الحاملات في شرق المتوسط .. في هزيمة إسرائيل وأسئلة اللحظة التاريخية
لم تكد "إسرائيل" تصحو من ألم الهزيمة المدوّية التي صنعها عبور 7 تشرين/ أكتوبر الذي اجترحته كتائب القسّام. عفوًا، هي لم تصحُ بعد أصلًا، ولأنّها لم تصحُ لم تفعل شيئًا إلا بعد أن استدعت الولاياتِ المتحدة الأمريكية للجبهة، أو لعل الولايات المتحدة الأمريكية قد حضرت إليها استنقاذًا مبادرًا.
توصف "إسرائيل" بأنّها حاملة طائرات أمريكية في الشرق الأوسط، غيرَ أنّ لها عن حاملات الطائرات ميّزة هي في ذاتها عيب، فهي غير قابلة للتحرك، فميّزتها من هذه الجهة ما يظنّ مما هو ثابتٌ في الجغرافيا من الاستدامة، وعيبُها أنّها غير قادرةٍ على التحرك إلى حيث تعلو المصلحة الأمريكية، أو تحتدم الحرب الأمريكية، ما يشعل مخاوف التّرك في قلب الحاملة الثابتة.
غير أنّ الحاملة الأمريكية الثابتة أصيبت في مقتل يوم السابع من تشرين/ أكتوبر، أصيبَ في مقتلٍ ردعُها، وهيبتُها، ومعنى وجودها، من حيث هي دولةٌ تريد البقاء الأبديّ أولًا، ومن حيث هي حاملةُ طائراتٍ تبتغي تقديم الخدمة الاستراتيجية لسيّدتها –الولايات المتحدة- تأبيدًا.
وبعد أيامٍ من الحاملة الأولى، استجلبت الولايات المتحدة الأمريكية حاملةً ثانيةً إلى شرق المتوسط، لتضاف إلى حملة الإسناد التي فتحها القطب العالمي الأوحد –حتى اللحظة- لربيبته، من طائراتٍ مقاتلة بمختلف الطرز، وفرق عملياتٍ خاصة، وذخائر بلا حدٍّ للطائرات والمدفعية والقبة الحديدة. ناهيك عمّا منحته دولٌ أوروبيةٌ أخرى للحاملة الثابتة "إسرائيل".
استدعت الولايات المتحدة حاملاتها إلى شرق المتوسط، وفيما يظهر باديَ الرأي، فإن هذا الاستدعاء له هدف عملياتي واضحٌ هو ردعُ خصوم "إسرائيل" على الجبهة الشمالية من الانخراط في الطوفان الهادر. غيرَ أنّ لهذا الاستدعاء دلالاته المهمة من وجوه استراتيجية أخرى، أكثر عمقًا وأبعدَ تأثيرًا.
أول ما يلفت في استدعاء حاملة الطائرات الأمريكية الأولى (جيرالد فورد)، أقوى حاملات الطائرات الأمريكية، السرعةُ البالغة لذلك الاستدعاء، وهو ما يؤشّر إلى أمرين أساسيين: أولّهما حجم الضربة الهائلة التي أفقدت "إسرائيل" توازنها وثقتها، وتمام قدرتها على إدارة المعركة، ثمّ استشعار الولايات المتحدة لهذا الهول، وثانيهما: خوف الاحتلال والولايات المتحدة من انفلات الأمور بشكل تامٍّ وواسع يؤدّي إلى حربٍ على جبهاتٍ متعددة يمكن أن يلحق المزيد من الضرر الاستراتيجي بـ "إسرائيل"، وبالولايات المتحدة بالتبعية.
غيرَ أنّ هذا الاستدعاء، الذي يُنتظر منه أن يؤدّي إلى تحقيق الهدف العملياتيّ الراهن، من منع توسّع القتال إلى جبهات متعددة (وهو ما يؤدّي كذلك إلى هدف استراتيجي بعيدٍ متعلّق بالحفاظ على "إسرائيل" وجودًا وقوةً)، يفضي بالضرورة إلى ضريبةٍ استراتيجيةٍ كذلك، لا بدّ منها، لـ "إسرائيل" في المقام الأول، وللولايات المتحدة والغرب في المقام الثاني.
تداخلت إذن الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، واضطرت الولايات المتحدة لاختيار الضرر الذي يبدو أقلّ أثرًا على المشهد المشتعل الجاري، والخيار الأهمّ للمعركة الدائرة، لا قصورًا عن معرفة الأثر المترتب على هذا الخيار (خيار استدعاء الحاملات)، ولكنّه اضطرارٌ ألجأتها إليه، كتائب القسّام، حين ألحقت بحاملة طائراتها الثابتة هذا الضرر البالغ، البالغ جدًا.
اعتراف بين يدي الهزيمة
لا يترك هذا الاستدعاء إمكانيةً لكثير من التحليل، أو البحث عن توصيف آخر لما جرى لـ "إسرائيل"، سوى كونه هزيمةً، هزيمةً واضحةً في ذاتها، ويسهم هذا الاستدعاء في مزيد تجليتها، وهو استدعاءٌ إذا كان طلبًا إسرائيليًا، أي أنّ "إسرائيل" بادرت فيه بطلب النّجدة من أمريكا في لحظات المعركة الأولى، فهو إقرار ذاتيٌّ بالهزيمة، إقرارٌ يفقد "إسرائيل"، من كانت توصف بالطليعة الاستعمارية في الشرق الأوسط، إمكانيةَ استعادة الثقة والتوازن، مهما كانت نتيجة المعركة الجارية، لسنوات لاحقة. أمّا إذا كان استدعاءً أمريكيًا محضًا بادرت إليه الولايات المتحدة، فهو أكثر وضوحًا في ظهور الهزيمة، لا تجلس فيه "إسرائيل" معترفةً بين يدي الكاهن عن طواعية وحسرة، بل تجبر على ابتلاع هذه المعاني بالإضافة إلى الإذلال، والكاهنُ يجلسُها بين يديه للاعتراف الذي لا مفرّ منه.
وعلى كلّ الأحوال، فلعلّ أحسن ما يمكن وصف "إسرائيل" به مع هذا الاستقدام لحاملات الطائرات، بأنّها "حاملةُ طائرات مفتقرةٌ إلى حاملة طائرات أخرى" .. بل اثنتين حتى اللحظة، مع إبحار حاملة الطائرات الأمريكية "أيزنهاور" إلى شرق المتوسط، وهي بهذا الافتقار تخسر معناها: معنى كونها طليعةً استعماريةً يحقّق وجودُها مصالح الغرب في المنطقة، ويكفيه -لا سيما الولايات المتحدة- مؤونة الوجود العسكري المكثّف والدائم فيها. فأيّ معنى لـ "إسرائيل" من هذه الجهة، وهي تتطلب الدعم الأمريكي في مواجهة يفترض أنّها مواجهةٌ محدودة مع فصيل صغير في جغرافيا محاصرة؟ تتطلبه بدل أن تكونه، لتتحوّل بذلك إلى كلفةٍ وعبءٍ، بدلًا من أن تكون طليعةً ودرعًا.
تستقوي "إسرائيل" بالولايات المتحدة إذن، ولا يستقوي بسواه سوى الضعيف، أو فاقد الثقة، وهذا حال حاملة الطائرات الثابتة في هذه اللحظة، غير أنّه استقواءٌ لا يشير إلى هذه المعاني فحسب، بل هو استقواءٌ يحقق الغرض الآنيّ، ولكنّه في اللحظة ذاتها يثبّت الخطر الاستراتيجي، وهو يكرّس "إسرائيل" كيانًا قلقًا، سريع الاهتزاز، مفتقرًا إلى النجدة، غير قادرٍ على الاستقلال بالوجود والانتصار بدون سيّده.
سارعت الولايات المتحدة إلى نجدة "إسرائيل"، في دلالة واضحةٍ على ما هي "إسرائيل" للغرب والولايات المتحدة. وهي حين تفعل ذلك لا تسعى إلى الحفاظ على مشروعها الاستراتيجيّ إلا بقدر ما تعيد النظر فيه وتقيّمه، تنجدهُ بحسرةِ من يخشى ضياع سنوات البناء الاستراتيجي لطليعة استعمارية في المشرق العربيّ الإسلاميّ، وتنظر في مستقبل استثمارها فيه.
"إسرائيل" المرتبطة عضويًا بالغرب والولايات المتحدة الأمريكية، كيانٌ في أساسه كيانٌ وظيفيّ، عملت أوروبا على إنشائه من جهة؛ للتخلّص من "المسألة اليهودية"، ومن جهة أخرى، لتوظيفها عبر اختراع الصهيونية، على إنشاء "وطنهم القومي"، وفق التعبير البلفوري، ضمنَ صفقةٍ تُنهب فيها فلسطين، وتقام "إسرائيل" على أرضها، لتكون، كما سلف، طليعةً استعماريةً، تمنع الاتصال الجغرافيّ والديموغرافيّ بين العرب ثمّ المسلمين، وتحرمهم من الوحدة، وتسعى في استنزافهم، وتبعدهم عن مسارات الاستقلال والنّهضة، وتصنع لهم مساراتٍ بديلةً موهمةً تحقّق من خلالها الهدف الاستعماريّ (كمسارات السلام والتطبيع)، وتكرّس التفوق عليهم عسكريًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا، وتهزمهم وحدها، ليصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ مغالبة الغرب ضربٌ من الجنون، وأنّ الحلّ الوحيد هو التبعية، وأنّ المقاومة فعل عبثيّ، وأن تفوّق الغرب علينا حقيقةٌ وجوديةٌ غير قابلة للتزحزح. يصلون إلى ذلك وهم يتضاءلون وينهزمون أمام حاملة الطائرات الثابتة، فيسألون: كيف نفعل مع من صنع الحاملة؟
حاملة الطائرات الأمريكية "جيرالد فورد"
في وجه الإمبراطورية
هزمت كتائب القسام الحاملة، وأفقدتها معنى وجودها في لحظة من التاريخ، لعلّها تفتح باب التاريخ تاليًا، ولكنّها لم تهزم "إسرائيل" إلا بقدر ما لطمت وجه سيّدتها (الولايات المتحدة)، حين اجترأت على مشروعها الاستراتيجي في المنطقة، وأثبتت إمكانيّة هزيمته، وأظهرت للعالم افتقاره الذاتي لعوامل البقاء والقوة، وضرورة استقوائه بالخارج، وبيّنت أن المشاريع المقامة من خلاله، أو الأبواب المنفتحة على الولايات المتحدة من خلاله، مرشّحةٌ للانكسار، وأنّ "إسرائيل" ليست كما كانت تظنّ نظم الهزيمة والتطبيع قدرًا لا يمكن مغالبته، وبوّابةً وحيدةً للرضى والمصلحة الأمريكية.
هزمت كتائب القسام الحاملة، وأغرت العالم كلّه بالولايات المتحدة ومشاريعها الاستراتيجية المستدامة، فإذا كانت "إسرائيل" ربيبتها وبنتها المدللة التي يتدفق نحوها الدعم العسكري والسياسي بلا حد ولا حساب، قابلةً للهزيمة والانكسار، وفاقدةً للتوازن والثقةِ مع ضربةٍ يسدّدها لها ما يفترض أنّه فصيل صغير في جغرافيا مجهريةٍ محاصرة، فلماذا لا تكون مشاريعها الأخرى في بقاع الأرض الأخرى قابلةً لهزيمةٍ مشابهة؟ ولماذا يمكن أن يسلّم بأقدار الولايات المتحدة قوى أخرى يفترض أنها أكبر وأقوى وأوسع طموحًا من حماس؟!
هزمت كتائب القسام الحاملة، وبعثرت أوراق الولايات المتحدة في المنطقة، التي تخطّط لها منذ سنوات أن تدخل في الزمن الإسرائيلي، تطبيعًا وتحالفًا وتبعيةً، حتى كانت المنطقة على بعد خطواتٍ من تطبيع سعودي – إسرائيلي، كان سيمنح "إسرائيل" حبلًا إضافيًا، وينتظر أن تتساقط بعده المنطقة كلّها تتاليًا في المسار الأمريكي للشرق الأوسط، حيث تسود "إسرائيل" باسم الولايات المتحدة، وتنغلقُ كل الأبواب أمام مواجهة هذا الإطباق الأمريكي.
وأكثر من ذلك، فلعلّ هذا الشّق الصغير في حجمه والنوعي في طبيعته، نُظر إليه بوصفه شقًّا لا في السلك الفاصل بين غزّة و"إسرائيل"، بل شقًّا في جدار التاريخ الذي تسيّدته الولايات المتحدة قطبًا أوحدَ لا يُنازع ولا يدانى، قوةً وقدرةً وسيطرةً. وإنما يحتاج جدار التاريخ شقًّا كهذا حتى تتالى الشّقوق والصدوع، وينفتح الزمان على عالمٍ جديد، وقوىً جديدة.
وحين هزمت كتائب القسام الحاملة، ولطمت وجه الإمبراطورية الأمريكية، استشعرت الولايات المتحدة الألم، واستشعرت معه الخطر كذلك، واستقرّ –كما يظهر- في تقديرها أن "إسرائيل" لم تعدْ في هذه اللحظة كافيةً ولا صالحةً لإدارة هذا الخطر الاستراتيجي، فألقت بثقلها في المعركة، ضوءًا أخضر مفتوحًا يكسر كل قيم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحضورًا عسكريًا ثقيلًا وواضحًا، وحضورًا استخباريًا يمدّ بالمعلومة النوعية، وحضورًا دبلوماسيًا وسياسيًا قائمًا على الرّدع والإخافة وتغطية المجزرة، في محاولة استدراك ما صنعته لحظة السابع من أكتوبر.
في إمكانية التدارك الأمريكي
الفعل الإسرائيلي المتغطي بالولايات المتحدة تغطيًا كثيفًا حتى اللحظة، قد يتحوّل إلى فعل أمريكيٍّ عسكريٍّ مباشرٍ يتغيّى أثرًا عميقًا وقويًا ومؤلمًا، ليسدّ الخرق الذي أصاب جدار التاريخ، وليؤكّد هيمنته على التاريخ، ويسطوَ على العالم، ويردعَ الأعداء، ولينفي عن الحدث صفةَ العدوى، ويؤكّد أنّه مجردُ لحظةٍ فلتت من مسار التاريخ، لا ثغرةً في جداره.
يظلّ السؤال: هل اللحظة التي أضاءت في العالم إنما كانت لحظةً عابرةً لا يمكن البناء عليها؟ وهل تدارك الولايات المتحدة لما كان ممكنٌ فعلًا؟ أمّ أنّ ما جرى قد ترك أثره في التاريخ وانتهى الأمر، وأنّ الصورة النهائية التي ستؤول إليها المعركة الجارية ليست أهمّ ما في المشهد، بل أهم ما فيه لحظة افتتاحه بهزيمة حاملة طائرات القوة الكبرى في عالم ينام على براكين مغطّاةٍ بقشرةٍ واهيةٍ من بقايا نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
يظلّ التخوّف الأمريكيّ في انفلات المشهد من بين قبضتي رسّامه، بأن تُظهر مجرياته مزيدًا من انكسار "إسرائيل"، وعجزها، أو تحوّله إلى حرب متعدّدة الجبهات إقليميةٍ تضطر الولايات المتحدة إلى الانخراط فيها بشكل مباشر، أو انفتاح صراعات أخرى أشدّ أثرًا وثقلًا في العالم بالتوازي مع انفتاح مشهد المشرق العربي الذي تريد الولايات المتحدّة تأبيده شرقًا أوسطَ.
ما تزال الولايات المتحدة قوةً قاهرةً مدجّجةً، ومستعدةً لكسر كلّ المحرّمات في لحظة الحاجة، وما يزال أعداؤها المتوقعون في العالم في حال من التردد أو فحص المشهد، غير أنّها، على كل حال، ليست قدرًا نهائيًا، ليس ذلك معنىً إيمانيًا فحسب، بل هو درس التاريخ، الذي ما زال يمنح الوقت ويسلبه من نماذج الاجتماع البشري، ومن القوى المهيمنة، بحيث لم يكتب لأي نموذج أو قوةٍ الديمومة والتأبيد، بل ظلّ التاريخ يسحب البساط الذي يبدو للناس ممتدًا من تحت أقدام الإمبراطوريات، وأنماط الحياة، فينقلب الناس، وينقلب التاريخ، والولايات المتحدة ليست نتوءًا فوق تاريخيّ، بل هي تجربة من التاريخ والزمن والناس.