المولد النبوي .. عن الثورة المتدفقة من قلب النور
في يوم المولد النبوي الشريف، الثاني عشر من ربيع الأول عام 1444 هجرية، كان ثلاثة شبان فلسطينيين من سميّي نبيّهم يُحيون ميلاده حقيقةً في الوجود، كما هو على حقيقته يوم أقبلَ إلى الدنيا، نورًا تنثال من قلبِه الثورة والقتال، والقيام بالواجب إلى أقصاه، دمًا .. ورحيلاً من الدنيا.
لم تُنسِ السنوات التي جاوزت الـ 1400 عام محمد لدادوة، وأحمد ضراغمة، ومحمود الصوص، ورابعهم عادل داود، المعنى الأصيل الذي بثّه نبيّهم في الوجود، وفي المؤمنين به وبرسالته. بل لعلّ هؤلاء الأربعة وأمثالهم، وهم يسكبون سائلهم الأحمر في ساحة القتال، يجدّدون المعنى الذي قد تعلوه طبقات غبار تقادم العمر، وتطاول العهد عن الزمن الأول، أو طبقات غبار الركون والتبديل والهوى والضعف، يستخرجون المعنى بيدهم المقاتلة، ويغسلونه بدمهم النقي، فيرجعُ إلى عهده الأول، ويشرقُ في المؤمنين كما هو .. ثورةً .. ثورةً.
الجذريّة .. على طريق الثورة
يقول النبي "صلى الله عليه وسلم": "إني .. دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ"[1]. لم يصل نور محمد إلى الشام إلا يوم أضاءَت سيوف أصحابه، ولم تضئ سيوف أصحابه إلا يوْمَ ورثوا عنه جذريّةً ضروريةً للاستمرار والمواجهة والقتال.
يسكب محمد لدادوة، وأحمد ضراغمة، ومحمود الصوص، ورابعهم عادل داود سائلهم الأحمر في ساحة القتال، ويجدّدون المعنى الذي قد تعلوه طبقات غبار تطاول العهد عن الزمن الأول، أو طبقات غبار الركون والتبديل والهوى والضعف، يستخرجون المعنى بيدهم المقاتلة، ويغسلونه بدمهم النقي، فيرجعُ إلى عهده الأول، ويشرقُ في المؤمنين كما هو .. ثورةً .. ثورةً.
حين أقبل سادات قريشٍ على النبي، يَعرضون عليه وهو في أوّل أمره، ضعيفًا وحيدًا، كلَّ ما يُصرفَ الرجل عن مبتغاه، من مال ومنصب ونساء، لم يَكن محمدُ يُثبت -وهو يَرفضُ عروضهم- صِدق نبوّته فحسب، بل كان كذلك يُرسي جذريّته ومفاصلته ويبثّهما في المؤمنين من بعده. إنه لا يصلح لمن يحمل الفكرة أن ينزل عنها من أجل العَرَض، وإنه "ليس بين الحق والباطل إلا الباطل، ولا ينزل الحق قدر إصبع إلا خرجَ من صفته"[2]، وأنّ "أن أهلك دونه" أهون من أن يَترك الرجل النبي –والمؤمنون من بعده- أمرهم. وأنّ الهلاكَ دونه مصيرٌ مقبولٌ إذا لم يتحصّل ظهوره في الأرض، وأنّ المعيار في هذا كلّه أن يظلّ هذا الأمر هو هو على طول زمن الاختبار المسمّى "الدنيا".
بشّر محمدٌ أعداءَه بأن المكان الوسط بينه وبينهم وَهْمٌ، وهمٌ في هذه اللحظة "لا أعبدُ ما تعبدون"، ووهمٌ في الزمن القادم "ولا أنا عابدٌ ما عبدتم"، وهذه الجذرية ركن الثورة الأول، أن تتمترس خلفَ مقولتك وحقّك، وأن يرى عدوّك صلابتك، وأن يقطعَ أمله منك، من أن تنزل له، أو تكفّ عنه، أو تغيّر موضع قدميك مع تبدّل الأحوال والدنيا. ومن هذا الموضع انطلق الرّسول.
ثورة الواجب المقدس
ثمّ رأى النبي الواجبَ ولم يرَ سواه، وهو الذي يروي عن أنبياء أصحابٍ له يأتون يوم القيامة ومع واحدهم الرجل أو الرجلان، أو ليس معه أحد[3]. فكان الواجب عنده، كما كان عند الأنبياء ممن سبقوه هو التّكليف، وكذلك ينبغي أن يكون عند أتباعهم. والنَّفْس البشرية متعلّقة بالمآل والثمرة، غيرَ أنّ الدين الذي يَعِد متّبعيه بالتمكين، لا يعد واحدهم بهذا، فإنه قد يولد ويقاتل ويموت، ثمّ لا يرى من التمكين المأمول شيئًا، فكان وعد التمكين هذا في حقيقته لا وعدًا لأفراد الدين، بل لجماعته، أما كلّ واحدٍ منهم فهو مبتلىً بالواجب، وموعود بثمرةٍ يقينيةٍ ليست من الدنيا. ومن هذا حديث بيعة العقبة "فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ، عَلامَ نُبايِعُكَ؟ قال: تُبايِعوني على السَّمعِ والطاعةِ في النَّشاطِ والكَسَلِ، وعلى النَّفَقةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، وعلى الأمْرِ بالمَعْروفِ، والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، وعلى أنْ تَقولوا في اللهِ لا تَأخُذُكُم فيه لَومةُ لائِمٍ، وعلى أنْ تَنصُروني إذا قَدِمْتُ يَثرِبَ، فتَمْنَعوني ممَّا تَمنَعون منه أنفُسَكُم وأزْواجَكُم وأبْناءكُم ولكم الجَنَّةُ". [4] ولكم الجنة!
بشّر محمدٌ أعداءَه بأن المكان الوسط بينه وبينهم وَهْمٌ، وهمٌ في هذه اللحظة "لا أعبدُ ما تعبدون"، ووهمٌ في الزمن القادم "ولا أنا عابدٌ ما عبدتم"، وهذه الجذرية ركن الثورة الأول، أن تتمترس خلفَ مقولتك وحقّك، وأن يرى عدوّك صلابتك، وأن يقطعَ أمله منك، من أن تنزل له، أو تكفّ عنه
ومع رؤية الواجب تولد الثورة، والثّورة طريقٌ قوامه العطاء والتضحية، وليس يَبذُل الرّجل كلّ شيء إلا إذا استغرق في رؤية واجبه حتى ذَهَل عن رؤية حظّ نفسه، وعن الثّمن المُراقِ في سبيل قيامه بواجبه، ثمّ ذهل عن الثّمرة الدنيوية، عن سؤال الثمرة من حيث هو، فهو يعطي عطاء من لا ينتظر الجزاء "لا نريد منكم جزاء ولا شكورا".[5]
تنعدمُ في الحالة الفلسطينية مخايل الجوائز الدنيوية، يحلُم الناسُ بالتحرير لا لأن في التوازنات والسياقات الأرضية شيئاً يبشّر به، بل العكس هو الحاصل، تنقطع الأسباب عن الفلسطينيّ المؤمن، وتنعدم الأداة في يديه، ويُطوَّقُ بالأعداء، وتتحالف الدنيا ضدّ حقه "وسوى الروم خلف ظهره روم"، ثمّ يقوم "وما في الموت شكٌّ لواقف"، لا لأن الردى ينام عنه، ولكنّه "يرى مصرعه ثمّ يغذّ إليه الخطى"، ينهضُ بالواجب وحده، إرثٍ نبيّه، بالواجب الذي اتّقد في النفس فصار ثورةً يصنَعُها من الحجارة المبثوثة في الأرض، والرّصاص المنتهبِ من بين شدقيِ التنين.
في يوم مولد النبي، كانت جِنين تنبت أبناءَها الثائرين. ولا يولد الثائرون بلا سقاء، وقد جَعلَ محمود وأحمد دمهم سقاء الثورة والثوار، كما جعلَ بلال وياسر وحمزة والصحابة الأوائل دمهم سقاء الثورة التي انطلقت يوم ولد محمد "صلى الله عليه وسلم". وها هو حمزة فارس الإسلام وناصره يقتسم سيادة الشهداء مع محمود وأحمد ومحمد وعادل، وهم يقومون لأساطين الجور والظلم في عصرنا، يرجون تغيير منكرهم بأعظم مقامات التغيير الإيمانية، باليد والجهاد: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".[6] وفي الحديث ربطٌ عظيمٌ بين التغيير بما هو فعلٌ من أفعال الثورة؛ والإيمان، فإذا عظُمَ إيمان المرء في قلبه عَظمت ثورته، وانطلق إلى التغيير الفعلي باليد، ثمّ إذا ضعف الإيمان فيه ضعفت ثورته حتى تغيب بغيابه. ولعلّ العكس يصحّ في هذه الحالة، إذ تورِثُ الثورة التي في القلب والجوارح النفس إيمانها فيرتقي بارتقائها، وقد قيل إن أعظم محاضن التربية خنادق القتال.
تنعدمُ في الحالة الفلسطينية مخايل الجوائز الدنيوية، يحلُم الناسُ بالتحرير لا لأن في التوازنات والسياقات الأرضية شيئاً يبشّر به، بل العكس هو الحاصل .. ومع ذلك ينهضُ الفلسطينيّ المؤمن بالواجب وحده، إرثٍ نبيّه، بالواجب الذي اتّقد في النفس فصار ثورةً يصنَعُها من الحجارة المبثوثة في الأرض، والرّصاص المنتهبِ من بين شدقيِ التنين
الثورة .. وجه الرحمة المشرق
ولطالما كانت ثوريّة هذا الدين، وفعله القتاليّ واحدةً من مطاعنِ أعدائه عليه، إذ يرونها منافيةً لدعوى الرحمة فيه، غير أنّ نظرةً أعمقَ تَكشفُ عن كمون الرحمة في الثورة، لا من جهة أن القسوة زجرٌ ضروريٌّ في بعض حالاتها، ولا من جهة أن "وضع الندى في موضع السيف مضرٌّ"، لا من هاتين الجهتين فحسب، بل من جهة أن الرحمةَ في ذاتها متطلبةٌ للشدة والثورة، فإنّ رحمة المظلوم أن يظلّ ضعيفا منتهكًا، ورحمةَ الحقِّ أن يظلَّ معنىً منبوذًا، ورحمة الخلقَ أن يظلّوا عبيدًا للطاغوت والاستكبار، تورثكَ الثورة وتوجبها عليك، فإن غابت الثورة والحال هي الحال فبأيّ شيءٍ تستدلّ على رحمتك؟! فالثورة هنا نتيجة الرحمة الطبيعية، وصنوها الملازم الذي لا بدّ منه.
إذا عَظُمَ إيمان المرء في قلبه عَظمت ثورته، وانطلق إلى التغيير الفعلي باليد، أما إذا ضعف الإيمان فيه ضعفت ثورته حتى تغيب بغيابه. ولعلّ العكس يصحّ في هذه الحالة، إذ تورِثُ الثورة التي في القلب والجوارح النفس إيمانها فيرتقي بارتقائها، وقد قيل إن أعظم محاضن التربية خنادق القتال.
عند حاجز شعفاط، في الليلة التالية لميلاد الرحمة الثورية، تجلّت الرحمةُ فتىً فلسطينيًا يمطر الجنودَ المحتلين بالرصاص، ثائرًا رحيمًا واحدًا بمسدسٍ فقير يواجه أكثر من عشرةِ جنودٍ مدججين. ثمّ يكون المشهدُ لا أنّه يغلبُهم فحسب، بل أنّه يظهِرُهم كأضعف ما يكون عليه المقاتل، جبناء فارّين مهزومين، ثمّ ينطلقُ إلى مداه وزمنه، بعدما نشر في الفلسطينيين المؤمنين رحمَتَهُ وثورته.
احتفَل الفتى بالمولدِ، أحياهُ كما يجبُ أن يكون إحياء الأحداث العظيمة. وقد كان المولد في تسعينيات القرن الماضي موعدًا من مواعيد احتفال الحركة الإسلامية التي امتشقت السلاح وقرّرتِ القتال، وتفرّدت به في ذاك الزمن مانعةً الانحدار إلى القاع، كما يفعل كلّ مقاتل الآن. وفي اختيار المولد النبوي موعدًا لإقامةِ حفلٍ مليءٍ بالمعاني الجهادية، توفيقٌ لا تخطئه عينٌ بصيرة، يومَ يُمزَجُ المعنى الدَّعوي الصرف بالمعنى الجهادي، لا مزجًا متعسّفًا بل معنى مستدعيًا حقيقةَ التصاقهما في الواقع.
الرحمةَ في ذاتها متطلبةٌ للشدة والثورة، فإنّ رحمة المظلوم أن يظلّ ضعيفا منتهكًا، ورحمةَ الحقِّ أن يظلَّ معنىً منبوذًا، ورحمة الخلقَ أن يظلّوا عبيدًا للطاغوت والاستكبار، تورثكَ الثورة وتوجبها عليك، فإن غابت الثورة والحال هي الحال فبأيّ شيءٍ تستدلّ على رحمتك؟! وعند حاجز شعفاط، في الليلة التالية لميلاد الرحمة الثورية، تجلّت الرحمةُ فتىً فلسطينيًا يمطر الجنودَ المحتلين بالرصاص
إنّ إعادة استذكار المولد النبوي بهذا الوصف والمعنى، حدثًا مؤسِّسًا لحركة تاريخيةً عظيمةً كان قوامها الجذريّة والواجب وإنكارُ المنكر والسعيُ في تغييره بكلّ وسيلة، بل بخلق الوسيلة من العدم، هو من أعظمِ ما يُمكنُ أن يَفعلهُ مؤمنٍ لذكرى نبيّه، وهُو ما يفعلُه المقاتلُ والشهيدُ حين يَغفل أو يُغفل النقاش في هامش الذكرى العظيمة، ويتمثّل نبيّه في لحظة من الرحمة والثورة، وينشُر ذكراه في القلوب والعقول، بالحجارة والدم والرصاص.
[1] رواه ابن حبان
[2] قيلت على لسان بلال بن رباح – مسلسل عمر لوليد سيف وحاتم علي
[3] حديث البخاري: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرُّهَيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد ..."
[4] رواه أحمد
[5] سورة الإنسان 9
[6] رواه مسلم