القوة الناعمة للمقاومة (1): الألحان والحناجر

القوة الناعمة للمقاومة (1): الألحان والحناجر
تحميل المادة

عشية سقوط حكومة طالبان عام 2001، ذهب وزير خارجية الهند إلى العاصمة الأفغانية كابول على متن طائرة لم تكن محملةً بالأسلحة والأغذية والأدوية والمساعدات، وإنما كانت مليئةً بأشرطة سينمائية بوليوودية، وأشرطة موسيقية وأغانٍ هندية، جرى توزيعها في جميع أنحاء العاصمة الأفغانية.

ما فعله وزير خارجية الهند في مطلع القرن الحالي كانت قد فطنت له فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر، ففي حين كانت بريطانيا تحاول احتلال أراضٍ تحكمها الدولة العثمانية، كانت فرنسا تفاوض الدولة العثمانية على افتتاح مراكز ثقافية لها في بيروت، ولذلك تعدُّ فرنسا من أوائل الدول التي أدركت أهمية القوة الناعمة واستخدمتها، وذلك قبل تطوير المصطلح والنظرية.

ظهر مصطلح "القوة الناعمة" لأول مرة عام 1990 في كتاب "ملزمون بالقيادة" للمفكر الأمريكي جوزيف ناي، الذي عاد مرة أخرى وكتب عن القوة الناعمة عام 2001 في كتابه "مفارقة القوة الأمريكية"، وذلك قبل أن يكتب كتابًا مخصصًا عام 2004 أطلق عليه اسم "القوة الناعمة".

والقوة الناعمة تعني "قوة الجاذبية"، وذلك نظرًا لأن الجهات التي تستخدمها سواء كانت هذه الجهات دولًا أو منظماتٍ أو أحزابًا تسعى إلى تحقيق أهدافها عن طريق الجذب والتعاطف وخلق الاهتمامات. وهو ما قال عنه الكاتب التركي "سيركان جونوغدو" في كتابه "القوة الناعمة والدبلوماسية العامة في السياسة الخارجية التركية": "ليس بالضغط وإنما بالرضا، ليس بالأمر والإجبار، وإنما بالجذب والتعاطف، تتحقق الأهداف".

وبحسب "جوزيف ناي" فإن الثقافة هي أهم عنصر من عناصر القوة الناعمة، حيث تبرز أهمية الثقافة كونها توفر المناخ المناسب للتأثير -التأثير السياسي خاصةً-، إذ إن التأثير الثقافي يخلق نوعًا من كسب الولاء من الرأي العام والجمهور نحو الجهة القائمة بعملية التأثير هذه.

وللثقافة العاملة، بوصفها أداةً من أدوات القوة الناعمة، أشكالٌ كثيرة لا حصر لها، وتختلف هذه الأشكال بحسب الجهة المستخدمة لها، فمن الجوانب الثقافية المستخدمة بالنسبة للدول التي تسعى للتأثير في شعوب الدول الأخرى: برامج التبادل الثقافي، والتبادل الطلابي، ونشر اللغة القومية، وفتح المؤسسات التعليمية في الخارج، وتقديم المنح الطلابية لطلبة الدول الأخرى. أما بالنسبة للمنظمات والمؤسسات والأحزاب –التي تستطيع هي الأخرى استخدام الأشكال المذكورة أعلاه- فإن الأشكال الثقافية للقوة الناعمة تتركز أكثر في المسلسلات والأفلام والأغاني والأناشيد.

 

حضور عابر للحظر

وللأناشيد أهمية كبيرة، خاصةً في الدول التي تعاني من أزمات وطنية وقومية، أو تلك التي تقع تحت الاحتلال، إذ تقوم هذه الأناشيد بوظائف التعبئة الوطنية والحشد ورفع الروح المعنوية والدعم والمؤازرة، وتقوم كذلك بوظائف لا تقل أهمية عن المذكورة سابقًا، وهي وظائف الإرشاد والتوجيه والتوعية، خاصةً لدى الأوساط التي تتعرض لتجاذبات سياسية وثقافية تسعى لتفريغ الروح الوطنية وسلب النزعة الفدائية من عقول الناس وقلوبهم، ومحاولة إقناعهم بالحلول السلمية والوساطات الدولية بديلًا عن المقاومة، الحقّ الأصيل والمكفول للشعوب التي تعيش تحت الاحتلال، بالمنطق الأخلاقي والشرعي، وحتى بمنطق القوانين الدولية.

مؤخرًا، أي خلال العقد والنصف الأخيرين تقريبًا، اكتسبت الأنشودة الوطنية أهميةً خاصةً، وحضورًا مكثّفًا في مسيرة النضال الفلسطيني، لا سيّما مع الظرف الراهن في الضفة الغربية، الذي اتّسم بتجريف الحالة الوطنية والحياة العامة، وإضعاف الحضور الفصائلي، ومحاولات تسييد ثقافات مناقضةٍ للأبعاد الوطنية، كثقافة الاستهلاك والتطبيع مع الوجود الإسرائيلي، وسواها من السياسات التي تعذّر معها كثيرٌ من الحضور الاعتيادي للحالة الوطنية، فيما بقيت الأنشودةُ قادرةً على الحضور، مع تغلّبها على إمكانيات القمع والتقييد، والاتّساع المتتالي لوسائل التواصل والشبكة العنكبوتية. وعليه، باتت فصائل المقاومة عبر فرقها الإنشادية، أو عبر الفرق الإنشادية المدعومة منها، تستخدم هذا اللون الثقافي بكثافةٍ، بوصفه قوةً ناعمة، في محاولة للتأثير الداخلي وتوجيه الشعب ورفع معنوياته وكسب تعاطف شرائح كبيرة من المجتمع.

ربما نستطيع النظر إلى ما يمكن تسميته بـ "القنبلة الفنية" التي انفجرت في فلسطين خلال هذه الفترة من زاوية الحاجة، خاصةً بعد أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007 وحظر أنشطة حركة حماس في الضفة الغربية وملاحقة نشطائها، إضافةً إلى ملاحقة نشطاء المقاومة من جميع الفصائل بناءً على التفاهمات والاتفاقيات التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم أنتج هذا الواقع حاجةً لدى هذه الفصائل التي غُيِّبت أنشطتها وفعالياتها عن جيل كامل في الضفة الغربية إلى اختراق هذا المجتمع والوصول له بوسائل عدة كان أبرزها الأناشيد الوطنية.

 

 

أناشيد العرين والكتيبة

هذه الحالة الممتدة طبعت لحظتنا الراهنة في الضفة الغربية مع صعود التشكيلات المقاومة المسلحة في نابلس وجنين. جولة بسيطة على قنوات الفرق الإنشادية المقاومة ستحيلك إلى كم هائل من الأناشيد الداعمة للمقاومة وكتائبها المسلحة في الضفة الغربية خاصةً في جنين ونابلس، فعلى سبيل المثال منذ الظهور العلنيّ الأول لعرين الأسود في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2022، أي قبل 7 أشهر من كتابة هذه الكلمات، أصدرت الفرق الإنشادية الشهيرة قرابة 17 أنشودةً خاصةً لنابلس وعرين الأسود،  مجدَّت كلمات هذه الأناشيد عرين الأسود ومسيرتها، وخلّدت بطولاتها وأسماء شهدائها، إضافة إلى أكثر من ثلاث أناشيد خُصصت لنابلس وجنين سويًا، أي أن المعدل اقترب من إنتاج أنشودة واحدة في كل أسبوع، وهذا ما يؤكّد ما ذكر آنفًا بأن المقاومة وأجنحتها الفنية باتت تنظر إلى الأناشيد من زاوية الحاجة لا من زاوية الترفيه والتمجيد والفخر فقط.

ومن الأمثلة البارزة على هذه الأناشيد أنشودةُ عرين الأسود التي غنّاها فريق أجناد المعروف بميوله لحركة حماس، فقد حققت الأنشودة انتشارًا واسعًا في صفوف جميع فئات الشعب الفلسطيني، ولعل مرورًا خاطفًا من أزقة البلدة القديمة لأي زائر لها لن ينتهي دون أن يستمع لكلماتها وموسيقاها تخرج من أحد المحلات المنتشرة على زوايا طرقاتها العتيقة.

ما ينطبق على نابلس ينطبق على جنين بالقدر ذاته، إضافة إلى بقية المدن الفلسطينية التي شهدت صعودًا في عمليات المقاومة؛ إذ لم تترك الفرق الإنشادية عمليةً أو شهيدًا إلّا وأنشدت له،  ومن أبرز هذه الأناشيد أنشودة "على الشهادة تبايعنا" التي تمجد شهداء كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس، وخاصةً الشهيد فاروق سلامة الذي اغتاله الاحتلال صبيحة حفل زفافه، وكذلك أنشودة "عشق المخيم" التي حققت انتشارًا واسعًا كذلك، والتي جاءت في رثاء الشهيد الطبيب المشتبك عبد الله أبو تين المقاتل في صفوف كتائب شهداء الأقصى.

ومن الأهمية بمكان ذكر أن هذه الأناشيد التي صدرت في الفترة الماضية كانت معظمها من فرق تتبع لحركة حماس، أو أن أصوات منشديها وأسماءهم ارتبطت بالحركة في أذهان المستمعين، وهذا ما يعني أن قوةً ناعمةً تمارسها حماس من خلال هذه الأناشيد لا يمكن المرور عنها دون تمحيص. فحينما يشغل أحد الباعة في البلدة القديمة بنابلس أنشودة عرين الأسود، ويشغلها آخر في حفل زفافه بالقدس، ويشغلها شبانٌ يتبعون لحركة فتح أثناء احتفالاتهم بالفوز بانتخابات مجلس اتحاد طلبة جامعة الخليل، ثم تقول هذه الأنشودة في أحد مقاطعها "إحنا رجال الضيف رجاله" فهذا يعني أن حماس تسهم في أسطرة قائد جناحها العسكري في نفوس المستمعين حتى من ألد معارضيها الذين يرددون "إحنا رجال الضيف" في وقت يحتفلون فيه بالفوز على كتلة الضيف ذاتها!

وهذا يحيلنا إلى مقولة مؤسس نظرية القوة الناعمة "جوزيف ناي" في كتابه: "القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية": "حينما أجعلك تريد فعل ما أريد منك فعله فليس ثمة موجِبٌ لاستخدام القوة أصلًا"، ولعل هذا ما نجحت بفعله فصائل المقاومة بشكل عام، وحركة حماس بشكل خاص مؤخرًا عبر قوتها الناعمة.  


بلدة بيتا

قد لا تستطيع حركتا حماس أو الجهاد الإسلامي، بل وكثير من الفصائل الفلسطينية، نظرًا لطبيعة الوضع في الضفة الغربية، دعوة أنصارها للخروج إلى جبلي صبيح أو العرمة في بلدة بيتا ورفع أعلامها فوق قممها خلال المواجهات، سواء لأسباب تتعلق بالاحتلال، أو أسباب داخلية لها علاقة بالانقسام الفلسطيني، لكنّها استطاعت عبر إنتاجها الفنيّ الإنشادي الوصول إلى الجبل عبر طريقٍ أخرى، فحماس مثلاً، من خلال الفرق الإنشادية المحسوبة عليها، أو عبر المنشدين الذين ارتبطت أصواتهم بالحركة، أنتجت أربع أناشيد من أصل ستِّ أناشيد شهيرة أُنشدت لبلدة بيتا منذ بداية حالتها المقاومة، أي أن نصيب حماس من الإنتاج الإنشادي المتعلق ببيتا كان أكثر من جميع المؤسسات والفصائل والفعاليات الوطنية والفرق الإنشادية مجتمعة.

إحدى هذه الأناشيد وهي أنشودة "حراس الجبل" تكرر مقطوعة "خط الدفاع عن الضفة" قاصدة بلدة بيتا وشبابها وثوارها، وهذه محاولة لرفع الروح المعنوية لأهالي البلدة الجريحة إثر ارتقاء عشرة شهداء على الجبلين وإصابة مئات الشبان، ولا تقتصر على الثناء على بلدة بيتا فقط بل تحاول استثارة البلدات والقرى المجاورة لبيتا فتقول:

"ورجال الإسناد بقُصرة = ويتْما وقبلان المنتصرة ..

بيت العزة يا بيت دجن = تسلموا بوقفتكوا الحرة".

هذان البيتان من هذه الأنشودة التي يسمع المار من شوارع بيتا وأحيائها كلماتها تتردد في محلات الباعة وفي السيارات وفي الطرقات، وينشدها شباب البلدة على اختلاف انتماءاتهم يقومان مقام درس في التوجيه السياسي وخطبة في الحث على المقاومة، وجلسات في التعبئة والحشد، وهذا في محصلته يعد قوة ناعمة لحركة حماس التي استطاعت إيصال صوتها إلى الجبل ونشطائه.

قد يقول قائل، وخاصة من أصحاب الذائقة الرفيعة في الاستماع للأناشيد، إنّ ما أسميته "القنبلة الفنية" أسهم بشكل واضح في الهبوط بمستوى الأداء والكلمات والرصانة المعتادة في الأناشيد، وهذا صحيح بالطبع، فبعد أن كانت الفرق الإنشادية تجتهد لتصدر ألبومًا واحدًا كل سنة مكونًا من 3-6 أناشيد، تعمل على ضبطه وتبذل جهودًا كبيرةً عليه طوال العام، أصبحت تنتج ضِعف هذا العدد من الأناشيد في ساعات معدودة. لكن، من الجدير ذكره أن الذائقة الفنية والسمعية لجيل أبي راتب، ورضوان عنان "أبو مازن"، أي جيل الجريدة والمجلات والمواقع الإلكترونية ذات المواد العميقة والمنشورات الطويلة، تختلف كليًا عن جيل وسائل التواصل الاجتماعي والتيك توك والفيديوهات القصيرة والسريعة والقصص المصورة الممتلئة بمقاطع من هذه الأناشيد، ومن ثمّ أصبح هناك حاجة لهذه "القنبلة" من أجل سد حاجة وسائل التواصل الاجتماعي الممتلئة بمئات الفيديوهات القصيرة يوميًا، والتي تلتهم هذه الأناشيد مهما ازداد عددها.

قائل آخر ربما يطرح مسألةً أخرى، وهي أن هذه الفرق تصدر هذه الأناشيد لغايات غير التي ذكرت أعلاه، وأنّ كاتب هذه المادة قد حمَّل كلمات الأناشيد أحمالًا لم تقصدها الفرق الإنشادية ولا داعموها، وربما يكون هذا صحيحًا من زاوية المرسل فقط، لكن القوة الناعمة بحسب منظّريها ترتبط بالطرف المستقبل أكثر من ارتباطها بالطرف المرسل، فقد تغيب قصديّةٌ ما عن ذهن المرسل، ثمّ تجدها حاضرةً لدى المستقبل، وعليه، فإنّ الأنشودة بصناعتها هذا الأثر، وإن لم يقصده المرسل تحديدًا أو ضرورةً، تكون قد لعبت دور القوة الناعمة الثقافية لفريقها وللمقاومة بشكل عام، ولحظتها فإنّه يقع على "المرسل" دور استثمار الأثر الذي خلقته هذه الأناشيد، للبناء عليه، والاستثمار فيه، وتطوير قوّته الناعمة، وتعزيز رسائله وأهدافه عبرها.