الرياضة الفلسطينية: فعل تحرري وهوية تتحدى الاحتلال

على سبيل التقديم
تعتبر الرياضة ظاهرة اجتماعية وثقافية تتجاوز حدود الترفيه والمنافسة البدنية، لتصبح أداة فعالة للتعبير عن الهوية وتجسيد الصمود ومقاومة الاحتلال وكافة أشكال القهر والاضطهاد وآلة الحرب والقتل والدمار الإسرائيلية. وشكلت الرياضة ثقافة خاصة للفلسطينيين فقد نشأت في ظل صراع مرير مع الصهيونية، وتعرضت وما زالت تتعرض لهيمنة الاحتلال وعراقيله حتى يومنا هذا، وعلى مدى 125 عامًا، أدت الرياضة دورًا بارزًا في صقل شخصية الإنسان الفلسطيني، وساهمت في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية.
وتميزت الحركة الرياضية الفلسطينية بأنها أُقيمت على أسس وطنية واجتماعية وتنظيمية، وكان لها دور مهم في دعم الحركة الوطنية، وساهمت في بناء صروح للثقافة الفلسطينية التي كان النشاط الرياضي جزءًا مهمًا منها، من خلال الفعاليات والأنشطة التي كانت تقيمها الأندية الرياضية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. كما وطدت هذه الحركة الروابط بين الشعب الواحد في المدن والقرى المختلفة، فعمقت من الترابط القومي والثقافي بينها، ومدت جسور التعاون مع الفرق الرياضية في الأقطار العربية، فقد كانت الحركة الرياضية موازيةً ومتداخلةً مع الحركة الوطنية، فهي لم تكن بمعزل عن الأوضاع السياسية، وعن التعاون الوثيق بين الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية في فلسطين.
وبرغم العوامل الموضوعية والذاتية في تلك الفترة والمسار المتموج لهذه الحركة الرياضية، إلا أنها عرفت تطورًا تصاعديًا في أربعينيات القرن الماضي، لاسيما بعد إعادة تشكيل الاتحاد الرياضي الفلسطيني، إذ تميزت هذه الفترة بتنظيم قاعدة النشاط الرياضي وتوسيعها.[1]
مقاومة مدنية
شكلت الرياضة الفلسطينية خلال ما يقرب من ثمانية عقود أداةً فعّالة للمقاومة المدنية والثقافية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فلم تقتصر أهميتها على تعزيز اللياقة البدنية أو تحقيق الإنجازات الرياضية، متجاوزة ذلك لتغدو وسيلةً لترسيخ الهوية الوطنية وبناء الوعي الجمعي وتعبئة الفلسطينيين حول قضاياهم العادلة، ومنبرًا لإيصال صوتهم ومعاناتهم إلى العالم. فأدت المؤسسات والأندية الرياضية دورًا مركزيًا في مواجهة منظومة الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية، وأسهمت في دعم الحركة الوطنية وتثبيت رموزها، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من البنية التحتية للمقاومة الشعبية والاجتماعية الفلسطينية.
ورغم الأثر العميق والمباشر لممارسات الاحتلال الإسرائيلي على القطاع الرياضي الذي واجه ولازال تحديات جمة تمثلت في استهداف بنيته التحتية، وتقييد حركة الرياضيين، ومحاولات طمس هويته الوطنية، واصل الرياضيون الفلسطينيون ومنظوماتهم الرياضية مسيرة الصمود، مستمرين في تأدية دور محوري في تعزيز الوحدة الوطنية، والحفاظ على الروح المعنوية، وتحدي سياسات الاحتلال، ورفع العلم الفلسطيني في المحافل الإقليمية والعالمية.
غير أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوان عن استهداف هذا القطاع الحيوي، إذ شهدت السنوات الأخيرة، ولا سيما خلال الحرب الإبادة الجماعية المستمرة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصعيدًا غير مسبوق في الهجمات الممنهجة ضد الرياضيين والمنشآت الرياضية.
فقد وثقت التقارير استشهاد المئات من الرياضيين، وتدمير مئات المنشآت والأندية الرياضية، وتحويل بعضها إلى مراكز إيواء للنازحين، أو مراكز اعتقال أو إعدام للمدنيين، ما أدى إلى شلل شبه كامل في الأنشطة الرياضية وحرمان آلاف الرياضيين من مصدر دخلهم وفرصهم في الحياة الكريمة.
هذا الاستهداف الممنهج للرياضة الفلسطينية لا يمثل فقط جريمة بحق الأفراد والمنشآت، بل هو محاولة لطمس أحد أهم روافع الصمود الوطني وأدوات التعبئة المجتمعية، ويكشف عن إدراك الاحتلال لدور الرياضة في تعزيز الروح المعنوية للفلسطينيين واستمرار مقاومتهم. في ضوء ذلك، تبرز الحاجة الملحة لتوثيق هذه الانتهاكات، وتسليط الضوء على دور الرياضة الفلسطينية باعتبارها جبهة مقاومة حضارية، تستحق الدعم والحماية من المجتمع الدولي والمؤسسات الرياضية العالمية.
نبذة تاريخية
تعود جذور الحركة الرياضية في فلسطين عامة وغزة خاصة إلى نهاية القرن التاسع عشر، ويتحدث الدكتور عزت طنوس في كتابه "الفلسطينيين ماض مجيد ومستقبل باهر" عن الحركة الرياضية في فلسطين قبل الاستعمار البريطاني، ويذكر أن أول مباراة بكرة القدم بين بلد وآخر في الشرق الأوسط جرت في عام 1912 عندما جاء فريق الكلية الإنجيلية السورية في بيروت (عرفت فيما بعد بالجامعة الأمريكية)، إلى القدس، ليلعب مع مختلف فرق كرة القدم في المدينة المقدسة، وهي: السي أم إس، والشبان المسيحية، ومدرسة سان جورج، ومنتخب القدس، إذ تمكن الفريق الضيف من الفوز في 3 مباريات، وتعادل في الرابعة مع فريق سان جورج 3-3، وفي عام 1913 سافر فريق القدس إلى بيروت لمواجهة فريق الكلية، فلعب 4 مباريات: فاز في واحدة، وتعادل في اثنتين، وخسر واحدة بنتيجة 6-0، وفي 1914 عاد فريق الكلية لفلسطين لمواجهة فريق القدس فهزم شر هزيمة.[2]
وفي أيار/ مايو 1925، نشرت صحيفة "فلسطين" خبرًا عن مبارتين بين النادي الأرثوذكسي في يافا والنادي الرياض في غزة (أحد أوائل الأندية التي تأسست في فلسطين)، مشيدةً بالروح الوطنية التي ظهرت خلالها.
"إن ما حدث في غزة مؤخرًا كان من أبرز مظاهر هذه النهضة الرياضية، فقد كانت روحهم الوطنية وتقاربهم واضحَين في أثناء المباراة وبعدها."[3]
أُسس نادي غزة الرياضي عام 1934، ثم انتشرت الأندية في غزة وخان يونس خلال الأربعينيات. وفي الخمسينيات، أسست وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مراكز خدمات في مخيمات القطاع: في جباليا، ورفح، وخان يونس، والشاطئ، والنصيرات، والبريج، والمغازي، تحولت لاحقًا إلى أندية رياضية ساهمت في تطوير الرياضة المحلية والعربية، وبلغ عدد الأندية في غزة قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023 نحو 58 ناديًا.[4]
بعد النكبة عام 1948 انتقل مركز الثقل الرياضي الفلسطيني من يافا إلى غزة، إذ شهدت الرياضة تطورًا ملحوظًا مع الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية - كانت غزة تخضع للإدارة المصرية - وفي 1962 أُعيد تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني (لجنة كرة القدم في قطاع غزة) وسعى ناشطون رياضيون مثل إلياس منة وزكي خيال وصبحي فرح وغيرهم لإنشاء اتحادات رياضية متعددة.[5]
وشكلت اللجنة الأولمبية الفلسطينية التي أرسلت طلبًا للانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية، مرفقة فيه كل متطلبات القبول التي تشترطها اللجنة الدولية، من المعروف أنه من أجل الانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية، فإنه يتوجب على الجهة المقدمة للطلب أن يكون لديها على الأقل خمسة اتحادات رياضية منضمة إلى الاتحادات الدولية. ومن المعروف أنه من أجل الانضمام إلى اللجنة الأولمبية الدولية فإنه يتوجب على الجهة المقدمة للطلب أن يكون لديها خمسة اتحادات رياضية على الأقل منضمة إلى الاتحادات الدولية التي تتبع لها، ومع الأسف، فإن معظم الاتحادات رفضت طلب انضمام الاتحادات الفلسطينية باستثناء كرة الطاولة وكرة السلة إذ اعتُرف بهما سنة 1964، وألعاب القوى سنة 1965. وكانت حجة رفض قبول طلبات الاتحادات الفلسطينية وطلب اللجنة الأولمبية هو أنه لا توجد دولة اسمها فلسطين (بعد استشارة الأمم المتحدة)، وأن الوضع القانوني لقطاع غزة هو أنه يخضع للإدارة المصرية، وليس دولة مستقلة.[6]
شاركت فلسطين في دورة الألعاب العربية الأولى في الإسكندرية 1953 والثالثة في المغرب 1961، وكانت أول مشاركة لفلسطين في محفل دولي سنة 1966 في بنوم بنه في دورة الصداقة، أو كما كانت تسمى بألعاب القوات الجديدة الناشئة (جانيفو GANEFO) وكان يجمع الرياضيين الفلسطينيين من الداخل (قطاع غزة) ومن الشتات (مصر، وسورية، ولبنان).[7]
في أواخر السبعينيات، نشأت رابطة أندية القطاع وتعاونت مع نظيرتها في الضفة، وبعد اتفاقات أوسلو، تركزت الرياضة الفلسطينية في غزة تحت مظلة مؤسسات شبه دولة. ورغم استمرار نموها، واجهت عوائق كاعتقال الرياضيين وتقييد حركتهم، ثم تفاقمت التحديات بالحصار الإسرائيلي للقطاع منذ 2007، والانقسام الداخلي ما أثر سلبًا على تطور الحركة الرياضية.[8] وكنا قد تحدثنا في مواد سابقة عن تاريخ الرياضة الفلسطينية.[9]
"النجادة" .. الرياضة والقتال
وفي ربيع العام 1944 أسست إدارة نادي الرياضي الإسلامي في يافا منظمة النجادة كأول منظمة شبه عسكرية على غرار منظمة النجادة اللبنانية، لمواجهة المنظمات الصهيونية التي كانت في فلسطين في الأربعينيات من القرن الماضي مثل منظمة الهاغانا وغيرها، وكان أعضاء النادي متحمسين للفكرة أيضًا، لذا اتخذ الاتحاد الرياضي العربي الفلسطيني قرارًا بتأييد النجادة، وأصبح مكتوبًا على بطاقة هوية لاعبي الاتحاد أنه يمكن اعتبارهم أعضاءً في الفرق الرياضية وشبه العسكرية "النجادة"، وبما أن الاتحاد يضم في عضويته غالبية الأندية التي تعج بالشباب الفلسطيني، فقد كان من السهل انتشار فكرة النجادة بين شباب تلك الأندية، الأمر الذي أدى إلى انتشار النجادة في معظم مدن وقرى فلسطين.[10]
وأقيم أول استعراض محلي للنجادة في أول أيام عيد الفطر عام 1944 بيافا، إذ استعرض نجادة النادي الرياضي الإسلامي في شوارع المدينة استمر ساعتين، وكانوا يرتدون زي النجادة شبه العسكري، وقد قوبلهم الجمهور بالترحاب ولفتوا الأنظار إليهم، وبعدها زاد الإقبال على الانتساب للنجادة من داخل النادي وخارجه. [11]
لاحقًا أسس النادي الرياضي الإسلامي في حيفا فرقة مماثلة، ثم تبعها تأسيس فرق للنجادة في العديد من المدن الفلسطينية مثل: غزة وصفد والحولة والرملة ونابلس وقلقيلية وبيت حنينا، وأصبح المقر الرئيس للنجادة في ما بعد في مدينة يافا، وبعد أن ازداد عدد أعضاء فرقة النجادة في النادي رأى قادتها أنه حان الوقت للانفصال عن النادي الرياضي الإسلامي وأعلن عن تأسيسها رسميًا في أيار/ مايو 1945، وأراد حزب المفتي الحزب العربي الفلسطيني أن يكون هذا التنظيم تابعًا له ولكن قيادته رفضت ذلك، حتى أسس جمال الحسيني منظمة الفتوة في تشرين الأول/ أكتوبر 1946 لنكون منافسة للنجادة، ليكون ذلك السبب الرئيس لاضمحلال ثم زوال منظمة النجادة التي انمجت شكليًا مع منظمة الفتوة تحت اسم منظمة الشباب. [12]وكنا قد تحدثنا عن النجادة بشيء من التفصيل في مادة سابقة. [13]
الرياضة وسيلة للمقاومة السلمية والتعبير عن الهوية
اتسمت الرياضة الفلسطينية بالوطنية منذ بداية تأسيس الأندية التي كانت تعكس الوعي الاجتماعي في التصدي للاحتلال البريطاني والمد الصهيوني، وقد ساهمت الأندية الرياضية في دعم الحركة الوطنية والثقافية منذ بداية العشرينيات فكانت مراكز لتجمع الشباب والمثقفين.
ويعود ذلك إلى الدور الوطني الذي اتخذه قادة وأعضاء تلك الأندية، وفهمهم للظروف التي كانت تمر بها فلسطين، وانخراطهم في العمل الوطني، فكان أعضاء الأندية الرياضية وفرقها الكشفية يقومون بواجبهم الوطني من خلال مساهمتهم في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، ومساعدتهم في نقل الجرحى والشهداء إلى عيادات الأطباء والمستشفيات، أو في حراسة الشواطئ لمنع تهريب اليهود. [14]
ولأن الرياضة الفلسطينية مرتبطة بالواقع المعاش وتحمل هموم شعبها لم تقتصر وظيفتها على الجانب التنافسي أو الترفيهي، فتجاوزته لتصبح أداة فعالة في المقاومة السلمية والتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
يشير الأستاذ إبراهيم ربايعة في دراسة له حملت عنوان: الرياضة والسياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة: الوعي السياسي والمأسسة والتكيف المقاوم (1967-1995) إلى أن المؤسسة الرياضية الفلسطينية مارست ما أسماه "التكييف الرياضي المقاوم"، إذ عملت على تثبيت الهوية الوطنية وبناء الوعي السياسي لدى الشباب الفلسطيني، ما جعلها جزءًا مؤثرًا من مؤسسات الفعل الوطني، وساهمت في تكوين البنية التحتية للانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.[15]
فالرياضة حضرت دائمًا بوصفها إحدى أذرع المقاومة الشعبية، نظرًا إلى قدرتها على بث الروح الوطنية وتحريك مشاعر الناس تجاه قضيتهم، وإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية كما كانت أيضًا أداة للتصدي لممارسات الاحتلال وفضحها، فالمشاركات الفلسطينية في الدورات الرياضية العربية، التي بدأت منذ عام 1953، والجهود الحثيثة التي بذلها الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم منذ ستينيات القرن الماضي من أجل الانضمام للاتحاد الدولي لكرة القدم، مثلت شكلًا من أشكال النضال وإثبات الهوية الوطنية الفلسطينية على الساحة الدولية.
ومن هنا تكتسب مقولة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن نادي الوحدات الأردني (الذي تأسس في مخيم للاجئين الفلسطينيين) دلالة عميقة، إذ قال: "عندما لم يكن لنا صوت كان الوحدات صوتنا"[16]، ما يبرز كيف يمكن للمؤسسات الرياضية أن تكون صوتًا للشعوب التي تسعى للحرية والاعتراف.
وبالتالي، فإن الفعاليات الرياضية، سواء كانت محلية أو مشاركات خارجية، مثل مشاركة منتخب فلسطين لكرة القدم في البطولات العربية، والقارية، خاصة كأس آسيا 2023 في قطر، بالإضافة لمشاركة فلسطين في دورات الألعاب الأولمبية سيما دورة باريس 2024 في خضم حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، والتي تحولت إلى منصات لرفع العلم الفلسطيني عاليًا في المحافل الدولية، ورفع الوعي بالقضية الفلسطينية، ولعب الرياضيون دور السفراء لقضيتهم، وساهمت الرياضة في تعزيز الوحدة الوطنية والتضامن بين الفلسطينيين في الداخل والشتات.
التحديات التي تواجه الرياضة والرياضيين الفلسطينيين
يواجه قطاع الرياضة والرياضيون تحديات جسيمة ومستمرة نتيجة لسياسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي القمعية والتعسفية التي تهدف إلى عرقلة تطور الرياضة الفلسطينية وتقويض دورها، ومن أبرز هذه التحديات: الاستهداف المباشر للبنية التحتية الرياضية، وللرياضيين أنفسهم، من خلال: فرض قيود مشددة على حرية الحركة والتنقل للرياضيين والفرق الفلسطينية، ما يحرمهم من المشاركة في التدريبات والمنافسات المحلية والدولية، ويعيق تطور مستواهم.
كما يواجه الرياضيون صعوبات كبيرة في الحصول على التمويل اللازم من أجل شراء المعدات الرياضية الحديثة، والتي إذا ما تمكنوا من شرائها أو الحصول عليها في هيئة مساعدات من الدول العربية أو الاتحادات الدولية كانت سلطات الاحتلال تقيد مرورها من المعابر الحدودية، وعلى المؤسسات الرياضية أن تدفع مبالغ باهظة إن أرادت لهذه المعدّات المرور بسلام.[17]
بالإضافة إلى صعوبة إقامة المعسكرات التدريبية الخارجية والاحتكاك مع منافسين أقوياء من أجل اكتساب الخبرة والاستعداد للمشاركة في البطولات العربية والدولية، بسبب قيود التنقل والحركة المفروضة من الاحتلال، فضلًا عن محاولات الاحتلال المستمرة لتسيس الرياضة، ومنع فلسطين من المشاركة في المحافل الدولية، وتدمير الاحتلال للمنشآت والملاعب الرياضية المختلفة. ولا تنتهي هذه التضييقات بخروج اللاعبين من الأراضي الفلسطينية، فالبعثة الفلسطينية المشاركة في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016؛ أُجبرت على السفر إلى البرازيل دون أي معدات تدريبية، واضطروا إلى شراء معدات بديلة عندما سافروا، وحتى الملابس الخاصة بالرياضيين لم تصل إلى البرازيل إلا في اللحظات الأخيرة بعد تأخيرها عمدًا، وهو الأمر نفسه الذي حدث لمنتخب كرة القدم المشارك في نهائيات كأس آسيا 2017.[18]
الاحتلال الذي يدمر المنشآت القائمة بالفعل ويمحوها تمامًا من الوجود لتصبح أثرًا بعد عين، كما يقال، لن يسمح ببناء غيرها، فبالتزامن مع الهجمات المتكررة على البنية التحتية الرياضية كان الاحتلال يمنع ويعرقل بناء أي منشأة رياضية أخرى؛ ملاعب، صالات رياضية، منشآت إدارية، إلخ.[19]
منذ مطلع الألفية الثالثة، استهدفت سلطات الاحتلال الرياضيين الفلسطينيين بشكل غير مسبوق، ففي انتفاضة الأقصى استشهد نحو 300 رياضي معظمهم من لاعبي كرة القدم،[20] وهو ما أدى إلى تدهور النشاط الرياضي في الفترة التي تلتها، لكن تلك لم تكن سوى البداية لسنوات من استهداف الرياضيين الفلسطينيين بأقذر الطرق الممكنة. وبين عامي 2000 و2014 استشهد نحو 540 فلسطينيًا من الكوادر الرياضية المختلفة،[21] ناهيك عن آلاف الجرحى، الذين تحول المئات منهم ليكونوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، والمعتقلين بالسجون الإسرائيلية حتى اليوم.
هذه الممارسات القمعية المختلفة التي تمارسها سلطات الاحتلال أوجدت بيئة معادية لممارسة الرياضة وتطورها، وأثرت سلبًا على الجوانب النفسية والمعنوية للرياضيين الفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاته تزيد من عزيمتهم وإصرارهم على الصمود والمقاومة.
الاستهداف الممنهج للرياضة خلال حرب الإبادة
يمثل استهداف الكوادر الرياضية والبنية التحتية الرياضية في قطاع غزة جزءًا لا يتجزأ من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع، كما يكشف عن سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض مقومات الحياة، بما في ذلك النشاط الرياضي الذي يحمل أبعادًا ثقافية ووطنية مهمة، إذ تصاعدت هذا الاستهداف بشكل غير مسبوق، مخلفًا دمارًا هائلاً وخسائر بشرية فادحة في الأوساط الرياضية.
الشهداء
أظهرت دراسة توثيقية أجرتها اللجنة الأولمبية الفلسطينية، لرصد وتوثيق الانتهاكات التي تعرضت لها الحركة الشبابية الرياضية الكشفية، جراء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، نشرت في 15 شباط/ فبراير 2025 استشهاد 560 من أبناء الحركة الشبابية الرياضة الكشفية.[22] إذ وصل عدد شهداء اتحاد كرة القدم إلى نحو 250 شهيدًا، وجمعية الكشافة والمرشدات 51 شهيدًا، في ما استشهد 259 من الاتحادات الرياضية وقدامى اللاعبين.[23
وفي 11 كانون الثاني/ يناير الماضي، قال الأمين العام للاتحاد الفلسطيني للإعلام الرياضي مصطفى صيام، إن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة أسفرت عن استشهاد 708 رياضيين فلسطينيين، إضافة إلى تدمير 273 منشأة رياضية في القطاع. وأضاف صيام، للأناضول: "من بين الشهداء 369 من لاعبي كرة القدم منهم، و105 أفراد من الحركة الكشفية، و234 رياضيًا من مختلف الاتحادات الرياضية".[24]
المنشآت الرياضية
وفي ما يتعلق بالمنشآت الرياضية، رصدت الدراسة تدمير 265 منشأةً منها 184 دمرت كليًا و81 جزئيًا، بواقع 23 ملعبًا كبيرًا، و35 صالة رياضية مغطاة ومتعددة الاستخدام، و58 مقرًا للأندية و12 ملعبًا تابعًا للاتحاد الدولي لكرة القدم.[25] ومن المنشآت المدمرة أيضًا 3 مسابح و15 ملعبًا لكرة السلة والطائرة والتنس الأرضي، بالإضافة إلى المضمار الوحيد لألعاب القوى في القطاع، و49 صالة رياضية لكمال الأجسام، و9 إسطبلات للخيول و40 ملعبًا خماسيًا، و19 منشأة تختص بقطاع التعليم الرياضي.[26]
وبحسب تقرير لوكالة الأناضول: ألحقت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، الدمار بـ90 بالمئة من المنشآت الرياضية، كما تحولت ملاعب كرة القدم إلى مقابر مؤقتة لدفن الشهداء نظرًا لاكتظاظ المقابر. وأظهرت مشاهد متداولة في كانون الثاني/ يناير 2024، تحويل جيش الاحتلال الإسرائيلي ستاد اليرموك في غزة، إلى سجن مؤقت للمعتقلين الفلسطينيين.[27] كما تحول ملعب رفح البلدي إلى مستشفى ميداني، وأصبح مقر نادي خدمات رفح مركزًا لتوزيع المساعدات على النازحين، وتحول ملعب الشهيد محمد الدرة وسط قطاع غزة إلى مأوى للنازحين.[28]
دوافع وأبعاد الاستهداف: سياسة ممنهجة
لا يمكن فهم هذا الاستهداف الواسع للرياضيين والبنية التحتية الرياضية في قطاع غزة بمعزل عن السياق العام لحرب الإبادة الجماعية وسياسات التطهير العرقي الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ورغم أن الاحتلال برر استهداف المنشآت الرياضية سابقًا بادعاء إطلاق صواريخ منها، إلا أن حجم الاستهداف ونوعيته يظهر وجود سياسة ممنهجة تهدف إلى القضاء على كافة مقومات الحياة الرياضية، ومحاولة طمس الهوية الفلسطينية؛ فتحويل الملاعب إلى مراكز اعتقال، واستهداف الرياضيين بشكل مباشر، وتدمير البنية التحتية الرياضية ، كلها مؤشرات على نية مبيته لتدمير قطاع حيوي يساهم في بناء قدرات الشباب وتعزيز الهوية الوطنية.
الرياضة في قطاع غزة: حاضر مشلول ومستقبل مجهول
إن التداعيات المباشرة لهذا الاستهداف تتمثل في شلل كامل للنشاطات الرياضية، هذا الشلل لن يحرم الجيل الحالي فقط من ممارسة الرياضة، بل يهدد مستقبل الأجيال القادمة. فاللاعبون الذين استشهدوا هم خسارة لا تعوض، وأولئك الذين أصيبوا أو بترت أطرافهم حرموا من استكمال مسيرتهم الرياضية وتمثيل فلسطين في المحافل الإقليمية والدولية.
كما أن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة ستتطلب جهودًا ووقتًا هائلين، في ظل الحصار والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها القطاع، وبالتالي، فإن مستقبل الرياضة في غزة يبدو قاتمًا ما لم يكن هناك تدخل دولي جاد ومساندة حقيقية لإعادة إعمار هذا القطاع الحيوي.
ازدواجية المعايير
انتهكت إسرائيل بشكل ممنهج ومستمر كافة المعايير والمواثيق والأعراف الرياضية الدولية، مستهدفة الرياضة والرياضيين الفلسطينيين، وشملت هذه الانتهاكات حرمانهم من أبسط الحقوق، مثل: حرية التنقل والحركة والسفر التي أصبحت حلمًا بعيد المنال في ظل وجود مئات الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، بالإضافة لسيطرتها على المعبر البري الوحيد الذي يربط الضفة الغربية بالأردن.
لكن ثمة جريمة أخرى لا يمكن لإسرائيل - برغم مكرها - التملص منها، لكونها انتهاكًا صارخًا لقوانين الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) فإسرائيل التي عملت قبل نحو ستة عقود على عرقلة انضمام الاتحادات الرياضية الفلسطينية للاتحادات الدولية، بحجة أن قطاع غزة (مركز ثقل الرياضة الفلسطينية آنذاك) لا يمثل دولة فلسطينية وإنما يخضع لسيطرة مصر، هي ذاتها اليوم تستضيف 6 أندية إسرائيلية تقع داخل المستوطنات غير القانونية بالضفة الغربية - أرض فلسطينية وفقاً للأمم المتحدة والفيفا - في دورياتها المحلية، مخالفة بذلك المادتين 10.1 و2.72 من دستور الفيفا.[29]
ورغم أن هذه الجريمة لا تقبل التبرير، إلا أن إسرائيل لا تشعر بالحاجة لتبريزها من أجل الإفلات من العقاب، فهي تتمتع بحصانة لا مثيل لها، إذ يُحاط ملف انتهاكاتها بسياج منيع مكتوب عليه "ممنوع الاقتراب"، بينما يتعامى الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية - اللذان يفرضان عقوبات صارمة ضد دول أخرى مثل روسيا بسبب حربها على أوكرانيا - عن هذه الجرائم. فهم لا يعانون صممًا أو عمى حقيقي، لكنهم يختارون الرؤية والسماع والكلام بشكل انتقائي. فكلمة "الجميع" في شعار "الحقوق مكفولة للجميع" لا تعني الفلسطينيين أبدًا.[30]
خاتمة
كانت الرياضة الفلسطينية على مر التاريخ ساحة حيوية من ساحات المقاومة والصمود في وجه الاحتلالان البريطاني والإسرائيلي، فمنذ عشرينيات القرن الماضي وصولاً إلى حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة، لم تكن الرياضة مجرد نشاط ترفيهي أو تنافسي، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن الهوية الوطنية، وأداة فعالة لتحدي سياسات القمع والطمس التي يمارسها الاحتلال. وفي اللحظة التي يحول فيها الاحتلال ملاعب الأطفال إلى ركام، ويسلب الكرة من أقدامهم لِيضع مكانها قيدًا أو نعشًا، تولد معجزة فلسطينية، فالرياضة لا تموت، بل تتحول إلى دم يسري في العروق.
فكل شهيد رياضيٍ يرتقي، وكل صرح رياضي يدمر، وكل علم يرفع في المحافل الإقليمية والدولية وهو ينزف الدماء، يكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الصمود. فلقد فشل المشروع الاستعماري الاحلالي الصهيوني في فهم أن الفلسطيني ولد في رحم المعانة، وكلما اشتدت معاناته صنع من جرحه ملعبًا، ومن حُطامه مضمارًا، ومن أشلائه راية. الاحتلال يغرق الأرض بالدم، ونحن ننبِت من كل قطرة دم سالت بطلًا، ويصبح كل شهيد حكمًا على ضمير العالم.
وفلسطين تبلغ العالم وحطام إنسانيته درسًا أخيرًا: لا تطلبوا منا اللعب في ملاعب الاحتلال، فملاعبنا الحقيقية ولدت من رحمِ النجادة، وستبعث من جديد من تحت الأنقاض، لأننا نعرف كما عرف أجدادنا أن الكرة التي تركل نحو المرمى، هي ذاتها التي تركل قيود الظلم إلى مزبلة التاريخ.
[1] - عصام الخالدي، تاريخ الرياضة في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين وحتى عام النكبة، "history of Palestine sports"، https://cutt.us/Ha3x1 .
[2] - عزت طنوس، الفلسطينيين ماض مجيد، ومستقبل باهر، الجزء الأول، (بيروت، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، 1982) ص 16.
[3] - عصام الخالدي، مئة عام على كرة القدم في فلسطين، (رام الله، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2013) ص 30.
[4] - عصام الخالدي. الرياضة وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، فلسطين، https://linksshortcut.com/NYkff .
[5] - المصدر السابق.
[6] - عصام الخالدي، تاريخ الرياضة في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين وحتى عام النكبة، "history of Palestine sports"، https://cutt.us/Ha3x1 .
[7] - عصام الخالدي. الرياضة وحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، مصذر سابق.
[8] - المصدر السابق.
[9] - تصفيات كأس العالم 1934-1938 عن سرقة اسم فلسطين وكرتها، https://etar.info/o2j ، رياضة فلسطين قبل النكبة: النشأة والجذور وصراع الهوية، https://etar.info/vgm ، رياضة فلسطين ونكبتها .. الرياضة وساحات القتال. https://etar.info/Elk ، من النشأة إلى "الفيفا" .. سيرة مختصرة لرحلة الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، https://etar.info/4R6 .
[10] - خيري أبو الجنبين، قصة حياتي في فلسطين والكويت، (عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2002) ص 469-471.
[11] - المصدر السابق، ص 474.
[12] - المصدر السابق، ص 478-494.
[13] - منظمة النجادة الفلسطينية .. سيرة قتال لم يكتمل. https://etar.info/D9n .
[14] - عصام الخالدي، مئة عام على كرة القدم في فلسطين، ص 93.
[15] - إبراهيم سميح ربايعة، الرياضة والسياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة: الوعي السياسي والمأسسة والتكيف المقاوم (1967-1995)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية، المجلد 11، العدد 42، خريف العام 2022.
[16] - عصام الخالدي، BDS الرياضة الفلسطينية ودورها في حركة المقاطعة وسحب الاستثمار وفرض العقوبات، https://linksshortcut.com/CmGLt .
[17] - الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية، https://linksshortcut.com/KkMOE .
[18] - الرياضة الفلسطينية كابوس إسرائيلي .. ومئة عام من المقاومة، https://linksshortcut.com/rUtbk .
[19] - الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية، https://linksshortcut.com/KkMOE .
[20] - الرياضة الفلسطينية تعاني قمع الاحتلال الإسرائيلي، https://linksshortcut.com/tDeTE .
[21] - الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية، https://linksshortcut.com/KkMOE .
[22] - دراسة توثيقية للجنة الأولمبية الفلسطينية لرصد وتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية خلال حرب غزة، https://linksshortcut.com/aeLST .
[23] - المصدر السابق.
[24] - المصدر السابق.
[25] - المصدر السابق.
[26] - المصدر السابق.
[27] - https://linksshortcut.com/jrlZM
[28] - الملاعب لم تشفع لنجومها، https://linksshortcut.com/gOiVH .
[29] - الفيفا تحت ضغوط لمعاقبة إسرائيل لإجراء مباريات في المستوطنات، https://linksshortcut.com/styHe ، الانتهاكات الإسرائيلية بحق الرياضة الفلسطينية، https://linksshortcut.com/KkMOE .
[30] - الفيفا والويفا يحظران مشاركة فرق وأندية روسيا في جميع المسابقات https://linksshortcut.com/aTnVY ، الأسئلة والأجوبة بخصوص مشاركة الرياضيين الذين يحملون جواز سفر روسي وبيلاروسي في المسابقات الدولية، https://linksshortcut.com/lnhRa .