الماركسيّة الشرقية والماركسيّة الغربية.. عن الولع بالفشل والهزيمة

الماركسيّة الشرقية والماركسيّة الغربية.. عن الولع بالفشل والهزيمة
تحميل المادة
  • جونيس مانويل

  • ترجمة: فرح عصام

مقدمة

تحاول المادّة التالية، من موقع "بلاك أجندا ريبورت"، فحص واحدٍ من عوامل كثيرةٍ لعدم قدرة الحركات والأحزاب الاشتراكيّة في أوروبا الغربية والولايات المتحدّة وعدد من دول أمريكا الجنوبية على تحويل التجارب الاشتراكية الحزبية إلى تجارب ملموسة وجذريّة، كتلك التي وُجدت في الصين على يد ماو تسي تونغ[1]، وفي الاتحاد السوفياتي على يد لينين[2]، عبر مقاربة الفشل من منظور تأثيرات الإرث الكاثوليكي في هذه الدولّ، وبحث الطرق التّي رسم فيها التراث الدينيّ حدود الحركات الاشتراكية عبر أمثلة كثيرةٍ في التاريخ.

فرح عصام

 

نصّ الترجمة

 ثمة تناقضٌ جوهري في العديد من الدراسات الماركسية التي أُنتجت في الغرب؛ فكلّما تناولت هذه الدراساتُ الماركسيّةَ في آسيا: الصين، أو كوريا، أو فيتنام، أو تحدّثت عن الحركات الجماهيرية في بلدان إفريقيا مثل مصر، أو ليبيا، أبرزتْ تأثير الدين على تلك الحركات السياسية والتكييفَ القومي للماركسية. وعلى سبيل المثال، عندما يدرس أي باحث ماركسي الماركسيّة الصينيّة نجدهُ مدفوعًا بمعالجة تأثير الكونفوشيّة الصينية على الثقافة الصينية عمومًا، والماركسية الصينية بالتحديد. كذلك، دائمًا ما يؤخذ بعين الاعتبار التأثيرُ الذي حمله الإسلام على العديدِ من الدول الإفريقية في تحليل [تجارب] الأمم الاشتراكيّة كالجزائِر.

أمّا عند النظر في ماركسية الدول الغربية، فنادرًا ما يؤخذ بعين الاعتبار التأثير المسيحي في بناء العالم الرمزيّ والموضوعي والنظريّ لهذه الماركسية. يبدو الأمر كما لو أنّ الكونفوشيّة تؤثّر في سياسات آسيا، والإسلام يؤثّر في سياسات إفريقيا، أمّا في البرازيل، والولايات المتحدّة، وفرنسا، والبرتغال، فلا تؤدّي المسيحية دورًا من هذا النوع في تشكيل الذاتيّة التاريخيّة. وهذا خطأ لسببٍ بسيطٍ وملموسٍ جدًّا، يُشير إليه أنطونيو غرامشي[3] في عدّة فقرات من كتابه "رسائل السجن". (ترجمة سعيد بوكرامي/ طوى للنشر).

 إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة أقدمُ المؤسسات الفاعلة في الغرب. فما من مؤسسة أخرى تدبّرت أمر البقاء حتى هذا الوقت بالتوازي مع القدرةِ على نشرِ الأفكار وإشاعتها، عبر جسمٍ من الكهنة والأساقفة وعُلماء الكلام المثقّفين المنضوين تحت لواء بيروقراطيةٍ بحجم تلك التي تمتلكها الكنيسة الكاثوليكيّة. لذا فمن المستحيل الحديث بجديّة حول الماركسيّة والسياسة والذاتويّة والثقافة والحقل الرمزي في الغرب، من دون تضمين الدور الذي لعبته المسيحيّة في أي تركيبٍ اجتماعيّ لأيٍّ من بُلدانه بصفتها عنصرًا للتحليل.

على عكس الشائع لدى كثير من الكتاب اليساريين الغربيين الذين يستثنون تأثير الكاثوليكية والكنيسة على الماركسية الغربية .. فإنه من المستحيل الحديث بجديّة حول الماركسيّة والسياسة والذاتويّة والثقافة والحقل الرمزي في الغرب من دون تضمين الدور الذي لعبته المسيحيّة في أي تركيبٍ اجتماعيّ لأيٍّ من بُلدانه بصفتها عنصرًا للتحليل.

وباعتقادي فإنَّهُ لمن المستحيل فهمُ الظاهرةِ الموصوفةِ خطأً "بالشعبويّة" (مصطلحٌ أتفادى استخدامه)، لوصف هذه العلاقة بين الطبقات الشعبيّة وأمثالِ لولا دي سيلفا[4]، جيتوليو فارغاس[5]، ميغيل أرايس[6]، ليونيل بريزولا[7]، خوان بيرون[8]، فيلاسكو إيبارا[9]، هيوغو تشافيز[10]؛ من دون أن نفهم الترتيبات الأساسية للعلاقة الكاثوليكية بين القدّيسين والأتباع. قد لا يكون هذا هو التفسير الأوحد بالطبع، لكنّ هنالك مكوّنًا رمزيًّا في البنية السياسية لهذه العلاقة. ولقد شغلتني هذه الفكرة لوقتٍ طويل، على أنّها ليست من بناتِ أفكاري. فقد كتب كل من دومينيكو لوسوردو ورولاند بوير عن "كيفَ كانَ الولعُ بالهزيمة واحدًا من الملامح الجوهريّة للماركسيّة الغربيّة، وكيف أنَّ هذا الأمرَ اشتقاقٌ أُسيءَ فهمهُ عن الثقافة المسيحية".

 

الفخر بالنقاء

أوّلا، سنناقش نزعةً كبيرةً موجودة في الماركسية الغربية. يرسمُ بيري أندرسون فصلًا بين الماركسيتّيْن الشرقية والغربية. والماركسيةُ الغربية في الأساس نوع من الماركسية، التي من ميّزاتها، أنها لم يحدث لها أبدًا أن مارست السلطة السياسية. إنها نوع من الماركسية التي أرّقت نفسها أكثر فأكثر، بقضايا فلسفية وجمالية (استطيقية). وعلى سبيل المثال، فقد انسحبت من انتقاد الاقتصاد السياسي وقضيّة الظفر بالسلطة السياسية، وأخذت المزيد والمزيد من المسافة التاريخية عن التجارب الملموسة من التحوّلات الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، والصين وفيتنام وكوبا وغيرها. تَعُدّ هذه الماركسية الغربية نفسها في مكانة أسمى من نظيرتها الشرقية لأنّها لم تلطّخ الماركسية بالتحوّل إلى أيدولوجيّة دولتيّة كما حدث، على سبيل المثال، في الماركسية السوفياتية، ولا سبق لها أن كانت سلطويةً، أو شموليّةً أو عنيفةً. هذا النوع من الماركسيّة يحافظ على براءة النظرية وإن مسَّ الأمرُ بحقيقة أنها لم تتحوّل أبدًا إلى ثورةٍ في أي مكانٍ على وجه الأرض، وهذه نقطةٌ بالغة الأهميّة. أينما نجحت ثورة اشتراكية في الغرب، مثل كوبا، نجد أنّها كانت أكثر ارتباطًا بما يُسمى الماركسية الشرقية من تلك الغربية التي أنتجتها أوروبا الغربية: الولايات المتحدة وكندا وأجزاء من أمريكا الجنوبية. هذه الماركسية فخورة جدًّا بنقائها، وهذا أول ملمح جوهري مُشتق من المسيحية.

الماركسية الغربية في الأساس نوع من الماركسية، التي من ميّزاتها، أنها لم يحدث لها أبدًا أن مارست السلطة السياسية. إنها نوع من الماركسية التي أرّقت نفسها أكثر فأكثر، بقضايا فلسفية وجمالية .. وتَعُدّ هذه الماركسية الغربية نفسها في مكانة أسمى من نظيرتها الشرقية لأنّها لم تلطّخ الماركسية بالتحوّل إلى أيدولوجيّة دولتيّة ولا سبق لها أن كانت سلطويةً، أو شموليّةً أو عنيفةً

يشير غرامشي إلى أن الاهتمام التاريخي الرئيسَ للكنيسة الكاثوليكية انصبّ على أن تضبط دراسة تعاليم المسيحية وانتشارها، بحيث تَحُولُ دون ظهور تفسيرات مستقلة رائجة على مستوى أركانها الأساسية، وتحول دون انتشارها كذلك، وتحفظ بذلك نقاء العقيدة التاريخية. وبناءً عليه، بإمكان الكنيسة الكاثوليكية القول بأن المسيحية ديانةُ حب، ومساواة ومحبّة الجار، وتعاطف و"لا عنف"، برغم حقيقة أنها كانت سلاحًا جوهريًا في تشريع العبودية، والحملات الصليبية، والاستعمار، وبرغم تقارب العديد من عناصر الكنيسة الكاثوليكية مع الفاشية النازية والديكتاتوريات العسكرية.

ثمة اعتقاد متأصل على مدار تاريخ المسيحية بأنَّ هذه العناصر لا تفسد العقيدة، وبأنها تعبيرات خاطئة عن المسيحية، أو بأنّها حقائق معزولة عن بعضها، لا تحملُ أي مرادفٍ نظري أو سياسي، بل والأهمّ، ليس لها معنى لاهوتيّ. لذا، فحقيقة أنّ التاريخ يتناقض مع تأكيدات المسيحية بأنها مبنية على التعاطف والسلام لن يغيّر العقيدة، ولا يتحدّاها.

يتصرّف العديد من الماركسيين بهذه الطريقة، فأكبرُ همومهم براءة العقيدة. كلّما تحدّت الحقائق التاريخية عقيدتهم، أو أظهرت تعقيداتِ التطبيق العمليّ لعناصر النظرية الماركسيّة، أنكروا بأن هذه العناصر جزء من نظرية الماركسية وعقيدتها. أحد أعظم الأمثلة على ذلك، كان عندما دخل الاتحاد السوفياتي المرحلة النهائية من الأزمة؛ وبينما لاحت نهاية الاتحاد السوفياتي، أعلن الكثير من الماركسيين الغربيين هذه النهاية حدثًا عظيمًا في التاريخ لأنه حرر الماركسية أخيرًا من تلك التجربة التي وُلدت في ثورة أكتوبر (الثورة البلشفية)، والتي شوهت الماركسية، وحولتها إلى محض أيديولوجية دولتية. الآن، ودون الحاجة إلى تفسير طبيعة التقييدات التي فرضها الاتحاد السوفياتي على الماركسية، بإمكان الماركسية أخيرًا أن تتحرر وتصل ذروة الانعتاق التام.

 

التّوق إلى الألم والهزيمة

عامل آخر منتشر جدًا في اليسار الغربي هو التعامل مع المعاناة والفقر المدقع بوصفها جوانب أفضليّة. إنه لمن الشائع جدًّا في ثقافة اليسار الغربي دعم الضحايا والفواجع. الجميع اليوم يحبُّ سيلفادور ألليندي[11]. لماذا؟ سلفادور ألليندي ضحية، إنه شهيد، لقد اغتيلَ في انقلاب عسكري نفّذه بينوشيه. عندما كان هوغو تشافيز على قيد الحياة، تخلّت عنه شرائح واسعة في اليسار الغربي. لو أنه تعرّض للقتل على سبيل المثال، في محاولة انقلاب عام 2002، لَأحبّتهُ الغالبية العظمى في اليسار الغربي اليوم بوصفه رمزًا للمعاناة والشهادة. لكن بما أنّه استمر بمزاولة السلطة قائدًا للعملية السياسية التي، بحكم الضرورة، حملت تناقضات عديدةً، فقد تخلّى عنهُ المزيدُ والمزيد من الناس مع مرور الوقت -فضلاً عمّا حدث لمادورو-[12].

عامل آخر منتشر جدًا في اليسار الغربي هو التعامل مع المعاناة والفقر المدقع بوصفها جوانب أفضليّة. إنه لمن الشائع جدًّا في ثقافة اليسار الغربي دعم الضحايا والفواجع .. ثمة افتتان بالهزيمة لدى اليسار الغربي. إنها فكرةٌ بأن الهزيمة شيء سحريّ.

هذه الشرائح ذاتها التي احتفت ودعمت فكرة ألليندي لأنه دافع عن الديمقراطية الاشتراكية لا ترى، أو أنها لا تريد أن ترى، بأن ألليندي قد حكم كلّيًا تقريبًا عبر المراسيم الرئاسية. في ذلك الوقت، كانت في الدستور التشيلي ميكانيزمية مكّنت السلطة التنفيذية من الحكم عبر المراسيم التي لم تكن هناك حاجة لموافقة البرلمان أو حتى المحكمة العليا عليها. لذا فقد تمكن ألليندي من سنّ القوانين التي تخطت البرلمان والمحكمة العليا. بما أن ألليندي لم تكن لديه غالبية الأصوات في البرلمان وذاق الأمرّين من تلك المعارضة البرجوازية، فقد حكم بشكل رئيسٍ عبر المراسيم طوال مدة تفويضه. هذا السلوك اليوم مسوّغ كافٍ لوصم أيّ زعيم يمارسه بأنه سلطوي، أو بمقارنته بترمب، أو بولسانارو[13]. لو كان ألليندي حيًّا اليوم لتعرّض للانتقاد أيضًا، لكنه قُتل.

مثال آخر على هذا الأمر هو حالة تشي جيفارا[14] وفيدل كاسترو[15]. بالنسبة إلى معظم اليساريين الغربيين، يمثل تشي جيفارا ثائرًا حالمًا، على أنه لم يكن كذلك في الحياة الحقيقية، لكنّهم شيّدوا حوله هذه الهالة. لقد قضى تشي جيفارا مضحّيًا بنفسه في أدغال بوليفيا، لذا يُعدُّ الآن رمزًا للتضحية ومرارة الهزيمة. بينما ظلّ فيدل في كوبا قائدًا للثورة الكوبية بما حملته من تناقضات، يُنظر إليه اليوم بوصفه بيروقراطيًّا، فاقدًا لأي سحر أو جاذبية في أوساط العديد من أبناء اليسار الغربي إن لم يكن غالبيّتهم. أمّا تشي جيفارا فظلَّ رمزًا أبديًا للمقاومة، للحلم، أو الطوباوية التي لم تتحقق بسبب الموت.

مثال آخر على هذا التباين هو كيف تُعامَل كوريا الشمالية مقارنة بفلسطين. لقد انخرط كلا البلدين بالنضال ذاته - ألا وهو النضال ضد الاستعمار من أجل الاستقلال الوطني - في حالة كوريا، كان النضال من منظور اشتراكي. نجحت كوريا، بالرغم من أنها بلد طحنته الإمبريالية. لديها اقتصاد قوي نسبيا، مع مستوى عالٍ إلى حدّ ما من التصنيع، جيش قومي قويّ مع القدرة على تصنيع أسلحة نووية. لذا فكوريا ليست بلدًا أعزل. أما الفلسطينيّون فشعبٌ مضطهد، في حالة من العَوز، ليس لديهم اقتصاد قومي لأنه ليست لديهم دولة قومية، ليس لديهم جيش عسكري أو قوة اقتصادية. بالتبعية، فلسطين تجسيد تام لاستعارة داوود وجالوت، غير أن هذا الداوودَ ليست لديه أي فرصة لهزيمة جالوت في صراع سياسي أو عسكري، بالتالي، فالجميع تقريبًا في اليسار الدولي تروقه فلسطين. ينتشي الناس بالنظر إلى تلك الصور -التي لا أعتقد أنها رائعة جدًّا- لطفل أو شابّ يستخدم المقلاع لإلقاء حجر على الدبابة. حسنًا، إنه مثال واضح وصريح على البطولة لكنه أيضًا رمز للوحشيّة والبربرية. هذا شعب لا يملك القدرة على الدفاع عن نفسه في مواجهة قوة استعمارية مسلحّة حتى النخاع. ليست لديهم القدرة ذاتها على المقاومة، لكنّ هذا يُضفي عليه طابعًا رومانسيًا. هذه الوضعية من القمع والمعاناة والشهادة تروق لليسار الغربي.

حالة أخرى نعرفها جيدًا هي حالة فيتنام. الجميع دعم فيتنام عندما تعرّضت للهجوم، والقصف والتدمير على مدار 30 عامًا. لقد هَزمت فيتنام اليابان في الحرب العالمية الثانية، ثم تعيّن عليها أن تواجه فرنسا، ومن ثمّ الولايات المتحدة. في الفترة ما بين  1945-1975 أمضت البلاد 30 عامًا متواصلةً دون القدرة على بناء مستشفىً أو مدرسةٍ لأنّ قذيفةً من فرنسا أو الولايات المتحدة ستهوي وتدمّرها. عندما تمكنت البلاد أخيرًا من هزيمة كل أشكال القوى الاستعمارية والنيوليبرالية وتسنّت لها الفرصة للتخطيط لبناء الطرق السريعة والأنظمة الكهربائية والمدارس والجامعات دون سقوط القذائف في اليوم التالي وتدمير كل شيء كان من الممكن صنعه، تخلت غالبية شرائح اليسار الغربي عن البلاد. لقد فقدت سحرها، فقدت جاذبيتها. ثمة افتتان بالهزيمة لدى اليسار الغربي. إنها فكرةٌ بأن الهزيمة شيء سحريّ.

مثال واضح على هذا الافتتان يتمثّل في حالة الانقلاب في بوليفيا. عندما كتب سلافوي جيجك، المفكر النقدي الشهير، مقالة بعنوان "بوليفيا..تشريح الانقلاب"، ما الذي كان في محور اهتمامه؟ أن يُظهر أن إيفو موراليس[16] رجل ديمقراطي، بأن إيفو موراليس لم يَقتل أو يَسجن الخونة خلال محاولات الانقلاب السابقة، وبأن هؤلاء الناس أنفسهم قد نفّذوا الانقلاب ضده. بكلمات أخرى، جيجك يشيد بالعنصر ذاته الذي أدّى لهزيمة الثورة في بوليفيا بوصفه دليلًا على السمو الأخلاقي.

 

الخلاص السماوي.. خارج التاريخ

أمّا العنصر الثالث الشائع في اليسار الغربي فيأتي من التصور المسيحي بأنّ الخلاص ليس نتاج أفعال المرء، وإنما محض قرار سماوي. إنّه التصور بأنَّك، رغم عملك للقيام بالتصرفات الصحيحة، ولأن تكون شخصًا جيدًا، فإنّ خلاصك قرار إلهيّ محض. أمّا الجهود الذاتية المتصلة بأساس الماركسية، ألا وهي السيطرة على السلطة السياسية (كما قال لينين: "كل شيء فيما عدا السيطرة السياسية محض وهم") فقد نُزعت عنها القيمة بسبب هذا التأثير من الثقافة المسيحية، مع أن غالبية المثقفين المسيحيين ملحدون.

وبدلاً من ذلك، فإنّ القيمة العليا تصبح وضعيةً أبديةً من المقاومة التي يستقي منها المرء إحساسًا بالفخر. حينما خسر بيرني ساندرز[17] الانتخابات للمرة الثانية، قال أستاذ ماركسي مرموق من جامعة ساوباولو في حسابه على فيسبوك: "لقد حاربنا كما لم نحارب من قبل، وخسرنا كالمعتاد، لكن النضال مستمر. الآن، ألكسندرا كورتيز هي مستقبل الاشتراكية في الولايات المتحدة". إن المنطق الماركسي في التفكير في الصراعات السياسية كافةً من منطلقات الاستراتيجية، والتكتيكات، وسياسات التحالف والبرامج، وتحليل الأخطاء نقديًا من أجل تفاديها في المستقبل، وضرب العدوّ سياسيا أو حتى عسكريا من أجل الظفر بالسلطة؛ منطقٌ اختفى ببساطة، وتم استبدال حركةٍ أبديةٍ من المقاومة به، كما لو أنها دليل على الاصطفاء الإلهي. هذا المنطق الذي ينبغي أن يكون جوهر السياسة، ومنطق الاستراتيجيا، قد فقد قيمته مع تحوّل المقاومة إلى غاية في ذاتها.

إن المنطق الماركسي في التفكير في الصراعات السياسية كافةً من منطلقات الاستراتيجية، والتكتيكات، وسياسات التحالف والبرامج، وتحليل الأخطاء نقديًا من أجل تفاديها في المستقبل، وضرب العدوّ سياسيا أو حتى عسكريا من أجل الظفر بالسلطة؛ منطقٌ اختفى ببساطة، وتم استبدال حركةٍ أبديةٍ من المقاومة به، كما لو أنها دليل على الاصطفاء الإلهي.

 

خاتمة .. في تجاوز التأثير المسيحي

سويةً، تخلق هذه العناصر الثلاثة الموصوفة نوعًا من النشوة النرجسية بالهزيمة والنقاء. تفخرُ الذاتُ في النأي بنفسها عن الحركة المادية التاريخية لاشتراكية الحركة العاملة وثورات التحرير. إنها تستمدّ الفخر من الانفصال السياسي أو النظري عن أي ثورات حدثت في الصين وروسيا وكوريا وفيتنام والجزائر والموزمبيق وأنجولا. إنها عوضًا عن ذلك، فخورة بالنقاء المفترض بحيث أن نظريتها لم تتلوث بعثرات ممارسة السلطة، بمتناقضات العمليات التاريخية. إن النقاء هو ما يستدعي تلك النشوة النرجسية، ومن هذا النقاء تستمدّ إحساسها بالتفوق، إنه يمنحها الإحساس بوجود امتياز الموقف الأخلاقي مقارنةً باليساريين الآخرين الذين، على سبيل المثال، يعترفون بالثورات الصينية أو الكوبية أو الكورية. وبالتالي، فإنها تقبل "السلطوية" وتقبل اقتصادًا غير مبني على التحقيق الكامل للإدارة الذاتية. هذا النوع من الماركسية ليست لديه قوة فعلية. بإمكانه إنتاج تحليل جيد للواقع لكنه غير قادر على إنتاج حركة استراتيجية وثورية تهدف للظفر بالسلطة السياسية، بالتالي فإن عملية إعادة بناء الماركسية الثورية في الغرب عليها أن تعترف بوجود هذه العناصر الرمزية التي أصبحت متأصلةً في الماركسية الغربية، والتي هُرّبت إليها من المسيحية. هذه العناصر يجب أن تخضع للنقد الجذري والاجتياز. 

هذا النوع من الماركسية ليست لديه قوة فعلية. بإمكانه إنتاج تحليل جيد للواقع لكنه غير قادر على إنتاج حركة استراتيجية وثورية تهدف للظفر بالسلطة السياسية، بالتالي فإن عملية إعادة بناء الماركسية الثورية في الغرب عليها أن تعترف بوجود هذه العناصر الرمزية التي أصبحت متأصلةً في الماركسية الغربية، والتي هُرّبت إليها من المسيحية. هذه العناصر يجب أن تخضع للنقد الجذري والاجتياز.

 

·      المادّة المترجمة لا تعكس بالضرورة آراء موقع إطار أو كادره التحريري.

·      بإمكانك قراءة المادّة الأصليّة من هذا الرابط



* جميع الهوامش التالية التي تُعرّف بالشخصيات المذكورة في المادة كتبها المحرّر، وليست من نصّ المادة الأصلي.

[1]  ماو تسي تونغ (1893-1976): قائد الحزب الشيوعي الصيني ومؤسس جمهورية الصين الشعبية ورئيسها الأول من (1949-1976)، شكّلت أفكاره الثقافية والاقتصادية والعسكرية المستندة إلى الأيديولوجيا الماركسية خطًا نظريًا داخليًا عُرف بـ "الماوية".

[2]  فلاديمير لينين (1870-1924): ماركسي روسي، قائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية على روسيا القيصرية عام 1917.

[3]   أنطونيو غرامشي (1891-1937): فيلسوف ومناضل ماركسي إيطالي.

[4]  لولا دا سيلفا: الرئيس البرازيلي الحالي، والسابق لدورتين (2002-2010)، يساريّ، تعرض لمحاولة انقلاب بعد تسلمه الرئاسة قبل أيام.

[5]  جيتوليو فارغاس (1882-1954) : يساري برازيلي، تولى الرئاسة 4 مرات كان آخره 1951-1954، توفي برصاصة في القلب، ويُزعم   أنه قُتل منتحرًا.

[6]  ميغيل أرايس (1916 – 2005): محامٍ وسياسي برازيلي. شغل منصب عمدة مدينة ريسيفي ونائبًا للولاية ونائبًا اتحاديًا وحاكم بيرنامبوكو ثلاث مرات.

[7]  ليونيل بريزولا (1922-2004): سياسي ومناضل يساري برازيلي، وحاكم ريو ديجانيرو (1982-1990).

[8]  خوان بيرون (1895 – 1974): رئيس يساري أرجنتيني لفترتين، تعرض للانقلاب والنفي نهاية حكمه الأول الذي استمر من (1946-1955).

[9]  فيلاسكو إيبارا (1893 – 1979): يساري، الرئيس الإكوادوري لخمس فترات متفرقة.

[10]  هيوغو تشافيز (1954-2013): يساري فنزولي، رئيس فنزويلا من (1999-2013).

[11]  سيلفادور ألليندي (1908-1973): يساري، رئيس جمهورية تشيلي منذ 1970 وحتى 1973، قتل في انقلاب عسكري خططت له الـ CIA.

[12]  سيلفتاور مادورو (1962 - ): الرئيس الحالي لفنزويلا خلفًا لهيوجو تشافيز.

[13]  جايير بولسونارو (1955- ): يمينيّ برازيلي ذو خلفية عسكرية، الرئيس السابق للبرازيل.

[14]  تشي جيفارا (1928-1967): طبيب وثائر يساري أرجنتيني، شارك في الثورة الكوبية والثورة البوليفية، ويعدّ رمزًا للثورية اليسارية.

[15]  فيدل كاسترو (1926-1916): رئيس وزراء، ثم رئيس كوبا من (1959-2006)، تعرّضت بلاده لحصار أمريكي على خلفية توجهاتها الشيوعية. 

[16]  إيفو موراليس (1959 - ): يساري، رئيس بوليفيا السابق، استقال من منصبه في 2019 بعد أشهر من انتخابه إثر احتجاجات واسعة، واتهامات بدعم خارجي لها.

[17]  بيرني ساندرز (1941- ): سياسي اشتراكي أمريكي منضوٍ في الحزب الديمقراطي، خسر في الانتخابات التمهيدية للرئاسة عن الحزب الديمقراطي في 2016 و 2020.