص التي امتاز بها هذا التكتيك، وأهمّ الأهداف التي سعى لتحقيقها، وتسرد تفاصيله الميدانية كما حدثت في المدن المختلفة، بما فيها استهداف مقرات البوليس البريطاني، والدوائر الحكومية المختلفة بشكل مكثَّف وكبير، والاستيلاء على ما فيها من موجودات مثل: الأسلحة والوثائق والآلات الكاتبة وغيرها، ورفع العلم العربي فوقها، وحرق المقرات والدوائر.
خصائص تكتيك "تحرير المدن"
كانت المدن الفلسطينية إحدى ساحات المواجهة مع الاستعمار البريطاني منذ بداية الثورة في نيسان/ إبريل عام 1936، وقد ظهرت فيها عدة أشكال من المقاومة المسلحة شملت: عمليات اغتيال تعرّض لها بعض حكام الألوية وكبار الضباط[1]، وعمليات قنص لعناصر البوليس البريطاني، وإلقاء القنابل على الدوائر الحكومية. لكنَّ تغيُّرًا طرأ على العمل المسلح داخل المدن عام 1938، وظهر تكتيك هجومي جديد حوَّل أحياء المدن وشوارعها إلى ساحة مواجهة عسكرية مباشرة وحادة وواسعة مع الجيش والشرطة البريطانيين.
تَمثَّل التكتيك العملياتي الجديد في تنفيذ الثوار هجومًا عسكريًا كبيرًا على المدن، تجري من خلاله السيطرة على مداخلها الرئيسة، وأحيائها، ومواقع حكومية حساسة لها طابع أمني- خدماتي – إداري، وقد امتاز التكتيك بعدد من الخصائص، إذ جاء وفق خطة، أعدّتها مسبقًا، القيادة العسكرية الميدانية المسؤولة عن المنطقة التي تقع فيها المدينة المراد "تحريرها"، ونسّقتها سلفًا مع بعض كوادر المقاومة داخلها؛ نظرًا لمعرفتهم الدقيقة بواقع مدنهم من النواحي الأمنية والعسكرية والجغرافية. كما أنّ من خصائصه مشاركة عدد كبير من الثوار، يصل أحيانًا إلى عدة مئات، في تنفيذ الهجوم، ويتراوح المدى الزمني من اللحظة الأولى للهجوم حتى الانسحاب بين عدة ساعات إلى عدة أيام.
أمَّا مراحل التنفيذ فتبدأ بوصول الثوار إلى مشارف المدينة، وإحكام سيطرتهم على مداخلها الرئيسة، وقيامهم بإتلاف أعمدة الهاتف وخطوطه داخل المدينة وحولها، ثمَّ الهجوم على مقر البوليس والدوائر الحكومية، وإيقاع خسائر بشرية ومادية بالعدو، والاستيلاء على المقرات وما بداخلها من أسلحة وذخيرة ووثائق وماكنات، ورفع العلم العربي عليها، وحرقها، وأحيانًا إقامة محكمة لحل الخلافات بين الأهالي، والإصرار على البقاء في المدينة أكبر فترة ممكنة، وعدم الانسحاب الكلي إلا بعد وصول إمداداتٍ بريطانيةٍ كبيرةٍ.
أهداف استخدام هذا التكتيك
لا شك بأن سؤال الأهداف كبير، ويحتاج إلى بذل المزيد من الجهد، وستكتفي هذه الدراسة بالإشارة إلى بعضها بشكل أوّلي، على أمل التوسع في ذكرها ومناقشتها بعمق في دراسة لاحقة.
لقد سعى الثوار إلى تحقيق عدد من الأهداف من تكتيكهم، إذ كانت لديهم رغبة في إنجاز التحرير ولو بشكل رمزي، وكانوا يسعوْن حثيثًا للمس بهيبة بريطانيا، وخلخلة يقينها بالقدرة على الاستمرار في احتلال فلسطين، بالإضافة إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية والمادية في صفوف شرطتها وجيشها[2]، وزيادة الضغط عليها في ظل بوادر اندلاع الحرب العالمية الثانية، واستغلال حاجتها إلى تحقيق الهدوء في مستعمراتها، والتأكيد على القدرة القتالية للثوار، وعلى إمكانية خلق تعاون ميداني أكبر بين فصائل الثورة، والتعويض عن انحسار بعض مساحات المواجهة معها، ورفع معنوية الشعب الفلسطيني، والاستيلاء على السلاح البريطاني المتطور، كما أنّها كانت تهدف، ميدانًا، لتعزيز مكانة قادة المناطق والفصائل ونفوذهم.
لقد جاء استخدام هذا التكتيك في ظل انتشار الروح الثورية بين عدد من أفراد الشرطة العرب وانضمامهم للثوار[3]، وتراجع ثقة البريطانيين بالشرطة العرب بشكل كبير[4]، وفي ظل مطالبة قيادة الثورة الشرطةَ العرب بتقديم استقالاتهم[5]، وكان ذلك عاملًا مساعدًا سهَّل مهمة "تحرير" المدن.
في المقابل تصاعدت المخططات البريطانية الهادفة إلى ضرب الثورة ومحاصرة الثوار، خصوصًا مخططات السير تشارلز تيجارتSir Charles Tegart [6] والتي كان منها وضع سور من الأسلاك الشائكة على الحدود بين فلسطين وسوريا ولبنان، فيما أطلق عليه البعض "جدار تيجارت"[7]، بهدف منع وصول السلاح للثوار وحرمانهم من عمقهم الاستراتيجي[8]، وإقامة قلاع (مقاطعات) في المدن[9]، لجعلها مقرات حكوميةً محصنةً، وإعادة "تفعيل نموذج لقوة درك بنظام عسكري كان متبعًا قبل عام 1926"[10]، فضلاً عن ظهور فصائل السلام التي عملت ضد الثوار[11]، بحيث بدا تنفيذ هذا التكتيك على الأرض وكأنه يسابق الزمن لإرباك العدو وإعاقة مخططاته.
نماذج من هذا التكتيك
سنعرض في هذ الجزء نموذجين تطبيقيين لـ "تحرير" المدن يتعلقان بـ "تحرير" البلدة القديمة في مدينة القدس، وتحرير مدينة رام الله، وسنورد المزيد من النماذج في الجزء الثاني.
· "تحرير" البلدة القديمة في القدس
كانت البلدة القديمة مسرحًا لهجمات الثوار على قوات الشرطة والجيش البريطانيين منذ بداية الثورة، وقد قتل خلالها الكونستابل البريطاني روبرت بيرد Bird Robert في الثامن والعشرين من أيار/ مايو 1936[12]، في حين استمرت هجمات الثوار داخل البلدة القديمة وإن بشكل متقطع [13].
تعاملت بعض المصادر العربية مع معركة "تحرير" البلدة القديمة بوصفها خطةً واحدةً، بدأ الثوار بتنفيذها في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر وبلغت ذروتها في النصف الثاني من شهر تشرين الأول/ أكتوبر[14]؛ وتناولتها أخرى بوصفها حدثًا واحدًا امتد بين الثالث عشر – والعشرين من أيلول/ سبتمبر[15]، وركزت ثالثة على ما جرى في تشرين الأول/ أكتوبر[16]، ومهما يكن من أمر، فإنَّه من المؤكّد أن البلدة القديمة شهدت معركةً حاميةً في الفترة ما بين الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر والسابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر أدت إلى انحسار الوجود البريطاني فيها بشكل كبير، حتى بدت محررة بشكل فعلي.
ولأسباب تتعلق بفهم ما جرى سنقسم الأحداث إلى موجتين:
- الموجة الأولى
تؤكّد بعض المصادر العربية أنه جرى طرح خطة "تحرير" البلدة القديمة في القدس أثناء مؤتمر دير غسانة لقادة الثورة في المنطقة الوسطى[17]، واختير عارف عبد الرازق[18] قائدًا لخطة التحرير[19]، وكان الهدف منها رفع معنويات الفلسطينيين، وشحذ الهمم، وإرباك العدو[20]، وتعطي أهداف الخطة انطباعًا بأن هجوم البريطانيين على المؤتمرين في دير غسانة، واستشهاد محمد الصالح الحمد[21]، القائد المهم في الثورة، لعبا دورًا في تعجيل تنفيذ الخطة.
حدثت الموجة الأولى بين الثالث عشر والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1938[22]، وجاءت تتويجًا لعمليات عسكرية ضد القوات البريطانية سبقت اندلاعها، تعرض فيها البريطانيون لاستنزاف، حتى اقتصر وجودهم على "عدد من رجال المباحث والبوليس الإضافي العرب، وبعض المغامرين من الإنجليز مثل الجاويش كامبل"[23]، وقد جاء قرار "تحرير" البلدة القديمة إثر احتلال البريطانيين لمخفر البراق[24]، وفي سياق رد الفعل على وحشيتهم في التعامل مع الأهالي، حيث قاموا يوم الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر بعمليات تفتيش وصفتها المصادر العربية "بالفظيعة والمؤذية" [25]، فأُعلن الإضراب العام في اليوم التالي، وفي الوقت نفسه أعلن الثوار منع التجوال حفاظًا على أرواح المواطنين[26].
قاد الهجوم القائد عارف عبد الرازق، وتكَّون المهاجمون من عدة فصائل منها: فصيل حمد داود - زواتا[27]، وفصيل فارس العزوني[28]، وفصيل محمد عمر النوباني[29]، وكان من ضمن الخطة أن يدخل فصيلان سرًا للبلدة القديمة، وينضما لثوارها، وأن يوضع عناصر من الفصائل الأخرى بالقرب من سور القدس لمواجهة التعزيزات البريطانية، ويرابط قسم آخر بقيادة عارف عبد الرزاق على الطريق الرئيس جنوبًا وشمالًا، وقد تخابر عبد الرازق مع ضابط الشرطة جميل العسلي[30] الذي أمدّه بالمعلومات حول مراكز الشرطة داخل البلدة القديمة[31].
عارف عبد الرازق قائد خطة تحرير القدس عام 1938
بدأ الثوار الهجوم على مراكز الشرطة في الثامنة صباحًا، واستولوا على أربعة مراكز للشرطة البريطانية بما فيها مركز البراق الذي حرَّروه بعد قتل أربعة من الإنجليز[32]، واستولوا على أربع بنادق وذخيرة، وأحرقوا مخفر الشرطة قرب البراق، وأدوا الصلاة جماعة داخل المسجد الأقصى[33]، تبع ذلك تجمع لبضع مئات من العرب بجوار الحرم القدسي احتفالًا بدخول الثوار المدينة [34]، ثم انسحب المهاجمون على أصوات تهليل الجماهير وتكبيرهم، وكان من بين الثوار فوزي القطب[35]، ويوسف الشرفا، وبهجت أبو غربية [36] [37].
خلت المدينة بعد هذا الهجوم من السلطة البريطانية، وتمركز الثوار بالقرب من أبواب البلدة القديمة ومنعوا تقدم الدوريات البريطانية[38]، وأسس الثوار داخل البلدة القديمة محكمةً خاصةً بهم في منطقة الحرم الشريف[39] أدارها الأستاذ شكيب القطب[40]، واستمرت سيطرة الثوار على البلدة القديمة تسعة أيام[41].
- الموجة الثانية
عزَّزت القوات البريطانية من وجودها داخل البلدة القديمة، بعد إعادة السيطرة عليها في 20 أيلول/ سبتمبر[42]، حتى تجاوز عدد أفراد شرطتها داخلها الثلاثمائة، يرافقهم عدد كبير من الجنود[43]، ومع ذلك فقد تمكَّن الثوار من السيطرة على البلدة القديمة مرةً أخرى في الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1938، ومكثوا فيها ثلاثة أيام[44].
بدأ الثوار تكتيكهم للسيطرة على البلدة القديمة في الموجة الثانية، بإغلاق أبوابها منذ الثامنة والنصف صباحًا، ابتداءً من باب العمود، وأطلقوا النار وقنبلةً على البوليس الذي حاول منعهم من أغلاق باب العمود[45]، كما ألقوا قنبلتين على شرطيَّيْن بريطانيَّيْن عند باب السلسلة الساعة العاشرة صباحًا، وعادوا وأطلقوا النار في المكان ذاته، وأُغلقت كامل أبواب البلدة القديمة، وأغلق التجار متاجرهم[46]، وتعطّل التخابر بين القدس وباقي المدن لعدة ساعات بعد قطع أسلاك الهاتف على طريق القدس- يافا، وطريق القدس- نابلس[47]. كما أُطلقت النار في اليوم التالي من على سور القدس على مستخدمي شركة الكهرباء قرب باب العمود مرتيْن بين الساعة العاشرة والحادية عشرة[48]، واستمرت الهجمات في يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث أطلقت النار على شرطيين بريطانيين، وفي حدثين منفصلين أطلقت النار على نقطة للبوليس البريطاني في حارة اليهود وعلى البوليس في باب القديس أسطفان[49].
واعترفت المصادر الصهيونية بقيام الثوار في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر بإغلاق "أبواب البلدة القديمة، ورفعوا العلم العربي على باب العمود، وهوجم الحراس من الشرطة والجيش بالرصاص والقنابل اليدوية، وأُحرق مركز الشرطة في البلدة القديمة"[50]، وذكرت الـ "بالستاين بوست" أن الثوار نفَّذوا سبع هجمات على البوليس البريطاني خلال يومين عند بابي العمود والسلسلة وسوق خان الزيت، وقرب حائط البراق، فجرى إلغاء زيارة اليهود لحائط البراق[51].
لم تكن عملية تحرير البلدة القديمة بلا ثمن، فقد ارتقى فيها عدد من الثوار، وتشير بعض المصادر العربية إلى أن حصيلة المواجهة في أيلول/ سبتمبر وتشرين الأول/ أكتوبر في القدس كانت أربعين شهيدًا عربيًا، وستين قتيلًا إنجليزيًا [52].
· تحرير مدينة رام الله
كانت رام الله مسرحًا لعدة هجمات سابقة على تحريرها في السابع من أيلول/ سبتمبر عام 1938، ويبدو أن هجومًا تحضيريًا قد حدث قبل يومين من الهجوم الرئيسي، فقد هاجم الثوار دائرة البوليس البريطاني في المدينة الساعة السابعة والنصف مساء الخامس من أيلول/ سبتمبر عام 1938، وفتحَ عشرون منهم النار على البريطانيين، وألقيت قنبلة يدوية على إسطبل الخيول التابع للبريطانيين أدت لمقتل حصان وجرح ثلاثة[53]. وتنقل صحيفة الأخبار عن دائرة الأمن البريطاني أن مركز البوليس تعرض لإطلاق نار عند الساعة الثامنة تقريبًا، واشتبك المهاجمون مع تعزيزاتٍ بريطانية كانت قادمة إلى المكان، فاستشهد على إثر الاشتباك اثنان من الثوار، كما أصيبت أربعة رؤوس خيل من خيل القوات البريطانية[54]، وقد كذّب خليل طوطح، ابن المدينة وشاهد عيان على الأحداث، مقتل الثائرَيْن، وأكد في يومياته أنهما أصيبا فقط [55].
ويبدو أن هذا الهجوم أبَانَ عن ضعف السلطة البريطانية في المدينة، فقد أُخليت دائرة البوليس البريطاني بعد يومين من الهجوم، ثم عاد البوليس إليها ولكن دون سلاح. وذكر طوطح بأن أحد رجال البوليس ويدعى "Tahani" أحضر الثوار إلى مقر البوليس للتأكيد لهم بأن البوليس سيسمح لهم باقتحام المقر والاستيلاء على السلاح والذخيرة[56].
وتتحدث المصادر العربية عن هجوم كبير نفَّذه فصيل القسام مع أربعمائة من الثوار في السابع من أيلول/ سبتمبر[57]، وكان من نتائجه "تحرير" رام الله لمدة يومين[58]. ووفق رواية الثوار، فقد كان الهدف من الهجوم بث روح التعاون بين فصائل الثورة والقرويين، ووصل البلاد مع بعضها البعض، وجعل "فصيل القسام همزة الوصل في تحكم الحلقات وإيقاظ الشعور بالكرامة ومعرفة الواجب"[59]، وتنظيم الثورة بشكل أكثر دقةً ومتانةً، بحيث يعرف الثوار "حركات بعضهم البعض، وتوجد بينهم الرسائل المتبادلة كل يوم، متفقي البرامج والغايات، وأما الحركات والتنقلات اليومية فتصدر إليهم من رئاسة الفصيل ومقر القيادة"[60].
قاد الهجوم الكبير محمد عمر النوباني "أبو عمر" وكان معه عدة فصائل منها: فصيل رام الله بقيادة حنا عيسى خلف[61]، وفصيل بيتونيا بقيادة سعيد شقير[62]، وفصيل البيرة بقيادة عبد الدائم عبد الصمد[63]، وبعض الثوار من القرى شمال شرق رام الله مثل بيتين ودير دبوان وغيرها[64].
أغلق فريق من الثوار الجهة الجنوبية وأقفلوا الطريق العام، وقطعوا خطوط الهاتف، وهاجم قسمٌ آخرُ دائرة البوليس، فيما هاجم قسم ثالثٌ محطة الإذاعة، وتولّى قسم رابع مهاجمة محكمة الصلح الواقعة على الطريق العام بين رام الله والبيرة، وأُغلق الطريق العام من الجهة الشمالية، وقد دامت هذه العملية ثلاث ساعات[65]، وكانت فصائل الثوار "تخترق الشوارع هاتفةً مهللةً مكبرةً حاملةً أعلامها العربية داخل البلدة وأصداءُ أصواتها تسمع من كل مكان وتصل إلى مسافات بعيدة وأهازيجها تصمّ الآذان"[66]، وقد أكَّد طوطح في يومياته دخول الثوار المدينة مساء السابع من أيلول/ سبتمبر الساعة العاشرة، وقيامهم بمسيرة في شوارع المدينة [67].
تمكَّن أبو عمر من احتلال مركز البوليس البريطاني في المدينة، واستولى على ما فيه من أسلحة[68]، وقُتِل مفتش الشرطة البريطاني في كمين محكم قرب بيت سويلم حرب، القريب من مسرح القصبة حاليًا[69]، ويذكر طوطح أن القائد عبد الحميد المرداوي[70] زار المدينة في الثامن من أيلول/ سبتمبر مع 60-70 من أتباعه[71]، وفي التاسع من الشهر نفسه دخل الثوار المدينة وكانوا ما بين 500-800 ثائر مدججين بالسلاح، وأغلقوا جميع مداخل المدينة، ومشوا في مسيرة عسكرية منتظمة، ورفعوا علمًا عربيًا على إحدى البيوت، ثم غادروها الساعة الثانية صباحًا، ودخلوها مرةً أخرى في صباح الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر واستولوا على آلة طابعة من المحكمة. ونتيجةً لذلك أغلق البريطانيون مكتب البريد بعد يومين[72]، وقرَّروا نقله ونقل محكمة الصلح إلى القدس[73].
وخلال شهر أيلول/ سبتمبر وبداية تشرين الأول/ أكتوبر ارتقى، وفق شهود عيان عرب، ثلاثون شهيدًا، وقَتل الثوار ثمانيةً وثمانين من عناصر الجيش البريطاني، وأُسقطت طائرةٌ بريطانية قرب بيت عور[74]، و"أُقفلت دائرة البوليس في رام الله وحُملت أمتعتها إلى القدس، وتقلّص نفوذها وهلكت هيبة الظالمين الخائنين للعهد والميثاق" [75]، ويبدو أن الخسائر العربية الكبيرة وقعت بعد فترة من الهجوم الأول في السابع من أيلول/ سبتمبر، حيث تؤكد المصادر الصهيونية اندلاع اشتباكات قوية في رام الله صبيحة الأول من تشرين الأول/ أكتوبر بعد مقتل مفتش بريطاني، استخدم فيها البريطانيون الطائرات، الأمر الذي أدّى إلى ارتقاء أربعين شهيدًا، واعتقال ثلاثة من الثوار، والاستيلاء على 17 بندقية، وجرح بريطانِيّيْن جراحًا خفيفة[76].
[1] للمزيد: http://bit.ly/3xY8MVy
[2] على سبيل المثال قتل الثوار 49 شرطيًا، ودمَّروا 26 بناية للشرطة عام 1938، انظر: صالح، محسن محمد، القوات العسكرية والشرطة في فلسطين ودورها في تنفيذ السياسة البريطانية 1917-1939، عمان، دار النفائس للنشر والتوزيع، 1996، ص 524 و527.
[3] وصل عدد الشرطة العرب عام 1938 حوالي 2775 شرطيًا، انظر: المصدر نفسه، ص 521.
[4] قام البريطانيون بعدة إجراءات تعبّر عن عدم ثقتهم بالشرطة العرب منها: إيقاف تجنيد شرطة عرب جدد، ونزع أسلحة الشرطة العرب، وزيادة العنصرين اليهودي والبريطاني في الشرطة، واقتراح إحضار عناصر شرطية من القبارصة المسلمين والمسيحيين، انظر: المصدر نفسه، ص 516-518.
[5] منح بيان الثورة الشرطة مهلة لترك عملهم حتى الأول من أيلول عام 1938، وقد ترك العمل في ذلك الوقت 230 شرطيًا، انظر: المصدر نفسه ص 515 و524.
[6] السير تشارلز تيجارت Charles Augustus Tegar(1881-1946): إيرلندي الأصل. مفوض الشرطة السابق في كلكتا في الهند بين عامي (1923-1931)، وقاضي صلح، ومستشار كبير في الإدارة البريطانية في فلسطين بين عامي (1937-1938)، والعقل المدبّر لإنشاء مراكز التحقيق والتحصينات في فلسطين أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى. حاصل على نيشان الإمبراطورية الهندية من رتبة فارس قائد
[7] Cahill, Richard, Sir Charles Tegart: The “Counterterrorism Expert” in Palestine, Part 2, Jerusalem Quarterly, N 74. Spring 2018, P 57-66.
[8] اكتمل بناء جدار تيجارت في آب عام 1938، انظر: هيوز، ماثيو، الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة مصعب بشير، ط1، 2021، ص 247.
[9] Cahill, Richard, The Tegart Police Fortresses in British Mandate Palestine, A Reconsideration of Their Strategic Location and Purpose, Jerusalem Quarterly, N 75. Autumn 2018, P 48-61.
[10] ماثيو هيوز، مصدر سابق، ص 66.
[11] حول فصائل السلام ودورها في إجهاض الثورة، انظر: المصدر نفسه، ص 354-370.
[12] Matthew Hughes, “A History of Violence: The Shooting in Jerusalem of British Assistant Police Superintendent Alan Sigrist, 12 June 1936,” Journal of Contemporary History 45/49 (October 2010). p8.
[13] حول الهجمات داخل البلدة القديمة، انظر: أبو غربية، بهجت، في خضم النضال العربي الفلسطيني مذكرات المناضل بهجت أبو غربية 1916-1949، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1993، ص 102.
[14] انظر على سبيل المثال: الموسوعة الفلسطينية، القسم العام، المجلد الأول، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984، ص 641.
[15] انظر على سبيل المثال: أبو غربية، بهجت، في خضم النضال العربي الفلسطيني، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، 1993، ص 108-111.
[16] انظر على سبيل المثال: عبد الرزاق، فيصل عارف، أمجاد ثورية، الطيبة، مطبعة أبن خلدون، 1997، ص 177- 178.
[17] الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939 يوميات أكرم زعيتر، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 1992، ص 452.
[18] عارف عبد الرازق (1900- 1944): ولد في قرية الطيبة قضاء طولكرم، وتعلم فيها وفي طولكرم ونابلس، سجنه البريطانيون ثلاث سنوات قبل ثورة 1936، شمل نشاطه في الثورة قضاء بني صعب، ثم توسع في مناطق يافا والرملة واللد والقدس. اشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وغادرها إلى تركيا ثم إلى بلغاريا التي مات فيها.
[19] فيصل عارف عبد الرازق، مصدر سابق، ص 177. لابد أن نشير هنا إلى أن القدس كانت جزءًا من مناطق نفوذ القائد عارف عبد الرازق.
[20] المصدر نفسه، ص 177.
[21] محمد الصالح الحمد (ت1938): من سيلة الظهر في جنين. أحد القادة القساميين الميدانيين في الثورة الفلسطينية الكبرى، وقد عُرف بعفته. عمل في تأمين السلاح للثوار، وتسلم قيادة منطقة نابلس، شارك في عدة معارك وكان قائدًا لمعركة سيريس- جبع. طوقته القوات البريطانية في منطقة سرطة في جبال نابلس واشتبك معها حتى استشهد.
[22] استقيت هذا التحقيب من شهادة بهجت أبو غربية على الأحداث، انظر: بهجت أبو غربية، مصدر سابق، ص 108.
[23]المصدر نفسه، ص 108.
[24]الموسوعة الفلسطينية، مصدر سابق، ص 641.
[25] مذكرات محمد عزة دروزة سجل حافل بمسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمن 1305هـ -1404هـ / 1887-1984، القاهرة، دار الغرب الإسلامي، ج3، 1993، ص 679-680.
[26] صبحي ياسين، مصدر سابق، ص 195.
[27] حمد داود أبو فؤاد (1907-1981): ولد في قرية زواتا قضاء نابلس، والتحق بالثورة في أعقاب استشهاد الشيخ عز الدين القسام، قاد فصيلاً مسلحًا أثناء الثورة، وكان له نشاط عسكري في أكثر من منطقة منها نابلس. استشهد ابنه عبد الجبار عام 1969، وابنه محمد عام 1991.
[28] فارس العزوني (ت 1939): من قرية عزون، كان نائبًا لعارف عبد الرازق في منطقته. أسس فصيل عزون وأسماه فصيل الموت، نفَّذ عدة عمليات منها الهجوم على كفار سابا، سلمه الفرنسيون لبريطانيا فأعدمته في سجن عكا.
[29] محمد عمر النوباني (1892- 1971): ولد في قرية مزارع النوباني قضاء رام الله، شارك في ثورة البراق عام 1929، التحق بالثورة مبكِّرًا، وشارك في عدة عمليات في رام الله ومحيطها، نسف البريطانيون منزله، وأصيب مرتين، وأُسر، وتم تحريره من الأسر من قبل الثوار، وشارك في معارك النكبة وأصيب بجراح.
[30] جميل رشيد العسلي (ت1852): ولد في القدس. عمل ضابطا في الشرطة البريطانية في القشلة في القدس، وساهم في إخراج الحاج أمين الحسيني خفية من المسجد الأقصى أثناء مطاردة البريطانيين له في ثورة 1936.
[31] فيصل عارف عبد الرازق، مصدر سابق، ص 177-178.
[32] صبحي ياسين، مصدر سابق، ص 195.
[33] فيصل عارف عبد الرازق، مصدر سابق، ص 177-178.
[34] وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939 من أوراق أكرم زعيتر، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 1984، ص 449.
[35] فوزي نامق القطب (1917-1988): ولد في مدينة دمشق، شارك في الثورة الفلسطينية الكبرى، ونفَّذ عدة عمليات ضد البريطانيين، واشترك في بعض معاركها، اشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وصل ألمانيا وحصل على عدة دورات عسكرية، وقاتل في النكبة عام 1948، حيث كان على رأس فرقة التدمير التابعة للجهاد المقدس والتي نفَّذت عددًا من العمليات في القدس، خرج من القدس عام 1967، واستقر في دمشق حتى مات فيها.
[36] الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939، مصدر سابق، ص 449.
[37] بهجت أبو غربيّة (1916-2012): ولد في مدينة خان يونس عام 1916، وشارك في الثورة الفلسطينية الكبرى في مدينة القدس وما حولها، وكان قائِدا في جيش الجهاد المقدّس(1947-1949)، ومن مؤسسي منظمة التحرير وعضو لجنتها التنفيذية (1964-1965)، (1967-1969)، ومن أعضاء المجلسين المركزي والوطني بين عامي (1964 – 1991)، وقائدًا سابقًا في جبهة النّضال الشعبي
[38] بهجت أبو غربية، مصدر سابق، ص 108.
[39] الموسوعة الفلسطينية، مصدر سابق، ص 641.
[40] صبحي ياسين، مصدر سابق، ص 195. شكيب القطب: أصله من نابلس، كوَّن جماعة للمقاومة في القدس، نفَّذت عدة هجمات على البريطانيين أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، عدَّه بهجت أبو غربية قائدًا للبلدة القديمة في القدس أثناء محاولة البريطانيين استعادتها. سجنه البريطانيون لسنوات، وعذبوه حتى أصيب بعدة عاهات دائمة.
[41] المصدر نفسه، ص 196.
[42] بهجت أبو غربية، مصدر سابق، ص 110-111.
[43] الموسوعة الفلسطينية، القسم العام، المجلد الأول، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984، ص 641. ذكرت الموسوعة الفلسطينية هذا العدد أثناء حديثها عن قرار الثوار السيطرة على المدينة في أيلول/ سبتمبر، والأقرب للصواب أن هذا العدد مرتبط بمرحلة تحرير المدينة في 15 تشرين الأول/ أكتوبر وليس في شهر أيلول/ سبتمبر، خصوصًا وأن رواية أبو غربية (شاهد عيان رئيس ومشارك) أكدت على أن البلدة القديمة كانت شبه خاوية من عساكر البريطانيين في أيلول/ سبتمبر.
[44] استقيت هذا التحقيب من رواية فيصل عارف عبد الرازق، الذي كان والده مسؤول الثوار عن منطقة القدس، انظر: فيصل عارف عبد الرازق، مصدر سابق، ص 178.
[45] صحيفة الدفاع، 16 تشرين أول 1938.
[46] صحيفة فلسطين،16 تشرين أول 1938.
[47] المصدر نفسه.
[48] صحيفة فلسطين، 17 تشرين أول 1938.
[49] صحيفة فلسطين، 18 تشرين أول 1938.
[50] خليفة، أحمد (مترجم)، الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939 الرواية الإسرائيلية الرسمية، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1989، ص 167.
[51] بالستاين بوست، 16 تشرين أول 1938، وقد نشرت صحيفة فلسطين نفس الأخبار في عدديها 15 و16 تشرين الأول 1938.
[52] صبحي ياسين، مصدر سابق، ص 196. لم أتمكن من توكيد هذه الحصيلة من مصادر أخرى.
[53] Ricks, Thomas M. ed. Turbulent Times in Palestine: The Diaries of Khalil Totah, 1886–1955. Jerusalem and Ramallah: Institute for Palestine Studies and PASSIA, 2009, p231-232.
[54] صحيفة الاخبار، 8 أيلول 1938.
[55], Thomas Ricks, p231-232.
[56] PP.232.
[57] وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939 من أوراق أكرم زعيتر، مصدر سابق، ص 502.
[58] نيروز، إبراهيم، رام الله جغرافيا- تاريخ- حضارة، رام الله، دار الشروق، ط1، 2004، ص 96.
[59] وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1918-1939 من أوراق أكرم زعيتر، مصدر سابق، ص 502.
[60] المصدر نفسه، ص 502.
[61] حنا عيسى خلف (1904-1963): ولد في مدينة رام الله. تعلم في مدارس رام الله والقدس، ونال درجة البكالوريوس في الاقتصاد من الولايات المتحدة عام 1931، والبكالوريوس في الحقوق من الولايات المتحدة عام 1935. شارك في ثورة عام 1936، وكان سكرتيرًا للمراسلات الخارجية لدى مكتب اللجنة العربية العليا، وقاد فصيل رام الله في الثورة. غادر فلسطين إلى العراق، اعتقله البريطانيون. عمل قاضيًا بعد عام 1948، وانتخب عضوا في البرلمان الأردني عام 1962.
[62] سعيد شقير (1910- 2004): ولد في مدينة بيتونيا، قاد فصيل بيتونيا أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، هاجر إلى البرازيل، وكان من الداعمين ماليًا لمنظمة التحرير، وأصبح عضوا في المجلس الوطني، عاد إلى فلسطين عام 1998، وعاش فيها إلى أن توفي.
[63] عبد الدايم عبد الصمد (1880-1963): ولد في مدينة البيرة، قاد فصيل البيرة في الثورة الفلسطينية الكبرى، سجنه البريطانيون عدة مرات، وشارك في معارك النكبة عام 1948، خصوصا في منطقتي القدس والخليل. توفي في البيرة.
[64] إبراهيم نيروز، مصدر سابق، ص 96.
[65] المصدر نفسه، ص 504.
[66] المصدر نفسه، ص 502.
[67] Ricks, Thomas M. ed, P.234.
[68] حمودة، سميح، سعيد شقير القلاح الثائر، مجلة التراث والمجتمع، العدد 54، خريف 2012، ص 147.
[69] إبراهيم نيروز، مصدر سابق، ص 96.
[70] حامد (عبد الحميد) سليمان المرداوي أبو سليمان (1890-1939): ولد في قرية بيت إمرين قضاء نابلس، شارك مع الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى. شارك في الثورة الفلسطينية الكبرى وقاد عدة عمليات في أكثر من منطقة. تعاون مع فوزي القاوقجي أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى، ومع عبد الرحيم الحاج محمد، وكان من المرشحين لخلافته. استشهد في اشتباك مع القوات البريطانية في منطقة طولكرم.
[71] Ricks, Thomas M. ed, P.232
[72]pp..232.
[73] صحيفة الدفاع، 20 أيلول 1938.
[74] إبراهيم النيروز، مصدر سابق، ص 96. لم أتمكن من التأكد من الأرقام من مصادر أخرى.
[75] محمد عزة دروزة، مصدر سابق، ص 502.
[76] بالستابن بوست، 2 تشرين الأول 1938.