التحريض: تهمة من لا تهمة له [3]
التحريض: ذريعة للترهيب وفرض السيطرة
في الجزء الثالث من مقالة "التحريض تهمة من لا تهمة له"، تستعرض الكاتبة مظاهر توسيع تهم التحريض باعتباره ذريعة يُعتقل الفلسطيني بناء عليها، باعتبارها شكلًا من أشكال فرض الهيمنة، ليس من خلال المحاكم الإسرائيلية فحسب، وإنما من جهات رسمية متمثلة في المؤسسات والشخصيات التي تصرح بتهديدهات علنية تحرض على قتل الفلسطينيين، وجهات غير رسمية تتمثل في مجموعات المستوطنين الذين نظموا أنفسهم على المنصات الإعلامية التي توجه تهديدات صريحة للفلسطينين، تصل إلى حد التحريض على القتل، ومن أمثلة الفلسطينيين المحرض عليهم: رولا حسنين، ودلال أبو آمنة، والشيخ عكرمة صبري، وغيرهم.
وحول توسع سياسات الاحتلال في اعتقال الفلسطينيين بشكل عام والتذرع بالتحريض بشكل خاص بعد السابع من أكتوبر، يقول المحلل السياسي والمختص في الشأن الإسرائيلي ساري عرابي في مقابلة خاصة أجرتها الباحثة: "يُحاول الاحتلال الإسرائيلي فرض سيطرته على الضفة الغربية والقدس، ويعمل على كبح ساحة الضفة الغربية، لمنع فلسطيني الضفة من أن تكون لهم مساهمة مؤثرة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين داخل قطاع غزة، من خلال اعتقال أكبر عدد ممكن من النشطاء والمؤثرين الذين من شأنهم أن يشكلوا حالة نضالية ولاسيّما على المستوى الشعبي والتنظيمي والجماهيري داخل ساحة الضفة الغربية، بالإضافة إلى أن الاعتقالات اتسمت بنوع من التخويف والإرهاب بعد السابع من أكتوبر، يُضاف إلى ذلك أن هذه الحملات فيها انتقام عام من الفلسطينيين شعبًا وقيادات نضالية، ولكن الهدف الأساسي هو حصار أي حالة جماهيرية ممكن أن تتحرك في الضفة الغربية"[1].
وفضلًا عن سياسة الاعتقال والتوسع فيها، تعمّد الاحتلال إلى جعل تجربة الاعتقال مختلفة عمّا كانت عليه قبل السابع من أكتوبر؛ إذ أصبحت عملية الاعتقال أكثر عنفًا وهمجية يتعرض فيها الأسير للضرب المبرح، ويُحطم خلالها المنزل ويُعبث بمحتوياته التي يُسرق بعضها أحيانًا، مرورًا بالتوقيف والتحقيق، وصولًا إلى الأجواء العامة في السجون، يُضيف عرابي: "يلجأ الاحتلال إلى مجموعة من الإجراءات الأمنية الأخرى لمحاصرة أي حالة نضالية يمكن أن تظهر في الضفة والقدس مناصرة لغزة، مثل تفعيل الحواجز والبوابات الحديدية، بالإضافة إلى طبيعة الظروف الصعبة والقاسية التي فرضها على المعتقلين الفلسطينيين في داخل السجون، بنحو جعل السجون تختلف بشكل كبير عمّا كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، مثل حرمانهم من الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية حتى على مستوى الملابس أو العلاج، بالإضافة الاكتظاظ الشديد داخل الغرف، وانتشار مرض الجرب، والاعتداء المستمر على المعتقلين بالضرب المبرح وكذلك بإفلات الكلاب عليهم، علاوة على سياسة التجويع والحرمان من الفورة ومصادرة كل الأجهزة الكهربائية والمصاحف، وهذه وغيرها؛ ظروف قاسية وغير مسبوقة أفضت إلى استشهاد عدد من الأسرى الفلسطينيين".
أراد الاحتلال من هذه السياسات جملة من الأهداف أولها الانتقام من الفلسطينيين عامة بعد أحداث السابع من أكتوبر، وإحلال صورة الهزيمة مكان صورة النصر، والترهيب وإثارة الخوف من المحتل بشكل عام، ومن تجربة الاعتقال بشكل خاص؛ إلى الحد الذي يجعل من الأسير عبرة لمن خلفه، وبالتالي إحكام النفوذ والسيطرة على الضفة للاستفراد بساحة غزة، ومنع كل أشكال التضامن والدعم والمقاومة الشعبية، ومحاولات التثوير على المستويات الفردية والجماعية.
التحريض المضاد: تحريض الاحتلال ضد الفلسطينيين
تناولت هذه الورقة البحثية في كل ما ورد فيها التحريض باعتباره فعل أو إرادة فعل يُمارسه الفلسطيني ضد محتله، ولكننا في هذا البند نروم إلى تسليط الضوء على ممارسات الاحتلال التحريضية ضد الفلسطينيين، والتي تجاوزت فعل التحريض إلى الإبادة الجماعية. إذ يمارس الاحتلال التحريض ضد الفلسطينيين على مستوى المؤسسة الرسمية الحاكمة وغير الرسمية، فضلًا عن محاربة الرواية الفلسطينية المحكية على مواقع التواصل الاجتماعي بالتعاون مع شركة "ميتا".
أولًا: تحريض على مستوى المؤسسة الرسمية الإسرائيلية: وقد بدأت منذ اليوم الأول من الحرب، واستغلال صور مفبركة زائفة لأطفال مقطوعي الرأس وتهويل الدعاية التحريضة عالمًيا على لسان المؤسسة الإسرائيلية الإعلامية والسياسية والعسكرية من خلال الدعاية الإسرائيلية الكاذبة "هسبوراه". إذ صرح قادة دولة الاحتلال من أمثال بن غفير "دعونا نقطع الوقود عنهم، أقول ذلك منذ أكثر من 9 أشهر"، ودعا صراحة إلى إقرار قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين، كما صرح بأن حق الإسرائيليين في الحياة يتقدم على حرية تنقل سكان السلطة الفلسطينية". في حرّض غالنت، وزير الحرب الإسرائيلي في حينه، على قتل الفلسطينيين ونزع عنهم إنسانيتهم، إذ شبههم بالحيوانات البشرية في قوله: "نفرض حصارًا كاملًا على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك"، وعلقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية، على كلامه هذا بقولها: "هذه دعوة لارتكاب جرائم حرب".
ثانيًا: التحريض على المستوى غير الرسمي: وهي حملات تحريض تمارسها جماعات المستوطنين بطريقة منظمة على الفلسطينيين، وفيها دعوة قتل أو اعتقال صريحة، ومنها على سبيل المثال حملات ظهرت منذ السابع من أكتوبر الماضي، من أدواتها صفحة باسم "صائدو النازية" التي يديرها مستوطنون متطرفون على منصة "تلغرام"، إذ تحرض بشكل المباشر على السياسيين والناشطين والصحفيين الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، كما طالت مؤخرًا حملات التحريض على الصحفيين والناشطين، كالتحريض على الصحافية رولا حسنين؛ إذ نُشِرت صورها على المنصات؛ منها صورة لها مرفقة بعلامة هدف لقناص ونص باللغة العبرية يصفها بأنها صحفية نازية منتمية لحركة حماس تعيش في رام الله، وقالت رولا إن المستوطنين الإسرائيليين روّجوا الصورة على وسائل التواصل الاجتماعي ودعوا إلى اعتقالها في إطار حملة تحريض ضدها.
وقد اعتقلتها قوات عسكرية إسرائيلية في 19 آذار/ مارس من منزلها في حي المعصرة في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية. مثَلَت رولا أمام محكمة "يهودا" العسكرية التي تقع في سجن عوفر في شمالي غرب القدس في 25 آذار/ مارس، ووجّهت إليها المحكمة تهمة التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي ودعم منظمة معادية محظورة بموجب القانون الإسرائيلي، وتُظهر وثائق المحكمة أن رولا متهمة بالتحريض بسبب مواد نشرتها، بما في ذلك تغريدات على موقع إكس "X"، (تويتر سابقاً)، وموقع فيسبوك بين آب/ أغسطس 2022 وكانون الأول/ ديسمبر 2023.
كما حرض الاحتلال بأجهزته غير الرسمية من خلال جماعة "صيادو النازية" ضد المرابطتين خديجة خويص وهنادي الحلواني، بشكل مباشر بنشر صورهما والتحريض على قتلهما في منصات تليغرام و"X".
واستهدف هذا النوع من التحريض، كذلك، خطيب المسجد الأقصى، الشيخ عكرمة صبري، فقد تضمنت الدعوات التحريضية على منصة "X" نشر إحداثيات منزله في القدس، والدعوة للاعتداء عليه وقصف منزله، وقد صدرت هذه الدعوات بشكل مباشر من مسؤولين إسرائيليين، مثل وزير الأمن القومي إتمار بن غفير ووزير الداخلية موشي أربيل، ما أدى الحقًا إلى سحب إقامته من المسجد الأقصى.
ثالثًا: التحريض الإلكتروني/ الرقمي
كشف صدى سوشال، لرصد وتوثيق الانتهاكات الرقمية ضد المحتوى الفلسطيني، أكثر من 80 ألف منشور تحريضي إسرائيلي منذ بداية الحرب، بينما تلقى 340 شكوى تتعلق بفعل تحريضي عبر رسائل واتساب، وتضمنت المنشورات دعوات قتل الفلسطينيين تحت عنوان "تغيير الحمض النووي للمنطقة"، وغيرها من العبارات التي تدعو إلى الإبادة على لسان شخصيات رسمية إسرائيلية، ونشرت وسوم تبرر دعوات القتل والتحريض مثل: "هل حماس مدانة؟"، "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها".
سجلت مؤسسات المحتوى الرقمي الفلسطيني انتهاكات ضد المحتوى الفلسطيني؛ وتعددت أشكال التحريض ابتداء من قطع الاتصالات وشبكات الإنترنت كليًا عن قطاع غزة وجنين لأكثر من 12 مرة منذ السابع من أكتوبر، بهدف فرض حصار رقمي شامل وقطع اتصال السكان الفلسطينيين في تلك المناطق عن العالم الخارجي، ومنعهم من التواصل مع الدفاع المدني والطوارئ أو الوصول إلى المساعدات المالية بسبب توقف المصارف، وهذا يعني منع الاحتياجات الأساسية للسكان من خلال قطع الخدمات الحيوية، إضافة إلى التأثير على الحالة النفسية العامة؛ إذ انقطع المغتربون عن أهلهم في القطاع.
وجندت "إسرائيل" سياستها الخارجية لهدم البنية التحتية للاتصالات في غزة وعارضت أي اقتراح لإعادة بنيتها في منتدى الأمم المتحدة للبيانات[2]، الأخير الذي انعقد في مدينة ميدلين بجمهورية كولومبيا خلال الفترة (12–15 نوفمبر 2024م)، وضم المنتدى ممثلي 193 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وخلال عام الإبادة نجحت "إسرائيل" في استخدام الذكاء الصناعي كأداة للتحريض على الإبادة من خلال نظام "هسبورا"[3] و"لافندر"[4] و"أين أبي"[5]، وهي أنظمة تمكنهم من توليد الأهداف بسرعة فائقة ومتطورة جدًّا باستخدام الذكاء الصناعي، ورصدت "صدى سوشال" على سبيل المثال 67 حالة؛ استخدمت فيها "إسرائيل" لعبة "مربعات الموت" التي تستخدمها لقتل الفلسطينيين والتنصل من قتلهم في الوقت نفسه؛ فهي تنشر خرائط تقسم القطاع لمربعات، وتصدر أوامر بالإخلاء ومن ثم تقصف بهدف القتل.
كما عمد الاحتلال إلى تعطيل خدمات "GPS"، وخدمات الرسائل النصية، وفي الوقت ذاته جندت هذه الخدمات للترهيب والتخويف والتحريض وإرسال روابط اختراق سببت الإرباك والخوف، بل إن تسريب المعلومات والبيانات الشخصية أصبحت طريقة لابتزاز الناس وتهديدهم.
وخلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024، رصد مركز صدى سوشال 930 انتهاكًا رقميًا ضد المحتوى الفلسطيني على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، في تقرير الانتهاكات الذي نشره المركز مؤخرًا[6]. توزعت هذه الانتهاكات كالتالي: 48% على منصات شركة ميتا (فيسبوك وإنستغرام)، و24% على تيك توك، و11% على منصة إكس، و14% على يوتيوب، و3% على ساوند كلاود.
كما وثق التقرير أكثر من 80 ألف منشور تحريضي إسرائيلي عبر منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك دعوات للإبادة الجماعية، وتبرير العنف والقتل الجماعي بحق الفلسطينيين. وقد رصد المركز 340 شكوى تتعلق بخطابٍ تحريضي عبر رسائل واتساب ورسائل قصيرة (SMS)، كما رصد المركز نشر 250 معلومة كاذبة ومضللة خلال هذه الفترة، تراوحت بين معلومات خاطئة كلّيًا أو تلاعب بالسياقات لتبرير الاستهداف العنيف للمدنيين الفلسطينيين.
كما عمدت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلى التحريض على قتل عدد من صحافيي الجزيرة بشكل مباشر، من خلال منشورات تحريضية على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة على حسابات المستوطنين وصفحات المجموعات المتطرفة على تطبيق تليغرام.
قد شكلت نسبة حظر حسابات واتس آب 76% من سكان قطاع غزة، وذكر التقرير أن 29% من مجمل الانتهاكات الرقمية استهدفت الصحافيين والصحفيات والمؤسسات الإعلامية. وشكا صحفيون من محاولات اختراق لحساباتهم الرقمية، بينما أنشئ 16 حسابًا مزيفًا بأسماء صحفيين بهدف تشويه سمعتهم ونشر معلومات مغلوطة عنهم، مما شكل تهديدًا مزدوجًا على سلامتهم الرقمية والجسدية.
وعلى صعيد حملات التحريض على عرب الداخل فقد رُصدت نسب تقيس الأفعال التي تتضمن في مجملها تحريضًا وهي: حذف المحتوى 14.30%، وتحريض 10.59%، وحذف حساب/ صفحة 53.40%، واختراق 2.12%، وعنف مبني على النوع الاجتماعي 9.36%، وخطاب كراهية 1.41%، وحملات تشويه 2.74%، وأخبار كاذبة 4.15% واحتجاز على خلفية التعبير 1.94%.
أما أنواع التحريض فتعددت أنواعه؛ الشتائم والتهديد بالقتل وإلحاق الأذى، وكذلك التحريض على الانتقام من زملاء العمل أو الدراسة الفلسطينيين، من خلال تصوير ونسخ المحتوى الذي ينشرونه على صفحاتهم وإرساله إلى الإدارة التي تتخذ بعض الإجراءات التعسفية بحق الموظفين العرب، وهناك تحريض على شخصيات عامة مثل الفنانة دلال أبو آمنة، ومحاولة التشهير بالفنانة ميساء عبد الهادي.
[1] ساري عرابي، مقابلة أجرتها الباحثة، 14-11-2024.
[2] منتدى الأمم المتحدة العالمي للبيانات: هو نتدى تابع للأمم المتحدة يعقد سنويًا بهدف تحفيز الابتكار في مجال البيانات، وتعزيز الشراكات، وحشد الدعم السياسي والمالي رفيع المستوى للبيانات، وبناء طريق لتحسين البيانات من أجل التنمية المستدامة. والمنتمون للمنتدى هم مجموعة متنوعة من الحكومات، والمجتمع المدني، والمجتمعات المحلية. القطاع الخاص، والجهات المانحة والخيرية، والوكالات الدولية والإقليمية، والمجتمع الجغرافي المكاني، ووسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، والهيئات المهنية.
[3] نظام "هابسورا": هو أحدث التقنيات الذي طوّرته الوحدة 8200 في جيش الاحتلال، يعتمد على الذكاء الصناعي، وتتمثل وظيفته في معالجة كميات هائلة من البيانات وترجمتها إلى أهداف ليتم التعامل معها -بحسب المصطلح الإسرائيلي- عبر الوحدات الميدانية.
[4] نظام لافندر: نظام ذكاء صناعي يهدف إلى تطوير "قائمة قتل" في غزة اغتيالًا دون أن يكون هناك أي إشراف بشري يذكر للتحقق من دقة المعلومات.
[5] نظام أين أبي: أحد تقنيات الذكاء الصناعي التي يستخدمها الإسرائيليون، وهو مصمم لتعقب الفلسطينيين. وقد صُمم عمدًا لاستهداف الأفراد عندما يكونون في منازلهم ليلا مع عائلاتهم كما ذكر إبراهام في المقابلة.