الشيخ عز الدين القسام.. بواكير الثورة وأوائل رموزها
تُمثَّل شخصية الشيخ عز الدين القسام[1] وتجربته في المقاومة نموذجًا مثاليًا لسيرة أوائل المقاومين للمشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، فهو طلائعيٌّ نذر حياته لمقارعة العدو الغازي، وقدَّم إجابةً مبكِّرةً على سؤال الواجب في لحظة تاريخية مفصلية سيَّدت فيها أوروبا نفسها على شعوبنا وأرضنا، ولم يكن تحركه لنصرة إخوانه في ليبيا ضد الغزاة الإيطاليين، ومساندته للعثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ونفرته ضد الفرنسيين في سوريا، وتجربته القتالية في فلسطين ضد بريطانيا والمشروع الصهيوني إلا تعبيرًا عن انخراطه في مشروع ثوري مضاد يحمل الأمل بالتغيير ويُبشِّر بعمل دؤوب للوصول للحظة مغايرة عنوانها الخلاص والتحرر والاستقلال.
القسام.. سيرة أزهري معمَّم
ولد الشيخ محمد عز الدين القسام في مدينة جَبَلة في محافظة اللاذقية عام 1883، لأسرة سورية متدينة. كان والده عبد القادر شيخًا للطريقة القادرية ومدرِّسًا في مدرستها الإسلامية. أمَّا هو فدرس في الكُتَّاب، وفي زاوية الإمام الغزالي، والتحق بحلقة الشيخ البيروتي سالم طبَّارة، ثمَّ أصبح طالبًا في الأزهر أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في وقتٍ كانت مصر تعيش صراعًا ثقافيًا بين الثقافية الغربية الوافدة والثقافة العربية الإسلامية الأصيلة، ومن المؤكد أن القسام اطّلع على صور من هذا الصراع، وربما استمع إلى الشيخ محمد عبده، والتقى الشيخ رشيد رضا، قبل أن يحصل على شهادة الأهلية عام 1906، ويقرِّر العودة إلى جبلة.
قدَّم القسّام إجابةً مبكِّرةً على سؤال الواجب في لحظة تاريخية مفصلية سيَّدت فيها أوروبا نفسها على شعوبنا وأرضنا، ولم تكن تحركاته الناصرة والمنخرطة في حركات التحرر العربية، ثم تجربته القتالية في فلسطين ضد بريطانيا والمشروع الصهيوني إلا تعبيرًا عن انخراطه في مشروع ثوري يأمل بالخلاص والتحرر والاستقلال.
حمل القسام معه من مصر فكرًا إسلاميًا إحيائيًا، انعكس على عمله إمامًا لمسجد إبراهيم بن أدهم، وخطيبًا في مسجد المنصوري، ومعلمًا في المدرسة الإسلامية، فكان أن أدخل دراسة القرآن والتفسير والفقه لمنهاج المدرسة، وبدأ حملةً دعويةً بين الناس ينادي فيها بالفضيلة والأعمال الصالحة، ثمَّ إنَّه غادر جبلة إلى حيفا في فلسطين، أو سوريا الجنوبية كما كان يطلق عليها أهل منطقتنا قبل أن يفصلها المستعمر عن محيطها، وهناك عمل مدرِّسًا في مدرسة البرج الثانوية التابعة للجمعية الإسلامية بين عامي (1920-1924)، وأمامًا لمسجد الاستقلال عام 1925، ومأذونًا شرعيًا في حيفا ومحيطها عام 1930.
سعى القسام من خلال موقعه لنشر الوعي الديني بين الناس، ونزع الخرافة والبدعة عن المعتقد والسلوك، وكَتبَ بعض المقالات في الصحف، وقد صدر له كتاب بعنوان "النقد والبيان في دفع أوهام خيزران" اشترك في تأليفه مع كامل القصاب ونَشره عام 1925، وهو عبارة عن رأيٍ للمؤلفَيْن في مسألة فقهية تتعلق بالجنائز. ولا شك بأن نشاطه الدعوي وما تركه من مقالات بالإضافة إلى مؤلَّفه هذا، وما رواه من سمعوا خطبه وجلسوا بين يديه، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الرجل لم يكن شيعيًا كما توَّهم البعض.
كان القسام ابنًا لمجتمعه، وكانت العامة بحره الدافئ الذي حنا عليه ومنحه أفضل ما فيه، فكان يغوص فيه عميقًا، ويصطفي ما يشاء من الشباب المتوقد حماسةً وانفعالًا، وقد ساعده في ذلك طبيعة شخصيته وما شغله من وظائف، لكنَّه لم يقْصُر معارفه على العامة أو النخبة الأزهرية، وإنما أقام صداقات مع بعض الشخصيات المؤثِّرة مثل رشيد الحاج إبراهيم وغيره من رجالات حيفا.
لقد ظهر من سيرته في حيفا أنَّه كان مواكبًا لعصره، وعارفًا بإمكانيات مجتمعه وحاجاته وتحولاته، وهذا ما يُفسِّر نشاطه المبكّر في الجانبين النقابي والمؤسساتي، فنراه يشارك في تأسيس جمعية العمال العربية عام 1925، وفي إعداد نظامها الداخلي، وكتابة طلب الترخيص، وتقديمه للسلطات، وصياغة بيان إشهارها، كما أنَّه شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين عام 1928، واختير أول رئيس لها. ويلاحَظُ محورية المسجد في حياته، فقد كان يعدّهُ المؤسسة المجتمعية الأم، وهو بنظره ليس للصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن والاستماع للدروس الدينية فقط، بل هو كذلك منبرٌ إعلاميٌ تذاع فيه البيانات المهمة -كما في قراءته من على منبر الجمعة في المسجد بيان إشهار جمعية العمال العربية- وهو مؤسسة تعليمية، حيث افتتح فيه مدرسةً مسائيةً مجانيةً لمحو الأمية، وهو منطلقٌ للعمل الثوري الفكري والميداني، حيث بث فيه تنظيراته الثورية، وتعرَّف على عناصر تنظيمه المقاوم، وعقد بعض اجتماعاته السرية، وناقش خياراته الاستراتيجية وتكتيكاته اليومية.
لقد ظهر من سيرته في حيفا أنَّه كان مواكبًا لعصره، وعارفًا بإمكانيات مجتمعه وتطلعاته، فنراه يشارك في تأسيس جمعية العمال العربية عام 1925، وفي تأسيس جمعية الشبان المسلمين عام 1928 .. كما يلاحَظُ محورية المسجد في حياته، فقد كان يعدّهُ المؤسسة المجتمعية الأم، فهو يراه منبرًا إعلاميًا، ومؤسسةً تعليميةً، ومنطلقًا للعمل الثوري.
القسام.. انبثاق الخطاب الثوري التحرري في فلسطين
لابد ونحن نقرأ تجربة القسام في المقاوِمَة في فلسطين، أن نستحضر مسألتين مهمتين تتعلقان بخلفيته الفكرية وتجربته العملية، فهو ابن الأزهر ونتاج مدرسته الفكرية، وهو كذلك صاحب تجربة عملية في مناجزة المحتل الفرنسي استمرت عامًا كاملاً، حتى إنَّ الفرنسيين حكموا عليه غيابيًا بالإعدام.
لقد تميَّز خطابه الثوري في مرحلة فلسطين بتصديره لمقولة تأسيسية مغايرة للسائد في ذلك الوقت، عرَّف فيها الصراع في فلسطين، وحدَّد الواجب تجاهه، وتميز تفاعُلُه الميداني بأسبقيته في العمل على الأرض، فكان من البَدريين حين اجترح خطةً عمليةً متكاملةَ الأركان، وترك إرثًا نضاليًا ميدانيًا أفنى فيه من عمره عشرة أعوامٍ متواصلةً.
كان القسام من أوائل من صدحوا بالعداء للمحتل البريطاني، واعتبار لندن العدو المركزي للعرب والمسلمين عمومًا والفلسطينيين على وجه الخصوص، ومن أوائل من نادوا بالكفاح المسلح ضدها طريقًا مثلى لطردها من فلسطين، وقد أعلن معارضته الجذرية لنهج استرضائها ومفاوضتها، في لحظة كانت أغلب النخب السياسية تتبنى مسار الضغطالناعم عليها رجاء اقتناعها بالعدول عن وعد بلفور والموافقة على تحقيق مطالب العرب. كما كان من أوائل من نادوا بضرورة العمل المسلح لوقف الهجرة الصهيونية، ورغم أنَّ دعوته بدت معزولةً عن توجهات التيارات السياسية الفلسطينية الرئيسة، إلا أنَّها أخذت بالاتساع، حتى تبنتها الحركة الوطنية بعد استشهاده وعبَّرت عن ذلك بشكل جلي أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي (1936-1939).
عدّ القسام بريطانيا العدوّ المركزي للعرب والمسلمين عمومًا وللفلسطينيين على وجه الخصوص، وكان من أوائل من نادوا بالكفاح المسلح ضدها طريقًا مثلى لطردها من فلسطين .. كما كان من أوائل من نادوا بضرورة العمل المسلح لوقف الهجرة الصهيونية، وهي المقولة التي تبنتها الحركة الوطنية بعد استشهاده وعبَّرت عن ذلك في الثورة الفلسطينية الكبرى
يحدد البعض تاريخ بدء القسام بالعمل المقاوم في فلسطين بعام 1925، حين شرع في تأسيس تنظيمٍ سريٍّ مسلحٍ انطلاقًا من حيفا، وتمكَّن من جذبِ عددٍ من العناصر، وصل تعدادهم، وفق بعض المصادر، إلى 200 عنصر، أغلبهم من رواد مسجد الاستقلال، وعمال مدينة حيفا، وأعضاء جمعية الشبان المسلمين، وفلاحي منطقة شمالي فلسطين، ونذكر منهم على سبيل المثال: خليل محمد عيسى (المزرعة الشرقية)، وفرحان السعدي( المزار)، ومصطفى علي الأحمد (صفورية)، وعطية أحمد عوض (بلد الشيخ)، ويوسف أبو درة (سيلة الحارثية)، وعبد الله زيباوي (الزير)، ومحمد الصالح حمد (سيلة الظهر)، وحسن الباير ( برقين/ جنين)، وعطية أحمد المصري (مصر)، ومحمد أبو قاسم خلف (حلحول)، ونمر السعدي (غابة شفا عمرو).
ثمَّ إنَّ القسام أنشأ لجانًا سريةً للإمدادِ والتوعيةِ والأمن والتدريب والاتصالات السياسية، وشرع في تدريب عناصر تنظيمه ليلًا في جبل الكرمل وفي المحاجر. وقد استثمر النشاطات الرياضية والكشفية داخل جمعية الشبان المسلمين لهذا الغرض، وخَلُص التنظيم إلى تشكيل قيادة جماعية عام 1928 تكونت من القسام وأربعة آخرين هم: العبد قاسم، ومحمود زعرورة، ومحمد صالح حمد، وأبو إبراهيم الكبير.
يحدد البعض تاريخ بدء القسام بالعمل المقاوم في فلسطين بعام 1925، حين شرع في تأسيس تنظيمٍ سريٍّ مسلحٍ انطلاقًا من حيفا، وتمكَّن من جذبِ عددٍ من العناصر، وصل تعدادهم، وفق بعض المصادر، إلى 200 عنصر، أغلبهم من رواد مسجد الاستقلال، وعمال مدينة حيفا، وأعضاء جمعية الشبان المسلمين، وفلاحي منطقة شمال فلسطين. وقد نفّذ تنظيمه عشرات الهجمات النوعية بين عامي 1931-1935.
القسام.. باكورة الفعل الثوري التحرري
أتم القسام ورجاله استعداداتهم، في وقت شهدت فيه فلسطين مجموعةً من الأحداث التي عجَّلت في دفعهم للتحرك ميدانيًا ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، خصوصًا ثورة البراق عام 1929 التي لا يُستبعد مشاركة بعض أفراد تنظيمه فيها. حصل التنظيم على فتوى مكتوبة من الشيخ بدر الدين التاج الحسني عام 1930 تجيز العمل المسلح ضد بريطانيا والمشروع الصهيوني، وشرع القسَّاميون على إثرها بتنفيذ عددٍ من الهجمات، كان منها هجومهم على مستعمرة الياجور وقتلهم ثلاثة من الصهاينة في الخامس من نيسان/ إبريل عام 1931، وقد أعلن الاحتلال البريطاني عن مكافأة قدرها أربعمئة جنيه لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى معرفة الفاعلين، ثمَّ هجومهم على مستوطنة نهلال بعد يومين وأصابتهم للمستوطن موشي فليبتس، وهجومهم على مستعمرة بلفوريا وقتلهم للمستوطن يوسف بورنشتيان في السادس عشر من كانون الثاني/ يناير عام 1932، ثم قتلهم للمستوطن شموئيل جوترمان في مستعمرة كفار هاسيديم في الخامس من آذار/ مارس من العام نفسه، وهجومهم على مستعمرة كفار يحزكئيل وأصابتهم لاثنين من المستوطنين في الثلاثين من نيسان/ إبريل عام 1932، وهجومهم على مستعمرة نهلال مرّةً أخرى في الثاني عشر من كانون أول/ ديسمبر عام 1932، وقتلهم المستوطنيْن يوسف يعقوبي وابنه داود، وقد أعلنت بريطانيا بعد هذا الهجوم عن جائزة مالية بقيمة خمسمئة جنيه لمن يدلي بمعلومات عن الفاعلين.
ثمَّ توقفت الهجمات بعد اكتشاف البريطانيين بعض أفراد التنظيم، وقيامهم بإعدام القسامي مصطفى الأحمد والحكم على زميله أحمد الغلاييني بـ خمسة عشر عامًا .
لكنَّ القسام وإخوانه أعادوا الكَّرة من جديد عام 1935، خصوصًا بعد تعاظم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، واستمرار الصهاينة في تهريب السلاح وتخزينه، وتَصاعُد الغضب الشعبي على الصهاينة وبريطانيا وسياساتها، وحالة الانقسام التي أصابت الحركة الوطنية، وكان لابد من تعزيز قدرات أفراد التنظيم، لذا تم إرسال القسامي حسن الباير إلى تركيا لجلب ضابط تركي متمرس للمشاركة في تدريب عناصر التنظيم، وقد عيَّنه القسام مرشدًا للتنظيم، ومنحه راتبًا شهريًا.
الصعود إلى الثورة
انطلقَ القسام مع مجموعة من أتباعه (20-25 عنصرًا)، نحو قرى جنين في تشرين أول/ أكتوبر عام 1935، في خطوة جريئة هدفها إعلان الثورة، وكان ذلك في مرحلة مفصلية وصلت فيها أجواء التوتر بفلسطين إلى الذروة، خصوصًا بعد اكتشاف شحنة من الأسلحة تابعة للصهاينة في ميناء يافا.
اتجهت مجموعة القسام نحو جبل فقوعة، ثم انقسمت إلى مجموعتين قاد إحداها القسام نحو أحراش يعبد، وهناك اصطدم بالقوات البريطانية في العشرين من تشرين ثاني/ نوفمبر عام 1935، وخاض معركة استمرت لساعات، ارتقى على إثرها شهيدًا مع اثنين من مجموعته هما يوسف الزيباوي، وعطيفة المصري، وقد وُجد مع كل واحدٍ منهم نسخة من القرآن، وَوُجد مع الشيخ القسام دعاء مكتوب وضعه في عمامته.
انطلقَ القسام مع مجموعة من أتباعه، نحو قرى جنين في تشرين أول عام 1935، في خطوة جريئة هدفها إعلان الثورة، واصطدم رفقة جزء من مجموعته في أحراش يعبد بجنين في 20/11/1935 مع البريطانيين في معركة استمرت ساعاتٍ ارتقى فيها القسام واثنان من رفاقه .. وتجلّت أعظم آثار حركته واستشهاده في الثورة الفلسطينية الكبرى من 1936-1939.
وكان لاستشهاد الشيخ أثره الكبير في فلسطين ومحيطها، ظهر ذلك بوضوح في المشاركة الجماهيرية الواسعة في جنازته، وفي خطابات التأبين، وفي الأشعار والمقالات التي نُشرت في الصحف وتناقلها الناس. لكنَّ الأثر الأعمق والأوسع جاء بعد أشهر قليلة، حين اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى[2] التي استمرت مشتعلةً ثلاث سنوات طويلات، وصفع فيها الفلسطينيون بريطانيا على وجهها، وكان لكوادر التنظيم القسامي دور مركزي في قيادة أحداثها الميدانية حتى نهايتها عام 1939. كما ظلَّ ما تبقى من القساميين على درب القسام، وكان لهم دورهم في الدفاع عن المدن والبلدات الفلسطينية أثناء أحداث النكبة.
خاتمة
كانت شخصية الشيخ القسام آسرةً، خصوصًا وأنَّه الشيخ الأزهري المعمم، والداعية المصلح، والخطيب المفوه، والنقابي النشيط. وكانت سيرته في المقاومة المسلحة جزءًا من ردة فعل عامة على الغرب وسياساته الاستعمارية في منطقتنا. أمَّا على المستوى الفلسطيني، فقد ألهمتِ الأجيال اللاحقة التي احتفت بشخصيته وثورته منذ استشهاده شعرًا ونثرًا ورسمًا وعملًا دراميًا، وفي ذروة ذلك فعلًا مقاومًا، حتى يومنا هذا. ويكفي أن نشير أخيرًا إلى قيام إحدى حركات المقاومة المركزية بتسمية جناحها العسكري باسمه بعد 56 عامًا على استشهاده.
رحم الله القسام وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنَّة.
[1] هنالك العديد من الكتب والدراسات والأبحاث التي تناولت سيرة الشيخ عز الدين القسام، منها كتاب لعبد الستار قاسم، وكتاب لسميح حمودة، ودراسات منفصلة لكل من عبد القادر ياسين، وعلي حسين خلف، وبشير نافع، ويمكن لمن أراد المزيد من التفاصيل والتحليل العودة إليها أو لغيرها.
[2] bit.ly/3F1Mx5t (الثورة الفلسطينية الكبرى.. عندما صفع الفلسطينيون بريطانيا على وجهها).