الصهيونية ودروز فلسطين (1) من الترحيل إلى الاحتواء - قراءة تحليلية في كتاب دروز في زمن الغفلة

الصهيونية ودروز فلسطين (1) من الترحيل إلى الاحتواء - قراءة تحليلية في كتاب دروز في زمن الغفلة
تحميل المادة

على سبيل التقديم..

في هذه المادة يسلط أحمد العاروري الضوء على السيرورة التاريخية التي أنتجت الموقف الراهن للدروز في فلسطين المحتلة، والذي يغلب عليه الانخراط في المؤسسة الإسرائيلية، والتجنّد في جيش الاحتلال.

تقرأ المادة وتحلّل في كتاب "دروز في زمن الغفلة .. من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية" لكاتبه، ابن الطائفة والحالة الدرزية البروفسور قيس فرو[1]، الذي يحاول تقديم سرديةٍ أخرى سوى السردية الصهيونية للحكاية.

في جزء المادة الأول يضيء الكاتب على المرحلة التاريخية الممتدة منذ بداية القرن العشرين حتى ما قبل النكبة، والاهتمام الصهيوني المبكر بالدروز، ومشاريع تهجيرهم إلى جبل الدروز في سوريا، ومواقف الطائفة على مشارف النكبة. على أن يعالج الجزء الثاني للمادة مرحلة النكبة وما بعدها.

وكان يمكن إدراج هذه المادة في محاور أخرى، كـ الذاكرة والتاريخ، أو دفاتر وملامح، بيد أنّها شديدة الصلّة بالسياسات الصهيونية التاريخية والراهنة، لعزل الطائفة الدرزية عن عموم الشعب الفلسطيني، فناسب أن تُدرج في زاوية غبار المختصّة بالعدو وسياساته.

·      التحرير

 

ردًا على احتجاج أحد العاملين في الاستخبارات على هدم القرى الإسلامية وترك قرىً أخرى مسيحية ودرزية، بعد احتلالها، كتب المسؤول عن الشؤون العربية في جهاز الاستخبارات الصهيونية، عزرا دانين: "فيما يتعلق بمعاملتنا مع الدروز وخيانتهم: نحن لم ننكر لحظةً واحدةً تجربتنا ومعرفتنا أن الدروز والمسيحيين لا يختلفون عن المسلمين، وربما هم أسوأ منهم. لكن ما يحدّد موقفهم هو الخيار المتبقي لهم أو بالأحرى عدم وجود خيار. فبينما يعتمد المسلمون على مناطقهم الخلفية "وراء الحدود"، هؤلاء الدروز ضعفاء، نستطيع استغلال عدم وجود خيار لهم حين نقاتل وحدنا في الحرب. إن فهم الآخر مهم، لكن ليس الأمرَ الحاسم. إذا عرفنا مسبقًا سلوك الحليف في وقت الشدّة، مميزاته وماضيه، نستطيع بطريقة ما التعامل معه".

تتشارك عناصر كثيفة في صناعة النتيجة النهائية لأية حرب، بعضها يعلو في الأهمية وبعضها يبقى ماكثًا حتى يحين أوان خروج نتائجه في مسار العهد الجديد الذي تحققه في الواقع القوى التي صنعت "الانتصار"، وهنا تحضر أهمية تفكيك العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت رديفًا للقوى السياسية والعسكرية في رسم مسار الحرب بالميدان.

لطالما حاولت القوى الاستعمارية التي حلت بأرضنا، منذ بداية القرن الماضي وما قبله، تفكيك المجتمع العربي والإسلامي عن طريق تصعيد التناقضات الفكرية والعَقَديّة الكامنة في مجتمعاتنا التي عَرَفَتْ تنوعًا دينيًا واجتماعيًا شديد التعقيد، وحققت في مراحل تاريخية تعايشًا بين هذه المكونات، وفي مراحل أخرى كانت الغلبة للسيف والبارود.

إلى الشمال من فلسطين في الجليل والكرمل تحديدًا سكنت عائلات درزية قدمت من سوريا ولبنان، منذ القرن السابع عشر، وكان لها أدوارها التاريخية، ولكنها في خضم الصراع بين المجتمع الفلسطيني والحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني كانت على "هامش" الحياة السياسية والاجتماعية، إلا في بعض استثناءات كان للدروز مشاركتهم في الكفاح العربي ضدّ الاستعمار، وأخرى لعبت فيها شخصيات من الطائفة دور "التابع/ المتعاون" مع الحركة الصهيونية، قبل سنوات من قيام "إسرائيل" على أنقاض الشعب الفلسطيني.

اجتهدت قيادات سياسية وأمنية صهيونية منذ بدايات النشاط الاستعماري لإقامة "إسرائيل"، في تحييد الدروز عن صراعها مع بقية مكونات المجتمع الفلسطيني، وحمل هذا التطلع لتحييد الطائفة الدرزية في فترات معينة رؤيةً لتهجيرهم من قراهم في الجليل والكرمل إلى جوار امتداداتهم الاجتماعية والتاريخية، في جبل الدروز في سوريا، وإحلال مكونات صهيونية مكانهم.

يمثل كتاب "دروز في زمن الغفلة… من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية" للبروفسور قيس ماضي فرو، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في 416 صفحةً، أحدث الروايات التاريخية المغايرة للرواية التي روجتها دولة الاحتلال الإسرائيلي بمساعدة وجهاء الطائفة، حول عملية إدخال دروز فلسطين داخل التبعية للنظام الاستعماري، وتحويلهم إلى مستَخدمين في أجهزتها العسكرية والأمنية، في مواجهة بقية مكونات مجتمعهم الفلسطيني.

اجتهدت قيادات سياسية وأمنية صهيونية منذ بدايات النشاط الاستعماري لإقامة "إسرائيل"، في تحييد الدروز عن صراعها مع بقية مكونات المجتمع الفلسطيني، وحمل هذا التطلع لتحييد الطائفة الدرزية في فترات معينة رؤيةً لتهجيرهم من قراهم في الجليل والكرمل إلى جوار امتداداتهم الاجتماعية والتاريخية، في جبل الدروز في سوريا، وإحلال مكونات صهيونية مكانهم.

 

بدايات الاهتمام الصهييوني بالدروز

بدأت الحركة الصهيونية مبكرًا الاهتمام بالتواصل مع الطائفة الدرزية، مع الدراسات التاريخية التي وضعها يتسحاق بن تسفي ثاني رؤوساء دولة الاحتلال عن الدروز، ثم مع الاتصالات التي بدأها مدير مكتب الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كييمت) يوسف نحماني مع وجهاء دروز بينهم سليمان طريف، بعد تدخله للإفراج عن معتقلين دروز اتهموا بالمشاركة في قتل شرطي مسلم.

تملكت الحماسة نحماني نحو تعميق العلاقات مع الدروز سبيلًا لفتح اتصالات مع قادة الطائفة الدرزية، في سوريا ولبنان. بينما رأى الكولونيل فريدريك كيش أحد قادة الحركة الصهيونية أن نحماني "يبالغ في توقع الفوائد" من إقامة العلاقات مع الطائفة الدرزية، التي وصفها بأنها "طائفة صغيرة من الفلاحين"، ولكنه اتفق معه أن على الحركة الصهيونية أن تأخذ الدروز في الاعتبار خلال عملها المستقبلي.

 

سلاح الشائعات… أبعدوا الدروز عن الثورة

في نيسان/ إبريل 1936 عمَّت فلسطين ثورةٌ أصبحت من العلامات البارز في النضال العربي ضد الاستعمار والحركة الصهيونية، وبقيت آثارها حتى نكبة فلسطين عام 1948. يذكر قيس فرو في كتابه أن النشطاء الصهاينة سعوا من خلال "سلاح الشائعات" إلى إبعاد الدروز عن الثورة.

تؤكّد الشهادات الشفهية التي نقل عنها فرو أن مجموعات من الدروز في قرية عسفيا وبلدات أخرى، شاركوا في القتال ضد قوات الاحتلال البريطاني إلى جانب بقية مكونات المجتمع الفلسطيني، وقد تزامنت هذه المشاركة مع دور لقيادات درزية سورية في فتح خط دعم لوجستي بالعتاد والرجال للثورة في فلسطين.

توسّعت المشاركة الدرزية من سوريا ولبنان في الثورة الفلسطينية، وكان أحد أبرز وقائعها تشكيل فصيل بقيادة حمد صعب من دروز سورية، وانضمامه للقتال بجانب القائد فوزي القاوقجي، حيث شارك في معركتي بلعا الأولى والثانية. وقد دفعت هذه المشاركة الدرزية القائد الصهيوني نحماني إلى تعميم منشور بين دروز الجليل والكرمل يحذرهم من المشاركة في الثورة. وتواصل قادة صهاينةٌ آخرون مع وجهاء دروز من عائلة طريف وخير ومعدي لإثارتهم نحو منع النشطاء الدروز في سوريا ولبنان من الدخول إلى فلسطين، بزعم أن المشاركة الثورية للدروز ستنعكس عليهم سلبًا .

بالإضافة لمشاركةٍ من بعض البلدات الدرزية في فلسطين، توسّعت المشاركة الدرزية من سوريا ولبنان في الثورة الفلسطينية، وكان أحد أبرز وقائعها تشكيل فصيل من دروز سورية، وانضمامه للقتال بجانب القائد فوزي القاوقجي. وقد دفعت هذه المشاركة الدرزية الصهاينة إلى محاولة نشر فكرةٍ بين الدروز مفادها أن المشاركة الثورية ستنعكس عليهم سلبًا.

استخدمت الحركة الصهيونية شخصياتٍ من عائلات أقل تأثيرًا في المجتمع الدرزي، في فلسطين، بينهم حسن أبو ركن الذي ارتبط بعلاقات مع النشطاء الصهاينة في وقت مبكر، في محاولات إقناع قادة الدروز في سوريا ولبنان بمنع النشطاء من الاستمرار في العلاقات مع قادة الثورة الكبرى.

حملت سنوات الثورة الكبرى تناقضات في قلب المجتمع الفلسطيني، كانت إحداها الروايات التي تذكرها المصادر الإسرائيلية والدرزية عن "اعتداءات" نفذتها مجموعات من الثورة، بحق سكان القرى الدرزية في الجليل والكرمل. وقد شكلت هذه الروايات مادةً هامةً بين يدي النشطاء الصهاينة لإبعاد الدروز عن المجتمع الفلسطيني وصراعه مع الاستعمار والحركة الصهيونية.

يروي البروفسور فرو في كتابه أن فصيلًا تابعًا للقائد في الثورة، أبو درة، دخل إلى قرية عسفيا، مسقطِ رأسِ الكاتب، طالبًا من الأهالي توفير مبلغ كان قد فرضه عليهم دعمًا للمجاهدين، وبعد أن عجزوا عن دفعه جمعهم في ساحة بالقرية يقال لها "المنزول"، ويضيف فرو أن المقاتلين دخلوا إلى بيت جده لإخراج والده الذي كان يبلغ حينها من العمر (17 عامًا)، وبعد أن عجز عن الخروج نتيجة إجرائه عمليةً في ساقه، ثارت مناوشات بين الثوار وأقربائه دفعت خالته إلى محاولة الدخول مسرعةً لإبعاد المقاتلين الذين كان معهم "شمس غزالة"، أحد المقاتلين الدروز الذين قدموا إلى فلسطين من سوريا لقتال الاستعمار، وخلال هذا التدافع سقط غطاء الرأس عنها.

حملت سنوات الثورة الكبرى تناقضات في قلب المجتمع الفلسطيني، كانت إحداها الروايات التي تذكرها المصادر الإسرائيلية والدرزية عن "اعتداءات" نفذتها مجموعات من الثورة، بحق سكان القرى الدرزية في الجليل والكرمل. وقد شكلت هذه الروايات مادةً هامةً بين يدي النشطاء الصهاينة لإبعاد الدروز عن المجتمع الفلسطيني وصراعه مع الاستعمار والحركة الصهيونية.

بعد هذه الحادثة جمع آبا حوشي أحد قادة الحركة الصهيونية الذي يعدُّ اسمًا مركزيًا في العلاقات مع الوجهاء الدروز، تفاصيل من أبو ركن المتعاون معه، وصاغها في رسائل وبيانات إلى قادة الدروز في سوريا ولبنان، وأضاف إليها روايات اعتداء الثوار على الكتب الدينية المقدسة لدى الطائفة وضرب النساء، وهو ما لم يقع أساسًا  كما يظهر من الرواية الشفوية التي أوردها البروفسور فرو في الكتاب.

اتصل آبا حوشي مع ناشط درزي سوري هو يوسف العيسمي، الذي شارك في الثورة العربية الكبرى السورية، وطلب منه ترويج الروايات بين التجمعات الدرزية في بلاده حول "جرائم أبو درة" المزعومة بحق الدروز في فلسطين، ترافق ذلك مع توجيهه "أبو ركن" إلى جبل الدروز حاملًا "رسائل غضب" من الدروز للوجهاء هناك وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش، وبعد ثلاثة أيام من وصول "أبو ركن" إلى جبل الدروز، وصلت رسائل من فلسطين تناشد الوجهاء بنجدة أهالي القرى الدرزية، ولم يعرف مصدر هذه الرسائل أو الموقعون عليها، غير أن من اللافت تشابه مضمونها مع ما جاء في الرواية الصهيونية.

 

خطة "الترانسفير"

هذه الحوادث والدسائس التي نشرها النشطاء الصهاينة والمتعاونون معهم، بين قيادات الدروز في لبنان وسوريا حول مظلومية المجتمع الدرزي في فلسطين، فتحت شهية أعضاء في أجهزة الحركة الصهيونية (آبا حوشي، وسليم ألفيا) وغيرهم، بالشراكة مع المتعاونين معهم مثل لبيب أبو ركن والعيسمي، إلى طرح مشروع تهجير العائلات الدرزية من الكرمل والجليل.

يظهر من مراسلات العيسمي مع مشغليه في الحركة الصهيونية، أن خطة التهجير قديمةٌ، إذ يرى البروفسور قيس فرو أن "الــ" التعريف الواردة في الرسائل التي يزف فيها العيسمي "بشرى سارة" لآبا حوشي وألفيا حول: "مشروع التهجير"، تشير إلى مخطّطٍ صهيونيٍ قديمٍ، وتنفي مزاعم حوشي حول أن طلب نقل أهالي القرى الدرزية من فلسطين إلى جبل الدروز في سوريا، جاء بطلب من وجهائهم.

في تقرير رفعه آبا حوشي إلى قيادات الحركة الصهيونية، حول جهوده لترحيل الدروز من قراهم، يقول إن "العيسمي أخبره، خلال لقائهما في دمشق، أن سلطان باشا الأطرش اجتمع بزعماء جبل الدروز الذين اقترحوا أن تشتري الحركة الصهيونية القرى الدرزية في فلسطين وتنقل سكانها إلى الجبل"، وتعليقًا على هذا "الاقتراح المزعوم" كتب آبا حوشي للعيسمي: "فيما يتعلق باقتراحكم نقل إخوانكم… فقد تلقاه القادة الصهيونيون هنا بترحيب كبير، ولذلك نطلب منكم تحضير الخطة وطرق تنفيذها قبل موعد مجيئنا إليكم كما اتفقنا". وهنا يشير البرفسور قيس فرو إلى مساعٍ حثيثةٍ بذلها آبا حوشي للقاء سلطان باشا الأطرش قائد الثورة العربية الكبرى ضد الفرنسيين، وأحد أبرز زعماء الدروز، في بلاد الشام، خلال القرن العشرين.

تزامنت مساعي آبا حوشي والمتعاونين معه لتنفيذ خطة "الترانسفير" ونقل الدروز من فلسطين، مع مناوشات اندلعت في بلدة شفا عمرو بين المسلمين والدروز، وهو ما دفع قيادة الثورة الفلسطينية في الشمال لإصدار بيان يدين هذه المناوشات ويدعو فيه إلى "رص الصفوف والوحدة بين الجماعتين"، وفي هذه الأجواء سافر آبا حوشي إلى دمشق للقاء العيسمي الذي أخبره أنه سيسافر للقاء سلطان باشا الأطرش لترتيب لقاء بين الطرفين، وهو ما يثبت وفقًا  لفرو أن ما ورد في الرسالة السابقة من آبا حوشي حول طلب القادة الدروز شراء القرى الدرزية من باب التمني فقط.

 

قصة صورة!

لسنوات، بقيت صورة تجمع القائد سلطان باشا الأطرش مع القائدين الصهيونيين آبا حوشي وسليم ألفيا معلقةً في الطابق التاسع والعشرين من جامعة حيفا، وهي الصورة التي استخدمها المؤرخون الصهاينة لبناء مزاعمَ حول علاقة متخيلة بين الأطرش والحركة الصهيونية.

يروي فرو أن آبا حوشي صحبة العيسمي وسليم ألفيا وقياديٍّ صهيونيٍّ آخر هو دوف هوز -الذي شغل مناصبَ نقابيةً، وزعم أنه يساعد العمال العرب- التقوا في قرية "القريَّة" بجبل الدروز في سوريا يومَ 27 نيسان/ إبريل 1939 مع سلطان باشا الأطرش، وهي الزيارة التي أحيطت في المصادر الصهيونية بكثير من "التضخيم" و"الافتراءات".

في 30 نيسان/ إبريل قدم آبا حوشي أول تقاريره المكتوبة حول الزيارة، والتي صارت لاحقًا  مصدرًا للمؤرخين الصهاينة. زعم القيادي الصهيوني أن الزيارة جاءت بطلب "رسمي" من الأطرش وبعد عرض "حفاوة" الاستقبال، ذكر إن يوسف العيسمي قال إن "زيارة ضيوفنا المحترمين الذين تربطني بهم علاقات… هدفها إيجاد طرق… تساعد كل منا في هذه الأيام الصعبة".

من جملة ما ذكره آبا حوشي، في تقريره، عن كلام العيسمي أنه تطرق إلى قضية "معاناة الدروز في فلسطين" وعرض قضية ترحيلهم إلى جبل الدروز في سوريا، قائلًا: "كثير منهم يفكر الآن في ترك فلسطين والمجيء إلى سورية، لكنْ، هنا السؤال المطروح كيف ننظر نحن إلى هذا الأمر؟ وكيف نستطيع مساعدتهم؟ بحيث كل الأطراف تستفيد".

وينسب تقرير آبا حوشي إلى العيسمي قوله عن قضية الترحيل: "الشعب الدرزي يتجمع في هذا المكان، والشعب اليهودي يشتري أراضيهم. وسيدخل إلى بلدنا المال الذي ينقذهم وينقذنا من الدمار والفقر، ويوجد هنا في الجبل كثير من الخرب لقرى مهجورةٍ وأراضٍ واسعةٍ لاستيعابهم".

يشكك فرو في نسبة الكلام إلى العيسمي، مؤكدًا  أنه من الصعب التأكد أنه قال هذا الكلام في جمع غفير من الدروز، كما أن آبا حوشي لم يكن يعرف العربية واعتمد على ألفيا أو دوف هوز في الترجمة، ويرى أن القيادي الصهيوني آبا حوشي ربما أعاد صياغة الكلام لاحقًا  لإقناع رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان الذي التقاه بعد عودته من اللقاء.

يزعم آبا حوشي في تقريره أن سلطان باشا الأطرش قال إن القيادات الدرزية طلبت من دروز فلسطين، عدم التدخل في الصدامات مع الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، ويروي أن الزعيم الدرزي باشا الأطرش قال عن قضية الترحيل: "إذا كان إخواننا راغبين في المجيء إلى الجبل رغبةً طوعيةً ومعتقدين أن هذا مفيد لهم، فلن نمنعهم. لكن أنا، هنا، أعتقد أن هناك أخطارًا  كثيرةً، المال والسكن والتأقلم وغيرها، ويجب التفكير فيها والتحضير لها، بحيث لا ينظر إلينا إخواننا المسلمون كخونة…".

يذكر فرو في كتابه أن سلطان باشا الأطرش لم يعرف أن آبا حوشي قيادي صهيوني بل نقابي يساعد العرب، واسمه "أبو خالد"، كما كان يناديه مرافقوه في الزيارة، ويشير إلى أنه لا تتوفر أية مصادر أخرى يمكن من خلالها التأكد من صحة ما نقله آبا حوشي على لسان الأطرش، وقد يكون كتب التقرير تحت تأثير فكرة إقناع وايزمان - بن غوريون بخطة ترحيل الدروز.

من جملة الدلائل التي تؤكد أن الخطة لم توضع بطلب درزي، بل بتخطيط صهيوني، الرسالة التي أرسلها المستشرق الصهيوني إلياهو إيبشتاين المتخصص في شؤون الإسلام والشرق الأوسط، الذي تولى مسؤولية متابعة قضايا البلاد العربية في الشعبة السياسية للوكالة اليهودية، حول أوضاع الدروز وقراهم، وأصلهم، ودياناتهم ومختلف التفاصيل عن النظام الاجتماعي والسياسي لهم، ثم ملاحظات عن خطة نقل الدروز من فلسطين إلى سوريا، ثم أرسل ما جمعه من إحصائيات ومستندات وخرائط إلى إليعيزر كابلان المسؤول عن إدارة الشؤون المالية في الوكالة اليهودية لتوفير تمويل لها.

الشهور اللاحقة لزيارة القادة الصهيونيين لسلطان باشا الأطرش، كانت ورشة عمل واسعةً من جانب آبا حوشي للإسراع في تنفيذ خطة الترحيل، وفي تقرير مكتوب قدمه في 9 أيار/ مايو 1939 لحاييم وايزمان زعم أن زعماء جبل الدروز "أبدوا استعدادهم لنقل أراضي وأملاك الدروز في فلسطين إلى الحركة الصهيونية"، وقال إن قادةً دروزًا بينهم يوسف العيسمي وزيد بك الأطرش سيحضرون إلى فلسطين قريبًا ويقدمون قائمةً بالمواقع المعدة لنقل دروز البلاد إليها.

طلب آبا حوشي من وايزمان جملة مطالب للإسراع في تنفيذ الخطة، بينها إيفاد متخصصين يهود في الزراعة والمواصلات والإعمار إلى جبل الدروز لمعاينة مكان نقل التجمعات الدرزية، وتخصيص مبلغ (50 إلى 65 ليرة فلسطينية) للمشروع، والحفاظ على سرية المشروع وتوكيل ناشط صهيوني يقوم بمتابعة تنفيذه، ومن أجل تسريع التنفيذ أرسل سليم ألفيا إلى دمشق لمتابعة التنفيذ.

 

موت مشروع التهجير

في طريق آبا حوشي إلى تهجير الدروز من فلسطين وقفت عقبات عديدة، بينها دخول الناشط الصهيوني يوسف نحماني على الخط، إذ أجرى اتصالات مع هايل أبو جمرة الذي زعم أنه زعيم مسيحي وله علاقات مع سلطان باشا الأطرش، حيث طلب أبو جمرة من نحماني مبلغًا من المال لإقناع الزعيم الدرزي بخطة توطين دروز فلسطين في 13 خربةً تقع على الحدود بين جبل الدروز وشرق الأردن، كما أن المشروع واجه معارضة الأمير الدرزي حسن الأطرش.

في 13 حزيران/ يونيو زار آبا حوشي دمشق للاطلاع على الأوضاع في سورية وجبل الدروز، وقطْعِ الطريق على نحماني، وكتب لاحقًا إلى قادة الحركة الصهيونية معترضًا على تدخل نحماني في المشروع، ويقول فرو في كتابه إن العيسمي وآبا حوشي استمرا في إقحام اسم الزعيم سلطان باشا الأطرش في التقارير والمراسلات عن مشروع التهجير، رغم أن "الأرشيفات الصهيونية تخلو من أي وثيقة أو رسالة مكتوبة بخط الزعيم الدرزي".

ويتابع فرو أن النشطاء الصهاينة توجهوا إلى القيادي السوري الدرزي زيد الأطرش بعد أن عجزوا عن الحصول على ورقة تؤكد موافقة سلطان باشا الأطرش على خطة الترحيل، وفي إطار الجهود لترويج خطة التهجير أرسل العيسمي رسائل لدروز فلسطين يشجعهم على القبول وبيع أراضيهم للحركة الصهيونية، تزامنًا مع محاولات آبا حوشي إقناع قادة الحركة الصهيونية رصد ميزانيات للمشروع، وأرسل بهذا الخصوص إلى المستشرق الصهيوني إيبشتاين، ورجل الاستخبارات رؤوفين زسلاني الملقب بــ"شيلواح"، والمسؤول عن تنفيذ مهمات سرية في البلاد العربية، واشتكى لهما مماطلة الوكالة اليهودية في تنفيذ الخطة.

المماطلات لم تمنع آبا حوشي من استغلال المناوشات بين دروز شفا عمرو ومسلميها، لدفع دروز فلسطين نحو الهجرة، وزعم العيسمي أن عائلات من دالية الكرمل وعسفيا والمغار اجتمعوا معه لبحث مسألة بيع أراضيهم والارتحال إلى سوريا، لكن هذه العوامل المبشرة للنشطاء الصهيونيين جاءت قبل أن يبدي سلطان باشا الأطرش تحفظه على المشروع.

الوقائع التي فرضتها الحرب العالمية الثانية عطلت تنفيذ مشروع تهجير الدروز، لكن آبا حوشي احتفظ بعلاقاته مع وجهاء دروز بينهم صالح خنيفس وإسعيد معدي اللذين تشاورا معه بخصوص الخطوات المطلوبة للتخفيف من أحكام إعدام أصدرتها المحكمة البريطانية، في حيفا، بحق عدد من الأشخاص على خلفية أحداث شفا عمرو، قبل أن تتبخر آمال النشطاء الصهيونيين في تنفيذ خطة التهجير بعد الصلح الذي أبرم بين دروز البلدة ومسلميها، عقب جهود من شخصيات سياسية وفكرية ودينية من مختلف فئات المجتمع الفلسطيني، وبدعم من وفد درزي سوري ولبناني زار البلاد.

وفي حزيران/ يونيو 1945، ومع تداعيات الحرب العالمية الثانية، والصلح الذي جرى بين المسلمين والدروز في شفا عمرو، فشل مشروع تهجير الدروز من فلسطين، وأعلن الصندوق القومي اليهودي "الكيرن كيمت" عن انسحابه من الخطة نهائيًا.

يزعم ألفيا أن آبا حوشي التقى مع ثلاث شخصيات من الوفد الدرزي الذي زار فلسطين، وهم زيد الأطرش وأسعد كنج أبو صالح وحمزة درويش، ولكن وجهاء الطائفة الدرزية في فلسطين أرسلوا رسالةً إلى المندوب السامي في فلسطين ينفون فيها مزاعم الحركة الصهيونية، ويؤكدون أن أقوال الجماعات اليهودية "ليست حقيقية" وأن الدروز "لم يتفقوا مع اليهود على عمل"، ويختمونها بالتشديد على أن "الدروز يعتبرون اليهود ملةً من الشعب الفلسطيني".

يؤكد البروفسور فرو أن تحليل رسائل العيسمي يظهر أن سلطان باشا الأطرش لم يكن على اطلاع بمخططاته لنقل الدروز من فلسطين، بل زيَن رسائله باسم الأطرش كي يقنع مشغليه الصهاينة بصحة مزاعمه، وفي حزيران/ يونيو 1945 أعلن الصندوق القومي اليهودي "الكيرن كيمت" عن انسحابه من الخطة نهائيًا، وقطْعِ مساهمته في معاش العيسمي.

لاحقًا، وبعد موت مشروع تهجير الدروز، حاول النشطاء الدروز المتعاونون مع الصهاينة مثل لبيب أبو ركن وصالح خنيفيس، استغلال التهديدات التي وجهها لهما نشطاء في حركة الإخوان المسلمين في حيفا بالتوقف عن بيع الأراضي لليهود، من أجل إعادة بث الأوهام في عقل سلطان باشا الأطرش حول خطر يتهدد الدروز في فلسطين.

 

عن مرحلة ما قبل حرب 1948

الشهور السابقة على تفجُّر حرب النكبة كانت تغلي بالتحضيرات من جانب العرب والصهاينة لخوض النزال العسكري، ولم تكن الطائفة الدرزية بعيدةً عن هذه الأجواء. يروي كتاب قيس فرو أن المسؤولين عن منظمتي "الفتوة" والنجادة" سعوا إلى تجنيد شبان دروز لمواجهة العصابات الصهيونية، وهو ما دفع جهاز مخابرات "الهاغاناة" المعروف باسم "شاي" إلى تكثيف النشاطات في القرى الدرزية لإحباط هذه المساعي.

جهود المنظمتيْن وصلت إلى تشكيل لجنة تضم جبر داهش معدي، الذي سيصبح لاحقًا أحد رواد العلاقة بين الدروز والحركة الصهيونية، وصالح خنيفيس، وفايز حسون لبحث انضمام الدروز إليهما، بعد اجتماعات مع يعقوب الحسيني أحد أعضاء الحزب العربي الذي سلم معدي رسالةً من إميل الغوري الأمين العام للحزب، يطلب فيها مشاركة الدروز مع "النجادة" و"الفتوة".

على مشارف النكبة سادَ خطاب الحياد بين غالبية وجهاء المناطق الدرزية، بدعوى أنّهم أقليّةٌ وأنّ اتخاذ موقفٍ إلى جانب العربِ يضرّهم، بينما كان هناك قطاعات درزيّة رافضة لهذا التوجه، ويورد الكتاب مثلاً استطاعة الشيخ نجيب الذي كان يؤمن بمبدأ "الحياد"، كحال الشيخ أمين طريف، ردع 45 من دروز قرية عسفيا الذين خططوا للانضمام للمنظمات المدافعة عن فلسطين، بينما أقام دروز يافا تنظيمًا شبه عسكري للدفاع عن "عروبة فلسطين".

وفي تقرير لمخبر اسمه "محمود" يظهر أن المسؤولين في منظمة "النجادة"، استبقوا قرار هذه اللجنة وأرسلوا وفدًا إلى عسفيا للطلب من الدروز الانضمام إليها، لكن وجهاء البلدة أخبروا الوفد أن الدروز قرروا "المحافظة على الحياد وعدم الانضمام إلى أي منظمة"، لكن هذه الأجواء دفعت جبر داهش معدي وصالح خنيفيس إلى السعي بين قرى الدروز للدعوة إلى إقامة منظمة درزية خالصة، لكن الطائفة رفضت التعامل معهما بسبب الاشتباه بتعاملهما مع اليهود، كما تروي الوثائق التي استند إليها الكتاب.

على أعتاب الحرب لم تتوقف مساعي الحركة الصهيونية لتضخيم أي خلاف بين المسلمين والدروز، وكانت أبرز الشواهد على ذلك المقالات التي نشرتها صحيفة "دافار" الصهيونية حول "حماية الدروز من المسلمين"، بعد حوادث قتل وقعت على خلفية شجار بين راعٍ من قرية يركا الدرزية وآخرين من قرية كويكات.

في كل هذه المراحل، بقيت مساعي الحركة الصهيونية للتواصل مع وجهاء من دروز سوريا ولبنان حاضرةً، إذ تروي الوثائق الإسرائيلية أن الشيخ نجيب منصور مختار قرية عسفيا الدرزية التقى مع الشيخ أمين الحسيني، بعد مشاركته في الوفد الذي شكله المرجع الروحي الأعلى للدروز أمين طريف للمشاركة في حل الخلاف بين "الشعبية" و"الطرشان"، في جبل الدروز، وقدا حاول الحسيني إقناع منصور بإصدار تصريح يؤكد فيه على وقوف الدروز إلى جانب باقي مكونات الشعب الفلسطيني في مواجهة الحركة الصهيونية، لكنّ الأخيرَ رفض بزعم أن الوجهاء الدروز الذين تشاور معهم نصحوه بالرفض، بحجة أن الدروز أقلية صغيرة، في فلسطين.

ارتبط نجيب منصور بعلاقات مع نشطاء صهاينة بينهم طوفيا أرازي، عضو الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، ورتب له لقاءً مع الشيخ كمال كنج أبو صالح نجل أسعد كنج عضو البرلمان السوري، وجمعه مع عزرا دانين المسؤول عن الشؤون العربية في استخبارات "الهاغاناة"، لكن الأخير تخوف من أي تعاون مع الشيخ كمال بسبب تجربته السابقة مع والده.

استطاع الشيخ نجيب الذي كان يؤمن بمبدأ "الحياد"، كحال الشيخ أمين طريف، ردع 45 من دروز قرية عسفيا الذين خططوا للانضمام للمنظمات المدافعة عن فلسطين، بينما أقام دروز يافا تنظيمًا شبه عسكري للدفاع عن "عروبة فلسطين"، كما جاء في مراسلات بين الشيخ نجيب وسليم الأطرش القادم من جبل الدروز لزيارة إخوانه في يافا.

بقي سلاح الشائعات حاضرًا في السياسة الصهيونية لتحييد الدروز عن الصراع، لكن محاولات النشطاء الدروز المتعاونين مع الصهاينة لإقناع الناس بأن سلطان باشا الأطرش يريد منهم "الحياد" في خضم النزاع العسكري أُحبطَت، بعدما باتت مواقف الأطرش أكثر وضوحًا من قضية فلسطين منذ اشتراكه في تصريح صادر في 11 كانون الثاني/ يناير 1947 يدعو إلى "مساندة القضية الفلسطينية والمساهمة في الكفاح ضد الصهيونيين"، ثم تعبيره عن "أمله بأن يتجند أكبر عدد من دروز الجبل مع فوزي القاوقجي في القوات التي ستشارك في حرب فلسطين"، كما ينقل عنه الشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل الدروز في لبنان.

إلى جانب مواقف الأطرش من قضية فلسطين، أعلن الشيخ كمال كنج أبو صالح أنه زار فلسطين للاطلاع على أوضاع الدروز فيها والتحقق من مناسبتها للصراع القادم مع الحركة الصهيونية، قائلًا  كما يرد في الوثائق التي ينقلها البروفسور قيس فرو: "لقد زرت دروز فلسطين الذين لا يتجاوز عدد نفوسهم 17 ألفًا . ومن هذا العدد يمكن تجنيد قوة من 4000 إلى 5000 مقاتل ينقصهم اليوم السلاح. لقد بذلت جهدًا  كبيرًا  للحصول على سلاح لهم لكنني فشلت حتى الآن… لاحظت عدم وجود تنظيم ونقصًا في السلاح عند العرب في فلسطين".

 

يتبع ...



[1]  البروفسور قيس فرو من مواليد قرية عسفيا شمال فلسطين المحتلة، مفكر ومؤرخ فلسطيني، حصل على شهادة الدكتوراه من مركز دراسات البحر الأبيض المتوسط في فرنسا، وله عدة دراسات في تاريخ الطائفة الدرزية، ولبنان وسوريا، والبحث التاريخي، وأفكار رواد النهضة العرب.