الحاضنة الشعبية.. حكاية مقاتل محتمل

الحاضنة الشعبية.. حكاية مقاتل محتمل
تحميل المادة

كان حمدي شرف أوّل شهداء ذلك اليوم، الخامس والعشرين من تشرين أول/ أكتوبر. أطلقَ صرختَه العفوية الصادقة: "قوات خاصة .. قوات خاصة"، وكان ثمنُ هذه اللحظة عُمرَه كاملًا. لكنّه لم يفكّر في الثَّمن حينَ أطلقَ نذيره للمقاتلين، ذاهلًا عن ذاته وقد انطَوت كأنها لم تكن، وامتلأ هو بالآخرين، بالمقاتلين الذين قد ينقذهم صوته.

و"شرف" في تلك الثانية ليس نفسه، بل هو الذروة التي يُرجى أن يَصلها الناس الملتفّون حول المشروع، "الحاضنة الشعبية" التي لا تملك البنادق، ولكنّ البنادق لا تعيش إلا بها، الناس الذين يتجاوزون محدودية الأداة والإمكان، وتتفوق معاني الواجب في نفوسهم بقدر ما تذوي فيها معاني المصلحة.

لم يَكُن موقف حمدي شَرف يومَها معزولاً عن السياق العام الذي أخَذَ في الاتّساع في نابلس وجنين، وعموم مناطق الضّفة الغربية خلال النصف الثاني من 2021، ثمّ 2022، أي في الفترة الزمنية التالية لمعركة "سيف القدس". حيث شهدت الضفة خلال المعركة حراكًا جماهيريًا مقاومًا واسعًا، فارتقى فيها خلال أيام المعركة 25 شهيدًا، ثمّ شهدت مساحتها الجغرافية تصاعدًا متتاليًا في حالة المواجهة على مستوى الفعل الفرديّ أولاً، وثانيًا، وهو الأهمّ والأكثر جِدّةً، على مستوى الفعل المقاوم الأكثر تنظيمًا، كما في حالة كتيبة جنين، ثمّ عرين الأسود، وسواهما.

كان حمدي ذروةَ سنام الحاضنة الشعبية، وقد ارتقى في يومٍ هو ذروةٌ من ذروات الالتفاف الشعبي حول المقاومة الجديدة في الضفة، والتي كان "عرين الأسود" أكثرَ تجليّاتها إلهامًا وأثرًا. وقد زحفَ الناس إلى بلدة نابلس القديمة، واقتحموا ساحة المعركة عراةَ الصّدور والأكفّ، كأنّما يسعَوْن إلى موتِهم، أو كأن هيبة الموت قد انطفأت في قلوبهم، وقد ألهمهم النموذج المقاتل الذي هو في حقيقته تنكّر لميزان القوّة المادي، وإقبال على القتال، واستخفاف بترسانة العدو، ومسارعةٌ نحو الشهادة. فكانَت حاضنةُ العرين، صورةً عن مقاتليه.

يُعرّف باحثون الحاضنة الشعبية بأنها: "تلك البيئة التي تحتضن المقاومة الشعبية[1]، مستعدةً من خلال هذا الاحتضان أن توجِد لها بيئةَ عمل مناسبةً وصحيّةً، وأن تدعمها سياسيًا واقتصاديًا، وتوفرَ لها ما تتطلبه من احتياجات، وأن تتحمل التكاليف والاستحقاقات والأثمان الناتجة عن هذا التحمُّل"[2]. ومع أهمية التعريف في الكتابة البحثية، إلا أن التعريفات تظلّ سطورًا قاصرةً عن الإحاطة بالمعاني المركّبة للظواهر، لا سيّما إذا كانت مادّة هذه الظواهر، كما في حالتنا، هم الناس، البشر، الكائنات التي تدور حولها الحياة على هذه الأرض.

 

خزّان المقاتلين

لا تولدُ حالات المقاومة من الفراغ، بل تكبر في الخفاء شيئًا فشيئًا، حتى ينضج الظرف الموضوعي، أو يتمكّن روّاد حالة المقاومة من إعلاء شرطهم الذاتي على الظرف الموضوعي، فتنشأ المقاومة. ولعلّ الناس في مقاومة الفلسطينيين –كما هو الحال في النضالات التي عمادها قوى الشعب لا النظم- هم الشرط الأهمّ لتشكّل أي حالة مقاومة، ذلك أن هذه المقاومة هي إنتاج شعبيّ خالص، يصنعه العامل والفلّاح والطبيب والطالب والعاطل عن العمل، الفقراء والأغنياء، الناس على ما هي عليه هيئاتهم، ولا بدّ لولادة هذه المقاومة من شعبٍ مؤمن بها، ومستعدٍ لتغذيتها ومدّها بمادّته، بناسه.

ولعلّ الناس في مقاومة الفلسطينيين –كما هو الحال في النضالات التي عمادها قوى الشعب لا النظم- هم الشرط الأهمّ لتشكّل أي حالة مقاومة، ذلك أن هذه المقاومة هي إنتاج شعبيّ خالص يصنعه الناس على ما هي عليه هيئاتهم، ولا بدّ لولادة هذه المقاومة من شعبٍ مؤمن بها، ومستعدٍ لتغذيتها ومدّها بمادّته، بناسه.

هذه إذن وظيفة الحاضنة الأولى، أن تنتج المقاتلين، تنتجَهم على مستوى الوعي، وعلى مستوى الفعل، ذلك أنّ القتال هو حالةُ تطوّر داخلية في الشعب، لا حالة منبتّة عنه، وبذلك يكون المقاتل نتاج هذا التطوّر والحراك الداخلي في الحاضنة، وعليه فإن الحاضنة الشعبية هي شرطٌ لازمٌ لإنتاج حالة القتال والمقاتلين.

معركةَ كسبِ الشعب إذن هي المعركةُ الأولى التي تخوضها قوى الاستعمار والاحتلال، حين تحاول مسخَ وعيِهِ باستقلاله وذاتيه وسرديّته، أن تعيد إنتاجَهُ ليكون شعبًا آخرَ بقضيةٍ أخرى سوى قضيّته، وإن تسمّى بالاسم نفسه، وهي بذلك تريدُ أن تطفئ فكرة رفضها في الوعي الشعبي الجمعيّ، وتحوّل الشّعب من حاضنة محتملةٍ للمقاومة، وخزّانٍ متوقعٍ للمقاتلين، إلى جماعةٍ بشريةٍ تلتصق مصالحها بوجوده، فتصير خزّانًا للعمّال مثلاً[3]، ثمّ ترتدّ قطاعات منها على ذاتها وأفكارها بالنقض والعداء.

لا يتحقّق مثل هذا الأمل لقوى الاحتلال تامًّا في الغالب، فهو إذا عمّ لم يدم في الزمن، وإذا كان دائمًا لم يخلُ من النقص والمواجهة؛ ذلك أنّ من طباع الاحتلالات التمييز، والتعالي، واستنزاف الناس ومقدّراتهم، وهو ما يذكّر الناس بحقيقة الاحتلال وطبيعته، وقيمتهم عنده، وإن ستر حقيقته خلف الأقنعة. وهو ما يعيد للناس وصفهمَ الحقيقيّ والمطوب بأنّهم شعبٌ، محتلٌّ، مطلوبٌ للمواجهة، ومنتَظرٌ منه أن ينتجَ صنّاع هذه المواجهة.

وفي العادة، فإن الناس تصنع أنفسها بروّادها، والروّاد هم مجموعة من الشعب، لكنّ حساسيتهم نحو حقيقة الأحداث، ونحو الواجب، في الآن نفسه، تكون أكبر من سواهم. ولعلّ مثال الشيخ عز الدين القسام[4] مثالٌ تتكثّف فيه كل الصفات المنتظرةُ من الرائد: إدراك الواقع كما هو، وتجاوز الفعل الراهن الذي ثبت عدم جدواه، والتنظير للفعل الجديد (الذي هو القتال هنا)، ثمّ اصطفاء النخبةِ المقاتلة من الروّاد المشابهين، وبعد ذلك يكون التصديقُ فعلاً ثوريًا في الميدان. ولأنّ الفعلَ القسّاميَ في حينها كان فعلًا رياديًا، فإنّه كان شرطًا ونواةً للفعل الثوري الفلسطينيّ الأوسع: الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 – 1939)[5].

ومن هنا يظهرُ ملمحٌ مهمٌّ في العلاقةِ بين الروّاد والحاضنة الشعبية، إذ الحاضنة شرطٌ لديمومة فكرة الرفض وإمكانية المواجهة، والرّائد هو الذي يأخذُ بيدِ الحاضنة نحو مرحلتها التالية، توسّعًا، وتنظيمًا، وإمدادًا بالمقاتلين الفعليين، والتفافًا حول المشروع يتجاوز الحضور الذهني إلى الفعل الميداني، على اختلاف مستوياته.

تؤشّر هذه الفكرةُ إلى المسؤولية الكبيرة الملقاة على أكتاف رواد حالة المقاومة الوطنية وعلى رأسهم قواها وحركاتها، نحو الحاضنة الشعبية، فالحاضنة التي هي شرطُ وجود فكرتهم المقاومة، هي على الجانب الآخر واجبُهم وأمانتهم.

يظهرُ ملمحٌ مهمٌّ في العلاقةِ بين الروّاد (وعلى رأسهم حركات المقاومة) والحاضنة الشعبية، إذ الحاضنة شرطٌ لديمومة فكرة الرفض وإمكانية المواجهة، والرّائد هو الذي يأخذُ بيدِ الحاضنة نحو مرحلتها التالية، توسّعًا، وتنظيمًا، وإمدادًا بالمقاتلين الفعليين، والتفافًا حول المشروع يتجاوز الحضور الذهني إلى الفعل الميداني، على اختلاف مستوياته، وهو ما يؤشر لواجب الرواد الكبير نحو الحاضنة.

 

في توسيع الحاضنة

إن الخطوة الأولى نحو خلق حاضنة واسعة وفعّالة هي معرفةُ الناس، إدراك خصائصهم الأساسية، ونقاط قوتهم، وإمكانياتهم، والمدى الذي يمكن لهم أن يصلوه، والانتباه لتبايناتهم ونقاط ضعفهم، والمنافذ التي يمكن للعدوّ أن يلج منها إليهم. وهذه المعرفة نوعان: نوعها الأول كليٌّ عامٌ يقتضي فهم الشعب والجماهير وصفاتها وسيكيولوجيتها، مع كونها هي الإطار العام للحاضنة الشعبية المتوقعة، فتكون بذلك مشتركةً معه في كثيرٍ من صفاتها، ونوعها الثاني تفصيليّ دقيقٌ متعلّق بمعرفة قطاعات الشعب، وجماعاته، وأفراده، للتركيز على المداخل الأفضل لخلق حالة جماهيرية حاضنة للمقاومة.

والانقطاع عن الناس، بأيّ شكلٍ من أشكاله، جغرافيًا، أو برامجيًا، أو إدراكًا لتطوّراتهم الداخلية، أو فهمًا لإمكاناتهم وتطلعاتهم ثم تحدياتهم؛ هو وصفةٌ لخسارةِ الناس. وقد تتخلّق مع الزمان أوهامٌ متعلّقةٌ بأنّ جمهور الحاضنة الشعبية مشابهٌ للأنوية الصلبة للحركات المقاومة، والحقيقةُ أنّ جمهور الحاضنة أقربُ إلى صفات الشعب منه إلى صفات التجمعات القائمة على مقولة أيديولوجية أو سياسية، فهو، وإن كان مواليًا لفكرة المقاومة أو تمثّلاتها الحزبية، فإنّه كذلك أقرب إلى إمكانية النسيان كما هو حال الشعوب، وأبعد عن الموالاة غير المشروطة، وأصعبُ اجتماعًا، وأسرعُ انفضاضًا، وأخوف على مصالحه، وأقلّ استعدادًا لدفع الأثمان. فإن كان الحال هكذا، فإنّ واجب روّاد حالة المقاومة نحو حاضنتهم واجبٌ كبيرٌ ومهمٌّ، متعلّقٌ بتعزيز إمكانياتِ إسنادهم، وتثبيتهم في مواقعهم الداعمة الحالية، وتقليل الثغرات ونقاط الضعف التي يمكن معها أن تتبدل مواضع أقدامهم.

في دراسة للمركز السوري بعنوان "عوامل تعزيز ثقة الحاضنة الشعبية بالكيانات المسلحة، دراسة في حالتي حركة حماس وطالبان"[6]، خلصت الدراسة إلى سبعة عوامل أساسيةٍ يمكن من خلالها الوصول إلى هذه النتيجة المأمولة، وهي:

-       تقديم رؤية تتناسب وهوية المجتمع، إذ إنّ الاقتراب من مقولات المجتمع الهوياتية أحرى بأن يُشعره بأنّ هذه الحالة المقاومة هي جزءٌ منه، لا نبتٌ طارئٌ عنه، وهو كذلك أبعدُ عن إمكانية اختلاق معارك هامشيةٍ تستنزف المقاومة والجماهير على حساب المعركة الرئيسية مع الاحتلال.

-       الالتزام القطري، أي الالتزام بالقضية الوطنية وعدم التدخل في شؤون الدول، والالتصاق بالساحة الأساسية للمواجهة.

-       التمسك بأهداف القضية وخطوطها الحمراء، وهو ما يعطي انطباعًا بأنّ الحركة المقاومة ملتزمةٌ بمشروعها أولاً، وناسِها ثانيًا، ما يمنحها الأهلية التي تراها الجماهيرُ ضروريةً لحمل القضية ومنحِ الثقة.

-       توظيف النجاحات العسكرية سياسيًا.

-       بسط الاستقرار الأمني.

-       حسن إدارة المناطق.

-       الانخراط في البيئة المهيئة للتعافي الاقتصادي.

 وهي عوامل من شأنها أن تُشعر الحاضنةَ بالجدوى والأمان وقدرٍ من الحياة الطبيعية، وهي نقاطٌ ضروريةٌ لإطالة نفس الدعم والالتزام بالمقاومةِ، مقولةً وإطارًا.

يمكن كذلك القول إن من العوامل المهمّة لتعزيز الحاضنة وتثبيتها والحفاظ عليها:

-       تقديم النموذج القتالي المُلهم الذي من شأنه أن يمنح الجماهير "الأدرينالين الثوري"، والحافزية والاستعداد للتضحية.

-       العيشُ مع الناس، أي العيشُ بمستواهم المعيشي، وعدم التّكسب من المنصبِ الذي يمنحُه التصّدر الثوري، والالتزام بمظهر مناسبٍ لحالة القتال وما يترتب عليها من حصار وضنك، والابتعاد عن المظاهر المستوردة من حياة الاستقرار.

-       الاستمرارية، على مستوى التمسّك بالثوابت والمقولات والمبادئ، وعلى مستوى الجدّية العملانية والإنجاز الميداني، تجنّبًا لمفاعيل الذاكرة القصيرة التي تعتري الجماهير عادةً.

-       تقديم خطابٍ يمازج بين الثورية والمنطقية والانطباق مع الواقع أو إمكانيةِ التحقق فيه، حفاظًا على المصداقية التي هي رأس مالٍ مهمٌ لأي حركة تقوم في أساسها على مقولةٍ أخلاقية.

وحاصل كلّ هذه العوامل أمران مهمّان يفضي أولهما لثانيهما، فالأول هو تثبيت الناس على أرضها، التي هي جغرافيا المعركة التي يكون شغْلها ولو على المستوى الفيزيائي المحض المقابل لهجرتها، فعلاً نضاليًا بقدرٍ ما، وتثبيتها على مقولتها وفعلها الداعم للمقاومة فكرةً وحركاتٍ، وإطالة نفسها الثوري. وثانيهما، هو استمراريّةُ حالة المقاومة نفسها، بوصفها، كما تمت الإشارة في بداية المقال، بنت الحاضنة الشعبية.

وفي المقابل فإن التفريط، أو الخسارة على مستوى هذه العوامل، مؤدٍ إلى خسارةٍ ما على مستوى الحاضنة الشعبية، وهي خسارة في حالة استدامتها أو توسّعها تضربُ عميقًا على مستوى نشوء حالةٍ ثوريةٍ.

من العوامل المهمّة لتعزيز الحاضنة وتثبيتها والحفاظ عليها:  -تقديم النموذج القتالي المُلهم الذي من شأنه أن يمنح الجماهير "الأدرينالين الثوري". و -العيشُ مع الناس، أي العيشُ بمستواهم المعيشي، وعدم التّكسب من المنصبِ الذي يمنحُه التصّدر الثوري، و –تقديم خطابٍ يمازج بين الثورية والمنطقية والانطباق مع الواقع أو إمكانيةِ التحقق فيه.

 

الشراع والبوصلة

لا تقتصر وظائف الحاضنة الشعبية على مهمّتها الأولى التي هي تكوين المقاتلين المحتملين، بل تمتّد للتفاعل مع الحالة المقاومة الجارية، فهي تضطلع بوظيفة الإسناد والالتفاف الشعبي والدعم المعنوي للمقاتلين، ومن مظاهر ذلك المسيرات والجنائز والاستجابة لدعوات المقاومة. والحاضنة كذلك توفّر قنوات محتملة للدعم اللوجستي والمعلومة والإيواء.

ثمّ يجدرُ الانتباه إلى وظيفتين مهمّتين ورئيسيتن للحاضنة.

أولهما: منح الشرعية، وهي، وإن كانت في حالة القتال مستمدةً من الفعل الثوري في الأساس، غيرَ أنّ الجماهير لا تنفّك عن كونها مصدرًا من مصادرها، إذ الجماهير هي ناس البلاد، وحركتها، وسيرورتها. وبقدرِ ما تقتربِ الجماهير من الفعل المقاوم، وتبتعد عن نقيضه، فإنّها تمنح المزيد من الشرعية له، وتسحبها من البرنامج المقابل، ما يجعل الفعل المقاوم أكثرَ حضورًا وتمثيلًا وإمكانيةً وأوسعَ هوامشًا، بقدر ما تضيق الهوامش على برنامج اللامقاومة.

وثانيهما: الرقابة والضبط، فالحاضنة -كالأم التي هي من معانيها الأصلية لغةً- لا تمنحُ إلا بقدرِ ما تضبط وتوجّه وتمنع، فهي، في مجموعها، بوصلةٌ ينضبط من خلالها المسار المقاوم، ومن خلال ما تمتلكه من أدوات عقابية، كالانفضاض وسحب الشرعية وتعميم الرفض، تمنع مظاهرَ سلبيةً يمكن أن تتسرب إلى الحالة القتالية، أو تمنع تمدّدها ومنحها الشرعية على الأقل.

يجدرُ الانتباه إلى وظيفتين مهمّتين ورئيسيتين للحاضنة، أولوهما: منح الشرعية، إذ الجماهير هي ناس البلاد، وحركتها، وسيرورتها. وبقدرِ ما تقتربِ الجماهير من الفعل المقاوم، وتبتعد عن نقيضه، فإنّها تمنح المزيد من الشرعية له، وتسحبها من البرنامج المقابل، وثانيهما: الرقابة والضبط.

 

المعركة حول الخزّان

أشارت المادّة في بدايتها إلى أن الحاضنة الشعبية بوصفها خزّان المقاتلين المحتملين، هي محلّ المعركة الأولى مع العدو. والعدو يعتمد على سياساتٍ متنوعةٍ ومتباينةٍ مع الحاضنة، ويرى الكاتب أنّها ثلاثة أقسام رئيسية:

-       خرق الخزّان: أي أن يعمد الاحتلال إلى الخزّان القائم الفعليّ للمقاومة ويصنع خروقًا فيه في سبيل استنزافه وإفراغه، وتقوم هذه السياسة على الإجراءات القمعية والعقابية المتعددة كتوسيع إيذاء المتظاهرين، ومنح الجنود صلاحيات كبيرة في القمع، والاعتقالات، واختلاق تهمٍ جديدةٍ تؤدي إلى اعتقال الفلسطيني (يحضر هنا مثال التحريض عبر وسائل التواصل الاجتماعي وزيادة الاعتقالات المستندة إلى هذه التهمة)، والحصار (والذي فرضه الاحتلال مؤخرًا على جنين ثمّ على نابلس لمعاقبة الحاضنة الشعبية للكتيبة والعرين محاولاً فضّهم عنها)، وتوسيع سياسات الإخافة والتهديد، وسحب تصاريح العمل، وإغلاق المؤسسات المناوئة للاحتلال وسوى ذلك من سياسات القمع التي تستهدف الناس أساسًا.

-       منطقة آمنة خارج الخزّان: وهي سياسةٌ قائمةٌ على منح الجماهير التي لا تنخرط في إسناد الحالة المقاومة قدرًا من الأمان والميّزات الاقتصادية، أو التقليل من الإجراءات العقابية على المناطق "الهادئة" وفق التعبير الإسرائيلي. ومع منحِ هذه "الميزّات" و"الأمان" فإن الاحتلال يعمل كذلك على إبقاء حالة الخوف من العقاب حاضرةً بقوّة في هذه المنطقة، في مزاوجة بين الترغيب والترهيب.

-       صناعة خزّان بديل: القسم الثالث من سياسة الاحتلال نحو الجماهير هو توجه الاحتلال نحو إعادة إنتاج وعي الناس في المناطق المحتلة ليكونوا جزءًا من حالةٍ جماهيريةٍ أخرى سوى المواجهة التي هي الوضع الطبيعي، هذه الحالة هي "رفض المواجهة" كونها تشكّل خطرًا على الامتيازات التي منحهم إياها الوجود في "الخزان الإسرائيلي"، ومن أدوات هذا التوجّه المهمّة: تصاريح العمل في الداخل، وربط المصالح الاقتصادية لقطاعات من التجار مع السوق "الإسرائيلية".

ورغم التفوق الكبير الذي يملكه الاحتلال على المستوى الأمني والتكنولوجي والعسكري، إلا أن مفاعيل سياساته ليست قدرًا ولا يقينًا، وهو ما يدلّ عليه الالتفاف الشعبي الكبير حول مظاهر المقاومة الجديدة، ثمّ قيام عمل مقاوم نوعي على أيدي فئات يحسبها الاحتلال على خزانه، أو خارج خزان الحاضنة على الأقل كحملة التصاريح، وهو ما يؤشر إلى قدرٍ من الفشل وسوء التقدير والتوقع عند الاحتلال، وما يؤشّر كذلك إلى تجذّر حالة رفض الاحتلال في وعي الشعب وجماهيره، بحيث لا تعدو سياسات الاحتلال كونها مفاعيل مؤقتةً بين موجات المد الثورية المتلاحقة.

ورغم التفوق الكبير الذي يملكه الاحتلال على المستوى الأمني والتكنولوجي والعسكري، إلا أن مفاعيل سياساته ليست قدرًا ولا يقينًا، وهو ما يدلّ عليه الالتفاف الشعبي الكبير حول مظاهر المقاومة الجديدة، ثمّ قيام عمل مقاوم نوعي على أيدي فئات يحسبها الاحتلال على خزانه، أو خارج خزان الحاضنة على الأقل كحملة التصاريح

غيرَ أنّ هذا يعيدنا إلى نقطةٍ سابقةٍ مهمة، وهي ضرورة مواجهة المشروع الإسرائيلي المستهدف للحاضنة بمشروع مقابل، لا بعمل فيه قدرٌ من الارتجال، أو الاتّكال على ضمان موقف الشعب، لأنّ الشعب وإن كان وعي المقاومة فيه متجذرًا، فإنّ قطاعاتٍ منه قابلةٌ لإعادة التشكيل كما سبق ذكر ذلك، كما أن السنواتِ التي يَخسرُها الناس وهم تحت الاحتلال هي سنواتٌ ثمينة ومهمة من عمر الشعب والتاريخ والمنطقة.

 

الجيل الجديد .. الفرصة والاختبار

لعلّه يحسن الانتباه إلى الالتفاف الكبير لدى الأجيال الشابة حول المقاومة، وحالات المقاومة الصاعدة في الضفة الغربية. ولعلّ واحدًا من أهمّ أسباب هذا الالتفاف هو تشكّل وعيِ هذا الجيل خارج السياقات التي هيمنت على الساحة الفلسطينية منذ 2005 (أي بعد انتهاء انتفاضة الأقصى) حتى 2014 (حرب حجارة العصف المأكول). خلال هذه السنوات علا صوت سرديّات الانقسام التي حمّلت طرفيه مسؤوليته، وظهر الجانب الذي يتبنّى مشروع المقاومة لدى قطاع واسع من الفلسطينيين، على السواء مع خصمه، في احتراب على التصدر السياسي والمنصب. كما انتشرت سرديّة عدم جدوى الفعل المقاوم، مع انتهاء الحدث الكبير الذي هو انتفاضة الأقصى بغير مكسب سياسي أو ميداني في ساحة الضفة، ومع دخول قطاع غزة بعد ذلك في حالة حصار طويلة وخانقة. وقد شهدت هذه السنوات عملًا مكثّفًا لتشكيل فلسطينيٍّ جديد بلا أبعادٍ وطنية أو نضالية، يكون كائنًا استهلاكيًا مستعبَدًا لدوامة الاقتصاد والقروض.

جيل هذه الأيام، هو جيلُ ما بعد 2014، الذي شهد حرب العصف المأكول، والذي تشكّل قدرٌ كبيرٌ من وعيه على مشهدية "نحال عوز"، ومعركة الشجاعية، ثمّ هو جيل ما بعد "سيف القدس". وإذا كانت "هبة القدس" هي الفعل الفلسطيني الكبير والواسع الذي تلا "العصف المأكول"، فإن "كتيبة جنين"، و "عرين الأسود" هما أهم مفاعيل "سيف القدس".

لم يكن لمثل هذه المفاعيل أن تتحقق في الميدان، لولا تكسّر سرديات الانقسام والهزيمة التي سادت خلال السنوات الماضية، ونشوء وعيٍ فلسطينيٍ جديدٍ، لجيل جديدٍ تشكّل وعيه على أداء مقاومٍ ملحميٍّ، فعدّ نفسه جزءًا منه، حاضنةً شعبيةً للمقاومة، فعلًا وممثلينَ، حاضنةً تدعم مسارها، وتَلِد حالاتها الأكثر عنفوانًا وتنظيمًا.

تبزغُ الفرصُ دائمًا بعد الإنجاز والمبادرة، وبقدرِ ما يكونُ الاستثمار في الفرصةِ المتخلّقةِ ناجحًا تتقدمُ الحالة إلى الأمام، ويصعبُ شدّها إلى الخلف. لكنّ خصوم الحالة بكل ترسانتهم وتفوّقهم حاضرون. ما يجعل الخطوات المتأخرة، وغياب المبادرة والمخيال، أو انعدام القدرة على استثمار الفرصة التي تخلقها الحاضنة الشعبية، بابًا مفتوحًا للعودة إلى الوراء، يجدرُ أن يغلقه من يملك الأداة.

لم يكن لمثل هذه المفاعيل أن تتحقق في الميدان، لولا تكسّر سرديات الانقسام والهزيمة التي سادت خلال السنوات الماضية، ونشوء وعيٍ فلسطينيٍ جديدٍ، لجيل جديدٍ تشكّل وعيه على أداء مقاومٍ ملحميٍّ، فعدّ نفسه جزءًا منه، حاضنةً شعبيةً للمقاومة، فعلًا وممثلينَ، حاضنةً تدعم مسارها، وتَلِد حالاتها الأكثر عنفوانًا وتنظيمًا.



[1] لعل المقصود بـ "الشعبية" هنا كونها مقاومةً منطلقةً من الشعب في الأساس لا من نظام سياسي، لا المعنى المتداول الذي يجعل المقاومة الشعبية مقابلاً للمقاومة المسلحة.

[2] تعريف لمحسن صالح نقلا عن ورقة "الحاضنة الشعبية للحركات الجهادية"  https://bit.ly/3VvJTej

[3] مصطلح استخدمه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة لتوضيح نظرة الاحتلال، وما يرغب أن يكون عليه الشعب في الضفة – برنامج المقابلة على قناة الجزيرة https://bit.ly/3Vy8krk .

[4] للمزيد حول تجربة القسام: الشيخ عز الدين القسام.. بواكير الثورة وأوائل رموزها- عوني فارس/ https://bit.ly/3P97But

[5] للمزيد حول الثورة الكبرى: الثورة الفلسطينية الكبرى.. عندما صفع الفلسطينيون بريطانيا على وجهها - عوني فارس https://bit.ly/3F1Mx5t

[6] https://bit.ly/3BtLlWy