الحُروب الأهليّة: كيف تبدأ وكيف تُوقف - هل تتجه الولاياتُ المُتحدة نَحو حَربٍ أهليّة ثانية؟

الحُروب الأهليّة: كيف تبدأ وكيف تُوقف - هل تتجه الولاياتُ المُتحدة نَحو حَربٍ أهليّة ثانية؟
تحميل المادة

الحُروب الأهليّة: كيف تبدأ وكيف تُوقف

هل تتجه الولاياتُ المُتحدة نَحو حَربٍ أهليّة ثانية؟

 

باربرا والتر

تَرجمة وتقديم وتَعليق: بيسان عابد

 

على سبيل التقديم..

تُقدّم بيسان عابد في هذه الورقة ترجمة لأبرز الأفكار التي طرحتها باربرا والتر في محاضرة لها عرضت فيها كتابها: "الحُروب الأهلية: كيف تبدأ وكيف تُوقف". لا تكتفي بيسان بترجمة أهم أفكار المحاضرة، وإنما تترجم بعضًا مما يتصل بالموضوع من مقابلات أخرى للكاتبة، فضلاً عن تعقبها للمؤلفة في بعض مقولاتها. لا تأتي أهمية المحاضرة، التي تلخّص أهمّ أفكار الكتاب، من جهة أهمية المعرفة بالولايات المتحدة راعية الكيان الصهيوني وقائدة السياسات الإمبريالية في العالم فحسب، ولكن أيضًا  من جهة معرفة أسباب نشوء الحروب الأهلية، فذلك أمر متصل بأوضاعنا في المنطقة العربية، وحتى بأوضاعنا الفلسطينية الخاصة.

تمثّل هذه الورقة باكورة منشورات منصة "إطار" في زاوية "معارف"، التي تهتم بحقول المعرفة المختلفة؛ التي يصعب تأطيرها في الزوايا المخصصة لفلسطين وقضاياها، ولكنها معارف لا تنفكّ عن اهتمامات المشتغل بالشأن الفلسطيني، وبالقضايا العربية والإسلامية عمومًا.

·      التحرير

 

مُقدمة

في مُحاضرة كينيث والتز السّنوية التي تُعقد في جامعة كولومبيا؛ احتفاءً بذكرى الباحث والعالِم السياسي الأمريكي كينيث والتز(1924- 2013)، المُتخصص في مَجال العلاقات الدولية، ومن أوائل مؤسسي ما يسمى )بالواقعيّة البنيويّة)[1] أو الواقعيّة الجديدة (Neorealism)؛ تُقدم الباحثة والأكاديمية في جامعة كاليفورنيا باربرا والتر، والمتُخصصة في العلوم السّياسية  كتابها الجديد، والذي أُصدِر هذا العام 2022، بِعُنوان "الحُروب الأهلية: كيف تبدأ وكيف تُوقف".

تذكُر والتر في اللقاء أنها أمضَت أكثر من ثلاثين عامًا في دِراسة الحُروب الأهلية، في إفريقيا وجنوب آسيا ووسطِها بالإضافة إلى منطقة الشرق الأوسط. وتبدأ والتر الحَديث عن الأسباب التي دفعتها إلى تأليف هذا الكتاب، حينما عَمِلت خَبيرةً ضمن فريق العمل الذي أسسته الحكومة الأمريكية لدراسة مؤشرات اضطراب الاستقرار السياسي في الدول،[2] بصفتها مختصّةً في الحروب الأهلية. وكان الفريق قد ضَمّ مَزيجًا من الأكاديميين والخُبراء في الصّراع، بالإضافة إلى مُحللي البيانات، شَرعوا بالدراسة والبَحث للتنبؤ بالدول التي من المُحتمل أن يَتزعزع استقرارها حول العالَم، أو أن تكون عُرضةً للعنف السياسي والحروب الأهلية، ولم يتعرّض الفريق لدراسة الولايات المتحدّة، ولم تكُن جزءًا من الدراسة؛ لأنهم كانوا يدرسون "الآخرين"، لكن المُتغيرات والأنماط التي توصّل إليها البحث فيما يختصّ بالحروب الأهليّة، دفعت بوالتر أن تُعيد النّظر فيها وتُحيلها إلى الولايات المتحدة مَحلّاً للبَحث، وأن تنظر إلى نتائج الدّراسة بمستوى الماكرو\ مستواها الكليّ، لا بمستواها الجزئي- بدراسة كل دولة حالةً مُنفردةً فريدة على حِدة.

تتضمّن هذه الورقةُ تَرجمةً لأهمّ الأفكار التي قدّمت والتر فيها الكتاب أثناء المحُاضرة، بالإضافة إلى مقابلات أخرى متفرقة مع والتر أضافت فيها إلى ما قالته في المحاضرة، وعرضَت من طرحِها المَزيد، أمّا الهَوامِش فستكون إضافاتٍ للتعليقِ وتَوضيح بعضِ الأفكار، وأيضًا، شَرحًا لبعض المُصطلحات المُترجمة حِين الحَاجة.

بيسان عابد

 

 

مُتغيرات الحُدوث والقَرائن المُصاحبة[3]

إنّ العوامل التي قد تقود إلى ما يُسمى بالحُروب الأهلية متعددة، وهذا ما يُدركه تمامًا متخصصو العلوم السياسة؛ إلّا أننا وجدنا خلال دراستنا لنماذج الدول التي اختلّ فيها ميزان الاستقرار السياسيّ، واندلعت فيها الحروب الأهلية؛ أن ثمّة متغيرين رئيسين يطّرِدانِ في غالبيّة هذه النماذج، الأول هو الأنوقراطية(Anocracy) ، أو التحوّل إلى نظام الحكم الأنوقراطي، وهو ذاك النمط من الحكم السياسي الذي يتوسّط بين الديمقراطية (Democracy) والأوتوقراطية (Autocracy). فتكون فيه الدولة في تلك المنطقة الوسطى، وفي سياق دراسة الحروب الأهلية، نخص نماذج الدول الأنوقراطية التي غالبًا ما يترجّح نظام الحكم فيها إلى الديمقراطية، فتكون أقرب إلى الديمقراطية\ ديمقراطيّة بشكل جزئيّ.

أما المُتغير الثاني، فيتمثل في بواكِير ظهور التجزئة الإثنية؛ وشروع أفرادٍ بالتمركز وتنظيم جماعات سياسية، ليس على مُرتكزات أيديولوجيّة فكرية، إنما على أساس الهويّة،[4] فتبدأ أحزاب سياسية بالصُّعود على أسس عرقية أو دينية إثنية. إنّ وجود هذين العاملين بشكل مركّب في دولة ما، يعرّضها لخطر اندلاع حربٍ أهليّة، ويزيد احتماليّة حُدوثها فيها.

ولِنضرب على ذلك مثالاً كلاسيكيًّا نستحضر فيه هذين المتغيرين معًا، وهو دولة يوغوسلافيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتيّ، فعندما سقط الاتحاد السوفييتي، أدرك اليوغوسلافيون سوءَ الدكتاتوريّة التي كانت قائمةً؛ فأرادوا الاتجاه نحو الديمقراطية، ومحاولة تطبيقها، وهذا يتطلب ضَرورة عَقد انتخابات تنافسية، بَيد أن هذا القرار خلق مُعضلة حقيقية لدى هؤلاء الاشتراكيين الذين اعتادوا تملُّك السلطة والقوة.

لقد كان سلوبودان ميلوشيفيتش واحدًا منهم، فقد كان عضوًا في الحزب الشيوعيّ عندما تفككت يوغوسلافيا، واعتاد ميلوشيفيتش السلطة، ثم وجد نفسه لاحقًا مُضطرًا للتنافس حول السُلطة، أو رأى احتمالية خوضه عملية تنافسية للوصول إليها، وكان يعلم جيّدًا أن اليوغوسلافيين لا يريدون الشيوعية، ويُدرك تمامًا أن كونه شيوعيًّا يجعل فرصته ضئيلة في الفوز بالانتخابات، لكنه كان ذكيًّا وفكر بشكل استراتيجيّ، فرأى أن الصِّرب يشكلون ديموغرافيًّا النسبة الأكبر من عدد سكان يوغوسلافيا، وأن إقناعهم بالاتحاد معًا كتلةً واحدة على قاعدة إثنية بصرف النظرعن تعدد أيديولوجياتهم هو الضمان الوحيد؛ وإلّا سيتحد الكروات في مقابلهم وسيربحون الانتخابات، وحينئذٍ سيُقصونهم من الوظائف المدنية والعسكرية وقد يرتكبون فيهم المَذابح كما فعلوا في الحرب العالميّة الثانية.

وبهذه الطريقة تمكّن ميلوشيفيتش من تصدير دعايته الانتخابية وضخّها للصِّرب في يوغوسلافيا، بإقناعهم أن عدم اتحادهم سيشكّل تهديدًا وجوديًّا لهم، وكان ذلك في أوائل عام 1990. والشاهد هنا أن يوغوسلافيا في تلك المرحلة كانت حكومة أنوقراطية، وكانت ضعيفةً نسبيًّا بسبب ما شهدته من تقلّبات، فسنحت الفرصة للريادييّن الإثنيين (Ethnic Entrepreneurs)[5] أمثال ميلوشيفيتش باستغلال الأصول الإثنية بوقًا للدعاية الانتخابية بتأجيجها وتضخيمها، وهذا ما رأيناه من تمركز الأحزاب السياسية في يوغوسلافيا حول إثنيات مختلفة، بالإضافة لكونها أحزابًا شيوعية، والمُفاجئ أنّ هذه الأحزاب حصدت أصواتًا كثيرةً في الانتخابات.

وهذا بالتحديد ما اتّبعه دونالد ترامب، فقد كان ضِمن مجموعة مُزدحمة من السياسيين الجمهوريين في عام 2016، وكانت فرصتُه ضعيفة في الفوز، حتّى بدأ خطابه بالحديث عن المُهاجرين وما شغلوه من الوظائف؛ مما جَعله يتصدّر المرشحين الجمهوريين. لقد كان خطابُه ذا صدىً، وبمجرد أن اكتشف ترامب تأثيره، أصبَح رائدًا ومُتمرِّسًا في استغلاله.

 

"أبناءُ الأَرض"

في الفَصل الثّالث من كتابي، تحدثتُ عن مفاهيم خاطئة يظُنها البعض أسبابًا لاندلاع الحروب الأهلية، فإذا سألت أحدًا عن سبب اندلاع حرب أهلية في دولة معيّنة، وعن البادئِ بها، سيُجيبك أن الفقراء والمُهاجرين، والذين يتعرّضون لكافة أشكال التمييز العنصري، هم عادةً البادئون والمتسببون، لكن هذا خاطئ تمامًا؛ فالجماعات الإثنية التي تبدأ الحرب تكون في الغالب إما خسرت سلطة أو قوة امتلكتها سابقًا، أو أنها هي على وشَك فقدانها، وعامل التغيّر الديموغرافيّ بسبب المهاجرين قد يكون أحد العَوامل لفقدانهم السُلطة.

والواقِعُ أنّ الحُروبَ الأهليّة غالبًا ما تبدؤها مجموعاتٌ يُسميها عُلماء السياسة "أبناء الأرض"،[6] وهي الجَماعات التي كانت تاريخيًّا مُهيمنةً سياسيًّا واقتصاديًّا، لكنها إما فقدت مكانتها وقوتها أو تعتقد أنها ستفقدها. هي جماعاتٌ تعدّ نفسها دومًا الوريثة الشرعية للبلاد. ففي إيرلندا الشمالية، على سبيل المثال، تعرض الكاثوليك للتمييز الشديد من البروتستانت، وقد تملّكهم الغضب بأنها بلادهم وأرضهم، وساءَهم أن أصبحوا مُواطنين من الدرجة الثانية في منزلهم التاريخي.

وانظُر إلى حَرب الفلبين الأهليّة مِثالًا، والتي استمرّت عقودًا طويلةً في مندناو، أطرافها هم المورو (الذين يمثلون السكان المسلمين) في مقابل الحكومة المركزيّة. وفي هذا المثال، يُعدّ المورو "أبناء الأرض"، الذين سكنوها لمئات السنين، بحكمهم الذاتيّ المنظم، ثم أصبحوا جُزءًا من الفلبين -غالبية سكانها من الكاثوليك- في ذلك الوقت، بدأت الحكومة بتشجيع هِجرة الكاثوليك إلى مندناو والاستقرار فيها؛ حتى يتسنّى لها الوصول إلى المَوارد، ودَمج المورو ليصبحوا جزءًا من الفلبين.

ونتيجة لذلك، بدأ المسلمون يفقدون أرضهم، وكانت الوظائف الحكومية الجيدة يشغلها الكاثوليكيون، وأخَذَت مكانة المسلمين السياسية والاقتصادية تَنحدِر، وأصبحوا ديموغرافيًّا أقل عددًا، ولم تعُد لهم القُدرة على منافسة الأعداد الكبيرة من الكاثوليك، وتيقّنوا أنّ الكاثوليك سيَحظَونَ بالامتيازات لأن السياسيين سيُحاولون إرضاءهم لكسب أصواتهم في الانتخابات، فمجموع هذه الأسباب دَفعت المُسلمين المورو للتمرّد الذي يستمر إلى الآن بأشكال مختلفة.

وتتعدد الأمثلة على ذلك، فالفلسطينيون والإسرائيليون مثلاً، يَرى كُل طرف نفسَه "أبناء الأرض"، ويؤمن بذلك بِعُمق، فيرفض الطرفان بشدة أيّة مُحاولة لسلب الأرض منهم، وهذا ما يُعقّد الصِّراع.[7] وأيضاً لدينا من "أبناء الأرض"، الأساميّون في الهند، والكاثوليك في شمال إيرلندا، وأزعم أنّ البيض هنا في الولايات المتحدة هم أبناء الأرضِ خاصّتنا. إنَ دافعهم ليس اقتصاديًّا تمامًا، إنّما هو إيمانهم المُعمّق بأنهم يستحقون السلطة، وأنهم امتلكوها لفترات طويلة، وأن استبعادَهم منها بأي حال لن يكون مقبولاً بالنسبة إليهم، فمثلُ هذه الجَماعات هي التي تبدأ بالغليان.

إحدى الخَصائصِ التي يشترك فيها أبناءُ الأرضِ في العالم، هو أنهم لا يرَون امتيازهم، فبالنسبة لهم حَقيقة أنّ اللغة الرسمية للبلاد هي لُغتهم؛ تُعدّ الحالةَ الطبيعية المُستقيمة بالنسبة لهم، وأنّهم يحتفلون بأعيادهم، هو ما ينبغي فقط أن يكون. لا يَلحَظون امتيازهم، لكنهم فقط يَرَون تراجعًا اجتماعيًّا يلامِسُهم أو يقترب منهم، يُشاهدون مجموعاتٍ أُخرى في المُجتمع تَعمل بشكل أفضلَ منهم، وهذا فقط ما يَجعلُهُم ساخِطين مُستائين.

ففي الولايات المتحدة، لم تتحسن–ترتفع- حياة الطبقة العاملة البيضاء من حَيث الدَخل، أقصِد من جانب النتائج بالنسبة لأطفالهم، أو بالنَّظرِ إلى مُستويات التّوظيف، أو ملكيّة المَنازل، وكانوا يُعانون من أزمة المَواد الأفيونية. تظلّماتهم حقيقية بالنسبة لهم، وينظرون إلى المُدن الساحلية الغنيّة، ويشهَدونَ أشخاصًا لا يُشبهونهم يستفيدون من الاقتصاد الجديد بشكل كبير، وهذا ما يُغضِبُهم.

 

مراحِل التحوّل من الاحتجاج السِّلمي ... إلى العُنف المُنظّم

ما الذي يدفعُ هذه الجَماعات إلى التحوّل للعنف المُنظّم؟ لقد كان الكاثوليك في إيرلندا الشمالية متظاهرين سلميين لعقود، ثُمّ انتقلوا إلى العُنف حينما أدركوا أنه لا سَبيل لاستعادة السُلطة بالعمل من داخل النظام.

وتُوجَد مُؤشرات محددة تقيس هذه التّحولات، إحداها خسارة في الانتخابات، أو سلسلة من الخسائر، فيتبيّن لهذه المجموعات أنه لم يعد لديها الأرقام الكافية للفوز بالانتخابات، وأنّ لا فرصة لها للتصدُّر من خلال اتّباعِ الديمقراطية. في عام 2022، كانت الانتخابات في الولايات المتحدة كارثيّة للبِيض؛ بالرغم من أنّ الحِزب الجُمهوري جَلبَ الملايين من الناخبين الجُمهوريين الإضافيين، لقد كان جُهدًا خاسرًا، ومع ذلك لا يمتلكُ الجمهوريّون حتى الآن الأرقام الساحقِة للفوزِ بالرئاسة، وأعتقدُ أن الخسارة ستتكرر مرّة أُخرى لأنّ الأرقامَ ليست لصالحِهِم.

المُؤشّر الثاني هو فِقدان الأمَل، ويكون ذلك بِمجموعة من المُحاولات التي تَتسبب بِفقدان الأمل من العَمَل داخل النّظام مثل الاحتِجاجاتِ السلميّةُ الفاشِلة، حيث يخرُج النّاس إلى الشوارع للتعبيرِ عن عدم رضاهم، لأنهم يأملون بذلك إصلاح الحُكومة، وهذا هو المؤشّر الثاني الذي يسبِق عملية الانتِقال إلى التمرّد العنيف المُنظّم.

ولنتأمّل المِقياس الذي وضعتهُ وكالة المخابرات المركزية سابقًا للتمرّد، يتحدث المقياسُ عن ثلاث مراحل، المَرحلة الأولى تتمثّل فيما قبل التمرد، الوقتُ الذي تبدأ فيه المجموعات في التحرك تجاهَ شكوى معينة، وفي كثير من الأحيان يكونون عددًا قليلًا من الأفراد، غير راضِين بِشدة عن شيء ما، ويبدؤون التّعبيرَ عن تلك المَظالم، بالحَشدِ وزيادةِ الأعداد.

المَرحلة الثانية هي مَرحلة الصّراع الأولي؛ وذلك عندما تبدأ هذه المجموعات في بناء ذراع عسكري، عادة ميليشيا، ثمّ يشرَعون في الحصولِ على الأسلحة، وتلقّي التدريب، وتجنيد أعضاءٍ من الجيشِ السّابق أو الحاليّ أو من خلال البعض من جهات إنفاذ القانون، وسيُصبح لديهم أفرادٌ من جَيشهم ينضمون إلى الجيش النظاميّ، ليس فقط للحصول على التدريب، إنّما أيضًا لجمع المَعلومات الاستخبارية.

وفي المرحلة الثّانية، تتعرّض الدّولة لِهجماتٍ قليلة متفرقة، ويتحدّث الدّليل أنّ الخَطر الحقيقيّ في هذه المَرحلة هو أن الحُكومات والمواطنين لا يُدركون ما يحدُث حقًّا، فعند حُدوث هجوم، يتمّ تجاهله باعتباره حادثًا منفردًا، إذ لا يربط النّاس هذه الحوادث المُتفرقة، ونتيجة لذلك، تتحرّك الجَماعات بِحرّية وتنمو بِصَمت، ثمّ تبدأ في شن سلسلة من الهجمات المُتتالية في مرحلتها الثالثة، ويصبح من المُستحيل تجاهلها. ومُجددًا، عندما وضَعَت وكالة المُخابرات المركزية هذا الدّليل، كان نتاجًا لِمُلاحظاتها وتجاربها الميدانيّة في بلدان أخرى، وبينما تقرأ هذا، تصدمُك أوجه التشابُه مع ما نعيشُه.

إنّ مُنظمي التمرّد والعُنف دائمًا ما يستشعِرون الحَاجَة إلى جُنود متمرّسين بسُرعة نسبية، وإحدى السُبُل القيامُ بالتجنيد، ولأننا هنا في الولايات المتحدة خُضنا سلسلة من الحُروب الطويلة في أفغانستان والعراق وسوريا، ثُمّ انسحبنا منها، فأصبحَ لدينا جُنود عائدون بأكثرَ من عشرين عامًا من الخبرة، وقد يُشكّلون مجموعة سُكانيّة فرعيّة جاهزة للتّجنيد.

ويبدو أنّ مَسيرة شارلوتسفيل أثبتت للجُمهوريين البِيض أنّ العَمل من داخل النّظام لم يعُد مُجديًا، عِندما احتَشَدت مجموعاتُ اليمين المُتطرّف، وساروا معًا هاتفين بِعبارة "لن يتم استبدالنا". ظنّوا أنّهم يتحرّكون بشكل صحيح، وأنهم لًنْ يواجهوا عَواقِب هذه المسيرات لأنّهم في أمريكا "التي تخصّهم"، بَيد أن آمالهم تبددّت ليس فقط لأن شارلوتسفيل لم يكن لها أي تأثير –من جانِب التغيير الجَذريّ في سياسة الهجرة الأمريكية مِثالاً- بل لأنها تسببت باعتقال العديد من المُشاركين، وتقييد منصّاتهم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهذا ما يَحدث للمُتمردين.

إنّ ما يُغذّي فقدان الأمل هو الإحساس بأنّ العمل من داخل النّظام لا يُجدي، ولكنه يَجعل الحِراكَ عسيرًا وصعبًا، وهكذا يبدأ المُتطرفون التحوّل للعمَل العنيف من خَارِج النّظام.

 

الوِلايات المُتحدة والمُتغيران الرّئيسان 

وفي خِضمّ دِراستي مع فريق العَمل للدُول "الأُخرى" في العَاَلم، بدأتُ ألحَظُ أنّ هذين العامِلين يَظهران في الولاياتِ المتحدة بمعدل سريع ومُفاجئ. لقد كانت الولايات المتحدة، وطوال مُعظم تاريخها، تعدُّ ديمقراطية بالكامل، إلّا أنّ إحدى مجموعات البيانات قامَت بِقياس مُستوى الديمقراطية عَام 2016 في الولايات المُتحدة، وأظهَرت النتائجُ انخفاضَهُ فيها.

ثمّ في يناير (كانون الثاني) من هذا العَام (2022)،  ولأوّل مرّة مُنذ أواخر القرن الثامن عشر؛ صُنّفت الولايات المتحدة أنّها أنوقراطية. فنحنُ إذن، في تلك المنطقة الوُسطى حيثُ يزداد خطرُ الاضّطراب السياسيّ والعُنف. عِلاوة على ذلك، أُدرِجت الولايات المتحدة في عام 2022 على أنّها تتسم بالِفئوية، لأنّ نظامنا السياسيّ مُستقطب بِشكل كبير حول الهويّة.

لًقًد حسِبنا أنّ كُل نموذجٍ من الدُول التي دَرَسناها خاصّ بِحالته، فأصبح لدينا خبيرٌ في الشأن الصومالي، وآخَر في حُروب يوغوسلافيا، ومُتخصصٌ ثالثٌ في طاجيكستان، واعتقدنا أن رسم أوجه تشابُه بين الحالات المختلفة أمر متعذّر، ثمّ تطورت الأساليب وأجهزة الكمبيوتر حتى تسنّى لنا جمعُ البيانات وتحليلها، ووجدنا أنماطًا تجري على مُستوى الماكرو/ المستوى الكُليّ.

إنّنا نتّجه نحو التمرّد، وهو شكلٌ من أشكال الحرب الأهلية، وهذه هي نُسخة القرن الحادي والعشرين من الحروب الأهليّة، خاصّةً في الدُول ذات الحُكومات والجُيوش القويّة كالولايات المتحدة. إنّ حركات التمرّد هذه تميلُ إلى اللامركزيّة، تُقاتِل بمجموعات متفرّقة، وقد يجوز لها التنافُسُ أحيانًا مع بعضها البَعض، أو تنسيقُ تحرُّكاتها والتقدُّم بأساليبَ غيرِ تقليديّة. أمّا عن أهدافِ هذه الجماعات، فهُم يستهدفون البُنية التحتيّة والمدنيين، ويستخدمون الإرهاب المحليّ مَصحُوبًا بِحرب العِصابات وغارات الكرّ والفرّ والقنابل. لقد رأينا هذا في دُول أخرى ذات جُيوش قويّة، فقد واجَهَ الجيشُ الجمهوري الإيرلندي الحُكومة البريطانية، وهاجَمت حَماس الحُكومة الإسرائيلية، وقاتلوا لعقود، وهُما الاثنتان -الحُكومة البريطانيّة والإسرائيليّة- تُعدّان من أقوى الجُيوش في العَالم، وأعتقد أننا في حَالة حماس قد نَشهد انتفاضةً ثالثة باتّباعِهم استراتيجية مُماثلة.

هذه هي المُقاومة بلا قائد، وقد بُيّنت الطّريقةُ لِهزيمةِ حكومة قويّة مِثل الولايات المُتحدة في ما يُسميه الناس الكتاب المُقدس لليمين المتطرّف وهو "مُذكّرات تيرنر"The Turner Diaries،[8] وفيها ذاكَ الوصفُ الوهميّ لحرب أهليّة ضد حُكومة الولايات المُتحدة، مُشيرًا إلى أساليبِها، وإحداها يقولُها علانيّة، لا تشتبك مع الجيش الأمريكيّ، وتجنّب ذلك بأيّ ثمن، وانتقل مُباشرة إلى أهدافٍ في جميع أنحاء البِلاد يصعُب الدّفاع عنها، وتوزّعوا فِرقًا، فيصعُبَ على الحُكومة حينئذٍ تحديدُ هويّاتكم والتسللّ والقضاءُ عليكُم.

إنّني لا أستطيعُ أن أُحدّد متى ستحدُثُ الحربُ الأهليّة، ولكنني أعتقدُ أنّ من المُهم أنّ يفهم النّاس أن الدُول التي فيها هذان العاملان، والتي تُوضَعُ في قائمةٍ لمُراقبة اضطّرابها السياسيّ المُحتمل، لديها من النّسبةِ ما هو أدنى بِقليل من 4 في المائة من مَخاطر الحرب الأهليّة سنويًّا، وقد تبدو هذه النّسبة شيئًا لا يُذكر، إلّا أن هذا ليس بِصائِب، إذْ سيستمرّ هذان العاملان بالارتفاع سنويًّا؛ فتزداد بذلك المخاطِر المُحتمَلة.

ولنقِسْ ذلك على التّدخين، فإذا بدأتَ التدخينَ اليوم، فإن خَطر الوفاة بسبب سرطانِ الرئة أو بعض الأمراض المُرتبطة بالتدخين يكون ضئيلًا للغاية، فإذا واصَلتَ الّتدخين لمدة عشرِ أو عِشرين أو أربعين عامًا، فإنّ خَطر الوفاة في نهاية المَطاف بسبب شيء مُتعلّق بالتدخين سيكون مُرتفعًا للغاية في حالِ لم تُغيّر سُلوكك. لذلك أعتقد أنه يمكننا أن نحوز على شيء من التفاؤل، فنحنُ نعلمُ علامات الخطر، وندرِكُ أننا إذا عززّنا ديمقراطيتنا، وإذا قرر الحزبُ الجُمهوريّ ألّا يكون فصيلًا عرقيًّا يستبعدُ غيرَهُ، فإنّ خطر نشوب حربٍ أهليّة سيختفي. إننا نملكُ الوقتَ للقيامِ بذلك، وأوّل الخطواتِ الوعيُ بتلك المُتغيرات التحذيريّة لكي نستشعِر الدافِع لتغييرها.

 

مواقِعُ التّواصل الاجتماعيّ ودورُها

لقد كان القرنُ العشرين قرنَ الديمقراطيّة التي وصَلَت ذروتها عامَ 2006 وانحَدَرت بعد ذلك، حتّى وصل الأمرُ بمعهد أبحاثV-Dem  أن يَصِف عام 2020 بأنه عامُ الحُكم الاستبداديّ، فنحن إذن في فترة تراجع ديمقراطي منذ عام 2006، وليست الديمقراطيات الجديدة الهشّة هي التي تتراجَع، إنّما أكثرُ الديمقراطيات الليبرالية؛ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلجيكا.

لماذا تتراجَع هذه الديمقراطيات الليبرالية القويّة؟

أعتقد أن إحدى المُسببات يتعلّق بكمية المعلومات المُضلِّلة التي تُنشر وتُضخّم على وسائل التواصل الاجتماعيّ، فيضَعُ الأشخاصُ ما يشاؤونَ على وسائل التواصُل الاجتماعيّ في مُعظم الأحيان، وأنا حقيقةً لا أعتقدُ أنه يجب علينا فرضُ رقابة على المُحتوى، ما يقعُ على عاتقنا هو إيقافُ إنشاءِ تلك الخوارزميات التي تأخُذُ الرسائل الأكثر إثارة للكراهية والعُنف وتضعُها أمام أكبر جمعٍ من الجماهير، وتعلمُ شركات التواصل الاجتماعيّ - الفيسبوك هو الأسوأ من بينها - أنّ هذا ما يَحدُث، ولكنّهم لا يُغيرون خوارزمياتِهم الخاصّة، لأن هذا النّمط من الأعمال يُحقق لهُم أكبر قدرٍ مِن المَال.

 

References

 

“Is the US Headed Toward Civil War?”. Political Violence at a Glance, January 2022, https://politicalviolenceataglance.org/2022/01/06/is-the-us-headed-toward-civil-war. /

Columbia SIPA. “Kenneth N. Waltz Lecture in International Relations: Is the U.S. Headed Toward a Second Civil War?”. March 2022, https://www.youtube.com/watch?v=R19Q1JQ_99U&t=805s.

Ottesen, KK. “They are preparing for war: An expert on civil wars discusses where political extremists are taking this country”. The Washington Post, March 8, 2022, https://www.washingtonpost.com/magazine/2022/03/08/they-are-preparing-war-an-expert-civil-wars-discusses-where-political-extremists-are-taking-this-country/.

 


[1]. نظرية في العلاقات الدولية، تفترض أن السلطة\ القوة هي العامل الأكثر أهمية في العلاقات الدولية. وتفسر الواقعية البنيوية أن طبيعة الهيكل الدولي تُحدد من خلال مبدئه الأساس، وهو الفوضى، بالإضافة لمحددات أخرى مثل الدولة، وقوة الدولة وتوازن القوة، وتقسم إلى واقعية جديدة دفاعية وواقعية جديدة هجومية.

[2]. الفريق المختصّ بدراسة تزعزع الاستقرار السياسي (PITF)، وكان معروفًا سابقًا باسم "فريق دراسة إخفاق الدول"، وهو مشروع بحثي ترعاه الحكومة الأمريكية لبناء قاعدة بيانات حول النزاعات السياسية المحلية الرئيسة التي تؤدي إلى إخفاقات الدولة، ويعود تأسيسه إلى عام 1994.

[3] . سيكون الكلام من هنا وحتى نهاية الورقة لـ باربرا والتر. * التحرير.

[4]. إنّ مفهوم الهويّة في الحقيقة يختلف في معناه الفلسفيّ المجرّد عن اصطلاحه في العلوم الاجتماعية والنفسية، وله كثير من التعريفات، ويبدو أن والتر تقصد بالهوية مرجعيات عرقيّة ووطنية ودينية فقط، لتفرّق بذلك بين التمركز حولها، وبين التمركز حول أيديولوجيات مثل الشيوعية والاشتراكية والليبرالية وغيرها، إلا أن هذا ليس دقيقًا، فقد يتداخل المستوى الإبستملوجي المعرفي مع مرجعيات الدين أوالوطنيّة، وتصبح حركيّة فكرية أو أيديولوجية. هذا بالإضافة إلى مفاهيم تكوين الهويات لكل فرد وفق تصنيفه الخاصّ، وما رافق فترة ما بعد الحداثة من انهيار السرديات الكبرى وسؤال الهويات وتقويض المركز والاتجاه لتعدد المراكز التي يصنعها الفرد.

 

[5]. الريادة الإثنية (Ethnic Entrepreneurship): هو مفهوم يربط بين الأصول العرقية والحراك الاجتماعي والا قتصادي، وأنها قد تقيّد أو تعزز السلوك الإقتصادي.

[6]. أبناء الأرض (Sons of the Soil): هو مفهوم يربط الأفراد بمكان ميلادهم ويمنحهم الفوائد والحقوق والأدوار والمسؤوليات التي قد لا تنطبق على الآخرين. يشكل مبدأ أبناء التربة\ الأرض الأساس للرأي القائل بأن الدولة تنتمي على وجه التحديد إلى المجموعة اللغوية الرئيسة التي تقطنها أو أن الدولة تشكل "الوطن" الحصري للمتحدثين بلغتها وهم "أبناء الأرض" أو "السكان المحليون"، وأن كل من يعيش هناك أو يستقر، ولغته الأم ليست اللغة الرئيسة للدولة، يُعدّ من"الغرباء" ولا يُنظر إليه على أنه من "أبناء الأرض". وفي المقال، استخدمت والتر المُصطلح لتستدلّ على أن الحروب الأهلية يبدؤها أبناء الأرض.

[7]. مغالطة في النظر إلى الصراع، وفيه تُساوي والتر بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتُطلق عليهم مُصطلح أبناء الأرض، إلّا أن العلاقة هي علاقة بين مُستعمِرِ ومُستَعمر، وليست مسألة مهاجرين وسكانَ محليَين. وتستخدم دراسات الاستعمار مصطلح الأصلانيين\ الشعوب الأصلانيّة (Indigenous peoples)في وصف الفلسطينيين وليس أبناء الأرض (Sons of the Soil).

[8]. يوميات تيرنر هي رواية صدرت عام 1978 لويليام لوثر بيرس، ونُشرت تحت أندرو ماكدونالد اسمًا مُستعارًا. تٌصوّر الرواية ثورة عنيفة في الولايات المتحدة تؤدي إلى الإطاحة بالحكومة الفيدرالية، وحربٍ نووية، وفي النهاية حرب عرقيّة تؤدي إلى الإبادة المنهجية لغير البيض. وقد وصَفت صحيفة نيويورك تايمز مذكرات تيرنر بأنها عُنصرية ومُعادية للساميّة بشكل واضح، وقد وصفها مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنها "الكتاب المُقدّس لحقوق العُنصريين".