الذكاء الاصطناعي يقتلنا: استهداف الصوت والصورة والجسد

الذكاء الاصطناعي يقتلنا: استهداف الصوت والصورة والجسد
تحميل المادة

استؤنفت الإبادة من جديد، هذه المرة بدعمٍ أمريكي كامل، وبصمتٍ عربي متواطئ، وبالكثير من تجاهل العالم الرديء، ومنذ اللحظة الأولى لعودة الإبادة، بدا كمّ الحصاد المعلوماتي الذي جمعته أنظمة الذكاء الاصطناعي خلال فترة الهدنة، وانخراطها الفج مرةً واحدة على مستويات مرتفعة من الاستهداف الذي لم يسلم منه أحد.

وعلى امتداد كل منعطفٍ من منعطفات الإبادة الذي لا يوجد في آخره إلا الموت، كان نوعًا جديدًا من أنواع الذكاء الاصطناعي يتربص بالفلسطينيين؛ يحاصرهم ويقصفهم ويفتتهم، يتتبعهم ويتجسس على فزعهم، ويحفظ بصمات وجوههم وأصواتهم، ويُحدد وجهة هجرتهم الجديدة.

وبدأ الفلسطينيون يختبرون ويستكشفون حدود العيش في عالمٍ يحكمه الذكاء المخصص فقط لإبادتهم، بالتزامن مع تقارير صحفية تكشف وحدات متخصصة وأنظمة متطورة وأدوات وبرامج وشراكات عابرة للقارات، تستثمر في الإبادة لمواكبة مخزون الذكاء وتطويره وتجربته وتنقيحه وتسويقه والمراهنة عليه.

في السطور الآتية، نرمي فتيل الشعلة على زاوية يُفضل روادها ومطوروها إبقاءها في العتمة، بما يمنحهم مزيدًا من حرية الهيمنة، ويقفز بهم عن أسوار المحاسبة والملاحقة والمقاطعة أو التحوط المسبق، فنحاول الإضاءة على ما تسرب من أنظمة الذكاء الاصطناعي الدموي، الفاعلة والمفعلة في حرب الإبادة، لخدمة سيطرة وتفوق المحتل، وتعزيز غرز أنيابه في الوعي والروح والجسد والفلسطينية.

افتتاح حقل التجارب

منذ بداية قيام الاحتلال على أرض فلسطين استطاعت أنظمته العسكرية والاستخبارية فرض تفوقٍ تكنولوجي على محيطها العربي والشرق أوسطي، ويعود ذلك لقطفها ثمرات ناضجة من تفوقٍ غربي (بريطاني، فرنسي، أمريكي)، ولاتباعها سياسة إضفاء الصبغة "الإسرائيلية" على المنتج،  وتسويقه لاحقًا بصفته منتجًا إسرائيليًا خاصًا، وهي السياسة التي شملت المعدات والآليات المدنية والعسكرية، وأنظمة الاتصال والتجسس، وغيرها.

وطوال سنوات، أظهر الفعل العسكري "الإسرائيلي" تفوقًا تكنولوجيًا متلاحقًا، وقدرة امتصاصية لخبرات الميدان، وتراكمًا هائلًا للتجارب الغربية والمحلية تصب في صالح تأمين سيطرة مطلقة له، تعبث في الوعي الفلسطيني موحيةً بقوة لا تُقهر، وبنزالٍ محسوبٍ سلفًا لصالحه، وبانتقامٍ ساحق لا يمكن تفاديه.

ونتيجة لذلك، كانت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أداة جديدة تُحقق للمحتل مبتغاه من هذا العبث، فانطلق في تطويرها، وأطلق أول تجربة ميدانية حربية لها عام 2021 خلال سيف القدس، واصفًا إياها بـ "أول حرب ذكاء اصطناعي في العالم"، فاستخدم فيها تقنية جمع البيانات المتزامن وتحليلها (طائرات مسيرة، هواتف، شبكات اتصال، مراقبة ميدانية)، ودُمجت مع الخوارزميات لتحديد أنماط سلوك الجماهير (مقاومين أو مدنيين)، وأماكن وجودهم.

إذ أثبتت الشراكة العسكرية مع شركات التكنولوجيا الخاصة مثل NSO Group، وElbit Systems، فعالية دمج الذكاء الاصطناعي في المعدات العسكرية، من طائرات عسكرية ومسيرة وأجهزة رصد وأسلحة هجومية وقذائف موجهة وتمكنت الآلة الحربية الإسرائيلية من تحقيق أربعة أهداف في حربها التكنولوجية الأولى، وهي: تسريع قرارات الاستهداف، وتقليل الاعتماد على العنصر البشري، وتوفير صورة استخباراتية شاملة وفورية ومحدثة، والتفوق التام في الحرب السيبرانية.

ثم مع اندلاع معركة طوفان الأقصى وما صاحبها من كثافة عسكرية غير مسبوقة، أُطلقت برامج الذكاء الاصطناعي على مداها في مواجهة الفلسطينيين لتحقيق أكبر قدر من الخسائر، ورُبطت في مختلف أدوات الفعل العسكري البحرية والبرية والجوية، وبعددٍ آخر من أدوات الرصد والاستخبارات، وأضحى وجودها ضروريًا في كل وحدة من وحدات الجيش والشاباك، وحظيت بميزة تكاملية تربط البيانات بسحابة معلوماتية واحدة.

وقد ظهرت أول التقارير الصحفية، المؤكدة لهذا الانخراط التكنولوجي بعد ثلاثة أشهر من بداية الحرب، في كان الأول/ ديسمبر 2023، حين كشفت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية أن الجيش الإسرائيلي استخدم خوارزميات مثل " Habsora" و" Fire Factory" لتحليل البيانات الاستخباراتية وتحديد الأهداف بسرعة، ما أدى إلى زيادة وتيرة القصف على قطاع غزة.

تلاه كشف صحيفة "واشنطن بوست" في كانون الثاني/ يناير 2025،  بأن شركة غوغل زوّدت الجيش الإسرائيلي بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي منذ الأسابيع الأولى للعدوان على غزة، ما أثار مخاوف بشأن استخدام هذه التقنيات في العمليات العسكرية.​

وفي آذار/ مارس 2025، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن القوات "الإسرائيلية" استخدمت برنامجًا للتعرف على الوجه لجمع صور الفلسطينيين وفهرستها، بهدف تحديد الأفراد بسرعة.

الذكاء الذي يقتلنا

وفقًا إلى جملة التقارير الصحفية والدراسات المرتبطة باستخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنظومات الذكاء الاصطناعي، فقد انغمست كل وحدة بمجموعة متخصصة من نُظم الذكاء الاصطناعي تتوافق مع طبيعة عملها الميداني، ويمكننا حصر ما كُشف، وتبويبه وفقًا للوحدة المستخدمة له، في الآتي:

 ففي وحدة 8200 (الاستخبارات السيبرانية)، يفعل كلٍ من نظام Lavender  لافندر، الذي يعمل على تصنيفٍ آلي للأهداف البشرية، ويُستخدم في تحديد "المشتبه بهم" وقتلهم دون مراجعة بشرية حقيقية، بما يمكن اعتباره أداة قتلٍ جماعي آلية بإشرافٍ بشري طفيف.

وخلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، صنف النظام أكثر من 30 ألف فلسطيني باعتبارهم أهدافًا محتملة ومستقبلية، ونظرًا إلى غياب التدقيق البشري فيه، فقد أدى إلى استشهاد أعداد كبيرة من الفلسطينيين، ممن يصفهم المجتمع الدولي بـ "المدنيين"، ويصفهم النظام بـ "الأهداف المحتملة"

يضاف له نظام Cyber Persona Mapping الذي يبني ملفات رقمية جاهزة انطلاقًا من طبيعة النشاط الرقمي والاتصالات المتشابكة مع "الهدف"، وعليه يستطيع النظام تجديد علاقات وانتماءات غير مباشرة، واستهداف الدوائر المحيطة بـ "الهدف"، ولذا توجه له اتهامات الانتهاك الشامل للخصوصية.

تستخدم الوحدة أيضًا نظام AI-enabled SIGINT Analysis الذي يتيح لها تحليل إشارات الاتصال وأنماطها الصوتية والرقمية، وهو بذلك مستوى متقدم من النظام السابق، لكنه يُتبع التتبع بالاستهداف، ونتيجة لذلك اعتبرت منظمات حقوقية أن استخدامه خطير نظرًا إلى تكرار "التصنيف الخاطئ". أما النظام الأخير، الذي يعتبر الأكثر شمولية فهو Face Recognition Drones، ومن خلاله تتوافر لوحدة الاستخبارات آلية مسح سريعة للوجوه، وتعرفًا آليًا عليها، وتطويرًا لقاعدة بيانات الاحتلال عن الفلسطينيين.

وحدة القيادة الجوية التي ينشغل فيها قسم الذكاء الجوي، وهي مسؤولة أيضًا عن استخدام منظومة أخرى للذكاء الاصطناعي، وتستهدف الوجود الفلسطيني، من أبرز أنظمتها " Gospel" أو ما يُعرف بالإنجيل، ويمتلك النظام حُرية تخطيط الضربات الجوية، ويدعم الآلية البشرية لاتخاذ القرار قبل القصف، كما يقدم تحليلات إحصائية مسبقة ولاحقة عن الضرر البشري، ورغم الانتقادات الحقوقية للاستخدام الموسع له وتجريده "الفعل العسكري الإسرائيلي" من بعده الأخلاقي! بتحويله المدنيين إلى مجرد أضرار جانبية، إلا أن الدعاية "الإسرائيلية" تراه نظامًا أخلاقيًا جدًا، نظرًا لما يطرحه من تقدير مسبق لـ "الأضرار الجانبية" للاستهداف.

هناك أيضًا نظام Fire Factory الذي يدعم آلية قتل جماعي سريع -أشبه برشاش أوتوماتيكي جوي-، ويتيح للمنظومة الجوية استهداف مئات الأهداف خلال دقائق، وإعادة جدولة أوتوماتيكية للغارات والضربات الجوية، وتنسيق تزامني كثيف للهجمات، يجعل منه رائد "الإبادة الجوية الإسرائيلية"، لا سيما وأنه يقرن دائمًا الهدف باقتراح نوع ذخيرة مناسب لاستهدافه (نوع الصاروخ، ووزنه)، كما يختار الوقت الأمثل للهجوم وفقًا للنظام الاجتماعي للهدف (حركة الناس وأنشطتهم).

ويعمل نظام مصنع النار، مع نظامٍ آخر، هو AI Target Generator الذي يقوم على تحديث خوارزميات تولد أهدافًا مستجدة، بناء على قاعدة بيانات الأفراد والخرائط، وهو يرتبط مباشرة بطائرات القصف الجوي، والمسيرات من مختلف الأنواع والأحجام، ويتجاوز في كثيرٍ من المحطات الحاجة إلى إذن بشري قبل الاستخدام ليبدو "مستقلًا في إبادته".

وتحت وحدة القيادة الجوية، تنضوي وحدات الطائرات بدون طيارـ التي تستخدم نظامين بشكلٍ أساسي، إضافة إلى الميزة السحابية والتزامنية مع الأنظمة العامة السابقة، أما النظامين الخاصين بها، فهما: أولًا SkyStriker / Harop، وهي ما يعرف بـطائرات انتحارية "ذكية" تستهدف إشارات أو أهداف محددة، وبهذا النظام تؤسس آلية تفخيخ وقنص، على نمط "مصائد"، فتُطلق الطائرات "الذكية" مجموعة مؤثرات صوتية وحركية (صوت طفل صغير يبكي، صوت دبابات ومجنزرات، صوت أفراد يتقاتلون ونساء تصرخ، غبار وروائح حريق) متناغمة مع القيم الخاصة بالأهداف تدفعها سريعًا للوقوع في قلب المصيدة، ويحقق ما يراه الاحتلال "استهدافًا ذكيًا".

النظام الآخر هو Face Recognition Drones وهو خاص بالاغتيالات المباشرة، ويتيح التسلل داخل الأبنية والمناطق، والاستهداف بناء على البيانات المخزنة عن ملامح الشخص، ويوصف باعتباره "دقيق في الاغتيال"، وغالبًا ما يعمل دون تدخل بشري.

أما بالنسبة لـ وحدات المراقبة الاستخباراتية، فتستخدم جملة واسعة من الأنظمة الشريكة فيها مع شركات التكنولوجيا الكُبرى مثل آبل ومايكروسوفت، بدءًا من نظام Where is Daddy? الذي يتعقب الهدف حتى يدخل إلى منزله، ويعمد لضربه عند وجوده مع العائلة، ومن ثم نظام Where’s the Family? الذي يستهدف عائلات بأكملها، وفقًا لمنظومة اتصالها مع الأهداف الرئيسية، "عائلات قريبة لمقاوم"، "أفراد أو أصدقاء موجودين ضمن قوائم الاتصال الخاصة بالهدف"، ويعتمد النظام هُنا على استهداف المنازل عندما تكون بسعتها القصوى، لتحقيق كثافة أكبر للاستهداف.

هناك أيضًا نظام Habsora الذي يدمج معلومات من مصادر استخبارية متعددة، ويقدم رؤية شاملة للميدان، ويحمل اسمه "البشارة" بالنسبة لمطوريه أهمية الوصول إلى أهداف كبرى، والقضاء عليها، من خلال التزامن مع الأنظمة المختلفة.

وأخيرًا، في ما يتعلق بوحدة التدريب القتالي أو أنظمة التدريب العسكري، فيُستخدم نظام المحاكاة القتالية، ومع أن هناك تصريح باستخدام هذا النظام، فلم يرد في التقارير الصحفية أي إشارة صريحة لاسمه الخاص بالدوائر "الإسرائيلية"، لكن يمكن وصفه من ناحية تقنية بأنه Cognitive Operational Simulation Platform، إذ يتيح للجنود التدرب على سيناريوهات حرب واقعية باستخدام بيانات من غزة ولبنان.

كما تستخدم وحدة التدريب نظامًا آخر، بالتعاون مع شركة INTEL، تحلل بيانات استخباراتية متعددة المصادر (أجنبية)، وتوليد توصيات عملياتية، وفقًا لمعطيات الميدان، ويُعرف النظام بـ DeepIntel، ولا يتوفر الكثير من المعلومات عنه، لا سيما مع ارتباطاته الخارجية التي تجعل منه هدفًا آخر للمقاطعة.

ومن المهم، الإشارة مجددًا، إلى أن الاستخدام المتنوع لأنظمة الذكاء الاصطناعي بين وحدات جيش الاحتلال لا يعني الفصل أو التناقض بينها، على العكس من ذلك، فآلية عملها وتطويرها تقوم على تعاونٍ كامل في الاستهداف، يُطلق عليه Systematic Targeting، ما يتيح لها وضع قوائم قتل بمئات الأهداف خلال ساعات، وتنظيم منهجية قتل جماعي بناء على خوارزميات.

ونظرًا لأهمية تحديث قائمة الأهداف، في المستويات العسكرية "الإسرائيلية" فقد أُنشئت عام 2019، مديرية محددة لهذا الخصوص، هي "مديرية الأهداف" تحت شعبة الاستخبارات العسكرية "الإسرائيلية"، وتُعنى بتحديد وتجديد الأهداف باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتتعاون مع وحدات الذكاء الأخرى والأنظمة الأكثر تقدمًا فيها مثل Habsora" و"Lavender".​ لتجديد أهدافها، كما تستخدم نظامًا خاصًا بها يُعرف بـ Havronim، ويتيح لها التنبؤ بتحركات الأهداف بناء على بيانات سابقة، وتوفير قائمة أهداف لتنفيذ ضربات استباقية بناء على تحليلات تنبؤية.

رصد..تتبع..قتل

مع كثرة الأنظمة التي يستخدمها الاحتلال وصعوبة تحديد النمط الدقيقي لها أو تسميتها الأساسية، نتيجة ضآلة المعلومات المسربة حولها وارتباطاتها الدولية التي قد تتصل بمحاسبة حقوقية وأممية، إلا أن الأنظمة السابقة الذكر ليست إلا قمة جبل جليدي لأنظمة أخرى مثبتة في عمق الأراضي الفلسطينية، ومغروسة في وسائل اتصال المواطنين الفلسطينيين وما حولهم.

فهناك أنظمة تجسس مثل Pegasus، وأنظمة تتبع مثل The Red Wolf / The Blue Wolf، وأنظمة رصد مثل Sentry-Tech، وأنظمة ملاحقة مثل  Rolling Stone، وهناك شراكات مع كل من غوغل ومايكروسوفت وأمازون وإنتل داعمة لهذه الأنظمة، مثل منصة  Azure من مايكروسوفت التي تدعم آلية تحديد الأهداف.

ومشروع  نيمبوس (Project Nimbus) مع غوغل وأمازون، لتزويد الحكومة والجيش "الإسرائيليين" بخدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، وخدمة تحليل البيانات من Palantir Technologies، وتقنيات الحوسبة السحابية من Red Hat التابعة لشركة IBM، والشراكة مع  Xtend في تطوير الطائرات بدون طيار التي تستهدف البالونات الحارقة بمراوحها الرباعية.

جميعها تتفاعل سعيًا لهدف واحد وهو إقصاء الفلسطيني جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، بعضها يستهدف جسده ووجوده، أخرى تستهدف صوته وسرديته، وتلاحق أخرى تفاصيل يومه وحياته، وجميعها يُطلق عليها "ذكاء اصطناعي"، لكنها في واقع الأمر الذي يدركه الفلسطيني ليست إلا غباءً متكررًا لاستعمارٍ قديم متجدد، ولمنظومة تحالفات شبكية له، تحاول إصباغ أناقة واحترافية في استهداف الفلسطيني وضربه، والاستثمار في إبادته لتطوير أصولها وأنظمتها، بينما يدرك الفلسطيني أن الحسم في المعركة لا يرتبط بذكاء اصطناعي، أو تفوقٍ تكنولوجي وقتالي، وإن الموت مرير ومفجع بقنابل غبية أو بأنظمة ذكية، وأن الصمود قاسٍ بمواجهة دبابة أو منظومة أو قُطاع طرق، وأن عامل الحسم الوحيد الذي يقلب المعادلة، هو إصراره على التجذر والمواجهة، بالأمس واليوم وغدًا ودون هوادة.