الطريق إلى الطوفان: التجديد الفلسطينيّ في مفاهيم التحرّر الوطنيّ
اتفقّ كلٌ من المستعمَر والمستعمِر على أن ما حدثَ في الأيام الماضية، ليسَ لهُ مثيل في تاريخ الصراع والقضيّة. منذُ بدء معركة "طوفان الأقصى" في الصباح الباكر وبدء عمليّات متسارعة ومتعددة في السماءِ والبرّ والبحر، وقد أنجزت اختراقًا للحدود، واشتباكات واسعة في المقرّات وقواعد عسكريّة والشرطة، وقتل العديد من المستوطنين، وعدد كبير جدًا من الأسرى - مع أخذ العين بالاعتبار إلى النقاش الدائر حولَ هل خطّطت المقاومة لقتلِ المستوطنين أم فقط أسرهم والسيطرة على المستوطنات والشوارع الرئيسة - وهذا باختصار شديد، لما حصل.
صُدمت أطراف عديدة سواء صهيونيّة أم عربيّة وإسلاميّة، وتلا ذلك إعلان الحرب من الجهةِ الاسرائيليّة. على هذا الأساس نتساءل: كيف لنا استيعاب ما شنتهُ المقاومة الفلسطينيّة، في سياق الصراع ضدّ الصهيونيّة الممتدّ على قرنٍ كامل ويزيد. هل بالفعلِ ما حدثَ أمس كسرَ جمودًا في المقاومة الفلسطينيّة وطرقها وإمكانيّاتها، وأيضًا في مشروعها السياسيّ وكيفيّة النضال ضدّ الاستعمار، وهل ستستمرّ الحرب إلى غزو بريّ لقطاعِ غزّة، وتتسّع الجبهات إلى شماليّ فلسطين وتدخّل حزب الله، وربّما يسبّب ذلك انخراط الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر؟ وما هو وقعُ ذلك على الجماهير في الشوارع سواء في الضفّة الغربيّة، وكيف تتفاعل الخلايا المسلّحة في الضفّة الغربيّة، وكيف يؤثّر ما حدث على المنظمّات الاجراميّة واستمرار إجرامهم بحقّ الفلسطينيين تحت المواطنة الكولونيالية الإسرائيليّة؟
أسئلةً كثيرة أطلقتها "حرب الطوفان"، ولكن السؤال الأهمّ الآن: كيف نؤطّرها بوصفهِا حربًا للتحرّر الوطنيّ بوصفها مساهمة عربيّة وفلسطينيّة في جدوى القتال وتراكم الخبرات والمعارك والموارد؛ إذ إنّ الهدف من وراء الطوفان، كما يبدو، التحشيد الكامل للشعبِ الفلسطينيّ، وبداية حرب خاطفة من أجل التحرير على الأقل وفق كلمة محمّد الضيف مع انطلاق المعركة. إذ إن الشعب الفلسطينيّ في نضالهِ تعدّدت مساراتهِ: من حربِ الشوارع، حرب الغوار، حرب العصابات، الحرب الشعبيّة، حرب المواقع، حرب الأنفاق باعتبارها جزءًا من تقاليد حروب التحرّر الوطنيّ العالميّة ضدّ الاستعمار ما بعد الحرب العالميّة الثانية، منذ إعلان حرب الصين الشعبيّة عقب استقلالها في عام 1949، شيّدت بدورها هذهِ المدرسة العسكريّة.
رسخت التجربة الفلسطينيّة شعارات واستراتيجيّات مقاومة، وأصبحت تدريجيًا دروسًا في التحرّر الوطنيّ، مثل ما سجّله وديع حدّاد "وراء العدوّ في كلّ مكان"، محيلًا إلى مطاردةِ المستعمِر من خلال ضرب شبكاتهِ الاستراتيجيّة الاقتصاديّة السياسيّة حولَ العالم، وتمثّل ذلكَ أساسًا في عمليّات منظّمة لخطفِ الطائرات، اغتيال السفراء، منظمّات اقتصاديّة ضخمة ممولة للصهيونيّة، أو ما سطّره باسل الأعرج "عش نيصًا وقاتل كالبرغوث". هذا النموّ التدريجيّ لتقاليدٍ فلسطينيّة مقاتلة، مهمّة في فهمِ الطريق إلى الطوفان. في المقابل، ما حدثَ في الأمس هو تطوّر نوعيّ على حينِ غرّة، كسرَ جميع البنى والقوالب التاريخيّة المهيمنة داخل مدرسة التحرّر الوطنيّ، لربّما لم تتلق دولةً استعماريّة إهانة مفاجأة، كما حصلَ أمس، ما يجعل الطوفان إنجازًا بذاتهِ، هو التمكّن من شنّ حربٍ خاطفة كهذهِ، وفي هجومٍ مباغت، ونجحَ في تحقيق أهدافهِ الاستراتيجيّة وتدمير عقائد الأمن القوميّ الاسرائيليّ التاريخيّة، وعلى رأسها اختراق الحدود، وفتح باب عودة اللاجئين، والقتال في داخلِ المستوطنة.
***
في نهايةِ حرب التطهير العرقيّ التي شنّتها مجموعات منظّمة عسكريّة صهيونيّة على الشعب الفلسطينيّ في عام 1949، ووُقعت اتفاقيّات "وقف إطلاق النار" مع الجانب العربيّ المتمثّلة في دول الطوق، بدأت ملامح الأسس الصهيونيّة الأمنيّة في التشكّل، وقد ارتبطت آنذاك في بناء الحكم العسكريّ إزاء الباقين من الشعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة، هي:
1- حظر عودة اللاجئين إلى قراهم وأراضيهم
2- مصادرة الأراضي وبدء في قيام منظومة قانونيّة تؤسس إنتاج السلب والنهب بشكلٍ مستدام وعيده، من خلال جسم "حارس أملاك الغائبين" الذي ولد عبر الحرب، حتى الإقرار النهائيّ في عام 1953، وكما اعتبر القانون حفاظًا على أملاك اللاجئين خارج الحدود، وقد صكّ القانون مصطلحًا متداولًا "الحاضرون الغائبون" وهُم اللاجئون في داخل الأراضي المحتلة، وقدّر 50 ألفًا من الفلسطينيين وهم ثُلث الباقين،
3- تحصين الحدود لمنعِ أيّة حالات تسلّل.
4 - بناء المستوطنات الحدوديّة لتساهم في تثبيت الدولة الاستيطانيّة وعمليّة صناعة حدودها إزاء الفلسطينيّ. جميعها تنحو إلى عمليّة شاملة في صناعةِ الحدّ والحفاظ على "مكتسبات" النكبة.
في المقابل، لم يستكن الفلسطينيّ إلى الواقع الجديد، بل استمرّ في العملِ المقاوم من خلال أعمال التهريب المتواصلة عبر الحدود، حتى أصبحت شكل أساسيّ من الحياة اليوميّة. أتذكّر في مقابلةٍ مع الجد عبد القادر أبو مخ من باقة الغربيّة، أنّ ظاهرة التهريب نشأت بشكلٍ أساسيّ لتلبيةِ الحاجات اليوميّة، إذ إن الحكم العسكريّ قد عيّن مقدارًا ضئيلًا من الطعام والملبس لكلّ عائلة، بحيثُ أنّ هذا ما يبقيها على قيدِ الحياة فقط، موضحًا أن الاجراءات البيو-سياسية التي نشاهدها إزاء قطاع غزّة في تحديد السعرات الحراريّة اللازمة لكلّ مواطن، وعلى هذا الأساس ادخال المؤن والموارد، هكذا تعامل إسرائيل مع "مواطنيها" العرب، وبالتالي جاء فعل التهريب استمرارًا للعلاقات الفلسطينيّة ما قبل الحدود، وأيضًا بهدفِ تلبية الحاجات الضروريّة، مثل ورق لفّ السجائر، شيفرات حلاقة، عملات نقديّة، مؤن وغذاء، اللحوم (للاستزادة دراستي حول التهريب وصناعة الحدّ).
إضافةً إلى ذلك العمل الفدائيّ الذي اخترقَ الحدود بشكلٍ متواصل، وتحوّل لفعلٍ بنيويّ عبر الضفّة الغربيّة قطاع غزّة بشكلٍ أساسيّ: العمليّات المتواصل ضدّ المستوطنات، حرق زرعهم، تخريب ماكيناتهم وممتلكاتهم، اشتباكات مستمرّة مع شرطة الحدود المنبثقة عن الجيش، جميعها أصبحت فعلًا شرعيًا ضمن إطارًا مقاومًا يطمح لاستعادة الأرض والعودة إلى بيوتهم.
حتى العقد الثاني لنشوء الدولة، استمرّت المقاومة على الحدود وتحدّي سيادة الدولة الكولونياليّة الناشئة، ولم يتوقّف بتاتًا، بإسنادٍ مشروط ومتعرّج من بعض الدولِ العربيّة. كما أننا حينما نقرأ مذكّرات موشيه ديّان خلال "حملة سيناء" والعدوان الثلاثيّ على مصر، نشتقّ من خلال سرديّته على أن المهرّبين، والفدائيين، والمتسللين هم عوامل رئيسة للحرب ودوافع الإسرائيليين في تشكيل تحالف مع البريطانيين والفرنسيين، وهذا ما يهمّنا في هذا السياق على الأقل، الحدود بوصفها هاجسًا وبنيةً رئيسة في تشكيل الوعي الصهيونيّ. إذ أنه لم يعد فقط صناعة فيزيائيّة حقيقيّة، بل أيضًا مكونا بنيويًا للتفكير الثقافيّ السياسيّ في الدولة الصهيونيّة (للاستزادة دراسة إسماعيل ناشف طرق عمل)، الذي يتأتى منهُ محاربة تامّة واقتلاع الفعل الفلسطينيّ المهدّد للتشكيلات الحدوديّة الصهيونيّة.
***
الطوفان في هذا الصدد يؤسس فكريًا إلى مواجهةِ الحدّ، كونهُ يعبّر منهجيًا عن خيار وإمكانيّات أخرى للمقاومة. انطلاقًا من مقولة أن العنوان والشعار ليست كلمات عابرة، بل مقدمةً للفعل والممارسة. الطوفان في هذا السياق، زاخر في المعاني غنيّ في الممارسات والتكتيكات المستجدّة، يؤسس لممارسات قتالية مستجدّة، كما أنه يطوّر فهمًا جديدًا للصراع؛ إذ تتحوّل قضيّة تصفية الاستعمار من قضيّة ثورة أمام ظالم أو مستبدّ أو طبقة برجوازيّة، إلى طوفانٍ يُغرق الجميع، ويُطهّر الأرض، وكلّ من يريد البقاء، يجب أن يتمسّك في قيم انسانيّة أكثر جذريّة وأكثر متانةً، مثل العدالة والحريّة، وهكذا تتحوّل هذهِ القيم إلى "سفينة نوح" لهذا الطوفان. هو الانقلاب المفاهيميّ على تقاليد "الثورة الفلسطينيّة" التي انطلقت في منتصف القرن الماضي.
خلال نقاشات فكريّة ثوريّة ماركسيّة في تلكَ الفترة، برزَ إلياس مرقص ناقدًا مفهوم وشعار "الثورة الفلسطينيّة" باعتبارهِ ناقصًا ولا يعبّر عن الحالةِ الفلسطينيّة، ولا يستطيع فعليًا مجابهة الصهيونيّة وتعمقها واتساع هيمنتها. إذ إنه يرى أن تطوّر مصطلح "الثورة"، بدءًا من الثورة الفرنسيّة ضدّ الملكيّة والاستبداد والاقطاعيّة، أو الثورة الروسيّة ضدّ القيصر والإقطاعيين، لا يستطيع التعبير عن الحالةِ الفلسطينيّة الخاصّة، التي تتشابك فيها عوامل عدّة من الظلم، والاستبداد، والاستيطان، والحكم العسكريّ، والاستغلال الطبقيّ، وبالتالي هذا المصطلح غير قادر على التماهي مع الفلسطينيين وتجربتهم تحت هذهِ المنظومات الاستعماريّة المتشابكة (كتاب "نقد الفكر المقاوم").
إذًا علينا أن ندرك أن الطوفان هو نتاج وعي المحاصرين، باعتبارهم المجموعة الأكثر اضطهادًا، ونشتقّ ذلك من مفهوم لينين حولَ الحلقة الأضعف، وقدرة المجموعات في تلك الجغرافيا على إدراك ما يتوجّب فعلهُ كي نتمكّن من تصفية الاستعمار. كما أن الطوفان في معناهُ داخل نسق الثقافة العربيّة الاسلاميّة، هو العذاب الإلهيّ للبشريّة الضائعة في آثامها ووجب تطهيرها، ليسَ بهدف الابادة، بل على العكس من أجل الحياة.