الإغاثة في غمرة الإبادة.. كيف تجري عمليات الإغاثة الإنسانية داخل قطاع غزّة؟
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يشهد قطاع غزة حربًا مدمرة، اتخذت طابع الإبادة الجماعية، شنتها "إسرائيل" من خلال حملة عسكرية واسعة على قطاع غزة شملت قصفًا جويًا مكثفًا وعمليات برية في مناطق مختلفة في القطاع. ومنذ اندلاع الحرب على قطاع غزة شهد القطاع دمارًا غير مسبوق في كامل مناطق قطاع غزة وعلى جميع الأصعدة، كما خلفت خسائر بشرية ومادية هائلة، فحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، وصل عدد الشهداء جراء هذه الحرب حتى تاريخ 21 كانون الأول/ ديسمبر لعام 2024، إلى 45129 شهيدًا، بالإضافة إلى 107338 جريحًا، بينما ما زال أكثر من 11160 شهيدًا تحت الأنقاض وفي عداد المفقودين. وعلى صعيد الخسائر المادية، فقد ذكر المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة في بيانه في اليوم 440 للحرب على قطاع غزة، أن ما يزيد عن 86% من البنية التحتية والمباني السكنية في قطاع غزة دمرت بنحو كامل أو جزئي، كما أخرجت هذه الحرب 34 مستشفى عن الخدمة بنحو كامل، إضافة الى تدمير المئات من المؤسسات التعليمية والمقرات الحكومية مما أدى إلى توقفها عن العمل, هذه الآثار التي خلفتها الحرب المستمرة على قطاع غزة، كانت سببًا في كارثة إنسانية حادة، فقد أجبرت ما يقارب 2 مليون فلسطيني، أي ما يزيد عن 90% من سكان قطاع غزة، على النزوح الداخلي من بيوتهم المدمرة للعيش في الخيام داخل المناطق التي يدعي الاحتلال أنها مناطق إنسانية بالرغم من استهدافه المستمر لها وقصف المدنيين الآمنين في خيامهم هناك. يعيش هؤلاء النازحون وكل سكان قطاع غزة الآن في ظروف إنسانية صعبة للغاية، بدون أدنى مقومات الحياة الأساسية في ظل انعدام الأمن والقتل الممنهج الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي بحقهم.
الأزمة الإنسانية في قطاع غزة وتحدياتها
يعاني قطاع غزة من أزمة إنسانية حادة منذ سنوات طويلة. فهو يُعدّ من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، حيث يعيش ما يزيد عن 2.2 مليون شخص في مساحة صغيرة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، كما ويعاني القطاع من نقص الموارد والأزمات المتراكمة والتي كان أبرزها النسب العالية في الفقر والبطالة. فحسب بيانات الأمم المتحدة في شهر آب/ أغسطس قبل الحرب، فإن نسبة انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة بلغت 63%، بينما كان يعيش أكثر من 50% من سكان قطاع غزة تحت خط الفقر وفق تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان. ويعود السبب الرئيس لذلك كله في الاحتلال الإسرائيلي الذي فرض الحصار والتضيق على قطاع غزة وسكانه، والذي لم يكتف بذلك وحسب، بل شنّ عليها أيضًا الحروب والعمليات العسكرية المدمرة، والتي زادت من تدهور الوضع الإنساني في قطاع غزة إلى مستويات تُعدّ الأسوء في العالم.
وفي حين لم يتعاف قطاع غزة من الحرب التي شنها عليه الاحتلال في عام 2021 والتي سقط فيها أكثر من 200 شهيد، وخلفت واقعًا إنسانيًّا صعبًا على سكان قطاع غزة، يضاف إلى ما خلفته الحروب السابقة عليهم خلال 15 عامًا؛ جاءت الحرب الأخيرة على قطاع غزة لتزيد من تعقيد المشهد الإنساني، فقد قضت على مقومات الحياة الإنسانية لسكان قطاع غزة بالكامل، وخلفت واقعًا إنسانيًّا صعبًا جدًّا لم يمرّ به قطاع غزة من قبل. وأمام هذه الكارثة الإنسانية الكبيرة لم تستطع جهود الإغاثة المحلية والدولية التخفيف من حدة آثار هذه الحرب وذلك نتيجة مجموعة من التحديات التي كان أبرزها:
- تدمير البنية التحتية: تعمّد الاحتلال استهداف المنشآت الحيوية مثل المرافق الحكومية والإدارية والمستشفيات والمدارس ومخازن المواد الغذائية والمستلزمات الطبية بالإضافة الى استهدافه لشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والوقود، ومئات الكيلومترات من الطرق، وحتى مراكز الإيواء نفسها قصفها واستهدف النازحين فيها. وقد شكل ذلك صعوبة كبيرة في تقديم الخدمات للمواطنين والنازحين من داخل قطاع غزة وجعل الاعتماد بشكل كامل على المنظمات الإنسانية التي تُقدّم المساعدات الإغاثية، ليقع على عاتق هذه المنظمات مسؤولية كبيرة وشاملة وكأنها الوحيدة في الميدان التي يمكنها تقديم الإغاثة لسكان قطاع غزة بالكامل.
- أعداد النازحين الهائلة: أجبر القصف المستمرّ سكان قطاع غزة على النزوح الداخلي بحثًا عن الأمان وهربًا من الاستهداف المباشر الذي يمارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاههم، ونتيجة استهداف جميع مناطق قطاع غزة، وتدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية اضطر أكثر من 2 مليون مواطن للخروج من بيوتهم نحو مخيمات النزوح ومراكز الإيواء التي لم تسلم من الاستهداف والقصف، والتي تفتقر أيضًا إلى مقومات الحياة الأساسية، مثل الكهرباء والماء والغذاء. وقد تجمع غالبية هؤلاء النازحين في منطقة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 10% من مساحة قطاع غزة الإجمالية، يعيشون في مخيمات جماعية وتحت ظروف معيشية وإنسانية قاسية.
- محدودية الموارد الداخلية: يعاني قطاع غزة بشكل عام من نقص حادّ في الموارد، فهو يعتمد بالكامل على الاستيراد والدعم الخارجي. فقد كان يدخل إلى قطاع غزة يوميًّا ما بين 500 إلى 600 شاحنة محملة بالغذاء والإمدادات الأساسية، والتي تقلصت بفعل الحصار الذي فرضه الجيش الاسرائيلي على معابر قطاع غزة مع بداية الحرب إلى ما لا يزيد عن 50 شاحنة وذلك في أفضل الأحوال وبنحو غير دائم. ولم تكن المؤسسات الإغاثية المحلية أو الدولية العاملة في قطاع غزة بحال أفضل من ذلك، فهي أيضًا لا تملك القدر الكافي من الموارد للتعامل مع الأزمات، وخاصة بعد تعمد الاحتلال الإسرائيلي قصف المخازن الموجودة في القطاع التي تحتوي على المواد الغذائية والوقود والمستلزمات الطبية، والتي يتبع جزء منها للمؤسسات الإغاثية. لذلك بدـأت أزمة توفير هذه المواد الأساسية مع بداية الحرب على قطاع غزة وازدادت في تسارع بسبب الضغط الكبير عليها من قبل جميع سكان قطاع غزة الذين استنفذوا ما لديهم من مؤونة وأصبح اعتمادهم الكامل على ما تقدمه المؤسسات الإغاثية من هذه المواد الأساسية.
- القيود المفروضة على المساعدات الخارجية: منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة بدأت المساعدات الإنسانية الخارجية تتدفق إلى معبر رفح البري الذي يربط قطاع غزة بجمهورية مصر، وهو أحد المنافذ الرئيسة التي كانت تدخل منها البضائع والإمدادات الأساسية إلى قطاع غزة قبل الحرب. لكن الجيش الإسرائيلي احتلّ هذا المنفذ وتحكّم فيه بالكامل، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، ليحرم سكان قطاع غزة من الغذاء والدواء والمواد الأساسية التي تحملها هذه المساعدات، وليمارس عليهم سياسة التجويع والحرمان. وتحت ضغط دولي كبير لإدخال المساعدات الإنسانية وبعد تكدس مئات الأطنان من المساعدات الإنسانية، سُمِح بعد أسبوعين من اندلاع الحرب بإدخال أول عشرين شاحنة محملة بالمساعدات إلى جنوب قطاع غزة من أصل مئات الشاحنات التي تنتظر السماح لها بالدخول، وفي ظل احتياج يومي يزيد عن 500 شاحنة من المواد الأساسية للحياة. ولم تتطور عملية إدخال المساعدات الإنسانية، بل على العكس من ذلك، كان الاحتلال يفرض قيودًا على عملية إدخال المساعدات، فقد كان يتحكم بنوعية وأعداد المواد التي تدخل إلى القطاع، ويفتشها بالكامل، ممّا أثّر على تدفق المساعدات الإنسانية، وأدى إلى تأخيرها وتلف الكثير منها، إضافة لذلك تعمّد منع وصول المساعدات الإنسانية إلى شمال قطاع غزة لما يزيد على شهر ونصف من اندلاع الحرب.
- تعطيل واستهداف فرق ومرافق العمل الإغاثي: استهدف الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة جهود العمل الإغاثي بنحو مباشر ومقصود، فمنذ الأيام الأولى للحرب أعلن الاحتلال الإسرائيلي كامل قطاع غزة منطقة عسكرية مغلقة، وأمر موظفي مكاتب المنظمات الإنسانية الدولية العاملة في قطاع غزة بمغادرة القطاع فورًا، مما ساهم إلى حدّ كبير في تعطيل الجهود الإنسانية والإغاثية الدولية. وفي سابقة خطيرة استهدف الاحتلال الفرق التي تعمل على تجهيز وتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة، فحسب تقرير الأمم المتحدة، قتل جيش الاحتلال حتى بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024 أكثر من 340 عاملًا وناشطًا في العمل الإغاثي، وقد استهدف غالبيتهم أثناء قيامهم بمهامهم الإنسانية، وكان آخر هذه الاستهدافات قصفَ سيارة تقل ثلاثة عاملين في مؤسسة المطبخ المركزي العالمي الدولية، ويُعَدّ هذا الاستهداف الثاني بعد استهداف سابق لعمال نفس المؤسسة في نيسان/ إبريل 2024، ليفضي هذا الاستهداف إلى مقتل 7 من عمال الإغاثة في المؤسسة. ولم تكن هذه المؤسسة الدولية الوحيدة التي استهدفها جيش الاحتلال، فقد استهدف مرافق وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) وموظفيها، إضافة لذلك قطعت اسرائيل العلاقة تمامًا مع الأونروا، وقامت أيضا بالتحريض عليها، وحضّ الكثير من الدول الداعمة للوكالة بقطع التمويل عنها، وبناءً عليه علقت 18 دولة تمويلها للأونروا، مما أثّر بنحو فادح على الخدمات الإنسانية التي تقدمها الأونروا لأكثر من مليوني شخص في قطاع غزة.
- فرض قيود على التمويل والبنوك: فرضت القيود المالية على قطاع غزة تحدّيًا كبيرًا للعمل الإنساني والإغاثي، وانعكست هذه القيود مباشرة على قدرة المؤسسات الإنسانية والإغاثية المحلية والدولية على تأمين التمويل اللازم لتنفيذ مشاريعها. وكانت لهذه المشكلة أبعاد خطيرة عمّقت من الأزمة الإنسانية. بدأت هذه القيود مع تعطيل جيش الاحتلال للخدمات المصرفية في قطاع غزة من خلال استهداف بعض البنوك العاملة في القطاع، وعدم قدرة البعض الآخر على استمرار العمل بسبب ظروف الحرب. وفي نفس السياق فرضت البنوك والمؤسسات المالية الإسرائيلية والخزانة الأمريكية قيودًا مشدّدة على التحويلات المالية الواردة على القطاع من خلال تأخير الحوالات المالية والطلب من البنوك الوسيطة عدم قبول الحوالات المرسلة لقطاع غزة سواءً كانت للأفراد أو المؤسسات.
بالإضافة لذلك أصدرت "إسرائيل" تعليمات بتجميد حسابات العديد من الجمعيات والمؤسسات الإغاثية والإنسانية العاملة بقطاع غزة، ممّا أثّر على قدرة هذه المؤسسات على تقديم الخدمات الإغاثية. هذا التضييق الكبير الذي مارسته "إسرائيل" ضدّ قطاع غزة، دفع المؤسسات إلى الاستعانة بمكاتب الصرافة المحلّية لاستقبال وتحويل الأموال، لكنّ هذا الأمر لم يخل من تحدٍّ جديد في هذه الأزمة، فقد ساهمت هذه المحاولة في إدخال التمويل إلى قطاع غزة برفع رسوم عمولة التحويل، وهي العمولة التي يتلقاها مكتب الصرافة والتحويل مقابل تحويل المال للأفراد والمؤسسات والتي وصلت إلى ما يزيد عن 25% من قيمة المبلغ المراد تحويله، إضافة الى الخطورة الكبيرة التي واجهت العاملين في هذا المجال، فقد استهدفت قوات الاحتلال العشرات من المواطنين بتهمة "تمويل الإرهاب" لمجرد مساعدتهم في إدخال المال للمواطنين والمؤسسات الإغاثية. هذه القيود كلها ساهمت في اختفاء السيولة النقدية داخل القطاع، لدرجة وصول الأوراق النقدية إلى مرحلة التلف والتآكل من كثرة التنقل بين المواطنين في عملية الشراء والبيع، في ظل عدم قدرة البنوك على إدخال السيولة النقدية. أيضًا ساهمت هذه القيود بالتشكيك في المؤسسات الإغاثية بسبب عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها أمام سكان قطاع غزة، إضافة إلى ضعف التبرعات الفردية الخارجية بسبب الخشية من عدم وصول التبرعات إلى داخل القطاع.
- سرقة المساعدات واستهداف فرق التأمين: تعرّضت قوافل المساعدات الإغاثية التي تدخل قطاع غزة إلى السرقة الممنهجة من قبل عصابات محلية، وبغطاء وتأمين من جيش الاحتلال الإسرائيلي. قوافل المساعدات الإغاثية التي تحتوي على شاحنات المواد الأساسية من الغذاء والدواء وغيرها من أساسيات الحياة، وبالرغم من عددها القليل جدًّا مقارنة باحتياجات سكان قطاع غزة، إلا أنها تُستهدف من قبل عصابات منظمة تسطو عليها تحت تهديد السلاح للسائقين فور دخولها حدود قطاع غزة، لتقوم هذه العصابات بعد سرقة هذه المساعدات ببيعها بأسعار خيالية في أسواق القطاع. وبحسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست فإنّ هذه العصابات تنشط وتعمل في مناطق احتلها وسيطر عليها الجيش الإسرائيلي بعد الحرب على قطاع غزة، مما يؤكد حمايته لهذه العصابات، بل يمكن القول إنّه هو من يوجهها لسرقة المساعدات الإغاثية.
وفي ظل الاحتياج الكبير لأهالي قطاع غزة لهذه المساعدات العاجلة، فإنّ عملية سرقة هذه المساعدات زادت من أزمة انعدام الغذاء في القطاع، بل وصل الإمر إلى درجة دخول بعض مناطق القطاع في مرحلة المجاعة وموت بعض الأطفال من قلة الغذاء. هذا الوضع القاسي دفع بالفرق الحكومية ولجان الطوارئ العاملة في قطاع غزة بتعيين فرق لحماية المساعدات وتأمين وصولها إلى السكان، لكن في تواطؤ واضح وصريح مع عصابات سرقة المساعدات استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي مرات عديدة فرق التأمين ممّا أدى إلى استشهاد أكثر من 723 شهيدًا حسب تقرير صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي.
جهود وتطورات العمل الإغاثي خلال الحرب
خلال ما يزيد على أربعة عشر شهرًا مرّ العمل الإغاثي خلال الحرب على قطاع غزة بتطورات وتحولات كثيرة كان أبرزها التطورات التالية:
المشاريع الإغاثية الداخلية
ينشط العمل الإنساني والإغاثي في قطاع غزة بالتزامن مع الأوضاع الصعبة التي يعيشها القطاع منذ ما يقارب العشرين عامًا، خاصة بعد الحصار الذي فرضته دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2006، ومع تفاقم الأوضاع الإنسانية لسكان قطاع غزة خاصة في الحروب المتكررة على القطاع زادت أعداد المؤسسات والفرق التي تعمل في مجال الإغاثة وانتشرت في جميع مناطق قطاع غزة. هذه الخبرة التراكمية في قطاع الإغاثة مكنت المؤسسات والفرق المحلية في بداية الحرب على قطاع غزة من ممارسة دورها بالرغم من كل التحديات ونقص المواد، فقد باشرت بحشد التمويل الداخلي والخارجي لعمل مشاريع إغاثية عاجلة وتوزيعها على المتضررين والنازحين لمحاولة سدّ الحاجة المتزايدة في قطاع غزة.
وسّعت المؤسسات الإغاثية المحلية والفرق المحلية التي تتبع لمؤسسات دولية في ظل الظروف القاسية؛ انتشارها داخل القطاع وزادت الفرق الميدانية العاملة في الإغاثة، ثم انطلقت لجمع المواد الغذائية والصحية المتوفرة في الأسواق والمخازن داخل القطاع لتجهيز السلال الغذائية والوجبات الساخنة وسلال الخضار والخبز والسلال الصحية (طرود المرأة والطفل) وتوزيعها على سكان قطاع غزة الذي أصبح جميع سكانه من فئة المتضررين والنازحين.
إضافة إلى ذلك قامت المؤسسات أيضًا بتوزيع مياه الشرب وإصلاح آبار المياه التي دمّرها الاحتلال، وزوّدتها بألواح الطاقة الشمسية بعد انقطاع الكهرباء عن القطاع. لكن مع تعمد الاحتلال إغلاق معابر القطاع وعدم السماح لدخول شاحنات المساعدات أو شاحنات المواد الأساسية التي كانت تدخل القطاع يوميًّا قبل الحرب، أصبحت المؤسسات الإنسانية العاملة في داخل قطاع غزة أمام تحدٍّ كبير في تجهيز وتوزيع المساعدات الغذائية مع نفاد الأسواق من المواد اللازمة لتجهيز المشاريع الإغاثية. في جانب آخر دعمت المؤسسات القطاع التعليمي والصحي في القطاع بعد انهياره تمامًا خلال الحرب، فقد استطاعت تقديم الأدوية والمستلزمات والمعدات الطبية، بالإضافة إلى تجهيز سيارات إسعاف داخل القطاع وتسليمها للمؤسسات الصحية، كما عملت على تجهيز المستشفيات الميدانية بعد تدمير عدد كبير من المستشفيات والمراكز الطبية، خاصة مع ارتفاع أعداد المصابين والجرحى والشهداء في قطاع غزة، وفي الجانب التعليمي جهّزت المؤسسات الإنسانية أيضًا الفصول الدراسية المؤقتة على شكل خيام خارجية أو داخل المدارس المتضررة أو داخل مراكز وتجمعات إيواء النازحين، وأنشأت برامج تعليمية للطلاب حتى تحافظ على استمرار العملية التعليمية للطلاب قدر الإمكان.
لم يقتصر العمل الإغاثي فقط على المؤسسات الإنسانية داخل قطاع غزة، فللمرة الأولى في القطاع استطاع مجموعة من الشباب المؤثّرين على مواقع التواصل الاجتماعي من الاستفادة من شهرتهم وعدد المتابعين الكبير لديهم على صفحاتهم الرقمية في إغاثة شعبهم، فقد حشدوا التمويل لتقديم الإغاثة لسكان قطاع غزة، واستطاع هؤلاء الشباب مع فرق إغاثية؛ تجهيز المساعدات الإغاثية وتوزيعها على النازحين في مراكز الإيواء، وقد تركزت هذه المساعدات على مشاريع السلال الغذائية والصحية إضافة إلى الوجبات الساخنة وتوزيع مياه الشرب.
قوافل المساعدات الخارجية
مع الأيام الأولى للحرب على قطاع غزة، بدأت المؤسسات الدولية بإرسال أطنان من المساعدات الإغاثية العاجلة لقطاع غزة عبر معبر رفح البري مع جمهورية مصر، لكن الاحتلال الإسرائيلي الذي انتهج سياسة الحرب الشاملة على القطاع لم يكتف باستهداف سكان القطاع، بل فرض أيضًا حصارًا مطبقًا من خلال إغلاق جميع معابر قطاع غزة مع العالم الخارجي. هذا الحصار عرقل عملية إدخال قوافل المساعدات التي تحتوي على المواد الأساسية من الغذاء والدواء في ظل الاحتياج الكبير للسكان داخل قطاع غزة خاصة في ظل شح المواد الأساسية التي تبقت في القطاع من قبل الحرب.
وبالرغم من العراقيل الكبيرة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على إدخال هذه المساعدات إلا أن المؤسسات الإنسانية استمرت بإرسال الشاحنات التي تحمل المواد الأساسية إلى معبر رفح البري في الجانب المصري بعد تجهيزها في مخازن داخل جمهورية مصر أو إيصالها جوًّا وبحرًا عبر الأراضي المصرية، وقد احتوت هذه الشاحنات على السلال الغذائية والصحية والطحين والدواء والمستلزمات الطبية إضافة للخيام والاغطية. وتحت الضغط الدولي، سمح الاحتلال بإدخال أعداد بسيطة من هذه المساعدات، ليتراوح عدد الشاحنات التي تدخل إلى قطاع غزة وبنحو متقطع ما بين 40 – 50 شاحنة فقط في اليوم الواحد، من أصل مئات الشاحنات الإغاثية التي تنتظر على معبر رفح.
وفي ظلّ تعمّد الاحتلال تأخير دخول هذه المساعدات، فقط تلفت الكثير من المواد الغذائية التي كانت محملة في هذه الشاحنات لأسابيع بسبب العوامل الجوية أو انتهاء تاريخ صلاحية المواد، ممّا أدّى إلى وصول مواد تالفة وغير صالحة للاستخدام للسكان في قطاع غزة، وقد سببت هذه المواد منتهية الصلاحية وقوع مجموعة من حالات التسمم لدى السكان.
وكشفت مشاهد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الأعداد الهائلة من الشاحنات المحملة بالمساعدات الإغاثية التي تنتظر السماح لها بالدخول إلى قطاع غزة، وهذا ما دعمته صور الأقمار الصناعية التي وثقت وجود أكثر من 1000 شاحنة مساعدات على الجانب المصري في كانون الأول/ ديسمبر 2023، ووصلت إلى 7000 في آذار/ مارس 2024 حسب تصريح لمحافظ شمال سيناء. وفي ظل هذا التضيق اضطرت بعض المؤسسات خوفًا من استمرار تلف شاحنات المساعدات إلى إعادتها وتوزيعها على نازحي قطاع غزة في جمهورية مصر.
وفي تضيق ممنهج آخر، وبعد تقسيم جيش الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة إلى شمال وجنوب منعَ وصول المساعدات الإغاثية إلى شماليّ قطاع غزة وسمح بوصول الجزء اليسير من شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع إلى الجنوب فقط. وبعد أسبوعين من بداية الحرب على قطاع غزة سمح الاحتلال لأول مرة بإدخال 20 شاحنة محملة بالمواد الأساسية إلى شمالي قطاع غزة. واستمر إيصال المساعدات إلى قطاع غزة متقطّعًا وبكمية محدودة جدًا، إلى أن توقف مع بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، حيث أوقف جيش الاحتلال إرسال أي مساعدات وخاصة إلى شماليّ قطاع غزة. وبعد مدة طويلة اقتربت من الشهرين بعد وقف إرسال المساعدات سمح الاحتلال للمؤسسات الدولية بإدخال أعداد بسيطة جدًّا من المساعدات إلى شماليّ القطاع والتي كانت تحتوي أساسًا على الطحين، وبسبب وصول شمالي قطاع غزة إلى مستويات خطيرة من نقص الغذاء إلى درجة سميت (بالمجاعة)، كان يتجمع عشرات الآلاف من المواطنين لانتظار وصول شاحنات المساعدات، وفي سابقة خطيرة من نوعها استهدف الجيش الإسرائيلي هذه التجمعات من المدنيين أكثر من مرة فيما عرف بـ (مجزرة الطحين)، وقد أدّت هذه الاستهدافات إلى استشهاد العشرات من المواطنين أثناء انتظارهم إحضار الطعام لعائلاتهم.
وفي أيار/ مايو 2024 احتلّ جيش الاحتلال مدينة رفح واستهدف معبر رفح البري الذي كانت تدخل عبره المساعدات إلى قطاع غزة، ممّا أدى إلى توقف إدخال المساعدات الغذائية برًّا نهائيًّا. وبعد أيام من احتلال معبر رفح، وبعد ضغط المؤسسات الدولية ودعوة الإدارة الامريكية بإدخال المساعدات الإغاثية إلى سكان قطاع غزة، سمح الاحتلال بإدخال شاحنات المساعدات لأول مرة عبر معبر إيرز بيت حانون، شمالي قطاع غزة، فقد دخلت أول دفعة والتي تحتوي على 30 شاحنة من المساعدات الأردنية بعد تفتيش دقيق. وبالرغم من الأعداد البسيطة جدًّا من الشاحنات التي تدخل عبر معبر بيت حانون، وبالرغم من الهجمات المتكررة للمستوطنين على شاحنات المساعدات لمنع دخولها إلا أن شاحنات المساعدات الغذائية والطبية ما زالت تدخل عبر تنسيق خاص من "الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية".
وفي جنوبي قطاع غزة أعلن جيش الاحتلال عن إعادة افتتاحه لمعبر كرم أبو سالم لاستقبال المساعدات الإغاثية، ولم تختلف وتيرة إدخال المساعدات عما كانت عليه قبل إغلاق معبر رفح، بل ازدادت صعوبة وتعقيدًا، إذ يفتّش جيش الاحتلال المساعدات تفتيشًا دقيقًا، إضافة إلى حظره دخول العديد من الأصناف الغذائية خاصة مواد وأدوات النظافة الشخصية. وحتى كتابة هذا التقرير أصبح دخول المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة وبكميات قليلة جدًّا مقتصرًا على معبرين هما معبر كرم أبو سالم في جنوبي قطاع غزة، ومعبر ايرز بيت حانون في شمالي قطاع غزة.
وضمن جهود المؤسسات الإنسانية أدخلت بعض المؤسسات شاحنات من لحوم الأضاحي المجمدة والمعلبة إلى شمالي وجنوبي قطاع غزة بعد اختفاء دام شهورًا للحوم في قطاع غزة، وقد نفّذت هذه المؤسسات مشروع (يذبح ويورد) الذي يقوم على ذبح لحوم الأضاحي خارج قطاع غزة ثم تجميده وتعليبه بمواصفات خاصة وبجودة عالية وإرساله إلى قطاع غزة خلال شهرين بعد عيد الأضحى، وحسب تقرير لجمعية طريق الحياة التركية التي تُعدّ من المؤسسات البارزة في تنفيذ هذا المشروع منذ سنوات، فقد نالت هذه اللحوم على امتنان كبير من العائلات الغزية التي لم تتناول اللحوم منذ شهور طويلة.
الإنزالات الجوية
مع صعوبة إدخال المساعدات الغذائية لقطاع غزة عبر المعابر البرية، ودخول سكان شمالي قطاع في مرحلة صعبة من نقص الغذاء يمكن وصفها بمرحلة المجاعة، في شباط/ فبراير لعام 2024 لجأت دول إلى إنزال المساعدات الإغاثية من خلال الجو، وقد بدأت هذه الطريقة المملكة الأردنية الهاشمية ثم تبعتها مجموعة من الدول مثل مصر وقطر والإمارات وأمريكا وفرنسا وغيرها من الدول. لم تكن هذه الطريقة بديلاً مناسبًا عن إدخال المساعدات مباشرة عبر معابر القطاع، فقد تسببت هذه الإنزالات الجوية باستشهاد 13 مدنيًّا نتيجة سقوط المساعدات عليهم أو غرقهم في محاولة للوصول إليها بعد سقوطها في بحر غزة، إضافة إلى عدم دقة الإنزالات الجوية التي تنزل في أماكن من شأنها أن تتلف فيها أو لا يمكن الوصول إليها، علاوة على ضعف جودة المواد التي تُسقط من الجوّ، فقد كانت مواد صالحة للاستخدام العسكري وتحتوي على سعرات حرارية معينة، لذلك لا تصلح للسكان المدنيين في حالات الطوارئ، مع ذلك وبسبب انعدام البديل كان سكان شماليّ قطاع غزة ينتظرون الإنزالات الجوية ويتابعون أماكن نزلوها للحصول ولو على القليل من هذه المساعدات.
الميناء البحري المؤقت
بعد الانتقادات التي وجهت لآلية المساعدات عبر الإنزالات الجوية، وفي ظل إغلاق معبر رفح أمام شاحنات المساعدات الإغاثية، أعلن الرئيس الأمريكي في 7 آذار/ مارس 2024 عن فكرة إنشاء ميناء بحري عائم لإيصال المساعدات عبر البحر، وخلال 60 يومًا جرى تشييد الميناء البحري وإدخال أول شحنة من المساعدات تحمل 300 ألف وجبة مقدمة من المطبخ المركزي العالمي وبالتعاون مع الهلال الأحمر الإماراتي. وقد واجه هذا الممر البحري العديد من المشاكل التقنية، إضافة الى مشاركته في أعمال عسكرية تدعم عملية جيش الاحتلال في قطاع غزة، وقد أُعلن رسميًّا عن تفكيكه في 17 تموز/ يوليو، بعد إيصال 137 شاحنة مساعدات فقط من خلاله.
أولويات الإغاثة العاجلة بعد انتهاء الحرب
في هذه الحرب المستمرة على القطاع ضرب جيش الاحتلال كل القطاعات وعطّل مقومات الحياة فيه، وحسب تقارير للأمم المتحدة فإن إعادة الحياة إلى قطاع غزة واعماره من جديد تحتاج إلى ما يزيد عن 40 مليار دولار أمريكي والعشرات من السنوات. وفي ظل هذه الأرقام الكبيرة سيكون العمل الإغاثي والإنساني في قطاع غزة أمام تحدٍّ كبير بعد اليوم الأول من انتهاء الحرب، فحتى إعادة ترتيب الإدارات المحلية في قطاع غزة وبدء خطط الإعمار سيكون أمام المؤسسات الإنسانية تقديم الإغاثة العاجلة لسكان قطاع غزة في مناطق النزوح وأماكن متفرقة وواسعة فيه بعد عودة المواطنين إلى بيوتهم التي سيكون الجزء الأكبر منها مهدمًا وغير صالح للسكن. وفي الإطار نفسه سيتحتم على المؤسسات الإنسانية توفير المساكن المؤقتة للمواطنين المهدمة بيوتهم، إذ يُتوقع أن يبقى مئات الآلاف من السكان في الخيام ومراكز النزوح بسبب حجم الدمار الذي وصل إليه القطاع والذي يقارب 86%. وقد بدأت فعليًّا جهود المؤسسات الإنسانية لتصنيع المساكن المؤقتة في مصانع خاصة خارج قطاع غزة لتوريدها للقطاع بعد انتهاء الحرب.
ويرى الدكتور هاني البنا وهو من رواد العمل الإنساني في العالم ومؤسس الإغاثة الإسلامية حول العالم، أنه على المؤسسات الإنسانية عدم انتظار المؤسسات الأممية أو الدول المانحة من أجل إعادة إعمار قطاع غزة واغاثته، بل عليها البدء فورًا قبل انتهاء الحرب بتحديد احتياجات السكان في قطاع غزة، والبدء بتكوين احتياطي نقدي للشروع بالعمل بعد الحرب فورًا لمحاولة تغطية أهم احتياجات سكان قطاع غزة في ظل التحديات والتعقيدات التي ستواجه عملية إعادة بناء القطاع.
وبنظرة سريعة على احتياجات القطاع بعد الحرب، وبالإضافة إلى السكن المؤقت سيحتاج سكان قطاع غزة إلى إغاثة عاجلة من الغذاء والدواء واللباس ومستلزمات النظافة إضافة الى الأدوات المنزلية الأساسية، كما يجب العمل على المساهمة في دعم قطاع صيانة مصادر المياه ومحطات التحلية والآبار الارتوازية، إضافة الى التمديدات الكهربائية. ونتيجة فقدان ما يزيد على ثلثي الوظائف، وارتفاع معدل البطالة إلى 80% حسب تقرير للأمم المتحدة للتجارة والتنمية وتقرير لمنظمة العمل الدولية، فإن السكان سيحتاجون إلى فرص تشغيل وتمكين لتوفير مصدر دخل لهم ولعائلاتهم بعد الحرب.
وفي إطار آخر سيكون على المؤسسات الإنسانية أيضًا تقديم الدعم إلى أطفال قطاع غزة، فحسب تقديرات الأمم المتحدة للطفولة فإن الحرب خلفت ما يقارب 20 ألف يتيم، يحتاجون إلى برامج الرعاية النفسية والكفالة الدورية، إضافة إلى الحاجة إلى عمل برامج سريعة ومركزة للدعم النفسي والاجتماعي لما يزيد عن 500 ألف طفل حسب تقرير لليونيسف.
إضافة لكل ما سبق تبقى الاحتياجات الحقيقية لدعم قطاع غزة في مختلف المجالات ولمختلف الفئات أكبر بكثير مما تعرضه التقارير في ظل الحرب المسعورة على قطاع غزة وسكانه، وفي ظل عدم تمكن المؤسسات من حصر الأضرار المادية والبشرية والاحتياجات الحقيقية لإغاثة قطاع غزة، لكن ما هو مؤكد أن المؤسسات الإنسانية سيكون لها دور محوري وكبير في إغاثة قطاع غزة بالرغم من التحديات الكبيرة التي يمكن أن تواجهها في عملية الإغاثة.