الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وفساد فلسفة هابرماس
إن ما يحتاجه العالم ليس فلاسفة يتمتعون بإجماع يسيء إلى الحقيقة، بل فلاسفة من ذوي الضمائر!
إذا أصبحت القوى السائدة في النظام العالمي الحالي أتباعًا في المستقبل، فإن الفلسطينيين، الذين يتم تحطيم إنسانيتهم الآن بشكل مُبالغ فيه من قِبل وسائل الإعلام الموالية للسلطة العالمية باعتبارهم "إرهابيين"، قد يعاد تعريفهم كأبطال. وقد حصل هذا من قبل عام 1908، عندما أطلق النظام الاستعماري البريطاني (الراحل /البائد) تسمية "إرهابي" على الناشط المناهض للاستعمار خوديرام بوس، الذي أصبح بطلا رسميا عندما حققت الهند استقلالها في عام 1947.
وتبرر إسرائيل هجومها المستمر على غزة بأنه "رد" على الهجوم "الإرهابي" الذي نفذته حماس في 7 أكتوبر. ترتقي هذه السردية بالسابع من أكتوبر كنقطة مرجعية لتبرير قتل إسرائيل لأكثر من 12,000 فلسطيني (30 ألفا لغاية 11/1)، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، مقابل قتل حوالي 1,200 إسرائيلي من قبل حماس.
يُعتبر يورغن هابرماس، أبرز فيلسوف ألماني على قيد الحياة، وهابرماس الذي ينادي وينظّر لمشروع الحداثة والعالمية، جاء صوته متطابقا تماما مع الموقف الإسرائيلي! حيث أصدر بيانا في 13 نوفمبر، يتناول نقاطا رئيسية كانت على النحو التالي:
أولاً: "الوضع الحالي" هو فظائع مرتكبة من قبل حماس. ثانيًا: "رد إسرائيل" ضد حماس أمر مبرر. ثالثًا: يسارع هابرماس إلى القول أن "أخلاقياتها الديمقراطية" الموجهة نحو "كرامة الإنسان" تستند إلى "ثقافة سياسية تحتل فيها الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود مكانة مركزية" نتيجة لجرائم النازية، دون أن يولي اهتمامًا كافيًا للعدالة العامة، ولكنه يتعجل في التعبير عن قلقه إزاء صورة ألمانيا (على الساحة الدولية). ومع ذكر الفلسطينيين مرة واحدة فقط، يظهر بوضوح كيف أن حياتهم وتقاليدهم وأحلامهم لا تحمل قيمة كبيرة، إن كانت موجودة أصلا، في نظر هابرماس!
وعند فحص هذه النقاط، لنأخذ بالحسبان أن ماضي هابرماس كان فاشيًا على عدة أصعدة؛ حيث وفي سن العاشرة انضم إلى شبيبة هتلر، وخلال الحرب العالمية الثانية شارك في الدفاع الجوي ضد الحلفاء، ولذلك فإن النقطة الثالثة أيضًا مرتبطة بشباب هابرماس.
صمت هائل بشأن الاستعمار الاستيطاني
إن تقديم حماس بأنها هي التي خلقت الوضع الحالي هو أمر مضاد للتاريخ بشكل مذهل؛ إذ يركز هذا الإعلان على الحاضر فقط، مما يقوم بمحو تاريخ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي كان هجوم حماس مجرد نتيجة له. في الواقع، فإن تاريخ هذا الاستعمار يمتد إلى فترة أبعد من إنشاء إسرائيل في عام 1948.
القصد هنا ليس فقط انتهاك العدالة المتمثل بإعلان وعد بلفور عام 1917، ولكن أيضًا إعادة الأرضية المسيحية التي سبقت الصهيونية، نشأت هذه الحركة على إثر الإصلاح البروتستانتي في الوسط الذي نشأ فيه هابرماس، حيث قامت بتسليط الضوء على سلطة الكتاب العبري والأهمية المسيحية لفلسطين. قبل نشر ثيودور هرتسل، مؤسس الصهيونية اليهودية، لكتابه "الدولة اليهودية"، قام ويليام هيكلر وهو مؤيد مسيحي أنجليكاني للصهيونية، بنشر "إعادة اليهود إلى فلسطين وفقًا للنبوءة" في عام 1893.
إن تسليط الضوء على فعل حماس المقاوم في أكتوبر يعني محو هذا التاريخ الاستعماري الطويل، ومع ذلك يصر هابرماس على التحدث عن التاريخ عندما يتعلق الأمر بنا: "يجب علينا أن نظل ملتزمين بتقاليدنا إذا لم نكن نرغب في أن ننكر أنفسنا." لماذا يتم تطبيق معيار واحد على ألمانيا وآخر تمامًا على إسرائيل/فلسطين؟ لماذا يتحدث عن معاداة السامية "في بلادنا" ويصمت عن الإسلاموفوبيا في ألمانيا؟ من الواضح أن هابرماس يلغي تاريخ القمع الذي ألحقته إسرائيل بالتعاون مع الأمريكيين والأغنياء في الغرب بشكل روتيني على الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، يبدو أن هابرماس يخشى من مناقشة أسباب "جريمة" حماس؛ هذا التجاهل لتلك الأسباب هو أمر محوري بالنسبة لسعي هابرماس لحماية مصالح ألمانيا، بدلاً من متابعة الفهم والحقيقة، والتي تكون مبنية على أمان حياة اليهود ودولة إسرائيل، أما كل شيء آخر بما في ذلك حياة الفلسطينيين وأفكارهم فليست أكثر من إضافة تافهة.
وبشكل لافت، فإن الإعجاب الشديد الذي كان عليه هابرماس في شبابه بالنازية يمنعه من ملاحظة التشابه بين حي غيتو وارسو تحت حكم النازية وقطاع غزة الحالي كغيتو أكبر بكثير، حيث الفلسطينيون مضطرون للاختيار بين الموت بكرامة أو الموت كحيوانات صيد، وليس بين الحياة والموت، علما أن يهود وارسو، مثل الفلسطينيين، قاموا بالمقاومة المسلحة! ويبدو هابرماس غير قادر على العودة إلى وارسو في الأربعينات من القرن الماضي أو الانتقال إلى فلسطين بعد عام 1948، واهتمامه بـ "كرامة الإنسان" نادراً ما تتجاوز حدود جمهورية ألمانيا الاتحادية، التي تأسست في عام 1949.
إن الفيلسوف "المهتم بكرامة الإنسان" لا يمكنه إعطاء مبرر أو تفسير لهجوم حماس ويمحو التاريخ المروع لإسرائيل كدولة استعمارية استيطانية قامت من خلال الإقصاء والطرد، ولا يعترف باستهداف الاستعمار الاستيطاني تحديدا كرامة السكان الأصليين!
ببدون إيضاحات يعارض هابرماس "نوايا الإبادة المنسوبة إلى أفعال إسرائيل". هذا الموقف ينتهك النقد والنزاهة في أعمال علماء مثل نورمان فينكلشتاين، إيلان بابي، رشيد خالدي، وباتريك وولف الذي كنت محظوظًا بلقائه في ملبورن قبل وفاته عام 2016، في مقابل تمسك هابرماس بالهجوم الذي نفذته حماس كحدث، قام وولف بنظرية الإبادة كهيكل عملي.
هنا، يظهر انحراف حاد بين هابرماس وفينكلشتاين، كشاب مسيحي انضم إلى شبيبة هتلر؛ فبينما يضع هابرماس فلسفته في خدمة ألمانيا وإسرائيل كدولة، يتحدى فينكلشتاين هذا الثنائي باستدعاء الشجاعة الأخلاقية للتعبير عن وضع الفلسطينيين وانتقاد استيطان إسرائيل. وعلى الرغم من أن هابرماس قام بالتمييز بين العمل الإستراتيجي/التكتيكي والعمل التواصلي، يظهر بيانه الأخير حول غزة/إسرائيل من وجهة نظري بشكل واضح كأداة. بينما في المقابل، يتحدى فينكلشتاين ثنائية هابرماس للإشارة إلى نوع جديد: عمل صادق يشع بالجمال والعدالة.
تكوين المستوطن العنيف ومسار فيلسوف "العالمية"
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، عندما سُئل هابرماس عن تعريف الإرهاب، أجاب: "الإرهاب الفلسطيني... يدور حول القتل، حول الإبادة العشوائية للأعداء، النساء والأطفال - الحياة ضد الحياة". هنا يجعل هابرماس الفلسطينيين نموذجًا لنوع من أنواع الإرهاب: حرب العصابات العشوائية.
يقدم هابرماس القاعدة كحالة من حالات الإرهاب العالمي، وهو "جديد" ولكن ليس سياسيًا، وبالتالي، خارج الحدود المسبقة المحددة للعقلانية برأي هابرماس. هذا الشرح يجعلنا نتساءل عما إذا كان هناك خط يفصل بين الفلاسفة وخبراء دراسات الأمن مثل بيتر نويمان، المناصر لـ "الإرهاب الجديد" الذي جعله متطابقًا مع الإسلام.
إن استخدام هابرماس غير الصحيح للفلسطينيين كما في المثال السابق يظهر مرة أخرى كيف يخفي تأسيس إسرائيل وعملها كتكوين استيطاني مستعمر. وفي هذه الحالة تكون مقارنة إسرائيل بأمريكا أكثر فائدة، كما يرى منظر السياسة محمود ممداني، حيث ساد الاستعمار الاستيطاني على عكس من جنوب أفريقيا حيث تم هزيمته هناك. وعلى عكس الاستعمار التقليدي الذي يستخرج الموارد من الأرض المعينة ويحرم سكانها من السيادة السياسية، فإن الاستعمار الاستيطاني يهدف في النهاية إلى التخلص من السكان نفسهم وامتلاك الأرض.
إن تطهير الأرض من سكانها هو جوهر الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، والذي يظهر على سبيل المثال في المعارضة العنيفة من قبل إسرائيل لحق الفلسطينيين في العودة إلى منازلهم، الأمر الذي يعني أنه على عكس الاستعمار التقليدي حيث تكمن المخاطر في فقدان الاستقلال السياسي، يكمن تحت الاستعمار الاستيطاني المخاطر في فقدان الأرض نفسها التي عاش فيها الفلسطينيون لعصور طويلة.
إن مقاربة مات شيدي التي تقول إن كتابات هابرماس بعد 11 سبتمبر هي "نسخة لينة من 'صدام الحضارات' يبدو أنها صحيحة تقريبًا. ففي عام 1991 وباسم المبادئ العالمية والدستور، دعم هابرماس الحرب ضد العراق، متجاهلاً "وحشية الأنظمة الدستورية ذاتها". وفي عام 2003 لم يدعم هابرماس غزو العراق، لكن موقفه كان إشكاليا للغاية، حيث أنه ولمواجهة الأحادية الأمريكية فقد نصح أعضاء الاتحاد الأوروبي بإضافة "بُعد أوروبي" إلى "هوياتهم الوطنية".
وبالنسبة لهابرماس، فإن قلب هذه الهوية الأوروبية هو "شكل الروح" "متأصل في التقليد اليهودي المسيحي". وقد كانت نصيحته هذه ذات طابع "مركزي أوروبي" لدرجة أن هابرماس اضطر إلى القول إنه لا يفضل المركزية الأوروبية.
إن الرأي الشائع الذي يقول إن فلسفة هابرماس عالمية ولذلك لا يمكن الدفاع عنه، يوضح أن تلك الفلسفة فعلاً عرقية بالطريقة التي كما أقول في دراستي "الدين كنقد" هي فلسفة إيمانويل وفي التقليد الذي يعمل فيه هابرماس، يأخذ هابرماس العالمية باعتبارها "مفتوحة للجميع".
إن الخطأ في هذا المحور واضح؛ بناءً على تقليده المزعوم اليهودي المسيحي، يقوم هابرماس بوضع نظرية ليخبر العالم بأنه منفتح دون أن يتبادر إلى ذهنه، كما حدث مع كانط، أن العالمي يجب أن يكون من الجميع، وهذا يعني أن هابرماس يتجاهل التقاليد الفكرية مثل الثقافة الإسلامية، فيمكن الملاحظة أنه بالكاد يشارك في حوار مع علماء مثل الغزالي، محمد إقبال، شريف ماردين، طلال أسد أو بي دي شاتوبادهيا، حتى بيتر فان دير فير، الذي يعيش بالقرب من دوسلدورف، مسقط رأس هابرماس. إن التوقع من هابرماس أن يشارك في حوار مع هؤلاء الكتّاب قد يكون مطلبًا صعبًا جدًا، حتى أنه "غريب".
في "ليمتيد إنك" كتب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا أن هابرماس لم يستشهد بعمل واحد له حتى في "الخطاب الفلسفي للحداثة"، حيث خصص 25 صفحة لانتقاده.
إذا كان تحليلي صحيحًا، فينبغي تغيير عنوان بيان هابرماس إلى "مبادئ السخافة"، وليس "مبادئ التضامن" كما هو الحال حاليًا، وعلى الرغم من أنه تم توقيعها من قبل ثلاثة فلاسفة آخرين، إلا أنني ركزت على هابرماس بسبب شهرته العالمية أو سمعته كفيلسوف ومفكر، حيث إنه من بين الثلاثة الآخرين الموقعين تلميذ هابرماس والثالث عمل على مشروع أشرف عليه هابرماس.
في الختام، وصف دريدا هابرماس بأنه "فيلسوف التوافق"، ومع ذلك ما يحتاجه العالم هو ليس فيلسوفًا للتوافق الذي يعبث بالحقيقة، ولكن فيلسوفًا لديه ضمير. هل لدينا فلاسفة من هذا القبيل؟ خاصة عندما تكون إسرائيل من أجل تحقيق مشروعها الاستعماري الاستيطاني المدمر مشغولة بتدمير شكل حياة كامل في غزة وما وراءها؟
(تم نشر المقال في مجلة "حجر الفلاسفة")