التطبيع التشادي الإسرائيلي.. أمن النظام أولاً

التطبيع التشادي الإسرائيلي.. أمن النظام أولاً
تحميل المادة

شكلت زيارة رئيس الفترة الانتقالية ورئيس جمهورية تشاد (محمد إدريس ديبي) إلى دولة الاحتلال، ودخوله إلى المسجد الأقصى بحراسة قوات الاحتلال وصلاته فيه، استهجانًا واسعًا في الأوساط العربية، وتساؤلًا حول مغزى هذه الخطوة وأسبابها. ونحن نحاول في ورقتنا تسليط الضوء على هذه الخطوة في سياق السياسة الإسرائيلية لاختراق القارة الإفريقية.

تحتل تشاد موقعًا قاريًا مهمًا في وسط القارة الإفريقية، ويتنافس في الداخل التشادي توجهان يحكمان السياسة والثقافة في البلد: وهما: التوجه الفرانكفوني، والتوجه العروبي (العربفوني).

ورغم أن أغلبية الشعب التشادي عربية القومية والانتماء، إلا أن تشاد لم تنضم رسميًا إلى جامعة الدول العربية لأسباب سياسية، وهي بهذا تصبح إحدى دولتين عربيتين لم تنضما للجامعة العربية، وهما تشاد والنيجر.

عانت البلاد من حرب أهلية طويلة إلى أن استقر الحكم للرئيس الراحل (إدريس ديبي اتنو)، الذي فرض سيطرته على البلاد واستطاع استيعاب معظم المعارضة التشادية تحت حكمه، وأقام علاقةً متميزةً مع الفرنسيين، وأصبحت تشاد في عصره قوةً عسكريةً وأمنيةً أساسيةً لحرب "الإرهاب"، وجماعة بوكو حرام في وسط وغرب أفريقيا.

رئيس تشاد الجنرال محمد إدريس ديبي

 

العلاقات الإسرائيلية التشادية

منذ نشأة دولة الاحتلال وهي تسعى سعيًا حثيثًا نحو كسر عزلتها إفريقيًا، وكان استهدافها تطبيع العلاقات مع تشاد منذ استقلال الأخيرة، والمفارقة في الأمر أنه عند استقلال جمهورية تشاد عام 1960، بادرت "إسرائيل" إلى الاعتراف بتشاد وفتحت سفارتها في العاصمة انجمينا عام 1962، ثم زار الرئيس المسيحي لتشاد (انغارتا تامبالباي) دولة الاحتلال عام 1965. ولكن بعد ذلك، وبجهود سعودية قام بها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، قطعت تشاد علاقتها مع دولة الاحتلال عام 1972، وذلك في عهد الرئيس (تامبالباي) نفسه، بل وساهمت تشاد في المجهود العسكري المصري في حرب عام 1973، وزوّدت الجيش المصري بما قُدّر حينها بـ 350 طنًّا من لحوم المواشي.

جوهر المفارقة في أن من قطع علاقة تشاد بـ "إسرائيل" هو الرئيس المسيحي الفرنكفوني (تامبالباي)، بينما أعادها الرئيس العروبي المسلم (إدريس ديبي - والد محمد إدريس ديبي الرئيس الحالي)، حين زار القدس عام 2018، لإحياء مسار التطبيع المتوقف منذ 45 عامًا.

 

خطوات التطبيع

تعد تشاد بوابةً استراتيجيةً مهمةً لـ "إسرائيل" لما تشكله من موقع وسطي يستهدف عدة دول عربية وأهمها مصر، وإقامةُ العلاقات معها يأتي في إطار استراتيجية التغول الإسرائيلي في إفريقيا، كمان أن المستهدف ليس تشاد فقط، بل الجوار التشادي كله، لذلك بدأ تسلسل التطبيع يتوالى من مالي إلى النيجر فالسودان.

بدأ تسلسل عودة العلاقة بين تشاد والاحتلال علنيًا عبر ثلاث خطوات، كانت الأولى في 25 تشرين ثاني/ نوفمبر عام 2018، عندما زار الرئيس الراحل (إدريس دبي اتنو) "إسرائيل"، واستقبلتهُ حكومة الاحتلال بحرارة شديدة، مع تغطية إعلامية واسعة وُصفت فيها تشاد ببوابة إفريقيا الهامة، وبعد ذلك بفترة قصيرة وصل إلى تشاد المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية (دوري غولد)، لمراجعة القضايا التي جرى تناولها في زيارة الرئيس التشادي، وفي 20 كانون الثاني/ يناير عام 2019، وصل إلى تشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتانياهو) في زيارة رسمية جرى فيها التوقيع على اتفاقية تعاونٍ، وتبادلٍ للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وقد غطّى الإعلام الاسرائيلي الزيارة بشكل موسعٍ، مع إبراز أهمية تشاد لـ "إسرائيل".

أما الخطوة الثانية فكانت في 16 أيلول/ سبتمبر عام 2020، حيث زار الفريق (عبد الكريم إدريس دبي) مدير مكتب رئيس الجمهورية التشادية "إسرائيل"، وجرى التركيز في الزيارة على بحث القضايا الأمنية والعسكرية ومكافحة "التطرف والإرهاب". وفي يوم 24 تموز/ يوليو 2021 وصل وفد إسرائيلي رفيع المستوى إلى تشاد، قابله رئيس الفترة الانتقالية ورئيس الدولة محمد إدريس دبي، وتناولت المباحثات مواضيع تتعلق بالأمن ومكافحة "التطرف والإرهاب"، والتنمية، والتعاون في المجالات الزراعية.

وكانت الخطوة الثالثة هي ما قام به الرئيس التشادي الحالي يوم 2 شباط/ فبراير 2023، من زيارة رسمية شملت دخول الأقصى بحراسة إسرائيلية، وتدشين مبنى السفارة التشادية في تل أبيب، برفقة رئيس وزراء الاحتلال (بنيامين نتنياهو)، مما يعكس إصرارًا لدى الطرفين على تنمية العلاقة ورفعها لمستويات أعلى.

الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي أثناء زيارته لـ "إسرائيل"

 

دوافع الطرفين من تطبيع العلاقات

بالنسبة للرئيس التشادي (محمد إدريس ديبي)، فهو يحتاج في هذا التوقيت إلى نوع من المساندة السياسية والدعم الخارجي، وتعدّ فرنسا الداعم الرئيسي للنظام التشادي، ومع وجود خشية من تراجع الدور الفرنسي في دول الساحل الإفريقي لصالح الدور الروسي، -وقد شهدت تشاد مظاهرات شعبية رفعت فيها الأعلام الروسية-؛ فإن الرئيس يتطلّع لدعم أمريكي ربما يأتي من البوابة الإسرائيلية.

ويأمل الرئيس التشادي في مساندة "إسرائيل" له سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لمواجهة التحديات الداخلية في ظل حالة من عدم الاستقرار تهدد البلاد، إضافةً للدعم الأمني مع مواجهته معارضةً داخليةً قويةً في بلاده، ولعل التعاون الاستخباراتي والأمني هو المحرك الأقوى لدى الطرفين. والجدير بالذكر أن "إسرائيل" أسهمت في حماية عدد من القادة الأفارقة وتأمينهم في مناصبهم، ومن بينهم الرئيس التشادي الحالي، ولذلك أثنى في تصريحات علنية على جهاز الموساد.

أما إسرائيليًا فإن "إسرائيل" ترغب في تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية، ولها هدف استراتيجي بالتوغل في إفريقيا، وهذا الهدف قائم منذ قيام الكيان، ولذلك فإن دولة بمكانة تشاد الجيوسياسية لم تكن لتغيب عن صانع القرار الإسرائيلي.

وتتطلع "إسرائيل" لتأكيد تطبيع العلاقات مع تشاد، ثم الانطلاق نحو تعزيز العلاقات مع الجوار التشادي سعيًا لكسر العزلة عن الكيان، وإضعاف حالة الدعم للقضية الفلسطينية التي تتبناها الدول الإفريقية في سياساتها المعتَمدة.

 

في الخلاصة

إن زيارة رئيس تشاد إلى "إسرائيل" وافتتاح سفارة بلاده في تل أبيب، يمثل انعكاسًا لتراجع المدّ العربي عمومًا في تشاد، وهو مؤشر على أن "إسرائيل" تمكنت من استقطاب العديد من الدول الأفريقية بشكل تدريجي، ونجحت في إلحاق هزيمة جديدة بالدول العربية في مجال نطاقها الاستراتيجي.

وإن ما يعيشه العالم العربي من تناقضات وأزمات، إضافةً إلى عدم وضوح الرؤية لدى بعض الدول في قضية التطبيع، ومحاولة تبريره بذرائع متعلقة بالمصالح المرتقبة، وكذلك ضعف الدبلوماسية الفلسطينية، كلها أمور تسهم في تمييع مواقف الحكومات الإفريقية من مسألة التطبيع.

وفي المقابل، فإن التجربة التاريخية تفيد بأن الدول الإفريقية التي طبعت علاقاتها مع "إسرائيل" لم تستفد إلا في الجوانب الأمنية فقط، ولم تحقق العلاقات تنميةً اقتصاديةً حقيقيةً، ولم يتم تمليك التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الأطراف الإفريقية، ومن ثمّ، فنحن نتحدث في الحالة التشادية عن مصلحة للنظام الحاكم في تأمين نفسه داخليًا وخارجيًا، أكثر من استفادة تشاد من هذه العلاقة. وباستمرار الحكومة الحالية يتوقع أن تتعزز العلاقة بين الطرفين، لا سيما في الجانب الأمني.