اسرق أولًا وبرر ثانيًا: سياسة الافتراس الإسرائيلي لما بقي من الأرض
بعد ساعاتٍ من بدء حرب "طوفان الأقصى" السابع من أكتوبر انطلق طيران الاحتلال في قصفٍ جوي عنيف لم يتوقف حتى اللحظة، مستهدفًا الحجر والبشر، ليقتل أكثر من 33، ويشرد أكثر 2.2 مليون نسمة، ويدمر أكثر من 79 ألف وحدة سكنية، إضافةً إلى 89 ألف مبنى، وبالتزامن مع الاجتياح البري للقطاع الذي انطلق في السابع والعشرين من أكتوبر 2023، نفذت وحدات الهندسة في جيش الاحتلال أكثر من 1072 عملية تفخيخ وتفجير لمنازل ومنشآت في عمق القطاع وعلى حدوده.
وفي الضفة الغربية سُجل عام 2023 الأكبر تشريدًا ومصادرة بتهجير 25 تجمعًا بدويًا تتكون من 266 عائلة وأكثر من 1517، بعد الاستيلاء على أراضيهم، وضمها تحت حجج مختلفة لسلطة دولة الاحتلال.
وفي فلسطين المحتلة الـ 1948 ما يزال الاحتلال يمنع الفلسطينيين من البناء والتوسع الحضري بحجة تخصيص أراضيهم للتنمية الزراعية، ويحرمهم من أساسيات خدمية، مثل بناء المدارس في مناطقهم ووصلها بالكهرباء وتعبيد شوارعها، في ما يبني بجانبها المصانع والمنشآت المهنية، ويواصل حتى اليوم حرمانهم من تعويضات مصادرة 20 ألف دونم أشعلت احتجاجات يوم الأرض عام 1976.
بهذه السياسات فإن التدمير والقتل ليس وحده ما يرسخ الاحتلال الإسرائيلي، بل العمل أيضًا على رسم سياسة على الأرض يصبح من الصعب بمكان تغييرها مسبقًا أو التراجع عنها، من خلال ابتلاع أكبر قدرٍ ممكن من الأراضي والمساحات لصالح الحفاظ على أمنه، وترسيخ نقاط عسكرية وأمنية واستيطانية في مواقع مختلفة تدعم بقائه.
حيث تحاول هذه المادة استطلاع تاريخ سياسة افتراس الأرض في عُرف دولة الاحتلال الإسرائيلي، في فلسطين بأكملها، بدءًا من فلسطين المحتلة عام 1948، مرورًا في الضفة الغربية وانتهاءً بقطاع غزة، مع ملاحظة الأساليب المختلفة في كل جبهة، والأهداف المتباينة ذات المدى البعيد.
حكومة صاحب الجلالة
وفقًا لما ورد في موقع منسق أعمال المناطق، الذي يعرفه الفلسطينيون باسم "المنسق" فإن من بين مهامه الإشراف على وحدة تنسيق شؤون الوصاية، وهو ما يعني إدارة الممتلكات الحكومية المتروكة من الفلسطينيين، إضافة لأراضي اليهود الذين اشتروها خلال فترة الانتداب البريطاني.
ويعمل "منسق شؤون الوصاية في يهودا والسامرة" وهو حاليًا يوسي سيغال[1]، وفقًا لتوجيهات سلطة الأراضي الإسرائيلية على تطوير التخطيط المستقبلي، ومنح تراخيص التخطيط، والتعامل مع تصاريح حقوق الملكية ونقل الحقوق والمصادرات. ومن بين مهماته، وفقًا للموقع: إجراء مسح الأراضي لتحديد أراضي الدولة، ومعالجة النزاعات على الأراضي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والعثور على أراضٍ لليهود في المناطق "يهودا والسامرة وتعني الضفة الغربية"، وشراء الأراضي من الإسرائيليين وتسجيلها في دائرة تسوية الأراضي.
مهمات المفوض لم تأت عبثية، بل إنما هي اتساق لسياسات استقتها دولة الاحتلال من بريطانيا خلال انتدابها لفلسطين، تبدأ من وعد بلفور 2017 الذي تعهد بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، مرورًا بصك الانتداب 1922 الذي يجعل من مهمات الانتداب البريطاني وضعُ البلادِ في أحوالٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وإداريّةٍ تتضمّنُ إنشاءَ الوطنِ القوميّ اليهودي، وانتهاء بعدد من القوانين من بينها قانون "المصادرة أو الاستملاك لأغراض عامة" الذي سُنّ عام 1943 وبسببه صودرت مساحات شاسعة من أراضي شرقي القدس، وبنيت عليها أكبر المستوطنات وأولها، مثل مستوطنات "بسجات زئيف، أرمون هنتسيف، جيلو، هار حوماه، التلة الفرنسية"، إضافةً لقوانين أخرى مثل الأرض الموات 1921، وقانون الأراضي الأميرية، وقانون أملاك الغائبين.
وباستراتيجية من أربع خطوات، تستخدم قوة الانتداب وسيادته في شراء وتحويل أكبر قدرٍ ممكن من الأراضي أولًا، ووضع اليد باسم القوة على الأراضي ثانيًا، وتهيئة القوانين والصكوك لمصادرة الأراضي ثالثًا، وانتهاءً بالتوريث الفعلي الذي تم من خلاله نقل سلطات وممتلكات الانتداب لإسرائيل باعتبارها وريثة الانتداب على الأرض، أضحى في يد الاحتلال أكثر من 20,325,000 دونم من أرض فلسطين، و18 قانونًا يمكن لها استلاب أملاك المواطنين ومصادرته لصالح منفعة الاحتلال.
كانت تسمى فلسطين..
بعد النكبة 1948، واصل الاحتلال سياساته داخل فلسطين المحتلة لطرد ما بقي من الفلسطينيين من بلداتهم، أو تفتيتهم في مختلف أنحاء البلاد على الأقل، فوفقًا لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، فإن سياسة الاحتلال تستهدف حشر الفلسطينيين في مناطق مكتظة ومحاصرة بين البلدات الإسرائيلية، إذ تمنح الوجود العربي المقدر بأكثر من 20% من عدد السكان مساحةً لا تتجاوز 3% من مجمل الأراضي، في ما واصلت مصادرة أراضي العرب الفلسطينيين لصالح اليهود، فوفقًا لأرقام إسرائيلية أنشأت الحكومة ما بين عامي 1948 و 1953 ما مجموعه 350 بلدة مخصصة لليهود على أراضٍ صادرتها من الفلسطينيين، ومنحت اليهود حق رفض أي وجود عربي في تجمعاتهم على العكس من العرب.
وفي حين انطلقت منظومة الاحتلال في تأسيس أكثر من 900 بلدة خاصة باليهود منذ عام 1948، فإنها حاصت القرى والمساحات العربية بالعديد من الأراضي المصنفة كمناطق أمنية أو مجالس إقليمية يهودية، أو حدائق وطنية ومحميات طبيعية، أو شوارع سريعة، ما يمنع أو يعيق إمكانية توسعها في المستقبل، خير مثال على ذلك غياب أي وجودٍ عربي مطلٍ على البحر باستثناء جسر الزرقاء، في شمال غرب فلسطين المحتلة، في المنطقة الواقعة بين نتانيا وحيفا، وهي البلدة الفلسطينية الوحيدة على ساحل البحر المتوسط.
وبعيدًا عن القدس، فإن ما بين 60 إلى 70 ألف منزل يواجه خطر الهدم الكلي، ووفقًا للمركز العربي للتخطيط البديل، فإن 97% من عقوبات مخالفات التخطيط والبناء حتى عام 2015 استهدفت بنى فلسطينية وعربية.
في حديث له لبرنامج بلا حدود عام 2002، وثق رئيس هيئة أرض فلسطين سلمان أبو ستة مخططات الاحتلال للتطوير والتنمية لعام 2020، والتي كان من بينها تأسيس طريق سريع يربط شمال البلاد بجنوبها، قابل للانفتاح على الدول العربية باتجاه واحد فقط، (من الاحتلال)، الطريق وفقًا لأبو ستة يمر في جميع المناطق الفلسطينية في فلسطين المحتلة، في الجليل والمثلث والنقب، لكن أبو ستة يشير إلى أنه يخترق الأراضي ويفتتها دون أي دورٍ خدماتي حيث تم مصادرة 61 ألف دونم عربي لإنشائه دون فائدة تُرجى منه للبلدات العربية، مقابل خدمته للمناطق والمدن الإسرائيلية.
الضفة الغربية
يعرف سكان الضفة الغربية ما معنى أن تقرر جماعة من المستوطنين أن تستولي على أرضك مرةً كل أسبوع، ثم تترك عليها كرفانًا (مقطورة مظللة) لا يمكنك لمسه تقضي إجازتها فيه، ثم تدعو أصدقائها وكرفاناتهم إلى حيث زيتونك وأرضك، حتى تصبح تلك مستوطنة غير قانونية، لتمنحها دولتهم شرعية مطلقة تنكيلًا بالفلسطينيين وعقوبةً لهم، أو مكافأة لليمين المتطرف ووجوهه الانتخابية، وهذه هي تراجيديا مختصرة لإحدى طرق نشأة المستوطنات على أراضي وقلوب الفلسطينيين، إذ يغدو فيها المؤقت دائمًا، والعشوائي قانونيًا، والمستوطن مالكًا.
يتزعم هذا السيناريو بشكلٍ رئيسي تشكيلات شبابية مختلفة أبرزها "فتيان التلال" التي تأسست عام 1998، وتهدف إلى تأسيس بؤر استيطانية عشوائية خارج المستوطنات القائمة، وقد حظيت بدعمٍ من أذرع استيطانية مختلفة وبتمويل من مجالس المستوطنات الإقليمية، ويوفر جيش الاحتلال الحماية لأفرادها، وخلال السنوات الماضية قام بشرعنة 15 بؤرة أقامها التشكيل الشبابي، فيما تتواصل عمليات شرعنة 35 بؤرة أخرى، يشاركه في التنفيذ جمعيات استيطانية مدعومة حكوميًا مثل عطيرت كوهنيم، وجمعية ألعاد، وجمعية نحالات شمعون، ومنظمة غوش ايمونيم، ومعظم هذه الجمعيات انطلقت بُعيد 1967، وعملت بشكلٍ منظم على مد الاستيطان وابتلاع أراضي الفلسطينيين من خلال "مشروع آلون 1967"، ومشروع غاليلي "1977"، ومشروع "فوخمان 1977"، والعديد من المشاريع المستمرة حتى اليوم.
شكلُ آخر من أشكال الاستيطان هو تطبيق النموذج الحربي الذي يُطلق عليه "حوما ومغدال"، ويعني مستعمرات السياج والبرج، ما يعني شرط وجود سياج أو جدار فصلٍ بينها وبين المحيط العربي، وآلية مراقبة مكشوفة، إضافةً لخزان ماء استراتيجي، هذ النموذج هو نواة التخطيط الامبريالي القائم على الهجوم المتواصل بهدم السيطرة المتزايدة على الأرض، والمتانة الدفاعية، والسيطرة السيادية على الحيز من خلال التمركز في بؤرة، بما يضمن إنشاء تواصل عرقي/إثني جيوسياسي لها على طول وعرض أراضي الضفة الغربية وبالتواصل مع موارد المياه والربط مع طريق حيفا والميناء، وعادة ما يتم تطوير المستوطنات العشوائية لترتبط مع المستوطنات القائمة بشكل N الاستيطاني، الذي يتيح استدارة أضيق حول الموارد والثروات وابتلاعًا أكبر للأراضي الفلسطينية.
وكان الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني قد كشف مطلع يناير 2024 عن تضاعف حجم الاستيطان في الضفة الغربية خلال 2023، الذي شمل استيلاء سلطات الاحتلال على 50 ألفا و526 دونما (الدونم الواحد يساوي ألف متر مربع) مقارنة بحوالي 26 ألف دونم خلال العام 2022، ما اعتبر أوسع عملية مصادرة منذ أوسلو.
وتراوحت أساليب الافتراس ما بين 32 أمرًا بوضع اليد شمل قرابة 619 دونما، و4 أوامر استملاك لحوالي 433 دونما، وأمران بضم 515 دونما لـ"أراضي دولة"، إضافةً إلى 4 أوامر تعديل حدود محميات طبيعية استولت بها على 48.959 دونما، ليرتفع بذلك عدد المواقع الاستيطانية والقواعد العسكري إلى 483 موقعًا، تتوزع على 151 مستوطنة، و25 بؤرة مأهولة اعتُبرت أحياءً تابعة لمستوطنات قائمة، و163 بؤرة استعمارية، و144 موقعا تشمل مناطق صناعية وسياحية وخدماتية ومعسكرات لجيش الاحتلال".
غزة من المنطقة العازلة إلى عابر القطاع
سياسة ابتلاع الأراضي الفلسطينية في غزة لا تأخذ الطابع الاستيطاني الواضح كما هو الحال في الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة الـ1948، وإنما تقوم على أساسيين؛ الأول هو رفع كلفة المقاومة بالنسبة للحاضنة الشعبية؛ إذ تنفض عن المقاومة وتنقلب عليها، والثانية هي الحرص على عدم تكرر سيناريو السابع من أكتوبر 2023، ولهذا أقدمت قوات الاحتلال منذ اليوم الأول في حربها على استراتيجية مسح وتسوية المنشآت في عددٍ من المناطق الحيوية، شملت تأسيس منطقة عازلة بعرض 595 من السياج الحدودي وبطول 58 كيلو متر حوله، وهي أكثر من ضعف مساحة المنطقة العازلة التي أسسها جيش الاحتلال قبيل السابع من أكتوبر، ونتيجة لهذه المنطقة أقدم الاحتلال على تدمير أكثر من 2850 مبنى على طول خط المنطقة العازلة، بما يوازي 20% من مساحة القطاع، وبامتداد يُخطط له أن يتقاطع مع محور فيلادلفيا ومعبر "كرم أبو سالم"، وهو ما يعني ابتلاع 150 كليو متر من أصل 365 كيلو متر متاحة للفلسطينيين سكنًا وزراعةً وحياةً.
وكانت صور الأقمار الصناعية قد وثقت هدم جميع مباني بلدة خزاعة شرق خانيونس، وهدم حي بأكمله في بيت حانون، اشتمل على أكثر من 150 مبنى سكنيًا ومدارس ومستشفيين، كما شمل التدمير الكُلي كُلًا من حي النصر، وحي الرمال وحي السودانية، وأكثر من 450 موقع في حي الفرقان.
الفصل الثاني في الافتراس والسيطرة انتهى في فبراير 2024 حين أعلنت دولة الاحتلال تمكنها من فصل قطاع غزة شرقًا وغربًا بالتزامن مع فصله شمالًا وجنوبًا، من خلال الطريق 749 أو "عابر القطاع" الذي يمتد في وسط القطاع وعلى طوله، بدءًا من حدود قطاع غزة الشرقية حتى شاطئ البحر غربًا، لتشمل عملية الافتراس إحراق منشآت ومزارع في كلٍ من قرية جحر الديك وقرية المغراقة على طول الشارع، وعمليات هدم منظم لجميع المباني على جانبيه.
كل فلسطيني مدفوعٌ إلى المقاومة..وإلا افترسه الاحتلال[2]
السياسة الإسرائيلية من قتل وتدمير وابتلاع ومصادرة المدفوعة بالأمن والأيدولوجيا وصراع البقاء، لا تترك أمام الفلسطينيين أي سبيلٍ سوى مقاومتها، لا سيما مع فشل الخيارات الأخرى وهرمها زمنيًا وانسانيًا وواقعيًا وتهتك منظومتها، بعض الفلسطينيين أدرك ذلك في وقتٍ مبكر، قبل قيام الاحتلال ولذلك كان لهم حراك مناهض لسياسات ترسيخه، وآخرون حتى اليوم ما زالوا يرون في الاحتلال وسياساته حيزًا لهم، ولو كان هامشيًا، بعضهم مع عِظم ما يخوضه الفلسطينيون في قطاع غزة من إبادة وحشية وتدمير ممنهج لا يرون مبررًا ولا موازنةً لكلفة الصراع والمقاومة، بينما الماضي والواقع والمستقبل يقول أن الفلسطيني سيظل يدفع ثمن فلسطينيته، حتى لو كان وليد اللحظة، حتى لو أحنى رأسه، حتى لو خرج رافعًا قميصه الأبيض راجيًا روحه، فإما أن نقاوم، وإما الافتراس.
[1] كان من بين ما قام به نقل مئات الدونمات من الأراضي الزراعية الفلسطينية إلى سلطة دولة الاحتلال، ولم يُكشف سوى عن 189 منها عام 2014، كما أقدم عام 2017 على نقل 977 دونما في المنطقة الواقعة بين مدينتي رام الله ونابلس – أراضي سكان أربع قرى فلسطينية: سنجل، قريوت، الساوية واللبن الشرقية إلى سلطة دولة الاحتلال في المستوطنات "عيلي - بلغي ماييم وجبعات هروئيه.
[2] إميل حبيبي: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل، 1974.