الجامعة الشركة: كيف نفهم واقع الجامعات الأمريكية اليوم؟

الجامعة الشركة: كيف نفهم واقع الجامعات الأمريكية اليوم؟
تحميل المادة

في ضوء الاحتجاجات التي تعمّ الجامعات الأميركيّة والغربية في خضم الحرب على غزّة، تتيح المقالة التالية نظرة مركّبة على البنية الاقتصادية للجامعة في ضوء سياسات الخصخصة النيوليبراليّة للأكاديميا، يمكن أن تساعد في توفير منظور أوسع وأشمل لمستوى القمع الجاري.

الفضول لا الغباء كان ما قتل طائر الدودو. صدّقنا طويلًا الأسطورة الجائرة التي تقول بأنّ الطائر الذي لا يطير والمتحدّر من جزيرة موريشيوس كان قد انقرضَ لأنّه أغبى من الاستيعاب بأنّه يتعرّض للقتل. لكن كما يشيرُ ستيفان بوسياك في كتابه "ماذا حلّ بآخر طيور الدودو؟"، أحد أسباب انقراض الدودو كانت رغبته بمعرفة المزيد حول مخلوقٍ طويلِ القامة يقف على قدمين كان قد وطِئَ شواطئ موطنه الأصلي: "والفضول الجريء، لا الغباوة، هو توصيفٌ أفضلُ لسلوكٍ من هذا النوع".

الفضولُ ميّالٌ لقتل أصحابه؛ فالشجعان حقًّا لا يعمرون طويلًا، والطيور التي تنطلق في رحلة بحث حول معرفةٍ جديدة تكونُ أول المنتوفين، دائمًا ما يكون من الأكثر أمانًا البقاء بمحاذاة العشّ. وعلى عكسِ ما قد يودٌّ حكواتيّة الرأسماليّة منكَ أن تُصدّق، فالعالمُ المعاصر لا يُغدقُ بهداياهُ على أولئك الأكثر إبداعيّةً وشجاعة. في الحقيقة، وفي كل مرحلةٍ من مراحل الحياة، يُذبح أولئك الذين يقتحمونَ الحدودَ الآمنة للمألوف بلا رحمة.

 أن يصبح المرء أكاديميًا ناجحًا لهو أمر يتطلب الكثير من التزلّف والتملق؛ عليك أن تُجامل وتُداهن. بل إنَّ سلوك التقدم للدراسات العليا في ذاته يبدأ بتمرين على الخنوع: أرجوكَ أن تعُدّني أهلًا لإحسانكَ. من أجل الترقي في المراتب، عليك أن تقنع الناس بذكائك ومقبوليّتك، وهو ما يعني تأسيس كل ما تفعله على قلق ما يعتقده الآخرون. إن وجدت بأن استنتاجاتك قد تؤلّب عليك رؤساءك، فلنقل بأنّك على سبيل المثال، أدركت بأنّ الكثير مما كتبوه، هراءً محضًا، ستجد نفسك أمام خيار إخفاء ذاتك الحقيقية أو التعرّض للتهميش الدائم.

كبداية إذن، فإنّ فكرة "الأكاديمي الخطير" تناقض نفسها، قد تكون الأكاديميا ملاذا للجرأة الثقافية الحرّة، لكنّ أكثر النّاس جرأة وفضولًا لا ينتهي بهم المطاف فيها إطلاقًا. وفي أيامنا هذه لعلّهم غادروها ومضوا للقيام بشيء أكثر إمتاعًا، شيء يتطلّب خضوعًا أقلّ بقليل للتقليد وانفصالاً عن العالم الماديّ. يمكننا حتّى أن نتلمّس ذلك في البناء الثقافي لشخص البروفيسور. البروفيسور دائمًا ما يكون شخصًا قليل الانتقاد ودائمًا ما يكونُ أبيض وذكرًا، بحذاءٍ كلاسيكي رثّ وسُترات ذات أكواع جلديّة، يتوارى خلف كتلةٍ ضخمةٍ من الكتب المبعثرة. إنه بارع لكنّ الإعجاب به صعب. إنه يتقافز بالأفكار، لكن ما من أمرٍ خطير محدد يمكن أن يصدر عن شخص من هذا النوع، ما من أمرٍ بعينه يمكن أن يهدد الترتيبات القائمة للمجتمع، أفكاره كثيرة لكنّ الخطير منها معدومٌ كليًا.

في الغالب أن خطورة الجامعة قد تراجعت في السنوات الأخيرة. أحرامٌ جامعية مثل حرم جامعة بيركلي كانت مركزًا للمعارضة السياسية في ما مضى؛ إذ كان ثمة مواجهة مفتوحة بين الطلاب والولاية، وفي مايو/ أيار 1970، قتل حرس أوهايو الوطني أربعة طلاب في جامعة كينت ستيت. بعدها بعشرة أيام، أطلقت الشرطة النار على حشد من طلاب جامعة جاكسون ستيت التي ارتادها ملونو البشرة تاريخيًا، ما أودى بحياةِ اثنين منهم. وفي جامعة كورنيل عام 1969، استولى طلبة ملونو البشرة، مسلحون، على مبنى اتحاد الطلبة مطالبينَ بالاعتراف بهم وإجراء إصلاحات كجزء من نمط احتجاج أكبر.

لكن الجامعة أخضعت للخصخصة بمرور السنوات؛ وأصبحت مركزًا للتدريب المهني أكثر منها مؤسسة تثقيفية، وأضحى البحث الأكاديمي تدريجيًا أكثر اختصاصية ومحدودية وتقنية وتعتيمًا. في هذا السياق، فإنّ أكثر المعارفِ نجاحًا هي تلك التي يبدو أنها تنخرط في مسائل اجتماعيّةٍ مهمّة، لكنها لا تتوصّل في الحقيقة إلى أية استنتاجات يمكن أن ترغم أستاذًا جامعيًّا على مغادرة منصبه.

كما أنّ الأفكار المنتجة أصبحت هي الأخرى أعصى على الوصول، مع حجب البحث العلمي خلف حواجز دفعٍ لمجلات تكلف أموالا طائلة. على الجانب الأقلّ تكلفةً، تتقاضى مجلة "Cultural Studies" من الأفراد 201 دولار من أجل النسخة المطبوعة فحسب، وتتقاضى من المؤسسات 1,078 دولارًا من أجل النسخة الرقمية فحسب. بينما تكلف المجلة العلمية “Biochimica et Biophysica Acta"،20,000 دولارًا وهو ما يجعل المجلة الأولى تبدو كصفقة لا تعوّض. ما يضفي مزيدًا من القبحِ على المشهد أنَّ هذه المجلات تصنعها في الغالب عمالةٌ مجّانيةّ، إذ يكاد الأكاديميون المنتجون لهذه المقالات لا يتقاضون شيئًا في المقابل. الأفكار في الجامعة الحديثة ليست مجانية أو متاحة للجميع. إنها في الحقيقة مقيّدةٌ إلى مجمع صناعي أكاديمي واسع، حيث تجني دور نشر ضخمة من أمثال "Elsevier" أرباحًا طائلة على ظهور الباحثين.

علاوة على ذلك، فإنّ الأكاديميين الذين ينتجون هذه الأفكار ليسوا أحرارًا حقًّا في ما يفكّرون فيه وليس بوسعهم أن يفعلوا ما يشاؤون. إن الكمّ الهائل من تعيينات الملحقين والمساعدين في الجامعة كان يعني بأن يكون حواليّ 76% من الأساتذة تقريبا من غير الأساتذة في الواقع، بل ملحقين ومحاضرين ومساعدين يعملون بأجور زهيدة وساعات طوال. ومع أن ظروف التعيين تتحسن ببطء، لا سيما بفضل الاتحادات الآخذة بالانتشار، إلا أن مناصبهم في الجامعة غير مستقرة إطلاقًا. وذلك يعني أنه ما من ملحقٍ يمكن له أن يتحمل تكلفة إساءةٍ كبيرة. ما يزيد الطين بلة أن الملحقين يعتمدون بشكل كبيرٍ على تقييمات الطلبة للاستمرار في مناصبهم، وهو ما يعني أن صفوفهم لا يمكن أن تكون أماكن يتحدّون فيها سياسات الطلاب أو يفنّدونها. يمكن للمحاضرين حرفيا أن يفقدوا وظائفهم حتى لمجرد مظهرٍ غير لائق. خطوة واحدة خاطئة، كفيلةٌ بإنهاءِ سيرتهم المهنيّة. الملحق يجب دائمًا أن يكون طيّعًا ومهذّبًا.

كلُّ ذلك يعني أنَّ تكون الهيئة التدريسيّة في الجامعة أقلّ فأقلّ تهديدًا لأي جانب من جوانب النظام الاجتماعيّ والسياسيّ السائد. كما أنّ وظائفهم على المحك دومًا، وثمة مجازفةٌ مهنيّة في إزعاج ترتيبات الوضع القائم. لكن حتى وإن كانت وظائفهم آمنة، فإنَّ الجامعة-الشركة ستظل تنتج في الأغلب ذات الأفكار المبتذلة، بفضل البنية المولّدة للتملّق التي يُنتجها نظام الجدارة الأكاديمية. وحتى وإن أُنتجت أفكار حديثة ومهمة، فإنّها ستُطوى بعيدًا خلفَ حواجز الدّفع الباهظة.

ينتهي المطاف أيضًا بالجامعةِ إلى إنتاج الطالب-الموظف. يقلق الطلاب من القيام بأي شيء يمكن له أن يهدد فرصهم الوظيفية. وبالتبعية، فإنَّ سلوكيّات المعارضة نُزعت عنها الراديكالية بشكل مطّرد. في الأحرام الجامعية هذه الأيام، فإنّ السخط والغضب محفوظان لأسئلة من قبيل "هل هذا السوشي شكل من أشكال الاستحواذ الثقافي"؟

عندما يقترح الطلاب النشطاء طرقًا لإصلاح الجامعة "جذريا"، ينحو الأمرُ لأن يتضمّن مكاتب إدارية جديدة وإجراءات بيروقراطيّة، وبالتبعيّة تقوية البنية القائمة للجامعة بدلًا من دمقرطتها. عوضًا عن المطالبة بزيادة في قوة الطلاب وعمّال الأحرام الجامعيّة والأساتذة غير المثبّتين، ينحو النشطاء للدفع بإجراءات رمزيّة تعتنقها الجامعة بسرور حيث لا يعرّضون الترتيبات القائمة للهيئتيْن الإداريّة والتدريسيّة للخطر.

من الهزلي والحال هذه بأنَّ المحافظين لطالما تخوّفوا من التهديد الذي فرضته الأحرام الجامعيّة الأميركية. هذه فكرة هزلية لسبب بسيط هو أنّ الأكاديميين هم على النقيض المحض من الثوار: إنهم يتكلمون قصدًا إلى جماهير مصغّرة بدل التحدث إلى جماهير غفيرة، وفي الحرم الجامعي، الحديث عن كتاب رائج هو استخدامٌ لشكلٍ من أشكال السخطِ الجبان.

ذلك يجعلهم محافظين بعمق في تصرفاتهم اليومية، بغض النظر عمّا قد يخرج من أفواههم. ويمكن رؤية ذلك في شحّ الدعم الصارخ في أوساط الهيئة التدريسية في جامعة هارفارد حينما خاض عمّال قاعة الطعام إضرابًا من أجل أجور أعلى بقليل". معظم الأساتذة "المثّبتين الراديكاليين" لم يأبهوا حتى بتوقيع عريضة احتجاجٍ تدعم العاملين، ناهيك بأن يجوبوا الشوارع في مسيرة. لكن الأكاديميين اليساريين في قمّة السرور باعتناق أفكار المحافظين السخيفة حولهم بوصفهم مخرّبين. لأنّ ذلك يطمئنهم بأنهم في الحقيقة مهمون، بأنّهم يعارضون الأفكار اليمينيّة بفعالية، وبأنّ عليهم ألاّ يُسائلوا دورهم الشخصي.

بإمكان المحافظين الاقتناع أنّ الطلاب يتخلّون عن الأفكار المحافظيّة لأنّهم يتعرضون للتلاعب عوضًا عن التفكير بأنهم يقرؤون الكتب ويتعلمون أمورًا تصعّب الاحتفاظ بالتحيّزات اليمينية. بينما يحظى الأساتذة الليبراليون بفرصة إيهام أنفسهم بأنهم يؤثّرون في أمرٍ ما. لا شكّ أن ثمة  بعض الأفكار الهدامة في الأحرام الجامعية بالفعل، وبعض التهديدات الحقيقية للحرية الأكاديمية والطلابية. العديد منها يرتبط باسرائيل أو تنظيم العمال. وفي عام 2014، تعرض ستيفن سلايطة للفصل من منصبه المثبّت في جامعة إلينوي بسبب تغريدة له حول إسرائيل.

لكن بعد دعوى قضائية طويلة، توصّل سلايطة إلى تسوية مع الجامعة. بينما حاولت جامعة فوردهام أن تحظر مجموعة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، وحاول أعضاء مجلس جامعة كاليفورنيا تمرير حظرٍ على التعبير كان يمكن له أن يعاقب على انتقاد لإسرائيل بوصفه "خطاب كراهية". لفحصِ في ما إذا كانت أفكارك خطيرةً حقا عليك أن ترى إن كنت ستكافأ أو تعاقب للتعبير عنها.

في الحقيقة، وفي ما يختصّ بالخطر المفروض على العالم، فإنّ الجامعة- الشركة قد تصبح في ذاتها أكثر خطرًا من أي من الأفكار التي تخرج منها، وفي هايد بارك، حيث أقطن، تبدو جامعة شيكاغو قديمة ومحترمة للوهلة الأولى. أسلوب عمارتها قريب من النمط الإنجليزيّ، فقد شيدت في عام 1890 لتحاكي أوكسبريدج، يمكن أن تبدو قروسطية تقريبا إن صادفها المرء عند الغروب.

 لكن المؤسسة في الواقع حديثة حتى النخاع، وحالها حال جامعة كولومبيا في نيويورك، فقد امتصّت ببطءٍ الأحياء المحيطة بها، حيث تمددت إلى الأحياء السكنية الأقدم واستبدلت ساكنيها عبر عمليات استحواذ على الأراضي. وبالرغم من أنها موطن لأرفع الكليات الطبية والبحثية في العالم، إلا أن الجامعة رفضت لسنوات عديدة أن تفتتح مركزًا لعلاج الصدمة لمساعدة مناطق الجنوب التي ظلت بحاجة لمركزٍ من هذا النوع. واستسلمت فقط في عام 2015 بعد تاريخ طويل من الاحتجاجات.

الأساتذة اليساريين يشعرون بذلك تقريبًا. إنهم يشعرون بتلاشيهم، والحرم الجامعي يصبح بشكل ثابتٍ بيئة أكثر قمعية. إن تموضعهم بوصفهم ثوريين استعراضيين، حاله حال كل تجليات الاستعراضية، مدفوع جزئيا بالخوف الآتي من العجز. إنهم يعلمون بأنهم ليسوا خطرين، لكنهم سعداء لأنهم يلعبون دورًا في النموذج التقليدي الذي وضعه المحافظون.

لكن "الأكاديمي الخطير" مثله مثل طائر الدودو في عام 1659، أي قبل عقدٍ من الزمن على مشاهدته للمرة الأخيرة، ومن ثم انقراضه: أصبح غير موجود تقريبا. وكلما تشبّهت الجامعات بالشركات، ستصبح أعداد العصافير الفريدة من نوعها أقل فأقلّ. الفضول قتّال، وأولئك الذين يهددون حقا المنطق العنيد للجامعة النيولبيراليّة سينقرضون على الأرجح.

المقال الأصلي:

 

https://www.currentaffairs.org/2017/06/the-dangerous-academic-is-an-extinct-species