المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأردن كما رآها أكرم زعيتر

المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأردن كما رآها أكرم زعيتر
تحميل المادة

تعود بنا هذه المقالة إلى الوراء أكثر من نصف قرن من الزمان، حين كانت الأردن قاعدةً مركزيةً للكفاح الفلسطيني المسلح ضد الاحتلال الصهيوني، وتستعرض محطات من قصة صعود فصائل العمل الفلسطيني المسلح بعد هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 ثم أفولها بعد أحداث أيلول عام 1970[1]، استناداً للكاتب والسياسي الفلسطيني أكرم زعيتر[2]، أو بالأحرى كما رواها في يومياته[3]، وهي قصة جديرة بأن يعاد التذكير بها بين الفينة والأخرى لما فيها من عِبَر ودروس، ولأهميتها في فهم العقل المقاوم والسيرة العملية لفدائيي تلك المرحلة ومقارنة ذلك بالنقلة النوعية التي شهدتها المقاومة في فلسطين على صعيدي التفكير الاستراتيجي والممارسة العملية بعد عقود من تجربة الأردن، ولأنَّها تكشف عن التأثير  الكبير لقوىً إقليمية ودولية  في تحديد مسار القضية الفلسطينية ومستقبلها.

وإن سألتني لماذا يوميات زعيتر تحديدًا، فسأقول لأنَّها مهمة، ليس فقط لكونها مصدرًا أوَّليًّا أفرد جزءً من صفحاته للحديث عن المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا لأنَّ صاحبها كان يكتب من مربع الإيمان بشرعية الحركة الفدائية الفلسطينية في الأردن[4]، ولم يكن في الصف المعادي للعمل الفدائي وأهله[5]، رغم أنَّه كان يُعد من المحسوبين على النخبة السياسية الموالية للنظام الأردني في ذلك الوقت، ولكن أيضًا لقدرته على تقديم توصيف لحال المقاومة في تلك المرحلة، واستعراض المواقف المختلفة للفاعلين على الساحة الأردنية في اللحظة التي جرت فيها الأحداث، والوصول إلى خلاصات مهمة تخص المقاومة ومستقبلها، كان يمكن أن تفيد الفلسطينيين في مرحلة لبنان، لو قُدِّر لهم أن ينتبهوا لها.

وما يسترعي الانتباه هنا هو أن اليوميات لا تفيد بأن زعيتر اطَّلع بشكل دقيقٍ وعميقٍ وتفصيلي على الأمور المتعلقة باستراتيجية فصائل المقاومة ورؤيتها لمستقبل وجودها في الأردن وصراعها مع الاحتلال، ولا على آليات صنع القرار داخلها، ولا على اليومي في حياة عناصرها، ولا يبدو موقعه الرسمي قد أفاده كثيرًا في هذا المضمار، بل إنَّه اعتمد في أغلب مصادره على ما تخطه الصحف وتبثه الإذاعات، بالإضافة إلى بعض المشاهدات أثناء ذهابه إلى مقر عمله وإيابه، لذا لا نبالغ إن قلنا أن تجربته النضالية التاريخية مع الحركة الوطنية الفلسطينية، وتجربته اللاحقة في صفوف النخبة السياسية الأردنية، قد ساهمتا بنحو رئيس في منحه القدرة على تحليل الوقائع ومعرفة المواقف الحقيقية للأطراف الفاعلة في الساحة الأردنية والوصول إلى خلاصات بشأنها، ويهمنا هنا خلاصاته حول المقاومة ومآلاتها، وتبقى يومياته تعبر عن وجهة نظره، وهي لا تكفي وحدها لفهم تجربة كفاحية خاضتها فصائل فلسطينية فتية استمرت ثلاث سنوات.

النظام الأردني وحركة فتح.. استراتيجيات ومواقف

أول ما يلفت الانتباه توصيف زعيتر لرؤية النظام الأردني للحركة الفدائية، وهو أمر غاية في الأهمية لفهم طبيعة العلاقة بين الطرفين ولتفسير مآلات هذه العلاقة. تحدثت اليوميات عن ثلاثة محددات ساهمت بنحو مركزي في صياغة الموقف الرسمي الأردني من فصائل المقاومة، وهي: المحدد الدولي حيث الضغط الأمريكي المتكرر على الأردن للتخلص من الفدائيين، والمحدد الإقليمي المتمثل في مركزية جبهة الأردن في التخطيط الاستراتيجي الصهيوني، وفي تأثير الحركة الفدائية على مكانة الأردن في النظام الإقليمي العربي، فقد رأى النظام أنَّها ورقة ضغط تستغلها أطراف إقليمية للنيل منه وضرب استقراره، مقابل أطراف عربية أخرى حثته على التعاون معها، والمحدد المحلي المتمثل في موقف مفاصل النظام الأردني من الحركة الفدائية.

تنقل اليوميات قلقًا أردنيًّا رسميًّا مبكرًا من الوجود الفدائي في الأردن وتوقيته، باعتباره عامل توترٍ مع الاحتلال، ينذر بتصعيدٍ يربك، ما وصفه زعيتر، حالة الإعداد على الجانب الأردني، ويؤدي إلى أعمال انتقامية بحق سكان الضفة الغربية، وتتحدث عن تصاعد خشية المستوى الرسمي من تقاطر الفدائيين إلى الأردن وبداية تنفيذ هجمات ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقًا من الضفة الشرقية، إلا أنَّها تكشف عن مساعٍ للتنسيق بين الطرفين، انتجت قناة اتصال سرية بين النظام وحركة فتح (كبرى الفصائل المسلحة) منذ أوائل شباط عام 1968 بمبادرة من القيادي الإخواني كامل الشريف[6]، وتُظهر عدم وجود إجماع داخل النظام الأردني حول التخلص من الفدائيين، إذ كانت الحكومة ترفض التعرض للفدائيين وقوى الأمن العام تقود عملية تطويق مواقعهم، أمَّا الفدائيون فقد بدأوا بالرد على ممارسات قوى الأمن والضغط على الحكومة.

وتكشف اليوميات عن قدرة عالية لدى زعيتر على فهم طبيعة حركة فتح في ذلك الوقت وسر قوتها، ونجاحها في جذب الشباب الفلسطيني للانخراط فيها، فقد كانت قوة فلسطينية مؤثرة وصاعدة، خصوصًا وأنَّها كانت تصدِّر خطابًا وطنيًا محوره التحرير، وكانت منفتحة على القوى المحلية والإقليمية، وتقوم استراتيجيتها على التحلي بالمرونة والتوازن في التعاطي مع النظام الأردني، مع إدراك قيادتها لأهمية ساحة الأردن في أي مواجهة مستقبلية مع الاحتلال الصهيوني، وإمكانية الانطلاق منها لتوجيه ضربات للاحتلال خاصةً وأنَّ للأردن أطول حدود مع فلسطين، وأنَّه بخلاف دول الطوق - مصر وسوريا- لا يبدي استعدادًا للمواجهة مع الاحتلال، كما أن الحركة لم تكن تخشى من أية عواقب لما يقوم به عناصرها من عمليات ضدّ الاحتلال، وهي غير آبهة لإمكانية احتلال الأردن، على اعتبار أن ذلك سيفتح المجال واسعًا لانخراط قسم أكبر من الفلسطينيين والعرب في المقاومة وسيوسع الجغرافية التي يتحركوا فيها.

لقد رغبت فتح، وفق اليوميات، في التنسيق مع الملك، رغم عدم ثقتها به، وكانت تتواصل مع بعض قيادات الجيش الأردني وكوادره مثل رئيس هيئة الأركان عامر الخماش، وكانت مرنة في تعاطيها مع الإجراءات الحكومية الصارمة بحق بعض المحسوبين على المقاومة ممن اصطدموا بالنظام الأردني، وتعاملت بحكمة ورصانة وجنوح نحو التهدئة في ظلّ بعض الأحداث المؤسفة التي جرت بين النظام والفدائيين، لكنَّها كانت ناقمة على بعض أقطاب النظام مثل اللواء محمد رسول زيد الكيلاني مدير المخابرات العامة.

لكنَّ فرحة زعيتر بالحركة لم تدم طويلاً إذ بدأت تظهر له بعض أمراضها الخطيرة، الأمر الذي فسَّر جزئيًّا خسارتها لوجودها في الأردن، علاوة على تراجعها أمام العدو الصهيوني. لقد فشت المبالغة في خطابها الإعلامي، وحرصت بشدَّة على تصدُّر المشهد الفلسطيني، والاستئثار بمؤسسات منظمة التحرير، خصوصًا المجلس الوطني، وأخذت تبتعد عن طُهرية البدايات، وتتخلى عن أصولها الإيثارية الزهدية، وانتشرت في صفوفها الفوضى والعنتريات، وترددت قياداتها في اتخاذ القرارات في اللحظات الحرجة، إضافة إلى تأثرها بأيديولوجية بعض التنظيمات الفلسطينية القائمة على العداء الجذري للنظام، الأمر الذي دفعها للانجراف إلى مربع المواجهة معه وخسران الساحة الأردنية.  

 وقفة مع عقل المقاومة الفلسطينية وممارساتها

تكشف اليوميات عن حقيقة موقف زعيتر تجاه المقاومة الفلسطينية المسلحة في الأردن، فهو إذ سلَّم بحقها في مقارعة الاحتلال انطلاقًا من الأراضي الأردنية، ولم يتردد في نقد بعض رموز النظام الذين وقفوا ضدها وضيقوا عليها أو عملوا على إفشالها أو استئصالها من الأردن، فإنَّه وجَّه اللوم للمقاومة على مستويي التفكير الاستراتيجي والممارسة العملية، فانتقد مطالبة بعض فصائل المقاومة بأن يتولى الفلسطينيون وحدهم مهمة تحرير فلسطين، لأن ذلك سيلحق ضررًا كبيرًا بالقضية الفلسطينية، وله تبعات سلبية على جوهر عملية التحرير، خصوصًا أنّه يحرر الدول العربية من تبعات التحرير ويعطيها الضوء الأخضر للدخول في تسويات سياسية مع الاحتلال، واعترض على الخطاب السياسي لبعض الفصائل تجاه النظام الأردني، وسلوكها الميداني وما واكبه من مظاهر فوضى وعَبث؛ مثل إطلاق النار في الهواء، وحالات التخريب التي رافقت التظاهرات، والمواجهات التي اندلعت إثرها بين قوات الأمن الأردنية والفدائيين، واعترض أيضًا على استراتيجية العمليات الخارجية، خصوصًا خطف الطائرات، التي "تسمح بحملة تشويه ضد الفدائيين"[7]، وتثير "الدنيا ضدنا"[8]، ورفض تشكيل المحاكم الثورية التي تبنت تصفية العملاء، لأنها تبدّد "جهد الثورة وتخلق لها أعداء من الداخل"[9]، واستنكر مبالغات بعض فصائل المقاومة في بياناتها العسكرية، وما أوردته من إحصائيات، ومبالغتها في التنصل من أي ارتباط لها بحركة الاخوان المسلمين إرضاءً لبعض دول الإقليم، وابتعادها عما أسماه " أصولها الإيثارية" وخضوعها لسحر الأضواء.

وتبدي خلاصات زعيتر المبكرة حول رموز المقاومة الفلسطينية قدرًا عاليًا من الوعي بطبيعة تلك الرموز ومدى قدرتها على تحمل عبء المسؤولية، ولنأخذ هنا موقفه من أبو عمار وجورج حبش. تبدأ اليوميات بامتداح أبو عمار، لكنَّها ما تلبث أن تشرع بانتقاده في طريقة إدارته للعلاقة مع النظام الأردني، وطريقة إدارته للشأن الداخلي الفلسطيني، وتصل إلى نتيجة محزنة، مفادها "أن الأخ أبو عمار ليس الزعيم المنشود لحركة التحرير، رغم إقراري بإخلاصه وفضله في تأسيس الحركة"[10]، كما انتقدت اليوميات موقف جورج حبش من النظام الأردني ورؤيته لموقع المقاومة في الحراك الثوري العربي، في لفتة تُظهر تعقيدات الكفاح الفلسطيني، وحساسية العلاقة مع النظام الرسمي العربي، وضرورة حسم أولويات المقاومة بعيدًا عن الصدام معه، لذا نرى زعيتر يتساءل بحسرة " كيف يمكن أن يتركز جهد هذه المنظمة على تحرير فلسطين وهذه نيات زعيمها بالنسبة للوضع في الأردن؟ وكيف تستطيع أن تنطلق من الأردن وهي تقول لسلطاتها يستحيل أن أتعايش معكم" [11].

في الموقف من خطاب المقاومة وتنظيراتها

وسجل زعيتر انتقاده لإعلام المقاومة خصوصًا مع اشتداد حدة التوتر بين النظام الأردني والفدائيين، ورأى بأن بعض المنصات الإعلامية التابعة للمقاومة كانت تتحرش بالملك والجيش وتستدرج الأحداث للصدام، وتركز على ما لا طائل منه مثل الصراع الطبقي والذي هو بمثابة صراع جانبي مقارنة بالصراع مع العدو الصهيوني، ويعلق في إحداها على "جريدة الشرارة"، بنبرة عتاب شديدة، فيقول "ليس أضرّ على قضيتنا الفدائية من حَرف الفدائيين عن عملية التحرير المقدسة إلى حرب طبقية لا يستفيد منها إلا العدو. وأنني أسجل هنا آسفا أن نظرة التقديس التي كان الناس ينظرون بها إلى الحركة الفدائية قد أخذت تتضاءل رويدًا رويدًا، وما سرّ ذلك إلا أنّ هذه الفئة من المنظمات التي غلبت ايديولوجيتها الطبقية وشعاراتها على فكرة التحرير الخالصة، وتخاذل الفئة الفدائية الخالصة المنزهة عن الأيديولوجيات، وهي الكثرة الكاثرة أمام هذه الفئة القليلة"[12]، واعترض في موضع آخر على ما نشرته "جريدة الشرارة" من هجوم على الحكومة والنظام الأردني واتهامه بالعمالة، كما أنَّه علَّق على "جريدة فتح" التي رأى أنَّ لهجتها استفزازية وأنّها لا تزال تضرب على وتر الإثارة، وانتقد تحريض إعلام المقاومة على بعض رموز النظام؛ تحديدًا وصفي التل، الذي لا يرى في سلوكه ما يستدعي التحريض ويعتقد بأن التحريض علية قد يؤدي إلى قتله[13].

 عن الصدام بين النظام الأردني والفدائيين

تزخر اليوميات بتوثيق أجواء التوتر التي سادت العلاقة بين النظام الأردني والفدائيين، وتسجل العديد من المواقف والأحداث الساخنة بين الطرفين من مشاحنات إعلامية إلى صدامات واشتباكات بالأسلحة وصولاً إلى لحظة الذروة في أحداث أيلول/ سبتمبر ما بين 17- 28 عام 1970، وتبيِّن مواقف كل من  النظام الأردني والفدائيين وبعض القوى المدنية، وتسرد جملة المحاولات الرامية لرأب الصدع بين الطرفين، واللجان التي شُكِّلت، والوساطات التي تدخلت، والاتفاقيات التي وُقعت، وتذكر بإسهاب الشخصيات التي صنعت الأحداث مثل الملك حسين ووصفي التل وبهجت التلهوني وياسر عرفات وأبو اياد وغيرهم، وتقدم خلاصات وتقييمات.

بدأ التوتر بين الفدائيين والنظام الأردني، وفق اليوميات، قبل أكثر من شهر ونصف من معركة الكرامة وبداية الظهور العلني للفدائيين في المدن الأردنية وضواحيها، وتؤرخ لذلك بحادثة تطويق القوات الأردنية لمخيم الكرامة في الثاني من شهر شباط/ فبراير عام 1968، وتحوي اليوميات بعض تفاصيل اتفاقيات وقف إطلاق النار بين النظام والفدائيين، مثل اتفاق 22 شباط/ فبراير عام 70، واتفاق 10 تموز/ يوليو عام 70، واتفاق 5 أيلول/ سبتمبر عام 70، واتفاق 8 أيلول/ سبتمبر عام 70، وتشير إلى دور بعض قادة الفدائيين في تطويق الأحداث وتوقيع الاتفاقيات مع الجانب الأردني مثل أبو عمار وأبو إياد وضافي الجمعاني وبهجت أبو غربية.

لا يتردد زعيتر في نقد الاشتباكات بين قوات الأمن الأردنية والفدائيين، فيقول في إحدى المناسبات"بدل أن يوجه الرصاص إلى العدو المحتل لبلادنا ومقدساتنا رحنا نوجّهه بعضنا إلى بعص الآخر"[14]، ويقدم في يومياته تحليلًا لتصاعد الاحداث وصولًا إلى مواجهات أيلول/ سبتمبر فيرجعها إلى "فقدان الثقة بين الفدائيين والجيش الأردني... بعض الفدائيين لديهم تجاوزات، وفي المقابل ضياع الحكم الأردني في متاهات من اللاإبالية والهلهلة والجهل والتدجيل وقد أدّى هذا إلى فقدان الثقة"[15].

 انتقد زعيتر إعلان المجلس الأعلى للاتحادات عن الإضراب العام في 19 أيلول/ سبتمبر، ويقول عنه إنَّه "نذير شر آت وفتنة مقبلة، فالإضراب المحقون بالكراهية والتحريض يجرّ إلى الاضطراب، وليس هيّنًا أن يُقال للملك بهذا الأسلوب: نريد كيت ولا نقبل إلا بكيت. مع العلم بأن معظم وزراء الحكومة الحاضرة إنما اختيروا وتعينوا وزراء بمشورة ورأي الفدائيين. ومع العلم بأن رئيس أركان الجيش الأردني، مشهور حديثة، إنما هو صديق الحركة الفدائية، ولن يجدوا له مثيلًا في التودّد إليهم ومسايرتهم والرغبة في التفاهم معهم"[16] ووصف الخطوة باتجاه الإضراب بالعدائية ورأى أنّها ستجر إلى اصطدامات، وقد تدفع الملك إلى إقامة حكومة عسكرية وقد تقع على الفلسطينيين نقمة من الجيش.

كما أنَّه انتقد الطرق التي كانت تُحلّ بها المشاكل بين النظام والفدائيين، فاعتبر أنَّ تشكيل اللجان لن يحلّ إشكالاً، وينادي بضرورة تخلي الفدائيين عن بعض شعاراتهم "التي تطغى على فكرة التحرير، تلك المذاهب التي تصنف الناس إلى رجعيين يجب أن يحاربوا في أرزاقهم، بل وفي وجودهم، وإلى تقدميين ثوريين لا يعرفون من الثورية إلا القضاء على خصومهم وكشف جميع الأنظمة. أما من ناحية الحكومة فلا بدّ من إصلاحها جذريًا بقيام حكم صالح"[17].

رأى زعيتر بأن جزءًا أساسيًا من أسباب الصراع بين النظام والفدائيين يتعلّق بوجود فئات مدسوسة بين الطرفين، وينتقد الملك كونه "لم يستطع أن يوحي للفدائيين بالثقة فيه، وأن حاشيته عنصر فعال في إثارة الحنق، وأنه ترك حكومته تميع الحكم وتقضي على هيبة الدولة، وأقرر ثانيًا أن المنظمات الفدائية بدورها لم تقدر على أن توحي للملك بالثقة بها والاعتماد عليها، وأنها تفننت بالحملة عليه والتشنيع به، وأن الغرور الذي تملك بعضها، والاستفزازات التي تصدر عن هذا البعض ولغة التهديد بالقتل وتدخلها في الصغائر قد أساء إلى المصلحة العامة، كما أساء إليها هي" [18].

 

  أيلول عام 1970.. اكتواء القلب بنار الألم

كان وقع أحداث أيلول على زعيتر شديدًا، وقد وصف اندلاعها بالقول: "يومان اكتوى فيهما قلبي بنار الألم، يومان لم أقوَ فيهما على كفكفة دمعي، ووددت لو لم يمرا قبل أن يواريني التراب؛ أولهما يوم صك مسمعي نبأ سقوط القدس بيد الصهيونيين، وثانيهما هذا اليوم الذي اشتعلت فيه نار حرب ضروس بين الجيش الأردني وبين الفدائيين" [19].

سرد زعيتر بعضًا مما جرى في أيلول/ سبتمبر، ثمَّ ناقش إحصائيات الضحايا، وقدَّم تقييمًا مقتضبًا لتعاطي رموز المقاومة مع أحداث أيلول/ سبتمبر فأثنى على موقفي صلاح خلف أبو إياد وفاروق القدومي أبو اللطف، وانتقد تصريحات أبو عمار وكمال ناصر ونايف حواتمة.

وختم يومياته حول أيلول/ سبتمبر بتحديد مسؤولية كل طرف، فقد تمثلت مسؤولية الحركة الفدائية، في رأيه؛ في  بعض شعارتها التي ألزمت نفسها بها والتي لا تمت للتحرير بصلة؛ من قبيل "أن الطريق إلى تل أبيب هي عمان" وشعارات " الخيانة" و"العمالة" و"الرجعية"، وإعلامهم التحريضي وممارساتهم غير المقبولة، وغرور بعض قادتهم، وتدخلهم في  كلّ أمر وكأنهم هم الدولة، وانقسامهم إلى منظمات  بحيث استحال انقيادهم لقيادة واحدة، وتمكينهم لبعض السياسيين من المتاجرة بالحركة الفدائية، وتنازعهم الصلاحيات مع الجيش، واتهامات لقيادته بالعمالة، وعجز زعيم فتح عن فرض الانضباط على الفدائيين، في حين تمثلت مسؤولية النظام الأردني في انتشار الفساد والرشوة والبحث عن المنافع الخاصة، وغياب الحكومة، وتزلف الحكومة للفدائيين، وتعطيل الحياة البرلمانية، كما أن الملك يتحمل المسؤولية فهو الذي يختار الحكومة، واختيار أفراد حاشيته من أهم العوامل، وبعض أفراد حاشيته لا يترددون في الحملة على الحركة الفدائية والتشهير بها. أمَّا الدول العربية فتتمثل مسؤولياتها في أن بعضها لديه منظمات فدائية تابعة لها، تأتمر بأمرها، الأمر الذي حرم المنظمات الفدائية من الوحدة، وجعل أجندة بعضها تتجاوز مسألة التحرير، وبعض الدول كانت تحرض على الفتنة ولم تكن واسطة خير.


[1] هذه المقالة الثانية التي تنشرها منصة إطار حول المقاومة الفلسطينية في الأردن، إذ سبقتها مقالة أخرى بعنوان " "أيلول الأسود".. عن الصدام الأوّل مع النظام الرسمي العربي https://etar.info/N6

[2] أكرم زعيتر (1909-1996): ولد في مدينة نابلس. من مؤسسي حزب الاستقلال في فلسطين عام 1932، ومسؤول إعلام الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، ووزير خارجية الأردن عام 1966، ووزير البلاط الملكي (1967-1968)، وسفير الأردن في أكثر من دولة بين عامي (1962-1975)، وعضو مجلس الأعيان في الأردن لعدة دورات.

[3]يوميات أكرم زعيتر سنوات الأزمة 1967-1970، إعداد معين الطاهر ونافذ أبو حسنة وهبة إمارة، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2019.

[4] في المقابل ناصبت فصائل المقاومة النخبة السياسية التي ينتمي لها زعيتر العداء وحملتها المسؤولية عن النكبة ومآلاتها، واتهمتها بالارتماء في أحضان أعدائها.

[5] هنالك حاجة لدراسة هادئة لموقف النخبة الفلسطينية التي آثرت البقاء تحت مظلة النظام الأردني بعد النكبة بعيدًا عن حالة التشنج التي اتسمت بها الكثير من الكتابات وتحديدًا تلك التي انتجها كُتَّاب موالون لقوى وفصائل فلسطينية مسلحة نشطت بعد عام 1965.

[6] شارك كامل الشريف في الدفاع عن يافا والقدس أثناء حرب النكبة، وكان مسؤولاً عن استئناف العمل المقاوم انطلاقاً من غزة وسيناء في خمسينيات القرن الماضي، وساهم في محاولة تفعيل العمل المقاوم في الضفة الغربية في الفترة نفسها.

[7] يوم 31 كانون أول 68، ص 267.

[8] يوم 8 أيلول 70، ص 417-418.

[9] يوم 29 آب 70، ص 394.

[10] يوم 24 أيلول 70، 488.

[11] يوم 20 حزيران 70، ص 366.

[12]  يوم 22 آب 70، ص 393.

[13]  يوم 11 أيلول 70، ص424.

[14] يوم 9 حزيران 70، ص 3 49.

[15]  المصدر نفسه.                                                                                                 

[16] يوم 14 أيلول 70، ص432- 433.

[17] 12 حزيران، 70، ص 356.

[18] يوم 9 أيلول 70، ص 421.

[19] يوم 17 أيلول 70، ص 442.