الطيران من "رامون".. سفر من الخارطة والهوية
سافَرَت الإثنين 22 آب/ أغسطس أوّل مجموعة فلسطينية عبر مطار "رامون"، الواقع في جنوبيّ النقب. كانت الرحلة إلى قبرص، وضمّت أربعين فلسطينيًّا بعد منع عشرة من المجموعة من السفر[1]، وبذلك يبدأ التطبيق الفعلي للسماح للفلسطينيين من الضفّة الغربية بالسفر من مطار "رامون" على حساب السفر بقطع الجسر إلى الأردن، وفي الوقت نفسه، بدأ تحويل أجور العمال الفلسطينيين في الداخل المحتلّ إلى البنوك الفلسطينية في الضفّة الغربية بتحويل رواتب سبعة آلاف عامل في دفعة أولى[2]، في تنفيذ لاتفاق قديم بين دولة الاحتلال والسلطة الفلسطينية أبرم في العام 2018.[3]
الفارق بين سفر الفلسطينيين من مطار "رامون" بإرادة إسرائيلية خالصة وتحويل أجور عمالهم في الداخل المحتل إلى البنوك الفلسطينية بإرادة إسرائيلية خالصة كذلك؛ فقط في الموقف الظاهر للسلطة الفلسطينية، التي تعارض على نحو غامض السفر من مطار "رامون"، فهي ترفض ولا تقدر على المنع[4]، وتتحمس لتحويل أجور العمال إلى البنوك العاملة في مجالها السلطوي[5].
السيادة .. نكتة بنبرة حازمة
لم يكن هذا الفارق ليغيب عن سجالات الفلسطينيين، أي في بحثهم غير المضني عن تناقضات السلطة في كلّ موضوع من الموضوعين، وبين الموضوعين، فبغضّ النظر عن المواقف من السفر من مطار "رامون" إلا أنّ الجميع تساءل عن معارضة السلطة ذلك؛ وقادتُها يسافرون من مطار "بن غوريون" في اللدّ المحتلّة، وذلك فضلًا عن النكتة التي يحفّون بها تصريحات سلطوية قد تذكر السيادة الفلسطينية في مبررات رفضها السفر من "رامون".
تعارض المملكة الأردنية الهاشمية بدورها السفر من "رامون"، كما يظهر في حملات دعائية تستهدف المسافرين منه، وتتهمهم بالتطبيع مع الاحتلال، وهو ما يستدعي بدوره النكتة نفسها، إذ ترتبط المملكة بعلاقات دبلوماسية كاملة مع العدوّ، ولم تتمكن من منع بناء المطار وتطويره بالرغم من اعتراضها ابتداء على إنشائه، لمخالفته معاهدة وادي عربة[6]، وقربه من مطار الملك حسين بالعقبة، ومن ثمّ تداخله مع مسارات الملاحة الجوّية من الأردن بما يهدد السلامة الجوّية، وهو الأمر الذي دفع الأردن لرفع شكوى لمنظمة الطيران الدولية، وفي حين أن العدوّ لم يأبه للاعتراض الأردني، فإنه بدأ بتسيير رحلاته من هذا المطار دون الترخيص الدولي اللازم لتسيير رحلات دولية أساسية[7].
يشترك موقف الأردن والسلطة في رفض المطار في قلّة الحيلة والاستقواء على الضعيف، فالأردن الذي يمتلك أوراقًا قويّة ليس أقلّها التنسيق الأمني مع العدوّ، والذي من أبرز مظاهره بالنسبة لسفر الفلسطينيين، منعُ المئات منهم (في الحدّ الأدنى إذ لا إحصاءات حول أعداد الفلسطينيين الممنوعين من دخول الأردن) من دخول الأردن أو استدعاؤهم لمقرّات المخابرات الأردنية، لا يفعل (في الدعاية غير الرسمية على الأقلّ) أكثر من وصم المسافرين بالمطبعين، ولعل من مفارقات الموقف، أن توصف أزمته في موضوع المطار بأنها أزمة صامتة مع "تل أبيب"[8]، بينما يعلو صوته مع الفلسطينيين، وهو ما ينطبق على بعض تصريحات نُسبت لوزير المواصلات في حكومة السلطة الفلسطينية هدّدت بفرض عقوبات على المسافرين من "رامون"[9]، وهو ما جرى نفيه لاحقًا[10].
نسبيًّا يشترك الأردن والسلطة الفلسطينية في موقفهما الرافض إلى بعد اقتصادي، أوضح ما يكون في الحالة الأردنية، بالاستفادة من الموارد المالية الناجمة عن العبور الفلسطيني من الأردن وثقله بالنسبة لمطار الملكة علياء الدولي جنوبي العاصمة عمّان. وبالنسبة للسلطة الفلسطينية فإنّها تستفيد في الحدّ الأدنى من ضريبة المغادرة من على الجسر، إلا أنّ موقف السلطة المتسم بالارتباك بين الرفض وقلّة الحيلة، يخفي خلفه أسبابًا أخرى ينبغي أن لا تقلّ أهميّة في أصل الأمر لأنها تكشف عن المآل الذي ارتكس فيه مشروع السلطة الفلسطينية، وإن كانت قد لا تبدو بالأهمية ذاتها في الواقع، لدى السلطة نفسها، بسبب هذا المآل تحديدًا!
يشترك موقف الأردن والسلطة في رفض المطار بقلّة الحيلة والاستقواء على الضعيف، ويستند موقفهما الرافض إلى بعد اقتصادي أوضح ما يكون في الحالة الأردنية، إلا أنّ موقف السلطة يخفي خلفه أسبابًا أخرى ينبغي أن لا تقلّ أهميّة في أصل الأمر لأنها تكشف عن المآل الذي ارتكس فيه مشروع السلطة الفلسطينية
سلطة بلا سلطة .. ولا سياسة
فبعد تجاوز المجاملة التي لا بدّ منها من السلطة للأردن في دواعي الرفض، فإنّ واقع السلطة السياسي والأمني، ينتهي إلى إزاحة كاملة لكل الأغطية السياسية، وخلخلة نهائية للمسارات الوطنية التي أنتجت السلطة الفلسطينية، فالسلطة وفوق أنها لا تملك أيّ حضور ولو في مستوى شكليّ في مسار السفر من "رامون"، بمعنى أنها تفتقد الوضع السلطوي على "رعاياها" في هذا الموضوع، فإنّها عاجزة كذلك عن اتخاذ أيّ إجراء في موضوع كهذا، تمامًا، كما أنّ حِماها في مناطق "أ" المسيجة وفق اتفاقية أوسلو مستباحة الوقت كلّه منذ العام 2002، وكان آخر مظاهر ذلك فجاجةً، إغلاق الاحتلال لسبع مؤسسات أهلية وحقوقية في قلب رام الله (عاصمة السلطة)، في الفترة نفسها التي انطلقت فيها رحلة الفلسطينيين الأربعين من "رامون" إلى قبرص، وحوّلت فيها "إسرائيل" أجور العمّال الفلسطينيين من الضفّة فيها إلى البنوك العاملة في مناطق السلطة.
لا تحرم "إسرائيل" السلطة الشكل السلطوي على المعابر الخارجية فحسب، ولكنّها بخطوة تسفير الفلسطينيين من "رامون" تسحب من السلطة حتّى تمثيل الفلسطينيين، في مآل لم يكن يخطر على بال أشدّ معارضي تأسيس دولة فلسطينية تعاقدية قبل استكمال مشروع التحرير منذ أن أخذت هذه الفكرة تطرح بجدّية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.
واقع السلطة السياسي والأمني انتهى إلى إزاحة كاملة لكل الأغطية السياسية، وخلخلة نهائية للمسارات الوطنية التي أنتجتها.. وخطوة تسفير الفلسطينيين من "رامون" تسحب من السلطة، بالإضافة للشكل السلطوي على رعاياها، حتّى تمثيل الفلسطينيين، في مآل لم يكن يخطر على بال أشدّ معارضي تأسيس دولة فلسطينية تعاقدية قبل استكمال مشروع التحري
أبعدُ من النبوءة
كان منير شفيق قد توقّع في العام 1972 أن يفضي مشروع الدولة التعاقدية (أي الناشئة عن الاتفاق مع الاحتلال لا عن تحرير الأراضي بفعل المقاومة)، إلى كيان فلسطيني هزيل صوري يعترف بـ "إسرائيل"، وجسر لها لاختراق العالم العربي سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وتصفية الثورة المسلحة، والقيام بدور العازل عسكريًّا لمصلحة الكيان الصهيوني[11]، بينما رأى يوسف صايغ أنّ هذه الدولة ستقع بن فكيّ كماشة: شرقي الأرن من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى، وأنّها (أي الدولة الفلسطينية) ستكون جسر اتصال بين "إسرائيل" والبلدان العربية، وخزانًا ضخمًا لليد العاملة الرخيصة تحت تصرف الاقتصاد الإسرائيلي، وثغرةً تتسرب منها المصنوعات الإسرائيلية إلى البلدان العربية[12].
من نافلة القول إنّ رؤية يوسف صايغ في ذلك الوقت لموقع الأردن بوصفه أحد طرفي كماشة مؤسّسة على الصراع الذي نشأ بين قوى الثورة الفلسطينية في الأردن والحكم الأردني فيما كانت ذروته أحداث "أيلول" (1970)، إلا أنّ أزمة مطار "رامون" اليوم، والكيفية الكاشفة للسجن الكبير للفلسطيين في الضفّة الغربية، وتقاذفهم من سلطات تراتبية ثلاث، السلطة الفلسطينية والأردن ودولة الاحتلال، تعيد الإضاءة على كون الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربية هو الواقع في قلب الكماشة أكثر من السلطة (التي كان يفترض أنها نواة الدولة الفلسطينية المنتظرة)، بمعنى أن السلطة تحوّلت من مشروع سياسي لمنظمة التحرير إلى عامل في الكماشة، لكنه العامل الأضعف، بمعنى أن موقع السلطة ومآلاتها أفضى إلى تعزيز السجن على الفلسطينيين وتوظيفه سياسيًّا، في حين أنّ السلطة لا تتراجع سلطويًّا فحسب، بل وتتراجع سياسيًّا وعلى نحو مأساوي، فبينما كانت الخشية دائمًا، في السبعينيات، من انتزاع الأردن تمثيل الفلسطينيين، والمسارعة نحو مشروع السلطة في إطار جملة دوافع أهمها الصراع على التمثيل، آل المشروع ليظهر الاحتلال وكأنّه الممثل للفلسطينيين.
وإذا كانت مناقشات منير شفيق لأطروحات فلسطينية تسعى للتسوية مع الاحتلال في إطار تلك الدولة المقترحة، ومناقشات يوسف الصايغ لمشروع مؤتمر السلام الذي أخذ ذكره يتردد بعد حرب تشرين/ أكتوبر 1973، فإن غسان كنفاني كان يناقش اقتراحًا لصحفي مصري[13] يدعو لإنشاء دولة فلسطينية في الأردن وغزّة والضفّة، ومن ثمّ ولمّا رأى كنفاني أنّ هذه الدولة ينبغي أن تكون "دولة مرحلة"، "دولة مهمة"، "دولة رسالة"، فإنّه في الوقت نفسه رأى أن العقبة في تأسيس دولة كهذه في علاقة العرب الوصائية على الفلسطينيين، وأنّ الأمر بقدر ما يحتاج أرضًا فإنّه يحتاج إعادة تأسيس الشعب نضاليًّا، وبالرغم من ذلك كان كنفاني يخشى من أن تصير هذه الدولة حلًا للقضية الفلسطينية، وحجة لتصفيتها، وأن لا تحوز الاعتراف الدولي الكافي، وأن تكون مشطورة، وألا تصمد أمام حملات "إسرائيل" الانتقامية[14].
لقد كانت تلك النقاشات محكومة بظرفها الزماني وقواه والفاعلين فيه ومصادر الاقتراحات، لكن النتائج، وبغض النظر عن مصادر الاقتراحات ودوافعها وما ينجم عنها من مخاوف، كانت أكثر كارثيةً، وإن كانت كلّها تتفق في أنّ المشروع قد ينتهي إلى اتخاذه ذريعة لتصفية القضية الفلسطينية، وظلّت قضية هوية الفلسطينيين السياسية -بوصفهم شعبًا مناضلاً- وممثليه قائمةً، فالسلطة بعدما عجزت عن الانتقال إلى الحلّ النهائي، صارت هدفًا قائمًا في ذاته، وبعد ما يسمى "الانقسام" انتقلت وظيفتها الدائمة إلى الصراع مع قوى المقاومة، التي تمثّل الجدار الأخير في مواجهة مسار الانحدار الذي بلغ قاعًا غير مسبوق. وبلا مشروع سياسي، ولا مظلة شعبية، ودون القدرة على تعزيز صمود الفلسطينيين اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فإنّ الاحتلال سيتمكن والحالة هذه من انتزاع تمثيل الفلسطينيين من السلطة الفلسطينية، في مفارقة تاريخية، وذلك لأنّ السلطة ستعتمد حتمًا عليه، وعلى الدول الداعمة له، وعلى قدرتها الأمنية المشروطة بشرط الاحتلال!
إذن لا تعارض السلطة مطار "رامون" لأسباب اقتصادية فحسب، وإنما لإدراكها أنه يمعن في سحب الغلالات الشفافة مما تبقى عليها من أغطية سياسية، ولكنها تعارضه وهي لا تعارضه، إذ المعارضة محض كلامية، فالمشروع انتهى إلى أكثر مما كان يخشى منه منير شفيق، الذي توقّع أن تكون الدولة المقترحة مجرّدة من السلاح، ومن المقومات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، مما سيجعلها في حاجة دائمة للمعونات الأجنبية والعربية لصرف رواتب موظفيها، مما سيجعلها تحت رحمة الهبات، والتغلغل الإمبريالي الأمريكي، ونفوذ الجيش الإسرائيلي[15].
قد يقال إنّ ما تنبأ به منير شفيق منذ العام 1972 قد تحقّق بالحرف، لكن ما تحقّق أسوأ، فالسلطة التي هي بالفعل تحت رحمة الهبات، باتت تعتمد أكثر على شعبها، ولكن بالمعنى العكسي لدورها المفترض وطنيًّا، فهي تعتمد على الإيرادات الداخلية، التي يملك الاحتلال مفاتيح التحكّم بها (حكاية المقاصة وحدها مأساة في هذا الجانب)، لا لتعود وتعزّز صمود الشعب، ولكن للمراوحة في المكان نفسه، منعدم الأفق والهدف والسقف، وبالشرط الأمني الإسرائيلي، بمعنى أن بقاءها صار هدفًا، يمثّل عبئًا اقتصاديًّا على الشعب، ويكرّس في النهاية الاحتلال ومصالحه.
السلطة بعدما عجزت عن الانتقال إلى الحلّ النهائي، صارت هدفًا قائمًا في ذاته، وبعد ما يسمى "الانقسام" انتقلت وظيفتها الدائمة إلى الصراع مع قوى المقاومة، التي تمثّل الجدار الأخير في مواجهة مسار الانحدار غير المسبوق. وبلا مشروع سياسي، ولا مظلة شعبية، فإنّ الاحتلال سيتمكن والحالة هذه من انتزاع تمثيل الفلسطينيين من السلطة الفلسطينية
الإدارة المدنية .. الحكّام الحقيقيون
اتضح في السنوات الأخيرة أنّ الاحتلال يريد وكيلاً أمنيًّا، بلا صفة سياسية جدّية، ولأجل ذلك، أعاد إحياء الإدارة المدنية، تحت عنوان "وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق"، وبخلاف اتفاق أوسلو الذي يقضي بتقليص الإدارة المدنية ونقل صلاحياتها إلى "هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية". لقد تجاوز الاحتلال ذلك كلّه، لصالح التعامل المباشر مع الفلسطينيين في شؤونهم المدنية؛ فأفقد هيئة الشؤون المدنية، ومكاتب الارتباط الفلسطيني، أيّ معنى وطنيّ لها، وأخذ يجري معاملات استصدار التصاريح، وتسهيل الحركة التجارية، بالاتصال المباشر بين وحدة التنسيق الإسرائيلية والمواطنين الفلسطينيين، سواء بالاتصال المباشر بالمكاتب الإسرائيلية المعنية في الحواجز والمستوطنات، أو من خلال تطبيقات إلكترونية خاصة وصفحات على موقع فيسبوك ومواقع إلكترونية.
السلطة التي هي تحت رحمة الهبات، باتت تعتمد أكثر على شعبها، ولكن بالمعنى العكسي لدورها المفترض وطنيًّا، فهي تعتمد على الإيرادات الداخلية، التي يملك الاحتلال مفاتيح التحكّم بها لا لتعود وتعزّز صمود الشعب، لتكرّس بقاءها الذي صار هدفًا، يمثّل عبئًا اقتصاديًّا على الشعب، ويكرّس في النهاية الاحتلال ومصالحه.
تتجلّى الرؤية الإسرائيلية في حدّيها الأدنى والأعلى تجاه السلطة/ الدولة الفلسطينية، بجعلها مجرّد وكيل أمني، يمكن رفعه عنوانًا لإنهاء الصراع، ففي الحدّ الأعلى بحسب خطة ترمب لتصفية القضية الفلسطينية، المسماة إعلاميًّا بـ "صفقة القرن" ورسميًّا بـ "سلام من أجل الازدهار.. رؤية لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"[16]، فإنّ "إسرائيل" تتولّى الأمن في الدولة الفلسطينية المقترحة والسيطرة على مجالها الجوي، وسيكون الانسحاب الأمني الإسرائيلي مشروطًا بأداء الدولة الفلسطينية مسؤوليتها الأمنية في الدفاع عن أمن "إسرائيل"، مع بقاء الوجود الأمني الإسرائيلي على المعابر الفلسطينية مع العالم الخارجي، وإلى حين بناء ميناء فلسطيني يُسمح للفلسطينيين باستخدام موانئ إسرائيلية بإشراف إسرائيلي كامل، وحينما يُعلم أن الخطة نصّت على بقاء سجناء فلسطينيين في سجون الاحتلال، يمكن توقع مصير القدس واللاجئين وما سوى ذلك من ملفات كبرى!
اتضح في السنوات الأخيرة أنّ الاحتلال يريد وكيلاً أمنيًّا، بلا صفة سياسية جدّية، ولأجل ذلك، أعاد إحياء الإدارة المدنية، ويظهرُ أنّ السياسات الإسرائيلية، ستجمع بين الخطط القديمة للإدارة المدنية بإنتاج روابط قرى ضابطة للفلسطينيين لصالح "إسرائيل" ومقترحاتِ تسهيل حياة الفلسطينيين وتقليل الاحتكاك بهم .. وسواء انتهت الخطط "الإسرائيلية" إلى دولة فهي في ظلّ الأمن الإسرائيلي، أم بقي دون دولة، فهي خادمة للأمن الإسرائيلي بلا تمثيل سياسي جدّي.
لا تختلف في الإجراءات خطة ترامب عن خطّة "تقليص الصراع" الإسرائيلية، التي تعني في مآلها الأخير، استمرار الاحتلال الإسرائيلي، مع أقلّ قدر من الاحتكاك الأمني بالفلسطينيين، فاقترحت الخطة شقَّ طرقٍ تصل بين المدن الفلسطينية تخلو من الحضور العسكري الإسرائيلي مع توفّر بدائل أمنية تضمن السيطرة الإسرائيلية، وتوسيع أعداد العمال الفلسطينيين في "إسرائيل" وتسهيل سفرهم إلى الخارج ولو من مطار "بن غوريون"، ومنحهم خطوطًا بحريةً على موانئ إسرائيلية.. الخ[17]، بل إنّ خطّة "تقليص الصراع" تنتهي إلى الدعوة لمساعدة الفلسطينيين على نيل دولتهم، ولكن دون الاعتراف بحدودها!
على حدّ سواء في خطة ترامب، أم في خطة "تقليص الصراع"، يبدو أنّ هذا هو الحدّ الأعلى الذي يمكن للفلسطينيين أن يحوزوه في مسار التسوية، لكن الظاهر من الوقائع الجارية، أنّ السياسات الإسرائيلية، ستجمع بين الخطط القديمة للإدارة المدنية بإنتاج روابط قرى ضابطة للفلسطينيين لصالح "إسرائيل" ومقترحاتِ تسهيل حياة الفلسطينيين وتقليل الاحتكاك بهم، ومن الواضح في إطار هذه الوقائع أن شهوة الإسرائيلي للضبط والسيطرة، والتحكم الكامل بالفلسطيني، لن تستجيب لمقترحات فصل الاقتصاد الفلسطيني عن الإسرائيلي، ومن ثمّ فالإسرائيلي يتحرك في مستويين داخل حلقة واحدة: الرؤى والخطط التأسيسية، والتجارب اليومية الميدانية، لينتهي إلى تجريد الفلسطينيين من كينونتهم السياسية، فسواء انتهى الأمر إلى دولة فهي في ظلّ الأمن الإسرائيلي، أم بقي دون دولة، فهي خادمة للأمن الإسرائيلي بلا تمثيل سياسي جدّي.
لم تكن هذه توصيفات مناوءة للسلطة الفلسطينية، وإنما هي تعبيرات دقيقة صدرت عن مستويات عليا في السلطة، تكشف من جهة عن إدراكها الواقعَ السياسي الحالي، مع العجز عن تغييره، أو عدم الرغبة في ذلك، لاسيما مع تولّد نخبة مستفيدة من هذا الواقع، وتُشترط ديمومة مصالحها بخدمة الواقع الحالي، فقد سبق للراحل صائب عريقات، أمين سرّ اللجنة التنفيذية السابق، وأحد أشهر الفلسطينيين الذين ارتبط اسمهم بمسار التسوية، وأن صرّح بأن "رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أحيا الإدارة المدنية الإسرائيلية، وأن يوئاف مردخاي منسق شؤون الحكومة الإسرائيلية بالضفة المحتلة، بات الحاكم الفعلي للشعب الفلسطيني"[18]، إلا أن تصريحات عريقات الكاشفة أكثر هي قوله: "إن الرئيس الحقيقي للشعب الفلسطيني هو ليبرمان، ورئيس الوزراء هو المنسق مردخاي"[19].
الاستثمار في معاناة الفلسطيني .. ضدّه
ليس ثمّة مبالغة في تصريحات عريقات، لكنه يحيل إلى السؤال عمّا تبقى من السلطة الفلسطينية بوصفها مشروعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية وعمودها الفقري حركة فتح، وبقدر ما تبدو قصة مطار "رامون" دالة على هذه البقايا للسلطة المجردة من المعنى، فإنّ أجور العمّال الذين لا تتحكم بهم ولا بتصاريحهم السلطة، دالّة في الوقت نفسه على تلك البقايا، إذ ترحّب السلطة بتحويل أجورهم إلى بنوكها، بذريعة حماية حقوقهم، ومكافحة سماسرة التصاريح، لكنها تخفي في طيّات ترحيبها؛ أنّها وإن كانت تفقد حضورها السلطوي الشكلي في مسارات السفر من "رامون"، فهي الآن تحوز سلطة حقيقية، ولكن بإذن إسرائيلي، على مداخيل عشرات الآلاف من شعبها، سلطةَ المعلومة، مما يعزّز من ضبطها وسيطرتها، ولكن مرّة أخرى بإذن الإسرائيلي، فضلاً عن صبّ تلك الأجور في طاحونة المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المتحالفة مع هذا الواقع السياسي، إلا أن ما يخشاه العامل، أن تتحوّل هذه الأجور إلى موارد مالية باقتطاعات ضريبية منها للسلطة، ولذلك نظّم العمال إضرابًا احتجاجيًّا على خطوة نقل رواتبهم بنكيًّا، وهو ما يعني أنّ الاحتلال يفتح قناة دعم ماليّ للسلطة، لا يدفع منها شيئًا من جيبه، لضمان استمرارها، على وقع تجاربه اليومية المستندة إلى خططه التأسيسية لكيفيات إدارة الضفّة الغربية[20]!
يمكن في ذلك كلّه، ملاحظة الفشل التشغيلي والاقتصادي لمطار "رامون" ومحاولة إنقاذه برحلات الفلسطينيين، والأهداف الأمنية والاقتصادية للمطار ابتداء[21]، كما يمكن ملاحظة الأهداف الإسرائيلية للضبط والسيطرة، ومكافحة غسيل الأموال وتهريبها، بتقليل حركة "الكاش" منها وإلى أيدي الفلسطينيين، لكن ما ينبغي ملاحظته أكثر هو موقع ذلك كله في سياقه السياسي، باستثمار معاناة الفلسطينيين، لأجل تجريدهم من شخصيتهم السياسية، فالذي يسفّر الفلسطينيين من "رامون" هو الذي وضع احتمالًا بإمكان ترتيب خطوط خاصّة بهم من "بن غوريون"، والذي يحوّل أجورهم إلى البنوك، هو الذي جعل زيادة تصاريحهم جزءًا من خطته لـ "تقليص الصراع".
لا يمكن والحالة هذه، على المستوى الفردي، أخذ الموقف من السفر من "رامون" من زاوية جزئية في إطار خضوع الفلسطينيين للاحتلال، وانتفاء الفرق الجوهري بين السفر منه أو من الجسر مع الأردن، ما دامت الهيمنة للاحتلال، ولا يمكن النظر للأمر فقط من زاوية الكلفة الأقل أو المعاناة الأقل، بل الواجب النظر له بوصفه مشروعًا سياسيًّا إسرائيليًّا له جملة أهداف في القلب منها تجريد الفلسطينيين من شخصيتهم الوطنية، وتحويل كلّ تمثيل سياسي لهم إمّا إلى عبء عليهم أو إلى خادم للاحتلال، أو الأمرين معًا!.
هل كانت المشكلة فقط في إدارة مسار تأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال أم في فكرته وأساسه في وضع من اختلال موازين القوى على نحو كاسح لصالحه؟ ولمّا تكشّف الأمر عن هذه المآلات المأساوية التي تنبّأ بها فلسطينيون منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، أليس الواجب في شقّ طريق جذريّ خارج هذا المسار وإعادة صياغة العلاقة مع المحيط العربي جذريًّا كذلك؟
بعد ذلك، هل كانت المشكلة فقط في إدارة المسار أم في فكرته وأساسها، أي تأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال، في وضع من اختلال موازين القوى على نحو كاسح لصالحه؟ ولمّا تكشّف الأمر عن هذه المآلات المأساوية التي تنبّأ بها فلسطينيون منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، أليس الواجب في شقّ طريق جذريّ خارج هذا المسار وإعادة صياغة العلاقة مع المحيط العربي جذريًّا كذلك؟ إذ يستثمر الاحتلال كذلك في معاناتنا مع محيطنا العربي، لا لتكريس سياساته فحسب، ولكن لقتل الفلسطيني باليأس، وجعل إدارة الاحتلال لحياته خياره الوحيد؟ فالاحتلال الآن هو الذي يقرّر ما هو الأحسن للفلسطيني، كيف يسافر، ومن أين وإلى أين، وأين يعمل وكيف يتلقّى أجوره! ليس فقط في سياقات الضبط والسيطرة الأمنية، ولكن أيضًا في سياقات مصادرة الهوية الفلسطينية، وجعل الاحتلال للفلسطينيين أفضل الخيارات المعيشية بالنسبة للوقائع السلطوية والعربية المحيطة بالفلسطينيين!
[10]. https://bit.ly/3ALLt3s
[11]. منير شفيق، "لماذا يرفض الفلسطينيون مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة"، مجلة شؤون فلسطينية، عدد 7، (آذار: 1972): ص65 - 73
[12]. يوسف الصايغ، فلسطين بين التحرير والتسوية، (الكويت: منشورات نادي الاستقلال، بدون تاريخ): ص13- 14
[13]. هو أحمد بهاء الدين، نشر مقالته في صحيفة المصور، في في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1968.
[14]. غسان كنفاني، المقاومة هي الأصل، الدراسات السياسية المجلد الخامس، (قبص: دار منشورات الرمال، 2015): ص480 - 484
[15]. منير شفيق، مصدر سابق.
[16]. “Peace to Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People, The White House, 28/1/2020, accessed on 3/2/2020, at :https://bit.ly/3AMkAw:
[17]. في مفهوم "تقليص الصراع"، الخلفية، الغايات والمآلات، إعداد وتقديم: وليد حباس، ترجمة: بلال ظاهر، (رام الله: مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2021).
[18]. https://bit.ly/3cibXjZ
[19]. تصريحات عريقات على قناة شبكة قدس الإخبارية على موقع اليوتيوب، https://youtu.be/mEYbVrY6L8I
[20]. https://bit.ly/3Kk8PjU
[21]. انظر في ذلك مقالة هنادي قواسمي، "في إنَّ": كواليس السفر عبر مطار رامون، متراس، 26/7/2022، https://bit.ly/3ApgGZ6