المرض جبهة أخرى… غزة تحت نيران شتى

في حافلة أجرة صغير، يتكدّس الركاب حتى أن منهم من يقف خارجها متعلقا بالسقف، بينما ينفرد شاب بالمقعدين المجاورين للسائق، بعدما دفع أجرة ثلاثة ركاب، فعلّ ذلك ليجلس براحة في طريقه الطويل، دون أن تتأثر ساقه المصابة، استجابة لتحذيرات الأطباء بأن الإصابة ستتحول إلى إعاقة دائمة ما لم يلتزم بالتوصيات.
كانت إصابة الشاب مدخلًا لحوار تبادل فيه الركاب همومًا ومخاوف متعلقة بالصحة، يحكي أحدهم قصته مع المرض التي بدأت بعد استشهاد عدد من أفراد أسرته، صداع دائم، ومشاكل في الأعصاب، وآلام غير مبررة في أنحاء متفرقة من جسده، يدرك أن أصل العلّة نفسي، لكنه يأمل أن يجد لها علاجًا بالأدوية لتخف آلامه ولو قليلًا.
يعدل آخر جلسته على المقعد المزعج شاكيًا من أوجاع سببها انزلاق غضروفي، فيما يعلّق غيره بعد سعال متكرر: "حساسية الصدر ذبحتني"، وجواره أبٌ يشير إلى ابنه الجالس على رجليه، وتحديدًا لرأسه شبه الأصلع، ويقول بأسى: "شعره كان ناعمًا وثقيلًا، لو نعرف سبب التساقط لنعالجه!"، وفي المقعد الخلفي يتذكر آخر كيف أجهضت زوجته جنينًا مشوّها في آخر أشهر الحمل.
تردّ سيدة تشير ملامحها إلى كونها في منتصف العقد السابع من العمر: "انتو لسة شباب، ديروا بالكو ع حالكو و ع ولادكو"، فيقاطعها طفل لم يتكلم من بداية الحوار: "ما شاء الله يا خالتي صحتك أحسن من صحتنا، الحرب هدّت حيلنا، أنا بحمل مياه وحطب وأغراض السوق بعد إصابة أبوي، ضهري انكسر يا خالتي، كأنه الجوع مش كفاية، والله تعبت".
وصلت وجهتي، فنزلت بينما الحوار مستمر، إنه لا يستمر في الحافلة فقط، بل في حياتنا كلها، فصحة الناس هنا تحتل جزءًا من أحاديثهم بعد ما حلّ بها خلال 22 شهرًا من الحرب.لسنا بمعرض سرد قصص تحكي أوجاع الغزيين جسديًا ونفسيًا، ولكن يكاد الجزم يكون حقيقة لا مبالغة لو قلنا إن وجود إنسان واحد معافى في قطاع غزة أمر مستحيل.
يحارب الاحتلال الفلسطينيين في صحتهم، يدمرّ أجساد أجيال، وهذا ما يخيف الناس، يدركون أن الأمراض أحد أهم الآثار غير الظاهرة للحرب، وأنها ستعيش معهم طويلًا، وبعدهم أيضًا...
عن أسباب المرض
لماذا يمرض الغزيّ؟ سؤال قد تنحصر إجابته في خيارات قليلة لمن لم يعِش تحت الإبادة، خيارات تدور حول الإصابات والإعاقات والتلوث البيئي واستهداف المنشآت الصحية، لكن الواقع فيه من مسببات المرض ما لا يُحصر. وهذا ليس تشكيكًا في تعاطف المتعاطفين، وليس تدليلًا على تجاهل المتجاهلين، وإنما من حقائق الإبادة أنها أكبر من قدرة الإنسان على الاستيعاب، وأوسع من خياله في تصوّر الكارثة ونتائجها.
نضرب مثالًا؛ نضع سيناريو مختصرًا لإنسان يصحو مع ساعات الصباح الأولى، فطوره خبز و"دقة" إن كان محظوظًا، وإلا فهو يخرج من خيمته يجر الخطى والجوع لألا يفوّت سيارة مياه الشرب، يملأ عشرات الليترات في قِرَب مهترئة، ويُتبعها بكمية مضاعفة من مياه الاستخدام اليومي، وغالبًا يحتاج المشي مسافة غير يسيرة للحصول عليهما، ثم يأخذ الهواتف النقالة وبطاريات الإضاءة لنقطة شحن، ويكمل طريقه للسوق، معتمدًا على رِجليه المتعبتين في الذهاب والإياب، ففرص ركوب وسيلة نقل ضئيلة، وطريق العودة يكون أصعب إن كان يحمل مشتريات، لكنه قلّما يعود بمشتريات كثيرة، فالبضائع شحيحة والأسعار صادمة، ويترك الحطب لآخر بائع في طريقه ليقلل الوزن المحمول قدر المستطاع.
يشعل الحطب، حيث مشاكل العيون والتنفس والجلد واحتمال الحرق، أو يترك المهمة لأهل بيته، ليتسنى له الخروج في جولة بحث عن الرزق، سواء بالعمل أو بالتوجه لمؤسسة خيرية أو تكية يتكدس الناس أمامها وتحترق أجساد بعضهم من الحساء المسكوب جراء التدافع، وهذه الفقرة من اليوم يمكن استثناؤها حاليًا، فتوزيع المساعدات شبه متوقف.
يعود هذا المُثقل بالهموم ليتناول وجبة غداء تسرّب لها التلوث من طريقة طهيها، ولا ترقى لمستوى المقبلات على الموائد الطبيعية، ربما حساء العدس دون خبز، أو فاصولياء معلبة، أو لا شيء، الثابت أن الطعام غالبًا مؤذٍ للجهاز الهضمي، وخالٍ من الفائدة، إن لم يكن مضر. مع كل دخول وخروج للخيمة، يحني ظهره ورقبته، يجلس على فراش أرضي رديء، يحتاج أن يسند ظهره إلى جدار، فلا يجده بالتأكيد في خيمة من قماش، وهذه أمور تحصل عشرات المرات في اليوم الواحد، تُراها ماذا تفعل في فقرات الظهر والعنق المُتعبة أصلًا من كل المهام السابقة التي لها تأثير على الجسم كله.
وفي نهاية اليوم، يضع رأسه على الوسادة، فتتكالب عليه الأفكار بشأن يومه التالي، كم سيتعب فيه؟ وهل سيجد ما يُسكت به جوع صغاره؟ ومن أين سيأتي بالمال؟ يبقى على هذا الحال إلى أن يغلبه النوم، قبل أن يصحو فزعًا عدة مرات على أصوات انفجارات، حتى تشرق الشمس ويضطر للنهوض قبل وصول سيارة المياه، غير آبهٍ بساعات النوم ولا بجودته.
بهذه الطريقة، يمضي يوم الغزي، كل شيء مرهق، ولكل يوم مهامه المختلفة، فلو مرض الفرد يذهب للمستشفى ماشيًا، ويعود ماشيًا، ويمشي أكثر ليبحث عن الدواء اللازم في الصيدليات الفارغة أرففها، وبعض المهام تختلف حسب الحالة الجوية، فمن أصعب أعمال الشتاء حماية الخيمة من المطر وإخراج المياه منها، وفي الصيف تظهر الأمراض الجلدية التي لم يجد الأطباء تشخيصًا لأغلبها. كل ما سبق ليس مبالغة، بل هو أقل مما يحصل مع البعض، وبالتأكيد يعيش البعض أعباء أقل، يختلف الحال من أسرة لأخرى حسب مكان سكنها، وعدد أفرادها، ووجود إخوة يتقاسمون المهام.
آثارٌ تمتد لأجيال
مدير عام الرعاية الأولية بوزارة الصحة، استشاري طب الأسرة د. عاهد سمور يقول إن للحرب تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على صحة المواطنين، المباشرة تتمثل في الإصابات والإعاقات الجسدية الناتجة عن القصف أو الاستهداف بالسلاح من أي نوع. ويضيف: "التأثير غير المباشر هو الناتج عن تضرر الخدمات الصحية، وتلوث البيئة والمياه، ونقص الغذاء". ويفصّل أكثر في الأضرار غير المباشرة: "تضرر الخدمات الصحية يعني القصور في تقديمها مقارنةً بالأوقات العادية، بسبب استهداف المنشآت الصحية أو الطواقم الطبية، ونتيجة إشغال الأَسرَّة بحالات الإصابات المباشرة، والنقص الشديد في الأدوية والأجهزة الطبية، أما التلوث فيساهم في انتشار الأمراض والأوبئة، ويؤدي نقص الغذاء إلى سوء تغذية ويترك آثاره على الجميع، خاصة الفئات الهشة مثل الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن".
مما بدأ يظهر الآن، ويحتاج متابعة وجهدًا كبيرين في العلاج والتأهيل، بحسب سمور، الأمراض النفسية والعصبية. ويبين: "ثمة أثار تظهر حاليًا منها انتشار الأوبئة، وتبعات سوء التغذية، وهذه تأثيرها أكبر على أصحاب الأمراض المزمنة، كأمراض القلب، والسكر، والربو". منذ اندلعت الحرب، عانى سكان القطاع من أمراض كانت شبه مختفية، وأخرى لم يسمعوا بها من قبل، مثل التهاب الكبد الوبائي "أ"، وشلل الأطفال، والتهاب السحايا، ومتلازمة غيلان باريه، والجرب، والقمل، وكثير من الأمراض المعدية التي وجدت في القطاع بيئة خصبة للانتشار بسهولة.
في نزوحي الرابع، شتاء 2023، حيث ستة أُسر اجتمعت في مساحة ضيقة، وكل أسرة في غرفة واحدة أو في غرفتين صغيرتين، كانت نزلات البرد تتجول بيننا، إن التقط أحدنا عدوى من أي مكان، يتحسس الجميع نفسه، وتبقى احتمالات حماية النفس من المرض قريبة من الصفر. عزل المريض في الحرب شبه مستحيل، فأغلب العائلات إما نازحة أو تستقبل في بيتها نازحين، ما يعني زحامًا شديدًا، ويكون الوضع أسوأ في المدارس حيث يتكدس المئات، ودورات المياه تُعد على أصابع اليد، وبالطبع يزيد الخطر بزيادة خطورة المرض المعدي.
لاحقًا، يتوقع سمور ظهور أمراض كثيرة ومختلفة تصيب الناس حتى بعد توقف الحرب، ويمتد تأثيرها لفترات طويلة، نتيجة التلوث البيئي وخاصة الإشعاعي، والآثار الناجمة عن سوء التغذية بشكل تراكمي، والتي تأخذ أشكالًا منها نقص المناعة ومشاكل في التطور والنمو عند الأطفال، وظهر بعضها بالفعل، مثل زيادة السرطانات وتشوهات الأجنة.
الأجيال القادمة، التي لم تعِش الحرب، لن تنجُ من آثارها الصحية، فهي ستُولَد لآباء وأمهات عاشوا الحرب وتضرروا منها، خاصة مع كون الأمهات منهكات جسديًا ولا يملكن المعادن والفيتامينات الكافية بسبب سوء التغذية المستمر، هذا ما يؤكد سمور أنه بحاجة لدراسة ومتابعة لكونه أمر متوقع بقوة. ويبين أن التركيز حاليًا مُنصّب على الأثر المباشر، سواء من الإصابات أو الوفيات، ولا تتوفر إحصائيات دقيقة للآثار غير المباشرة، رغم أنها ستكون أكبر من المباشرة حسب توقعاته. ويوضح أنه من حيث الخطورة، فإن الإصابات المباشرة تأتي في المقدمة لأن الأمر يتعلق بإنقاذ الحياة، ويليها سوء التغذية وتأثر الخدمات الخاصة بالفئات الهشة. أمام هذا الواقع، يشير إلى أن الفئات الأكثر تضررًا هي الأطفال، والنساء، وكبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة.
حين ينهار الكادر الطبي
ويقول إنه ما يزيد الخطر، أن مشاكل كثيرة تجتمع على الإنسان في وقت واحد، التلوث البيئي والتجويع، ما يؤدي إلى نقص المناعة وزيادة الأمراض ورفع قابلية الإصابة بالعدوى، هذا عدا عن احتمال الإصابة المباشرة.ويضيف أن من مسببات تفاقم المشكلة أيضًا، النقص الحاد في الأدوية، وتراجع القدرة على تقديم الخدمات الصحية، وتوقف بعضها تمامًا، لذا فإن بعض المرضى تدهورت صحتهم، ومنهم من توفوا بأمراض يمكن السيطرة عليها بالأدوية. النقص الحاد في الأدوية لا يعني صعوبة الحصول على بعضها، بل استحالته، مرّت بالقطاع أوقات لم يجد الناس فيها حبة مسكن للصداع.
أدوية مرضى ضغط الدم، والسكري، والقلب، والفشل الكلوي، وغيرها من الأمراض المزمنة تختفي أحيانًا، ويضطر المرضى للتنقل بين البدائل، ومعلوم أن توقف تناولها يؤدي إلى مضاعفات خطيرة.وإن كان الاهتمام ينصب على الأمراض المعروفة فيسمح الاحتلال بإدخال علاجها من حين لآخر، ثمة أمراض انقطعت الأدوية الخاصة بها لأشهر، كحمى البحر الأبيض المتوسط، مرض وراثي يتعايش المرضى معه ولا يشكل خطرًا عليهم ما داموا ملتزمين بتناول عقار "كولشيسين"، ودون العلاج يصبح الفشل الكلوي من مضاعفات المرض، ومن ثم الوفاة، وفي الحرب لم يجد المرضى الدواء أِشهرًا متواصلة، وحاليًا لا يستطيع كثير منهم توفير ثمنه، كما كثير من أصحاب الأمراض الأخرى.
مثال حي؛ سيدة اجتمعت عليها عدة أمراض، السكري، وضغط الدم، وفايبرومايلجيا (الألم العضلي الليفي) الذي يسبب آلاما شديدة، وفوق كل هذا عملية فاشلة لعلاج انزلاق غضروفي في الرقبة أدت لمشاكل في الأعصاب. هذه الأم المسؤولة عن ستة أبناء، وجدت صعوبة كبيرة في تحديد الدواء المناسب لها لعلاج السكري، وأوصاها الطبيب بعدم تغييره مهما كانت الظروف، لكنها لم تجده إلا في الأشهر الأولى من الحرب، فلجأت إلى منظّم السكر المعروف "Metformin"، أما دواء الضغط فقد قطعت مسافات طويلة تجوب بين الصيدليات وكانت تنجح في توفيره، حتى انقطع تمامًا قبل شهر، وليس في خطتها البحث عن "كولشيسين" لارتفاع سعره، وهي مجبرة على تحمل أوجاع "فايبرومايلجيا" لصعوبة الحصول على مسكنات قوية.
وكعادته، يبدع الاحتلال في تبرئه نفسه، فيسمح بإدخال الأدوية بشكل متقطع وبكميات قليلة، وفي نفس الوقت ينتزعها بطرق أخرى، كاستهداف مستودعات أدوية، وإعاقة وصول قوافل مساعدات طبية، بالقصف أو بالسرقة، فيسمح للصوص بالسيطرة عليها.زادت وزارة الصحة اعتمادها على الأدوية منتهية الصلاحية، باعتبار أن تمديد صلاحية الدواء إجراء معمول به على مستوى العالم في الظروف الطارئة، وكانت الوزارة تعمل به قبل الحرب بسبب الحصار، ولكن بنسب أقل كثيرا مما عليه الحال الآن.
المواطنون أيضًا لجأوا للأدوية منتهية الصلاحية، مع العلم أن مفعول كثير من الأدوية قد يقلّ خلال فترة صلاحيتها بسبب طرق التخزين والعرض، فكثير من الصيدليات عبارة عن خيام لا يمكن التحكم بحرارتها، خاصة في الصيف حين تكون الخيمة أشبه بالفرن، وأحيانًا يعرض صيادلة أدويتهم على الأرصفة تحت أشعة الشمس.
إحصائيات وزارة الصحة تقول إن صفرا هو رصيد 47% من قائمة الأدوية الأساسية و65% من المستهلكات الطبية، وأن 22 مستشفى من أصل 38 خرجت عن الخدمة، ويعمل من مراكز الرعاية الأولية المئة وخمسة، ثلاثون فقط، ولا تعمل في القطاع إلا 50 غرفة عمليات في ظروف كارثية، وقد تجاوزت نسبة إشغال الأسرة 106%، ولم يبقَ إلا تسع محطات أكسجين تعمل بعد تدمير 25 محطة، مع عجز كبير في أجهزة التصوير الطبي، بعد تدمير كل أجهزة الرنين المغناطيسي، و12 جهاز تصوير مقطعي مع تبقي سبعة فقط.
في هذا الواقع الصحي العصيب، لا يملك المواطن وسيلة لحماية نفسه وأهل بيته، لذا توجه وزارة الصحة نصائح وإرشادات طبية للمواطنين خاصة فيما يتعلق بانتشار الأمراض، ولكن النصيحة العامة لكل الحالات هي كما يبين سمور التوجه إلى المراكز الطبية والمستشفيات حال الشعور بالمرض، والمتابعة لأصحاب الأمراض المزمنة والأطفال والحوامل، والحفاظ قدر الإمكان على النظافة الشخصية ونظافة المكان والالتزام بالإجراءات الوقائية التي تحددها الوزارة.
ربما من أبلغ ما يوضح حقيقة الوضع الصحي حاليًا، حديث سمور عن الإصابات والأمراض في صفوف الكادر الطبي، وأكثر ما ينتشر بين أفراده في التجويع الذي نعيشه، السقوط والإغماء بسبب الجوع والإرهاق بينما هم على رأس عملهم يقدمون الخدمة للمواطنين. هذه الأعراض تظهر على من سلم منهم، فالاحتلال يستهدف الكوادر الطبية بالاغتيال والاعتقال، وآخر جرائمه في هذا السياق اعتقال الطبيب مروان الهمص على أيدي قوة خاصة في خان يونس، وتبين لاحقًا أنه مُصاب، ما يعني أن النظام الصحي يشهد انخفاضًا في عدد كوادره، وبالتالي تتأثر الخدمة المُقدمة للمرضى.
بسبب تدهور الواقع الصحي، يخاف المواطنون من المرض، يعرفون أنهم لن يجدوا علاجًا مناسبًا، فمن يجد فرصة للعلاج، لا يحصل عليها كاملة، ومن يحتاج للمبيت في المستشفى قد ينام على الأرض في أحد الممرات المتكدسة بالمرضى الذين لم يجدوا أسرّة، وربما يخرج منها بمرض أخطر بسبب التلوث، حتى أن البعض يمتنعون عن الاستعانة بالمستشفيات لهذا السبب، فهذا أحد الأقارب، أُصيب بكسر في عظمة الترقوة بعد انهيار جدار من بيته المدمر عليه، أخبره عدد من الأطباء بحاجته لعملية جراحية، لكنهم نصحوه بعدم إجرائها تفاديا لأزمة التعقيم.
عن البيئة والغذاء
من حديث سمور، يبدو جليًا أثر البيئة والتغذية على صحة المواطنين في القطاع، لذا نلقي نظرة سريعة عليهما. نبدأ بالبيئة، فيها من التلوث أكثر ما يتسع المجال لذكره، هنا، حين يمسح الشخص وجهه من العرق بمنديل أبيض، يغطي السواد منديله، وقد يحدث هذا بعد أن يغسل وجهه مباشرة، ولا يتعجب أحد من هذا اللون، فالكل يدرك حجم التلوث.
السلاح المنهمر على القطاع منذ عامين تقريبًا كفيل بتدمير البيئة، لكنه ليس الوحيد، فالحصار يجبر الناس على تصرفات تزيد الطين بلّة. لم يدخل غاز الطهي للقطاع منذ أشهر، البديل هو الحطب والبلاستيك والأقمشة والأوراق، يحرق الناس كل ما يمكن حرقه لإشعال النار، ليس للطهو فقط، فهم يحتاجون النار لأغراض عدة، مثل تسخين المياه للاستحمام. السولار الصناعي، أحد الكوارث البيئية التي لا غنى عنها، يُصنع من مخلفات محددة مثل البلاستيك، ويُخلّف إنتاجه كميات كبيرة من الدخان، ومصانعه ليست إلا خيامًا تنتشر في كل مكان، بين المباني والمخيمات، يعتمد عليه نسبة كبيرة من أصحاب السيارات، عوادمها تساهم في نشر التلوث، بما تخرجه من أدخنة تكاد تخنق المارّة.
دمّر الاحتلال البنية التحتية، حتى صار منظر مياه الصرف الصحي تنساب في الشوارع وبين الخيام أمرًا مألوفًا، وخرجت مكبات النفايات الرئيسة عن الخدمة، واستعاض الناس عنها بمكبات عشوائية وسط السكان، وانتشرت الحشرات والقوارض والزواحف. وعن الغذاء، ماذا يأكل الناس منذ سنتين؟ لا يأكلون شيئًا مفيدًا، وأحيانًا لا يأكلون أصلًا.
الحديث عن التجويع يحتاج تقاريرًا مفصلة ومنفصلة، نختصر هنا بعضًا من ملامح هذه الجريمة التي يرتكبها الاحتلال بحق الغزيين، وآخر الأرقام وقت إعداد هذا التقرير تشير إلى ارتفاع عدد ضحايا المجاعة إلى 162 شهيدًا، منهم 92 طفلًا. منذ بدء الإبادة، شدد العدو حصاره على النصف الشمالي من القطاع بعدما أصدر أوامر إخلاء لساكنيه، ونقصت فيه المواد الغذائية شيئًا فشيئًا، حتى بلغت المجاعة ذروتها، وظهر تصنيف "الموت جوعًا".
في نفس الوقت كان دخول الطعام للنصف الجنوبي من القطاع يختلف من وقت لآخر، يُمنع تمامًا أحيانًا، ويسمح بالقليل أو الكثير منه في أحيان أخرى، سواء كان على شكل مساعدات، أو بضائع يستوردها التجار. هذه الأيام، تفتك المجاعة بالقطاع كاملًا، وبنفس المستوى، فلا تدخله إلا مساعدات قليلة للغاية، بشكل غير منتظم، مع بضائع محدودة خاصة بالتجار تتراوح غالبًا بين أشياء غير ضرورية لكنها غالية وتساهم في سحب السيولة النقدية، وأشياء تخدم الاحتلال في الترويج لكذبة انتهاء المجاعة كاستيراد كميات قليلة جدًا من الفواكه يزيد سعر الحبة الواحدة منها أحيانًا عن 25 دولارًا.
بالنسبة لأنواع الأطعمة الأكثر توفرًا منذ أكتوبر 2023، تأتي المعلبات على رأس القائمة، الفول والحمص والفاصوليا والبازيلاء، واللحوم المعلبة مثل اللانشون، يعتمد عليها الناس رغم مخاطرها العالية.في قائمة الأطعمة التي كانت تدخل القطاع، الأجبان المصنعة، والبقوليات، والنشويات، وقليل من اللحوم المجمدة. تتوفر كميات بسيطة من الخضروات، بأصناف محدودة، وأسعار لا طاقة لأغلب الغزيين بها، خاصة أن الاحتلال ضمن هندسته للتجويع، سيطر على مناطق تُمثل السلة الغذائية للقطاع ودمرّ نحو 90% من الأراضي الزراعية فيه.
وما ينبغي التنويه له، أن كثيرًا من المساعدات هي سلع رديئة للغاية، ما يزيد ضررها، منها مثلًا جبن "فيتا" وصلت منه كميات كبيرة جدًا في النصف الجنوبي من القطاع في الأشهر الأولى من الحرب، كان هذا الصنف من إنتاج مصنع في دولة عربية منعت عدة دول استيراد منتجاته بسبب مواد بالغة الخطورة في الأجبان الخاصة به.
ضررٌ فوق ضرر، منتجات كثيرة تفسد، أو تنتهي صلاحيتها، أثناء انتظارها على بوابات المعابر قبل سماح الاحتلال بإدخالها، وأحيانًا تفسد داخل القطاع بسبب سوء التخزين الناتج عن عدم توفر كهرباء لتشغيل الثلاجات، أو بسبب عرضها في الشمس، إذ يتم البيع حاليا على بسطات أكثر منه في محال مغلقة.
ولا بد من التأكيد على أن أغلب الأصناف المذكورة ليست متوفر منذ فترة طويلة، وإنما كانت تدخل القطاع في أوقات سابقة.ويبدو بوضوح أن الاحتلال يستهدف أغذية الأطفال بشكل خاص، أكثر من مرة خلال الحرب اختفت من الأسواق وارتفع سعر الموجود منها، وحاليًا الحصول على علبة حليب للرضع أشبه بمعجزة، وسعرها إن وُجدت قد يصل 150 دولارًا.
الروح تتعب أيضًا
ومن صلب الوضع الصحي، الصحة النفسية، تلك التي يغفل كثيرون عن أهميتها وعن علاقتها بالشقّ الجسدي، وهذا ما يؤكده في حوار مع "إطار" الطبيب النفسي د. حسن الخواجة.يقول الخواجة إن الصحة النفسية مهمة للغاية في الظرف الصحي العام للإنسان، ومن أدلة ذلك أن الاضطرابات النفسية، على رأسها الاكتئاب، تحتل المرتبة الثانية من حيث القدرة على تعطيل الإنتاجية، متجاوزة بذلك الكثير من الأمراض الصعبة. ويضيف: "من أصعب ما تسببه المشاكل النفسية أنها لا تضر صاحبها فقط، بل يمتد أثرها للمحيطين به أيضًا".
في الحروب، أمراض نفسية تظهر أكثر من غيرها، مثل الاكتئاب واضطراب كرب ما بعد الصدمة والقلق، وينتشر بين الأطفال فرط الحركة والاضطرابات السلوكية، وفق الخواجة.بعد نحو عامين من الحرب، يوضح: "رغم استثنائية الظروف ونوعية العدوان ووحشيته، لم تظهر اضطرابات خاصة، كل ما يظهر معروف وله مرجع تشخيصي، وبالتأكيد نحتاج تقييمًا شاملًا بعد الحرب، فمثل هذه الظروف تمثل أرضًا خصبة لظهور اضطرابات جديدة".
ويبين: "ما يمكن الحديث عنه الآن هو الملاحظات الشخصية من التعامل مع الحالات، نسبة كبيرة من الناس يعانون نفسيًا بسبب الإبادة، وأكثر الاضطرابات شيوعًا الآن هي الاكتئاب، وكرب ما بعد الصدمة، واضطراب الحداد المعقد الناتج عن الفقد".ويلفت إلى أن الوضع الطبيعي في القطاع الآن يختلف عمّا في أماكن أخرى طبيعي، فحاليًا من البديهي أن تظهر عند المواطن أعراض اكتئاب، والحديث هنا عن أعراض الاضطراب، وليس الاضطراب نفسه.
ويوضح الخواجة أن عوامل الخطر كثيرة، ما يساعد في ظهور المشاكل النفسية، وعندما تتوفر هذه العوامل في نفس المكان والزمان والمجتمع، تزيد خطورتها، فالخوف، والجوع، والحرمان، والفقد، وأسباب أخرى، كلها من شأنها أن تصيب الفرد بالصدمة.ويبين أن الاضطرابات النفسية يمكن أن تنتج عن أسباب غير مباشرة، مثل إصابة أحد أفراد الأسرة وانعكاسات ذلك على الإنسان، وإن كان المُصاب أحد الأبوين تصبح الصدمة مُتوارثة عبر الأجيال، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد "الفئات الهشة" مثل الأيتام والأرامل، منوهًا إلى أن عوامل الخطر غير المباشرة تكون أصعب أحيانًا من العوامل المباشرة لشدتها واستمراريتها لفترات طويلة حتى بعد توقف الحرب.
حديثه عن نفسية الآباء والأمهات، ينطبق على سيدة بدأت حديثًا بجلسات للعلاج النفسي بعدما سمعت طفليها يصفانها همسا بـ"الغولة"، ففهمت أن نظرة الطفلين تكوّنت بسبب عصبيتها الشديدة، وصوتها الذي "يُسمع الحارة" وفق اعترافها. مرّت هذه الأم بظروف قاسية خلال الحرب، نزوح، وخيمة، وفقر، ومرض الأبناء، وفقد الوظيفة، وتجربة ولادة مريرة، وأحداث أخرى نتج عنها إصابتها بالاكتئاب وفق تشخيص المعالجة النفسية.ومن واقع ملاحظاته في تعامله مع المواطنين المتضررين نفسيا في هذه الحرب وما سبقها من حروب وظروف صعبة، يقول الخواجة إن الانعكاسات النفسية كانت أوضح وأسوأ في الأوقات التي يشتد فيها الحصار ويتدهور خلالها الاقتصاد عن أوقات الحروب، لكن في الإبادة الحالية اجتمع على الناس كل الفقر والحصار والحرب، لذا فهي الأكثر تأثيرًا.
لا يتوقف الأمر عند حدود الصحة النفسية، فهي إن تراجعت تؤثر على الجسد، بحسب الخواجة الذي يقسّم تأثيرها في اتجاهين، الأول تأخير فترة الشفاء من الأمراض الجسدية مثل التئام الجروح والتعافي من الأمراض المعدية وكل ما يعتمد على المناعة لكونها تُضعفها، والاتجاه الثاني هو ظهور أمراض ذات أعراض جسدية.ويقول الخواجة إن ظهور بعض الاضطرابات ربما يتأخر لأشهر وسنوات مثل اضطراب كرب الصدمة، ولكن في حالة الحرب فإن الأعراض تظهر على الفور غالبًا.
ويضيف أن التأثير قد يمتد ليطال أجيالًا لاحقة لم تشهد الحرب أصلًا، وذلك لكون الآباء والأمهات عاشوها وتضرروا نفسيًا فأثروا على نفسيات أبنائهم، متابعًا: "هذا الخطر يستدعي تحركًا كبيرًا لعلاج الناس ومنع التعقيد في الاضطرابات".في القطاع، يرفض الكثير من الناس فكرة العلاج النفسي، ومن يقبل عليه يفعل ذلك سرًّا، ومن ينكشف أمره يعاني من "الوصمة"، فهل الأمر على ما هو عليه الآن؟ أم يساهم تفشي المعاناة في جعل التخلص منها مقبولًا؟
يجيب الخواجة: "الوصمة تخف في الحروب، الكل يتأثر نفسيًا بظروف الحياة الصعبة، لذا يصبح العلاج فكرة مقبولة مجتمعيًا، ومن تجربتي الشخصية أرى أن المواطنين بدؤوا بالفعل بتقبل الأمر".هنا يأتي سؤال آخر، هل العلاج مُجد في ظل استمرار مسببات المشكلة؟ من وجهة نظر الخواجة، هو ليس مجديا وحسب، بل ضروري، لوقف تطور الحالة، ولمنع تأثيرها على المحيط.
رغم أهمية العلاج، والإقبال عليه، إلا أن الحصول عليه ليس سهلًا، يقول الخواجة إن عدد محتاجي الرعاية كبير، ولا تكفي لتلبية حاجتهم الحكومة ولا المؤسسات المعنية، خاصة في ظل استمرار الخطر وصعوبة الواقع الذي تُقدم فيه الخدمة.ويضيف أن التغيرات التي طرأت على المجتمع وظروفه تساهم في تعقيد فكرة العلاج، إذ غابت مكونات أساسية كانت تلعب دورًا مهما في العلاج مثل المساجد، والعلاقات الاجتماعية، والتكافل المجتمعي.
ويتابع: "يوجد خلل في الجهد الذي تقدمه بعض المؤسسات، فمنها ما يكتفي بالدعم لا العلاج، ومنها ما يعتمد على الأدوية فقط، بالإضافة لعدم وجود معالجين أكفاء بقدر الحاجة".حال المرضى النفسيين في القطاع مؤلم، التردد على العيادات ليس سهلًا، وأدويتهم كغيرها من الأدوية تتراوح بين توفر وانقطاع، بعضهم لا يجد قريبًا يأخذ بيده للطبيب ويعينه في رحلة العلاج بعدما فقد أسرته، ومنهم من يحتاج رعاية خاصة بالمبيت في مستشفى الأمراض النفسية، وهذا الخيار لم يعد متاحًا منذ اندلاع الحرب، ففي بدايتها أخرجت وزارة الصحة النزلاء من مستشفى الصحة النفسية الوحيد في القطاع، الذي دمره الاحتلال لاحقًا.يعيش الناس هذه المآسي الصحية، وأكثر، ولا يجدون وقتًا للالتفات لها، يعلمون أنهم سيعانون منها حتى "وِلد الولد"، لكنهم لا يأملون بالعيش حتى يأتي الولد وولده، فما نسبة احتمال النجاة من الإبادة؟ إذا لا داعي للقلق بشأن الصحة.