"المعلم المقدسي هو المنهاج" من وجهة نظر نقدية
المعلم المقدسي ليس مجرد مُعلم فحسب، بل هو حارس للهوية وراوٍ للثقافة الوطنية في مواجهة الظروف القاسية التي يعيشها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال وخصوصًا في القدس، وفي الوقت الذي قد تبدو العبارة المتداولة "المعلم المقدسي هو المنهاج"، للوهلة الأولى، تكريمًا لدوره الريادي، لكنها في الواقع تكشف عن نزعة اختزالية وخطيرة، إذ تلقي عبء المسؤولية بالكامل على عاتقه، متجاهلة السياق المعقد الذي يعمل فيه، إذ يعمل المعلم المقدسي اليوم تحت ظل رقابة المؤسسات الإسرائيلية الصارمة وتحت ملاحقة مستمرة. مع غياب شبه كامل لأي مظلة قانونية يمكن أن يستند إليها المعلم في حماية نفسه، بما في ذلك غياب مؤسسات السلطة الفلسطينية في القدس، وتراجع دور اتحاد المعلمين، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر التي أحدثت تغييرًا جذريًا في مشهد المعاناة الفلسطيني.
صراع الهويّة والانتماء
إنّ الاستمرار في مقولة المعلم هو المنهاج لتبرير زحف المناهج المؤسرلة في مدارس القدس دون تفكيك البنية التكوينية للمعلم والدوائر السلطوية المؤثرة فيه هو نوع من التجميل الزائف، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن جزءًا لا بأس به من المعلمين شرق القدس اليوم هم من خرّيجي الجامعة العبريّة والكليّات الإسرائيليّة التي تتصدّر مهمة إعادة تشكيل وعي الطلبة المقدسيين من خلال التأثير على تصورهم للرواية الإسرائيلية. وحتى وإن لم تنجح هذه المؤسسات في تحقيق أهدافها بالكامل، فإنها لا شك تساهم في إدخال أولئك المعلمين المستقبليين في دوامة من الاغتراب الداخلي، إذ يجدون أنفسهم في صراع بين ما يتلّقونه من تعليم ومناهج ترّوج للرؤية الإسرائيلية، وبين الواقع اليومي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في مدينة القدس؛ هذا التناقض بين ما يدرسونه وما ينبغي عليهم تدريسه قد يخلق حالة من الاضطراب النفسي والوجودي، ما يضعف من قدرتهم على أداء رسالتهم التعليمية الوطنية بشكل فاعل.[1]
ومن المرجح أن تزداد هذه الهوّة إذا ما صدر القانون الجديد الذي صادق عليه الكنيست بالقراءتين الأولى والثانية والهادف إلى تعديل قانون التعليم الرسمي لعام 1953، وقانون الإشراف على المدارس لعام 1969، وبحسب التعديلات المقترحة، سيتمكن مدير وزارة التربية والتعليم من رفض منح رخصة تدريس أو تصريح تشغيل لأي معلم حصل على درجة أكاديمية من المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية.[2]
كيف تنظر المؤسسة الإسرائيلية إلى المعلم المقدسي؟
المعلم الفلسطيني في القدس لا يُنظر إليه باعتباره مربيًا أو شريكًا تربويًا أو حتى مجرد موظف في حقل التعليم، بل تعامله المؤسسة الإسرائيلية باعتباره شريكًا محتملًا في معركة الهوية والسيادة، وبالتالي يصنف كحالة أمنيّة محتملة تتوجب المراقبة والتطويع والإقصاء إن لزم الأمر.
ففي جلسة للكنيست بتاريخ 8 أيلول/ سبتمبر 2024 حول النقاش الدائر بخصوص التعليم في القدس اقتُبس ما يلي "رونيت تشين، المشرفة الإقليمية في مديرية التربية والتعليم في القدس: “يبلغ إجمالي عدد أعضاء هيئة التدريس في القدس الشرقية 6700 معلمًا؛ 90% منهم، أي حوالي 6000 معلم، درسوا في السلطة الفلسطينية”. رئيس اللجنة الفرعية إم كيه بوارون: “من وجهة نظري، 90% من هؤلاء المعلمين هم إرهابيون يقومون بتعليم الأطفال. وهذا أسوأ بكثير من الإرهابي الذي يأتي إلى الحافلة بقنبلة. عندما يأتي معلم من جنين، لا يحتاج الأمر إلى خيال متطور للغاية للتفكير في نوع العبء الثقافي والاجتماعي الذي يحمله معه".
"المعلم هو المنهاج" ذريعة لتمرير المنهاج المؤسرل في مدارس القدس
إن إحلال النظام التعليمي الإسرائيلي في شرق القدس كان هدفًا حاضرًا منذ احتلالها في 1967 غير أن التكاتف الشعبي والمعارضة الواسعة في ذلك الوقت جعل ذلك الهدف مؤجلًا، وهو ما جعل تعدد المرجعيات التعليمية سمة خاصة بالقدس، ورغم المساوئ التي تفرزها تلك الخاصية غير أنها ساهمت في الحفاظ على ما يقارب من نصف المؤسسات التعليمية تابعة للمنظومة الفلسطينية، إلى أن بدأت المؤسسة الإسرائيلية في 2011 بضخ الأموال في المدارس الخاصة عبر عرض التمويل غير المشروط الذي سرعان ما تحوّل إلى أداة ابتزاز، فرُبط التمويل بالأسرلة خصوصًا في أثناء تولي بينت وزارة التربية والتعليم 2015-2019، الذي جعل التحول نحو المنهاج الإسرائيلي شرطًا لاستمرار التمويل.[3]
رغم ذلك ظل التحوّل نحو المنهاج الإسرائيلي "البجروت" ضعيفًا ودون الأهداف المحددة بكثير، إذ كان الهدف في الخطة الخمسية الأولى 2018-2023 هو أسرلة التعليم في شرقي القدس بنسبة 90%، إلا أن التحول نحو المنهاج الإسرائيلي ظل محدودًا كما أسلفنا، فكان أن تحوّل التركيز من استبدال المنهاج الفلسطيني إلى تحريفه وتغييره ليحمل الرواية الإسرائيلية على درجة تقارب المنهاج الإسرائيلي ذاته، ورغم أن تلك الخطوة لم تكن جديدة بالكلية؛ إذ فرضت السلطات الإسرائيلية المنهاج الفلسطيني المحرف في المدارس 2011، إلا أنّ عملية تحريف المنهاج في البداية كانت تدريجيّة ومتأنية وكذلك كان تطبيقها تدريجيًا،[4] فاستمرّت المدارس الخاصة في تعليم المنهاج الأصلي في مدارسها، وكذا الأمر كان في غالبية مدارس البلدية فهي وإن كانت تستلم المناهج المحرّفة من البلدية فإنها كان توّفر المنهاج الأصلي وتدرّسه لطلابها.
أظهرت السلطات الإسرائيلية عام 2022 حزمها في إجبار المدارس الخاصة على تبني المنهاج المحرف عبر سحب رخص ست مدارس هي من أكبر المدارس الخاصة في شرقي القدس وهي المدرسة الإبراهيمية ومدارس الإيمان، وأعطتها رخصة مؤقته لمدة عام تقوم خلالها المدارس بإزالة "المضامين المحرضة ضدّ الدولة والجيش الإسرائيلي" على حدّ وصف المؤسسة الإسرائيلية من المنهاج.[5] قابل تلك الخطوة وقفة جماهيرية قوية، فنُظمت العديد من الوقفات الإحتجاجية لأولياء أمور وطلبة ومتضامنين عبرّوا عن رفضهم لمحاولة المؤسسة الإسرائيلية طمس هويتهم عبر فرض المناهج المحرفه في مدارسهم الخاصة، ووفرت لجان من أولياء الأمور على عاتقها المنهاج الفلسطيني الأصلي ووزعته على الطلبة خارج أسوار تلك المدارس، وفي حين أن ذلك الحدث نال قسطًا وافرًا من الاهتمام الإعلامي الذي صوّر المقاومة المقدسية على أنها نصر محقق ولكن الذي حصل في الحقيقة هو عكس ذلك تمامًا.
المدارس الخاصة تتبنّى المنهاج المحرّف
شكّل العام الدراسي 2022-2023 فارقًا حقيقيًا في تعامل إدارات المدارس الخاصة مع المنهاج الفلسطيني، ذلك أنها لامست حزمًا غير مسبوق من سلطة المعارف الإسرائيلية في متابعة تطبيق المنهاج الصادر عنها –المحرّف-، فتبنى جزءًا كبيرًا من تلك المدارس المنهاج المحرف واكتفى البعض الآخر بتوزيع ملخصات على الطلبة لتفادي المادة المحرفة، ومن هنا بدء تركيز الإدارات على قضيّة "المعلم هو المنهاج" في محاولة منها لامتصاص غضب الأهالي الذين كانوا يأملون أن تظل المدرس الخاصة سدًا منيعًا في وجه الأسرلة الزاحفة في القدس.
ماهي المساحة الممنوحة للمعلم المقدسي؟
في الوقت الذي يحاجج فيه البعض بأن الأصل في العملية التربوية هو المعلم، يحضر السؤال ماذا لو كانت المساحة المسموحة للمعلم ضئيلة ومراقبة؟ فعلى مستوى الإعداد للمقابلات في هذه الدراسة اعتذر كثير من المعلمين عن التصريح بأي شيء، بينما طلب القسم الأخر منهم إخفاء أسمائهم والاكتفاء بالترمز.
إذ عبّرت إحدى المعلمات المقدسيات عن تلك المساحة بقولها: "المناهج التعليميّة بتفرض علينا قصة ورواية مش لإلنا، بقول لزميلاتي علّموا روايتهم بس احكوا روايتنا. بس في خوف، الكل بخاف يحكي، إذ مش من المركز من المدير، وإذا مش من المدير من المفتش". وفي مقام آخر عبّر ولي أمر عن صدمته حين لاحظ أن خريطة المدرسة المعلقّة في إحدى مدارس البلدية كُتبت عليها أسماء كل الدول باستثناء فلسطين وحين شكى لأحد المدرسين ذلك الفعل، كان رد المعلّم: "إننا لا نملك إلا أن نخفي حبنا لفلسطين".
يعمل المعلم المقدسي وهو يعلم أن الرقابة الموجهة نحوه لا تقتصر على مدير أو مفتش فحسب، بل يدرك أن جهاز الشباك يتعامل معه ومع قضية التعليم العربي باعتبارها حالة أمنية يمكن أن تهدد أمن إسرائيل، "في العام 2017 كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية النقاب عن تدخل الأمن الداخلي الشاباك في منظومة التعليم العربية في إسرائيل وسيطرته عليها مدة عقود بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم من أجل فصل معلمين بعينهم، أو فصل مديرين دون توضيح سبب الطرد أو الفصل المفاجئ، وتعيين أفراد من جهاز الأمن أو مواليين له بدلًا منهم داخل المنظومة التعليمية".[6]
خاتمة
يبقى المعلم المقدسي في قلب معركة الهوية والتعليم، لكنه ليس المنهاج بذاته، بل هو الضحية والضامن في آن معًا. إن تحميله وحده مسؤولية الدفاع عن ثقافة وهوية شعبه، في ظل الاحتلال والتضييقات السياسية، هو تجميل زائف يخفي الواقع المعقد ويثقل كاهله بأعباء لا يقدر عليها بمفرده. ويجب أن نكون واعين إلى أن الخرائط التكوينية للمعلمين تتغير بفعل التأثير المستمر للمؤسسة الإسرائيلية، ومن المحتمل أن نشهد خلال السنوات القادمة معلمين يتساوقون مع رواية الاحتلال، إن لم نتحرك اليوم بشكل جاد لحماية معلمينا ودعمهم. فالمعلم بحاجة إلى دعم مؤسساتي حقيقي يحميه ويعزز دوره، بعيدًا عن محاولات الاحتلال لتحويل التعليم إلى أداة تزييف للذاكرة والهوية. في النهاية، لا يمكن لنا أن نواجه تحديات التعليم في القدس إلا بفهم شامل ومتوازن، يعترف بظروف المعلم ويعيد له مكانته الحقيقية باعتباره حاملًا للأمانة الوطنية، لا باعتباره بديلًا عن المنهاج.
[1] مرام مصاروة. التعليم في القدس الشرقية الأسرلة الزاحفة 1967-2022. فلسطين ، مؤسسة الأيام،2022
[2] https://ultrapal.ultrasawt.com/%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%82%D8%A9-%D8%A3%D9%88%D9%
[3] أنوار قدح، التعليم في القدس ف ظل حكومة بنت.. الى أين.
https://mada-research.org/post/15415
[4] إبراهيم أبو جابر، فرض المنهاج التعليمي الاسرائيلي على مدارس شرقي القدس يعزّز المواطنة والسيادة الاسرائيليّة على المدينة، مؤتمر يوم القدس الثالث عشر،(2017)
[5] https://www.alquds.co.uk/%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84
[6] مرام مصاروة، مصدر سابق.