التوجيهي.. امتحانٌ يَختتم المسيرة.. هل نهدر مشاعرنا؟
على سبيل التقديم..
يحاول وائل حريز في هذه المقالة قراءة التحوّلات الاجتماعية الفلسطينية في التعامل مع امتحان التوجيهي ونتائجه، بملاحظة الموقع الذي حازه بعد تأسيس السلطة الفلسطينية التي حاولت به تعزيز مظاهر الاستقلال الشكلي للفلسطينيين، لينتقل تاليًا بعد الانقسام إلى مظهر اجتماعي طبقيّ يتسم بقدر مفرط من التباهي في مظاهر الاحتفاء بنتائج التوجيهي.
قد لا يكون دقيقًا القول إن المكانة الاجتماعية والوطنية لامتحان التوجيهي بدأت مع تأسيس السلطة الفلسطينية، فاهتمام الفلسطينيين بالتعليم لتجاوز الآثار الاجتماعية والاقتصادية للنكبة، ولتحقيق قدر من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، سابق بعقود على تأسيس السلطة الفلسطينية، داخل الأرض المحتلة وخارجها، الأمر الذي وسم الفلسطينيين لفترات طويلة بأنهم أكثر الشعوب العربية تعليمًا، وممن كانت لهم مساهمة بارزة في نهوض دول الخليج، كما أنه لا يمكن عزل الاهتمام التاريخي للفلسطينيين بامتحان التوجيهي عن محيطهم العربي، الذي يُطلَق فيه على مرحلة التوجيهي تسميات مختلفة بين بلد وآخر، فهذا الامتحان على نحو عامّ ظلّ مفصليًّا، بالنسبة للمستقبل التعليمي للطالب العربي.
تقف هذه المقالة مع أنماط المباهاة والاحتفال بنتائج التوجيهي من حيث اتخاذها منحى من الإفراط غير المسبوق بما يضاهي مظاهر العرس، وذلك على نحو متناقض مع مسار العملية التعليمية شكلًا ومضمونًا؛ والآخذة في انحدار مريع، سواء في المرحلة الدراسية الطويلة والتي تمتد إلى اثنتي عشرة سنة، أم في المرحلة الجامعية، والتي باتت خياراتها واسعة مع تكاثر الجامعات الحكومية والعامة والخاصة، والكليات بأنواعها المتعددة، فضلًا عن تراجع مكانة المتعلم الاقتصادية والاجتماعية، بما يتناقض مع مظاهر الفرح بالتوجيهي، الأمر الذي يحيل إلى اتخاذ التوجيهي مناسبة للتباهي، أكثر من أخذه في بعده التعليمي أو الوطني.
تركز المقالة على الانقسام بوصفه مفصلًا أساسيًّا في تغيّر موقع التوجيهي من عامل صمود وتحدّ وطنيّ إلى مناسبة للتباهي الاجتماعي لا تتناسب مع واقع العملية التعليمية القائم، بالإضافة إلى اكتساح ثقافة مواقع التواصل الاجتماعي للناس، بيد أنّ هذه الرداءة غير منفكة عن الرداءة السياسية والقيمية سواء في فلسطين أو في العالم، والانقسام ليس إلا واحدًا من العوامل المهمة المؤثرة في فلسطين، أو كاشفًا عن بعض مخبوء تلك الرداءة، كسياسات السلطة السابقة على الانقسام ودورها في التحولات الاجتماعية، وهو الأمر الذي تعزّز مع الانقسام ولم يبدأ معه.
ويبقى أن النقاش بخصوص التوجيهي ومسارات العملية التعليمية وواقعها يحتاج المزيد من البحث الجادّ، والمعالجات المثابرة.
· التحرير
كان ولا يزال للتعليم في بلادنا قدْرٌ كبيرُ من حكايات الحب والفرح والأمل، والخيبة أحيانًا، ولا يزال كذلك للناس في تعبيرهم عن فرحهم وسعادتهم بنجاحهم أساليبُ شتى مبهرةٌ باختلافهم، ومتنوعةٌ بتعدد طباعهم وقيمهم، غير أن امتحان التوجيهي في السنوات العشر الأخيرة صارَ يتّصل –إلى حدٍّ كبير- بحالة اجتماعية خاصة مفعمة بالطاقة والحيوية والانفعال، وصار التفاعل معه يحمل الكثير من التفاصيل المتداخلة التي تستحثُّ الناظر للتأمل فيها بصفتها حركةً اجتماعيةً عامةً عارمةً تستحوذ على اهتمام الناس وتستهلك الكثير من وقت بهجتهم كل عام.
البعد الوطني للامتحان
تاريخيًا وقفت خلف الامتحانات المفصلية، كامتحان التوجيهي والمترِك قديمًا، إرادة فلسطينية تجاه التعليم ترفع من قيمة النجاح والتفوق في هذا الميدان، بشكل يكشف عن اهتمام الناس بالتعليم بشكل عام، وما يحمله من فضائل ترفع من قيمة الفرد وأسرته في ظل حالة عدم الاستقرار التي عاشها الفلسطيني خاصة في المئة عام الماضية، ولكن يمكننا التأريخ لبداية التعامل مع امتحان التوجيهي بوصفه امتحانًا يحمل قيمةً وطنيةً عاليةً ذات اعتباراتٍ خاصة تثير اهتمام فئة واسعة جدًا من الفلسطينيين ببداية تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد ارتبط إعلان نتائج الامتحان في أذهان الجيل الجديد بحالة تظهر امتحان التوجيهي بوصفه منجزًا وطنيًّا يندرج في شكل من أشكال الاستقلال أولًا، ثم التحدي للاحتلال ومنظومته الاستعمارية التي تسعى إلى كسر الفلسطيني والنيل من قدرته على النجاح في صناعة فرحة عامة ثانيًا، كما صارت، هذه الحالة، وسيلة من وسائل التواصل مع العالم من خلال ما يكشف عنه هذا الامتحان من حالات نجاح وتميز نبتت من وسط الحصار والحروب، كحالات أبناء الأسرى والشهداء والفقراء والمحاصرين، حالات تتجلى فيها نجاحاتٌ فرديةٌ لفئة من الطلبة من جهة، وهي من جهة أخرى ظاهرةٌ تتخرج فيها أفواج من الطلبة الفلسطينيين الذين سيتوجه قسم منهم إلى الجامعات، في دلالة على استمرار الحياة والعطاء لشعبٍ لا يزال الاحتلال يسعى لكتم صوته ونَفَسه كل يوم.
ارتبط إعلان نتائج الامتحان في أذهان الجيل الجديد بحالة تظهر امتحان التوجيهي بوصفه منجزًا وطنيًّا يندرج في شكل من أشكال الاستقلال أولًا، ثم التحدي للاحتلال ومنظومته الاستعمارية التي تسعى إلى كسر الفلسطيني والنيل من قدرته على النجاح في صناعة فرحة عامة ثانيًا
وكان تصدّر الرئيس الراحل "أبو عمّار" لمشهديّة إعلان أسماء العشرة الأوائل في المؤتمر الصحفي الخاص بنتائج امتحانات التوجيهي، وما مثّله الرجل -في وعي كثير من أبناء شعبنا- قيمة إضافية تُمنح لامتحان التوجيهي وإعلان نتائجه، ولهذا كان مشهد إعلان النتائج يهم الفلسطينيين جميعًا، وينتظره الناس ويتابعونه بشغف في حالة فرح عامة توحّد الناس على أمل، كما يوحدهم خطاب المقاومة والتحدي لهذا الاحتلال.
ستظل هذه الأهمية لامتحان التوجيهي مستمرةً في مسيرة الشعب الفلسطيني وتقلباتها المختلفة عبر تاريخنا المعاصر، وصولًا إلى حالة الانقسام التي انعكست في طريقة إعلان النتائج وبروز خطاب الضفة- غزة، في كل مرة يبدأ فيها المؤتمر الصحفي بانفراد أو اشتراك مع غزة، أو بدون مؤتمر. وستظل هذا النقطة المعتمة مؤثرةً بشكل ظاهر على الناس من خلال طبيعة المؤتمر الصحفي، أو غير ظاهر لغير المتابع والمهتم.
ثم بدأ مشوار جديد يثير اهتمام الناس بعد أن صار التوجيهي (امتحانَ الإنجاز) في عهد الوزير السابق صبري صيدم (2015- 2019)، وما ترتب على ذلك من أفكار تداولها الناس حول تطوير الامتحان وطبيعته، ثم ألغى الوزير الحالي محمد أبو مويس ما وضعه سلفه، ويتم حاليًا الترويج لتغيير النظام القائم إلى نظام أكثر تماشيًا مع التطور العلمي القائم في العالم حسب ما يُشاع.
المادة تكرّس مظاهرها
على كل حال، فإن التوجيهي خلال سنوات ما بعد الانقسام بدأ يشكل تجليات اجتماعية ناجمة عن الواقع السياسي الذي أفرزه الانقسام، فتحوّل النجاح بالتوجيهي من حالة وطنية تحمل قيم التحدي والصمود ضد الاحتلال ورفع سلاح العلم في وجهه، إلى حالة – في كثير من تجلياتها- من المحاكاة والمكايدة الاجتماعية والفرز الطبقي للمجتمع، ناجح/ راسب، ضفة/ غزة، غني/ فقير، ومن جماعة كذا أو كذا. عبّر عن ذلك بوضوح -بعد سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي والميديا على المشهد- تلك الفرحةُ المبالغ فيها بالنجاح، والحالة النفسية غير المتوازنة التي تسيطر على بعض الطلبة وأهاليهم أثناء الامتحان وبعده للناجح وغير الناجح.
ما يدفع أيّ متابع للمشهد أن يسأل سؤالًا بسيطًا في ظاهره. لماذا كل هذا الفرح الهستيري –إن صح التعبير- بنجاح طالب في امتحان التوجيهي؟ ولماذا كل هذا الحزن وهذا الضغط النفسي المُمرِض للطالبِ أثناء تقديمه للامتحان؟ أخبرتني إحدى الأمهات الكريمات تقول: "يوم النتائج أجلس أبكي بدون سبب مع أن ابني ليس طالب توجيهي أساسًا وإنما تفاعلًا مع من حولي". وأم أخرى ترك أبناؤها المدرسة مبكرًا تبكي في كل مرة تسمع فيه اسم أحد نظراء أبنائها وقد نجحوا في الامتحان! وقصص كثيرة تحكي عن انغماس الناس في حالة نفسية يشترك فيها عدد كبير منهم، ممن لهم علاقة ومن ليس لهم علاقة بالامتحان في حالة توتر عارمة من الفرح والحزن!
خلال سنوات ما بعد الانقسام بدأ التوجيهي يشكل تجليات اجتماعية ناجمة عن الواقع السياسي الذي أفرزه الانقسام، فتحوّل النجاح فيه من حالة وطنية تحمل قيم التحدي والصمود ضد الاحتلال، إلى حالة –في كثير من تجلياتها- من المحاكاة والمكايدة الاجتماعية والفرز الطبقي للمجتمع
مبدئيًا وعلى الرغم من أن نتيجة امتحان التوجيهي تبدو مهمة ومصيرية لبعض الطلبة إلا أن بعض الذين تركوا المدرسة مبكرًا اليوم قد يكونون أحسن حالًا ماديًا من غيرهم، هذا من جانب النظرة المادية البحتة، ومن جانب آخر، وبشكل عملي فالجامعات اليوم في العالم تفتح أبوابها لكل الشهادات وكل العلامات والمعدلات وبكل التخصصات. حتى صارت وكأنها سوقٌ مفتوحة على مصراعيها لكل من يملك الوقت والمال لتحصيل ما يريد منها علمًا أو شهادةً أو كليهما، واليوم في ظل الواقع الاقتصادي المعقد ووجود الجامعات الخاصة وسهولة السفر صار حتى موضوع المعدل الجامعي وحتى الفرع الدراسي غير مؤثر فيما يريد الطالب التخصص فيه في كثير من الحالات، إذًا لماذا أصبحت ردة فعل المجتمع على امتحان التوجيهي بهذا الشكل وبهذه الطاقة وهذا التوتر؟[1]
التوجيهي إلى قلب التفاعل .. لماذا؟
وللإجابة عن هذا التساؤل يمكنني أن أزعم أنه مع حالة البؤس السياسي التي نعيشها اليوم والانهيار القائم في العمل السياسي والإداري والفساد الذي وجد طريقه إلى كل دوائرنا العامة والخاصة، والأهم من ذلك كله فقدان حالة العمل الجماعي السياسي بشكل شبه كامل بعد أحداث الانقسام وما أفرزته؛ صار التوجيهي حالةً نفسية جماعية تنعكس عن إرادة لتغييب الوعي، أو تحصيل نشوة تحقيق إنجاز بأي شيء حتى لو لم يكن يخصنا مباشرة، ولكن هذا النجاح/ التفوق يعطينا فرصة لنقول للناس نحن أقرباء هذا الشخص، وأنا مديرة هذه الطالبة، وأنا معلمتها، وأنا من ساندها، وأنا ابن خالتها ..الخ. رقص جنوني على أي نغمة وعلى كل دقة طبل، إطلاق المفرقعات بملايين الدولارات، سباق وصراخ بالسيارات في الشوارع..الخ، وكأن قيامة الناس قد قامت وصاروا سكارى وما هم بسكارى لا يدرون ماذا ولماذا يفعلون ما يفعلونه.
من عوامل حضور التفاعل المبالغ فيه مع نتائج التوجيهي: حالة البؤس السياسي التي نعيشها اليوم والانهيار القائم في العمل السياسي والإداري، ووسائل التواصل الاجتماعي والميديا التي حولت الأمر العادي إلى بروباجندا، وإعادة التشكيل الاقتصادي للمجتمع الفلسطيني طبقيًا
الأمر الثاني هو وسائل التواصل الاجتماعي والميديا التي شكلت بوضوح أداةً جوهريةً في تحويل الأمر العادي إلى بروباجندا تجذب اهتمام الجميع، ويتابعونها مباشرةً وعلى الفيس والانستغرام والتيك توك.. الخ، بإرادتهم أو غصبًا عنهم، والنقطة المهمة هنا أن حدود النفخ في هذا الحدث في هذا العالم الافتراضي تكاد تكون لا متناهية، فبدأ الأمر بمجرد تهنئة يكتبها واحد لصديقه أو أبٌ لابنته، ووصلنا اليوم إلى تهنئة الجد السابع بنجاح حفيده سليل المجد، وصولًا إلى صرعة البث المباشر لنجاح طالب حصل على معدل 70% وفرح بطريقة هستيرية –معد لها سلفًا- لم يفرح مثلها آخر الناس دخولًا إلى الجنة! بينما لا نعرف ما الذي سنراه في المستقبل في هذا العالم الافتراضي الذي أكل رؤوس أبناء هذا الجيل.
الأمر الآخر الذي يمكن أن أشير إليه هو الظروف الاقتصادية التي تشكلت بعد الانقسام، والتي أدت إلى تشكيل الواقع الفلسطيني من الناحية الطبقية بحيث صار لدينا ما يمكن أن نسميه بطبقة رأس مالية تشكلت بفعل البنية الاقتصادية التي هيمنت فيها بعض الشخصيات على قطاعات اقتصادية وتجارية أساسية، إضافة إلى طبقة أخرى تشكلت بفعل التوسع في باب العمل في دولة الاحتلال، وغير ذلك من الأسباب الاقتصادية التي خلقت طبقةً تتعامل مع موضوع التوجيهي ببذخ ومن منظور ماديٍّ مجرّد ، ظهر ذلك بطريقة الاحتفال ونوعية الهدايا ومظاهر الفرح، هذه الطبقة سحبت معها فئةً عريضةً من المجتمع الذي انحدرت قيمه خلال الفترة الأخيرة بشكل واضح نحو المادية، فاشتعلت بين الناس قيم الغيرة والحسد والانسياق المحموم ضمن سباق لا آخر له في التعبير عن الاحتفال والفرح لأي سبب.
الأمر الأخير الذي يمكن الحديث عنه هنا بحذر هو انطماس الحدود الفاصلة بين طباع الجنسين وطرائقهم في التعبير عن الفرح والحزن، ولاسيما مع كثافة الحضور المشترك في مواقع التواصل الاجتماعي، لتنتقل الأنماط النسوية في التعبير عن المشاعر، الحزن أو الفرح، إلى الجيل الجديد من الشباب، لتأخذ بالظهور لديهم انفعالات مفرطة، تقليدًا للانفعالات الطبيعية للنساء، فضلاً عن الاهتمام المسرف بالحفلات وما يتصل بها من مظاهر، مما هو من صميم الطبائع النسوية الطبيعية.
هذه الأسباب وغيرها تختلف من منطقة إلى أخرى وتختلف من مدينة إلى قرية إلى مخيم فكل بيئة تحمل صفاتها وتحمل وسائل فرحها وحزنها، ولكن الرابط بين الكثير من سلوكيات الناس اليوم هو المنافسة على اختراع وسائل للمباهاة على حساب القيمة، فالطالب الذي اجتهد وحصل على معدل 90 % قد يكون أقل انشغالًا بإعلان فرحه من الطالب الذي حصل على 50% وهذا مما يلاحظه الناس ويتداولونه. وفيه دلالة كبيرة على انشغال المجتمع بالعَرَض دون الجوهر والمظهر دون القيمة.
على حساب العلم
في المقابل يمكن الحديث عن ضعف نتائج العملية التعليمية، وهزال التحصيل العلمي وتراجع أثر المتعلمين ومكانتهم الاجتماعية في ظل هيمنة النظرة المادية على المجتمع بخلاف ما كان عليه الحال قبل تأسيس السلطة، وقبل شيوع النزوع المادي الجارف في المجتمع، في تناقض واضح بين مظاهر الفرح المسرفة بنتائج التوجيهي وبين تراجع مكانة المتعلم في المجتمع، مما يحيل تلك النظرة إلى محض مباهاة بالمظاهر واتخاذ نتيجة التوجيهي مناسبةً لذلك.
ضعف يمكن ملاحظته من خلال تقييم أساتذة الجامعات لطلبتهم حتى في المهارات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب واللغات، ومهارات البحث العلمي وغيرها، ويمكن ملاحظته كذلك بالسعي في الإجابة على سؤال أثر العشرة الأوائل قبل عشر سنوات في المجتمع الآن، أو حتى على صعيد الحقل العلمي الذي تخصّصوا فيه؟ هذه قضية تستحق النظر، وتعكس حقيقةً صادمةً حين ترى هؤلاء الطلبة المتفوقين إما مهاجرين خارج البلاد ينتفع بهم الصديق والعدو وما أكثر الأعداء، أو منتظرين لوظيفة، أو راضينَ بعيش على الكفاف، لك أن تبحث عن أسماء العشرة الأوائل على كل الفروع قبل عشر سنوات، ثم تبحث عن أيٍّ منهم عبر محركات البحث على الشبكة العنكبوتية وانظر ماذا تجد![2]
في المقابل يمكن الحديث عن ضعف نتائج العملية التعليمية، وهزال التحصيل العلمي وتراجع أثر المتعلمين ومكانتهم الاجتماعية في ظل هيمنة النظرة المادية على المجتمع بخلاف ما كان عليه الحال قبل تأسيس السلطة، وقبل شيوع النزوع المادي الجارف
هل هناك رضى عن مستوى التعليم وجودته ونوعيّته التي يتلقاها أبناؤنا؟ أم أننا في الحقيقة أمام ما سماه المهندس المصري أيمن عبد الرحيم "مجتمع المتظاهرين"؟ نتظاهر بأننا نتعلم وننجح ونتفوق ولكن المحصلة الحقيقة، الفاعلية الحقيقية والقيم الحقيقية لهذا النجاح تُظهِرُ حجم فشل منظومة التعليم وتهالكها، التي فشلت حتى الآن في مواكبة العصر في العلوم والتقنية، وفشلت في بناء شخصية تنتمي إلى تاريخها وأمتها ودينها، وفشلت في تقديم نموذج وطني صاحب انتماء ويحمل أداوت البحث العلمي، ومقدّرٍ لقيمة العلم والمحب له. في الوقت الذي نجحت فيه في تقديم معلومات كمية مرتبطة بعدد الملتحقين بالتعليم الإلزامي ونسبة الأمية المتدنية وتعليم الإناث وما إلى ذلك من أرقام تعلي من قيمة الكم على حساب الكيف.[3]
في الواقع إن النظام التعليمي القائم والذي تمثّله المدرسة بصفتها أحدَ أشكاله الفاعلة لا يشكّل ميدانًا للتعليم وتحصيل المعرفة والعلوم والقواعد فحسب، وإنما هو تجربة حياة متكاملة تنتقل من خلاله أخلاق المجتمع من جيل إلى جيل، تنتقل فيها قيم المجتمع وعاداته من السابق إلى اللاحق بكل تفاصيلها، ويزيد عليه ما استجد على أخلاق الناس بسبب الانفتاح الذي حققه التقدم التكنولوجي في عالم التواصل، فما الذي يمكن أن نعتز ونفخر نحن كآباء به أمام أنفسنا وأمام العالم من هذه التجربة، ما هذه التجربة الإنسانية الاجتماعية الراقية التي تكون نهايتها هذا الشكل من الفرح!
ثمة وعي يتراجع باطّراد في إدراك القيمة الجوهرية للتعليم من حيث هو في ذاته، ومن حيث امتزاجه بقيمنا الدينية والحضارية، ومن حيث موقعه في صراعنا وصمودنا، ومن حيث العلاقة التاريخية لشعبنا، وحين استحضار هذا الوعي لفحص العملية التعليمية الجارية، والتي تمتد إلى 12 سنة دراسية، يتضح التردي الكبير في هذه العملية، والافتراق المريع بين الفرحة المفرطة بنتائج التوجيهي وبين المستوى التعليمي الجدي، سواء المحصل من المرحلة الدراسية الطويلة، أو الذي سوف يحصّل لاحقًا من الدراسة الجامعية.
ولهذا فإنه من المهم في محاولة تفكيك واقع التعليم ومعالجته أن نضع تصورين أساسيين أمامنا، أولًا: إن امتحان التوجيهي واحد من الامتحانات المهمة في حياتنا والنجاح والتفوق فيه يستحق التعبير عن السعادة الوافرة للطالب ولكل من سانده في الوصول إلى ذلك النجاح، بيد أن الفرح ينبغي أن يأخذ حجمه المعقول وفي إطار المسؤولية الاجتماعية لشعب يعاني الاحتلال.
ثانيًا: إن القيمة الفعلية تكون في العلم الحقيقي وفي الحقل العلمي الذي يتخصّص فيه المرء وفي الدور المجتمعي، وبذلك لا يكون موقع امتحان التوجيهي وعلامته إلا دائرة صغيرة في ذلك كلّه.
القيمة الفعلية تكون في العلم الحقيقي وفي الحقل العلمي الذي يتخصّص فيه المرء وفي الدور المجتمعي، وبذلك لا يكون موقع امتحان التوجيهي وعلامته إلا دائرة صغيرة في ذلك كلّه.
[1] حول جدل ما بعد التوجيهي واختيار التخصص الجامعي كتب مثنى خميس مناقشة لما يدور حول المسألة من جدالات اجتماعية تستحق القراءة. ينظر: مثنى خميس، عزيزي طالب التوجيهي.. رسالة على عتبة الجامعة، مقال منشور على موقع متراس، 14 آب/ أغسطس 2022. https://cutt.us/zVIHW
[2] تناولت الباحثة سائدة عفونة واقع التعليم بين الأعوام 1994- 2009 "وكان من أهم نتائج البحث أن هنالك إجماعًا تربويًّا على تدنٍ ملحوظ في مستوى التعليم في فلسطين، وأن قضية التعليم يجب أن تكون قضية مجتمعية عامة يشارك بها جميع شرائح المجتمع من خلال إثارة جدل تربوي عام "ينظر: سائدة عفونة، واقع التعليم في المدارس الفلسطينية ما بعد نشوء السلطة الفلسطينية: تحليل ونقد، مجلة جامعة النجاح للعلوم للأبحاث (العلوم الإنسانية) المجلد 28 (2)، 2014. ص266.
[3] ينظر: سائدة عفونة، واقع التعليم في المدارس الفلسطينية ما بعد نشوء السلطة الفلسطينية: تحليل ونقد، مجلة جامعة النجاح للعلوم للأبحاث (العلوم الإنسانية) المجلد 28 (2)، 2014. ص271.