التحريض: تهمة من لا تهمة له [1]
تتكون هذه المقالة البحثية من ثلاثة أجزاء، مستهلة جزأها الأول في التتبع المفهومي والقانوي لتهمة التحريض التي توجهها المحاكم الإسرائيلية للمعتقلين والمعتقلات في السجون الإسرائيلية، وتتدرج فيها الأحكام بحسب نوع التحريض الذي يوجه للمتهم: منشور، عدد الإعجابات، مدى الانتشار والمشاركات، المنصة، لباس، مظهر. وكل هذه تعتبر تهم توجه فيها تهمة التحريض.
تمزج كاتبة هذه المقالة بين المنهجية التحليلة في تناول النصوص القانونية وإجراء المقابلات المعمقة مع متهمي ومتهمات التحريض في الضفة والداخل الفلسطيني، ممن تعرضوا لهجمة شرسة منذ السابع من أكتوبر، والاستماع إلى سردياتهم لمحاولة فهم الأبعاد القانونية والعسكرية لمفهوم "تهمة التحريض".
إن حُق لنا أن نؤرخ للسابع من أكتوبر باعتباره مرحلة مفصلية جديدة على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أثّرت وتؤثّر على الفلسطيني وجودًا وهوية، على اختلاف التقسيمات الجيوسياسية، من فلسطينيي الداخل والقدس والضفة وغزة، فإن هذه المقالة تُسلّط الضوء على التحريض باعتباره مصطلحًا مفاهيميًا وإجرائيًا أدى دورًا محوريًا في كبح ساحات الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني، وحال إلى حد ما دون إحداث حالة نضالية كافية مساندة لغزة؛ إذ وجّه الاحتلال تهمة التحريض على صعيد واسع لكل من يساند أو يؤيد أو يتعاطف مع أحداث السابع من أكتوبر ومن يتناول ما لحقها من عدوان إسرائيلي وإبادة جماعية ضد قطاع غزة، الأمر الذي يوجب استحقاق العقوبة؛ السجن أو الفصل التعسفي من العمل، أو أي عقوبات أخرى تتوافق مع قانون العقوبات الساري في المحاكم الجنائية الإسرائيلية التي يُحاكم عبرها فلسطينيو الداخل والقدس، أو "الأمر بشأن تعليمات الأمن" -صياغة مدمجة-يهودا والسامرة- رقم 1651، 2009، الذي يُحاكم استنادًا إليه فلسطينيو الضفة وغزة من خلال المحاكم العسكرية[1].
تروم هذه المقالة إلى تتبع " تهمة التحريض" إجرائيًا منذ بدايات ظهوره في عام 2014[2]، التي تصاعد توجيهها ضد الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر، وتهدف إلى تتبعه مفاهميًا كما تنص عليه القوانين الإسرائيلية المعمول بها في الأرضي الفلسطينية المحتلة 1948، 1967 على افتراضين اثنين: الأول أن المفهوم يُحول الإدانة واستحقاق العقوبة من الفعل إلى مجرد إرادة الفعل وتأييده والرغبة به.
أما الثاني فيجعل من مفهوم التحريض، مفهومًا واسعًا فضفاضًا، يمكن أن يتسع ليشمل أي فعل أو قول أو علاقة أو صلة قرابة، أو كل ما يُدلل من قريب أو بعيد على الذات الفلسطينية ويحكم علاقتها من الآخر الصهيوني، أو كل ما ترمز إليه الهوية الفلسطينية الجامعة، من مفاهيم وأسماء ورموز أفرزتها التجربة الفلسطينية، على اعتبار أن فلسطين مازالت مستوطنة ما بعد استعمارية وفقًا لمفهوم د. عبد الرحيم الشيخ[3]، وأن المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع استيطان إحلالي، يسعى لإبادة المجتمع الأصلاني، وليس أدل على ذلك من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ ما يزيد عن 13 شهرًا، وعليه فإن ما يَحكم العلاقة بين الفلسطيني -الإسرائيلي، هو العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وفقًا لمنظور فرانز فانون في مقولته إنّ زوال الاستعمار حدث عنيف بالضرورة[4].
التحريض في قانون العقوبات الإسرائيلي
تنص المادة 33 من قانون العقوبات الساري في دولة الاحتلال على أن عقوبة التحريض على ارتكاب جريمة هي نصف عقوبة الجريمة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، ينص القانون على وجه التحديد على عدة أنواع من التحريض التي تشكل جريمة جنائية، منها التحريض على التهرب من الخدمة العسكرية -المادة 109-، أو تحريض جندي على عصيان أمر قانوني – المادة 110-، أو التحريض على العنصرية – المادة 144ب-، كما وتشمل نشر شيء بغرض التحريض على الاضطهاد أو الإذلال أو الإهانة أو إظهار العداء أو العنف أو التسبب في الكراهية تجاه الجمهور أو قطاعات من السكان، كل ذلك بسبب اللون أو الانتماء إلى عرق أو قومية أو الأصل العرقي[5].
غير أن ما يهم حالة الدراسة هي تلك الجزئية التي تتعلق بالعنف والإرهاب أو التحريض عليه-المادة 144 د 2 -، إذ تقول المادة: "من يقوم بنشر منشورات لارتكاب عمل من أعمال العنف أو الإرهاب، أو الأمور التي يتخللها تعاطف أو تشجيع لعمل من أعمال العنف أو الإرهاب، أو يقوم بإظهار الدعم أو التعاطف مع مثل هذه الأعمال (في هذا البند – منشور تحريضي) ووفقاً لمحتويات المنشور والظروف المصاحبة لنشره، بأن هناك إمكانية فعلية بأن يؤدي هذا المنشور إلى ارتكاب أعمال عنف أو إرهاب، عقوبته تصل إلى حبس لمدة خمس سنوات". وفي عام 2005، تم اقتراح تعديل قانون العقوبات بحيث يمكن إدانة أي شخص بتهمة التحريض على العنف حتى لو لم يكن هناك شبه يقين بأن من يسمع عبارات التحريض سيفعل بها[6].
إن المُتمعن في نص القانون الحاكم للمصطلح يلحظ اتساع التعريف ليشمل التأييد، التشجيع، التعاطف أو إظهار الدعم، وهي انفعالات نفسية ومعاني إنسانية يصعب تحديدها أو الجزم بها، ويمكن تأويلها بعدة معاني أو كلمات أو نصوص، بحيث يمنح القاضي والنيابة صلاحية واسعة تمكنهما من توجيه تهمة التحريض ضد الفلسطينيين.
وقد أظهرت السنوات الأخيرة أن محاكم الاحتلال تتوسع في توجيه تهم التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي ضد آلاف الأسرى الفلسطينيين، بما في ذلك منشورات يراها الفلسطينيون جزءًا من تعريف الذات، والتاريخ الفلسطيني، أو التغني بالشهداء، أو فضح جرائم الاحتلال، أو الاعتداءات على الحواجز، أو تناقل بعض الفيديوهات، أو السخط على الممارسات العنصرية، والتأكيد على حق التحرر وتقرير المصير؛ إذ يجري تعريفها في تلك المحاكم على أنها تشكل محتوىً تحريضيًا يهدد أمن الدولة، ويُوجب الإدانة وإنزال العقوبة[7].
أما بعد السابع من أكتوبر فأصبحت تهمة التحريض متداولة في القدس وبين أهلها، ففي مقابلة أجرتها الباحثة مع س.ع[8]، تقول: "ماذا تعني تهمة التحريض؟ إنك تنشر أي شيء يتعلق بما يحدث في غزة على أية وسيلة تواصل اجتماعي- فيسبوك، تيك توك، انستغرام، إكس- واتس أب، مصحوبًا بأي كلمة، فلو نشرت فيديو مرفقًا بلا حول ولا قوة إلا بالله، أو حسبي الله ونعم الوكيل، يُعد ذلك تحريضًا.
إحدى النساء من القدس، تعمل مع زوجي، كتبت في يوم مجزرة المعمداني حسبي الله ونعم الوكيل، تم استدعاؤها وصار هناك نقاشات حول فصلها من عملها، فصلًا تعسفيًا بدعوى أنها متضامنة مع الإرهاب في غزة، فكيف لك أن تعيش داخل دولة الاحتلال وتكون متضامنًا مع أناس وأشخاص يعملون ضدها؟ والقصص في هذا الصدد عديدة جدًا، والدي يعمل في شركة خاصة مملوكة لشخص يهودي، كان والدي ينشر بعض الأخبار على حالة الشخصية- قصة- على منصة واتس أب، وصلته رسالة تهديد مباشرة من رئيسه في العمل، بأنك إن لم تلغ هذه الأخبار وتكف عنها، سيتم فصلك من العمل، وممكن أن أقوم بتقديم شكوى ضدك عند الشرطة"[9].
تضيف: "في بداية الحرب كان جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي يقفون على أبواب البلدة القديمة في القدس، ويفتشون أجهزة الشباب ويبحثون عن تطبيق تلغرام، وهو التطبيق المعروف أنه لا يضع أي قيود على نشر المحتوى الفلسطيني، فبمجرد أنك منضم لقناة محددة أو يوجد لديك تطبيق تلغرام، أو تتابع أخبارًا محددة صارت هذه تهمة بعد الحرب، فإذا كنتُ تتلقى أي معلومة من الآخر المعادي وفق مفهوم الاحتلال، فإن هذه بحد ذاتها تهمة تحريض، يتعرض صاحبها للضرب المبرح، فصار المتداول بين الناس والشباب هو: امح، احذف، ارم تلفونك".
وتضيف أ.ف، التي تسكن في إحدى قرى الداخل الفلسطيني: "رأينا الشرطة الإسرائيلية تأتي إلى باب البيت وتوجه تهمًا مباشرة للشباب والفتيات وتقول: "نشرت فيديو على فيس بوك وتلغرام وإنستاغرام، وهناك البعض ممن يشون بالآخرين، خصوصًا ممن لديهم عدد كبير من المتابعين باعتباره مؤثر على شريحة واسعة من الناس، أما إذا كان شخصًا عاديًا ينشر على حسابه الشخصي فيكتفون بتحذيره. وقد وصلت الأمور باعتقال فتيات كتبن جملة "كلمة حسبي الله ونعم الوكيل"، وذلك بسبب مشكلة عائلية، فأوقفت حتى أثبتت بالأدلة أن ما أرادته لم يكن المقصود به دعاء على العدو وإنما بسبب مشكلة عائلية، ولم تقتصر تهمة التحريض على الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما الكلام والحديث، تم توقيف دكتورة في الجامعة العبرية لأنها تحدثت عن غزة، أو أنك تتابع قنوات معينة، أو تفتح صفحة وتتصفحها، فأنت هون عامل جريمة"[10].
التخويف بالاعتقال بتهمة التحريض، استهدف قطاعًا واسعًا جدًا في القدس والداخل الفلسطيني، الذين يُعدّون مقيمين أو مواطنين إسرائيليين يعيشون داخل دولة الاحتلال تجري عليهم قوانينها، وولاؤهم، بحسب دولة الاحتلال، يجب أن يكون للدولة، ووجابهم هو الحفاظ على أمنها، فأيّ إشارة للتعاطف أو التضامن، مع غزة فإنه يشكك في مواطنتهم وانتمائهم للدولة، وقد أدى الإسرائيليون اليهود على المستوى الشعبي دورًا كبيرًا في بث الخوف والترهيب والتحذير من التضامن مع غزة، وذلك بالاتصال أو إرسال الرسائل، أو التهديد بالفصل من العمل، أو تبليغ الشرطة، وتصل الأمور إلى تبليغات وتوقيع على تعهدات، أو الاعتقال لمدة قصيرة مع الضرب المبرح. وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اعتقلت في شهر تموز / يوليو في عام 2024، فتاة من القدس ترتدي قلادة على شكل خارطة فلسطين، مكتوب عليه طوفان الأقصى ووجهت لها تهمة التحريض[11].
تقول أ.ف: "أصبح كل شخص رقيبًا على من يعملون معه أو يدرسون معه، ومن ثم يجد نفسه متورطًا عند الشرطة باعترافات مسجلة، ومنشورات موثقة، واتهامات بسبب التعبير عن الرأي في مواقع التواصل الاجتماعي، الكثير من المعلمين رفعت عليهم قضايا فصل تعسفي بسبب التضامن مع ما يحدث في قطاع غزة من إبادة جماعية، ابنة أخ زوجي تدرس في الجامعة العبرية، وكانت قد نشرت قصة – ستوري- على منصة انستغرام، فأخبرت صديقاتها ومعارفها من الطالبات المحاضرين في الجامعة، واستدعيت وأقيم بحقها مجلس ضبط وتأديب، تم خلالها إخبارها بأنها تخالف التعليمات، وتخل بأمن البلد، وإن لم تكف عمّا تفعل فسيتم فصلها من الجامعة"
وفي هذا السياق، أُفرج يوم الإثنين 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 عن الممثلة الفلسطينية ميساء عبد الهادي، بعد عام من الإقامة الجبرية، بتهمة "التحريض على الإرهاب" بسبب تضامنها مع الغزيين الرازحين تحت العدوان الإسرائيلي، وأفادت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بأن محكمة الصلح في الناصرة قد أفرجت عن الممثلة المنتمية إلى الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة في عام 1948، بعدما وُضعت قيد الإقامة الجبرية قبل عام، منذ 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، بتهم "التحريض على الإرهاب" و"دعم منظمة إرهابية"، في إشارة إلى حماس. ومُنعت عبد الهادي خلال عام كامل من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيق واتساب. وأوضحت الصحيفة أن المحكمة قضت بأن ميساء عبد الهادي لا تزال ممنوعة من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يمكنها استخدام "واتساب"[12].
[1] الأوامر العسكرية: هي تشريعات عسكرية وإجراءات قانونية تعرّف الجرائم والعقوبات التي يجب أن تُلقى على المخالفين للأمر في الأراضي المحتلة الفلسطينية، أنشأت دولة الاحتلال العديد من المحاكم العسكرية في المدن الفلسطينية نابلس ورام الله والخليل بعد عام 1967، غير أنها نُقلت إلى أماكن أخرى قرب المستوطنات القريبة للمدن المذكورة بعد اتفاقية أوسلو وتقسيم المناطق الفلسطينية إلى أ-ب-ج. جرت على هذه الأوامر العسكرية العديد من التعديلات، المصدر المحاكم العسكرية للاحتلال الإسرائيلي واتفاقية جنيف الرابعة، الموقع الرسمي مؤسسة الضمير، نسخة إلكترونية، آيار 2015 https://www.addameer.org/ar/israeli_military_judicial_system/military_courts
[2]الاعتقالات على خلفية "التحريض" على مواقع التواصل الاجتماعي وسياسات حكومة الاحتلال ... "فيسبوك" .. نموذجاً، مؤسسة الضمير يناير 2019، نسخة إلكترونية https://2u.pw/OyTxcbom
[3] عبدالرحيم الشيخ."الهوية الثقافية الفلسطينية... "المثال" و"التمثيل" و"التماثل"، التجمعات الفلسطينية وتمثلاتها ومستقبل القضية الفلسطينية (رام الله: المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية-مسارات، 2013)، ص:69.
[4] فرانز فانون، معذبو الأرض ( القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014): ص9.
[5] قانون العقوبات الإسرائيلي- ترجمه من العبرية لأغراض الدراسة منة شرويدة، نسخة إلكترونية https://www.nevo.co.il/law_html/law01/073_002.htm#Seif144
[6] قانون العقوبات الإسرائيلي، مصدر سابق.
[7] مؤسسة الضمير، مصدر سابق.
[8] تحفظت الباحثة على أسماء المقابلين والمقابلات في القدس، وذلك حفاظًا على سلامتهم، في ظل الظروف التي تعيشها البلاد بعد أحداث السابع من أكتوبر.
[9] مقابلة أجرتها الباحثة، 12.11.2024.
[10] أ، ف. مقابلة أجرتها الباحثة، 11-11-2024
[11] قلادة طوفان الأقصى تستوجب الاعتقال على خلفية التحريض. الصفحة الرسمية لموقع بنفسج على انستغرام
[12] ميساء عبد الهادي حرة بعد عام من الإقامة الجبرية الإسرائيلية، الموقع الإلكتروني للعربي الجديد، https://2u.pw/m9plHbfg