الناجون من حرب الإبادة.. شهادات حية من رحلة الموت والنزوح

الناجون من حرب الإبادة.. شهادات حية من رحلة الموت والنزوح
تحميل المادة

منذُ السابع من أكتوبر عام 2023 ومع انطلاقِ الساعاتِ الأولى لعملية طوفان الأقصى، لا تزالُ قصصُ الفقدِ والنزوح بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية تتراكمُ في قلوب سكان قطاع غزة حتى صارَ الصدرُ مثقلًا بما لا يحتمل، وما زاد من تكدس الذكريات الأليمة اشتداد فصول الإبادة  بين جوعٍ وحصارٍ وإجبارٍ على النزوح والإخلاء.

ومع دخولِ حربِ الإبادة شهرها الثامن عشر يبقى حصُر كلَ المشاهدِ الثقيلةِ على النفس والذكريات المؤلمة لمن عاش ولا يزالُ في غزة استحالة خاصة مع وصول عدد الشهداء حتى إعداد هذا التقرير إلى 52,314 شهيد و117,792 إصابة، وفقًا لتقرير وزارة الصحة الفلسطينية الإحصائي اليومي لعدد الشهداء والجرحى، فضلًا عن المعتقلين والمفقودين وحتى العالقين تحت ركام المنازل، لتتحول حياةُ الغزيينَ إلى كابوسٍ متواصلٍ ومحطاتٍ مفزعةٍ من الخراب والموت.

يحاولُ هذا التقرير تسليط الضوءِ على بعض حكايا الشاهدين والناجين حتى اللحظة على فصول حربِ الإبادة الجماعية، بعد أن اجتمعت عليهم أسبابُ الموتِ دفعةً واحدةً. تحكي القصص هنا عن تجرع العائلة مرارةَ الفقد لأكثر من مرة طيلة شهور الإبادة، ورحلات النزوح المثقلة بالخوف والتيه داخل أحياء المدينة التي كانت خاويةً أصلًا من معظم سكانها بعد أوامر الإخلاء القسري بالتزامن مع بديات التوغلِ البري، وكيف تبدو حياة الأطفال الذين نجو وحدهم بعد استشهاد كامل أفراد عائلاتهم.

حينما يجمتع النزوح والفقد في آن واحد

تتشابه تفاصيل الفقدِ ومحطات النزوح داخل أحياء غزة القديمة، التفاح والدرج والزيتون إلى حد ما بين السيدتين "أم حمزة عباس"، و" أم زكي جعرور"، فكلتاهما آثرتا البقاء في غزةَ دون الانصياعِ إلى أوامر جيش الاحتلال الإسرائيلي، التوجه إلى ما سماها" المناطق الآمنة" في جنوب قطاع غزة حيث مدينتي رفح وخانيونس مع بدايةِ الاجتياح البري أواخر أكتوبر من العام 2023، لتعيشا ظروفًا إنسانية صعبة للغاية غاب فيها معيلُ الأسرةِ، فبدأتا في رحلة البحث عن أدنى مقوماتِ الحياة من ماءٍ وطعامٍ فقط لأبنائهما.

لم تعدْ ذاكرةُ الأربعينية "أم حمزة" تسعفها في عدة مرات النزوح داخل مدينةَ غزة التي تجاوزت العشرة، فهي أم لسبعةٍ من الأبناءِ حملتْ معهم ثقلَ التنقلِ والخوف والجوع تحتَ أزيزِ الطائرات ومدافع الدبابات، إلا أن تلقيها خبرَ استشهاد زوجها ودفنه سريعًا دون أي مراسم للوداع بسبب اشتداد القصف الإسرائيلي آنذاك، زاد من تفاقم المسوؤليات، تقول: "في أواخر الشهر الأول من الإبادة تلقيت خبر استشهاد زوجي، وكان أثقل عليّ من جبال أحد لأنه كان لي السند بعد الله عز وجل خاصة في هذه الحرب لم أجد سندًا لنا سوى الله عز وجل والبعض من أصدقاء زوجي وأخواتي حفظهم الله كانوا يقدمون لنا الدعم المالي والنفسي".

في أوقاتِ النزوح العصيبة لـ "أم حمزة و أم زكي" زارَ الفقدُ قلوبَهن أكثرَ من مرة، فبعد مرورِ عامٍ على فقد  زوجها استُشهد حمزة الابن البكر لها"، والذي كان  الساعد الأيمن لها ولإخوته بعد فقدان الأب، ومع اشتداد ذروةِ الجوع في الأشهر الأولى من الإبادة الجماعية، لم يكن الحصول على كيس الطحين مجرد طعام، بل كان بمنزلة رمز للحياة والانتصار على الجوع، وهو ما كان يثبته حمزة في كل مرة يخاطر بروحه إلى الأماكن الخطرة للحصول عليه ليسد رمقَ إخوته الصغار.

نفسه الفقد تكرر مرتين في أقل من أربعة أشهر للحاجة "أم زكي" إذ ودعتْ في أيار/ مايو 2024 اثنين من أولادها وإحدى زوجاتهما وأربعة من الأحفاد الأطفال بعد أن قُصف البيت بصاروخٍ غادر فرّق شملَ العائلة المكونة من عشرين شخصًا ما بين شهيدٍ ومصابٍ ونازحٍ، بينما في مجزرةِ صلاة الفجر بمسجد التابعين في آب/ أغسطس من العام نفسه فقدت في إثرها أيضًا نجلها الثالث وزوج ابنتها الكبرى، لتدخلَ في رحلة ٍعذابٍ أخرى من البحث عن منزل يأويها أو حتى مدرسة.

ليس الفقد وحده من يثقلُ كاهلَ الخمسينية "أم زكي" بل إن تفاصيلَ اشتدادَ الجوعِ والحصارِ الذي عاشته مع أبنائها وأحفادها وإجبارها على تناول طعامِ الحيوانات وحبوب الطيور باتتْ تنبشُ ذاكرتها كلَ ليلةٍ، ليس بحثًا عن أجوبةٍ، بل فقط لتشعرَ أنها ما زالت تعيشُ وتحاول سدَ رمق أحفادها الأيتام، مضيفةً: "رأينا الموت أمامَ أَعيُننا ألفَ مرةٍ، وصوت أحزمة نارية عشوائية وقصف إسرائيلي  جوي وبري وبحري مرعب وبشكلٍ مستمر، حتى أولادي الثلاثة قبلَ استشهادهم شاهدوا صورًا كثيرة من الموت في الحصول على الدقيق حيثُ كانت القذائف تتطايرُ في كل جانب".

تسردُ هي الأخرى زوجةُ الشهيد "أبو حمزة" في حديثها مع منصة "إطار" بعضًا من رحلات النزوح الإجباري طيلة العام الأول من الإبادة الإسرائيلية واصفةً أن قرارَ الإخلاء، وكأنه يوم من أيام القيامة بأهوالها التي ذُكرت في كتب التفسير والسيرة، قائلةً: "لحظةُ الإخلاءِ الجميع يخرجُ دون أي شيء، من شدة الموقف تنسى الأم أن تأخذ ابنها، لقد عشنا لحظات يصعب على العقل البشري أن يصف ما مررنا به".

مع إصدارِ قرار الإخلاء المفاجئ عبر صفحته الخاصة بجيش الإحتلال الإسرائيلي على "فيسبوك" يحملُ معه تيهًا وخوفًا وقلقًا في نفوس الأمهات والآباء يرافقه صراخُ الأطفال، حتى يبدأ الجميعُ بسؤال تحبسه الأنفاس "وين بدنا نروح؟"، ليس هذا فحسب، بل إن الأكثر ألمًا وعذابًا في هذا النزوح هو رحلة البحثِ الشاقةِ عن مكانٍ آمنٍ، بعد أن استباحت "إسرائيل" كلَ المنشآتِ الصحيةِ والتعليميةِ  والدينيةِ وحتى السكنية ِفي التدمير والخراب.

تتذكرُ "أم حمزة" أولى محطاتِ الإخلاءِ مع أبنائها السبعة، والذي كان " قطعةً من العذاب" في الأشهر الأولى من حرب الإبادة، وهي تحاولُ الركض سريعًا من شارع لآخر، وإلى  منطقة لأخرى  تحتَ صوتُ الأحزمة النارية وقذائف الدباباتِ التي رأتها للمرة الأولى من حياتها تجوبُ شوارع وأحياء غزة، قائلةً: "كانت الساعة السابعة صباحًا والقصف ما زال مستمرًا، في هذه اللحظة استُهداف المنزل  الملاصق للبيت الذي أسكن فيه، بدأ الصراخ يعمُّ المكان فخرجتُ أنا وأولادي وبدأتُ أبحثُ عن منطقة آمنة".

 في اللحظات الأولى من الإخلاء يبدو المرءُ مشتتَ الذهنِ تائهَ المصير فاقد للبوصلة، فالبحثُ عن مكان آمن لإيواء الأطفال والنساء يتطلبُ من النازحين عنوةَ  الجرأة وصعوبةً في اتخاذ قرار الاستقرار المؤقت في المنطقةِ التي يتوجهون إليها، وهو شعورٌ عاشته السيدة "أم حمزة"، قائلةً: "بدأتُ أركض أنا وأولادي للبحث عن مكان آمن نجلس فيه، ذهبتُ إلى حي الجلاء وإذ بها منطقة أشباح خالية وفارغة من جميع البشر، بدأ الخوفُ والذعرُ الشديد يخيمُ علينا، مشيت لساعاتٍ حتى وصلت  إلى بيت صديقتي ومكثت عندها أسبوعين، ثم بدأت رحلة نزوح أخرى".

تستشعرُ السيدتان "أم حمزة وأم زكي" نعمةَ الهدوء والأمان في غزة بعد إعلان وقف إطلاق النار مطلعَ العام الجاري، بيد أن 42 يومًا لم تكن كافية لترميم تفاصيل ما عشناه في حرب الإبادة، لا سيما وأن "إسرائيل"، كعادتها، خرقت الاتفاق وعادت الحرب من جديد فحملت معها خيبةٌ في نفوسهن، ففي عشيةَ خرق الهدنة في 17 من رمضان الماضي كانت "أم حمزة" قد احتفلت بخطوبة ابنتها، ولكن سرعان ما تبددت الفرحة مع استشهاد عريسها في اليوم التالي، وهو العريس الثاني بعد استشهاد الأول مع والدها نهاية شهر أكتوبر 2023.

شهداء بلا وداع

تعمدت سياسةُ الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية المستمرة ضد غزةَ مسحَ الأحياء السكنية والمنشآتِ التعليمية والصحية والخدماتية، إلى جانب هدم البيوت على رؤوس ساكنيها دونَ سابق إنذار، إلى أن محيت عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية من السجل المدني، وفي كثير من الأحيان يكون الناجي منها شخصًا واحدًا أو اثنين على الأقل، وهو حال لم تعهده غزة كثيرًا خلال مراحل العدوان الماضية منذ عام 2008. 

لم يكن الحديث مع " الناجي الوحيد" من العائلة سهلًا، إذ ثمة مشاعر مختلطة تشتعل في الوجدان وأخرى تواسيها الذكريات، فالثلاثيني " أحمد قنيطة" كان له نصيبٌ من الفقد بعد أن وصله خبر استشهاد زوجته وأطفاله الثلاثة في الأسبوع الأول من حرب الإبادة بينما كان قد غادرَ غزةَ  للمرة الأولى في حياته آب/ أغسطس من العام 2023 لحضور الملتقى الشبابي في مدينة قونية التركية.

مع الساعات الأولى لحرب الإبادة الجماعية، وفي اليوم الثالث تحديدًا قرر" قنيطة" العودة إلى غزة، فاتجه نحو مطار القاهرة، ثم معبر رفح البري أملًا في دخول القطاع والأنس بعائلته التي تعيشُ الخوفَ والرعب من شدة هول القصف، إلا أن الاحتلالَ أوعز إلى السلطات المصرية إغلاق بوابةَ رفح ليبدأَ في ضربها جوًا وبرًا، فمكثَ بضعة ِأيامٍ في مدينة رفح المصرية وهناك تلقى خبرَ فاجعة استشهاد أطفاله وزوجته التي لحقت بعائلتها الـ11 فردًا.

يعود" أحمد قنيطة" في حديثه مع منصة "إطار" إلى اللحظات الأخيرة التي سبقت خروجه غزة، إذ خططَ مع زوجته وأطفاله إكمال برنامج الدكتواره واستقدامهم بعد فترةٍ وجيزةٍ من الاستقرار، مستدركًا "كانت رغبتي في السفر  لم شملَ العائلة إلى تركيا أو ماليزيا للخروج من أجواء الحصار الإسرائيلي الخانقة والحروب التي عاشها أطفالي هناك كنوع من تغيير جوٍ لهم بسبب ظروف الحصار وإغلاق المعابر، بيدَ أن القدرَ كان أسرع من تحقيق هذه الأمنية".

لا ينكرُ "قنيطة" عظمِ مصابه وفقده الكبير والأيام الصعبة والقاسية التي يعيشها منذُ ما يقارب العامين، مضيفًا: "لا شكَ أن الإنسانَ يقفُ بثباتٍ وصلابةٍ أمامَ الناس والعدو كي لا يظهرَ شيء من الانكسار، لكن سبحانَ الله القلبُ يشتعلُ شوقًا كلَّ لحظة، رغمَ معرفتنا المسبقة أنها ضريبةٌ يجب أن تدفعَ لأجل القضية الفلسطينية، إلا أن أكثرَ ما يدمي القلب هو حالةُ الخذلان من الأمة والعالم الظالم".

يستذكرُ قنيطة الأشهر الأخيرة قبل استشهاد زوجته الشهيدة إسراء، قائلًا: "أقبلت زوجتي إقبالًا منقطعَ النظير على القرآن الكريم، حفظًا وفهمًا وتدبرًا، وعزمت على حفظ كتاب الله كاملًا بعد أن سجّلت في أحد المشاريع القرآنية، كانت تقضي كل يوم حوالي 5 ساعات في الحفظ والتدبر والتسميع، حتى أكرمها الله بحفظ 3 أجزاء عن ظهر قلب، وكانت قد حصلت على الإجازة فيهم بتقدير امتياز".

عشرُ سنواتٍ كانت ثمرةُ إنجاب الأطفال الثلاثة لـ" أحمد وإسراء"، وهم" رهف، عبيدة، ريما"، تحدثا خلالها عن مشروع تربيتهما وتنشئتهما أيامًا وليال وسنين". مضيفًا: "عملنا على تحقيق أحلامنا فيهم لسنواتٍ طوال، ذهبَ كلَ ذلك بغمضة عين، بعد قصف الاحتلال الفاشي النازي منزلَ عائلة زوجتي بصاروخٍ حاقدٍ غادر، دمّر البيت بشكلٍ كامل، بلا أي سبب، ودون أي مبرر، غير أنهم اليهودُ، قتلةُ الأنبياء وسفاكو الدماء".

لم تجف دموعُ الحزن والفقد على استشهاد زوجة وأطفال أحمد قنيطة ليفجعَ مرة أخرى باستشهاد والده في حرب الإبادة ومع ذرورة اشتداد الحصار والجوع والبرد في شهر شباط/ فبراير من العام الماضي شمال المدينة، التي بقي فيها دون مغادرتها أو الانصياع إلى أوامر جيش الاحتلال بإخلائها.

وعلى الرغم من سلسلة الحروب غير المتكافئة التي خاضها المحتل الإسرائيلي ضد سكان القطاع لا سيما منذ 2008، فإن الموت لا يمكن أن يؤلفَ في غزةَ وهو أمرٌ جللٌ، ولو تتابعت المجازر والشهداء، فكل واحد له محبينه وأصدقاء وذكريات يكبرُ ويترعرعُ في اهتمام الآباء وتنشئة أبنائهم، كما يرى والد الشهداء" قنيطة".

بقايا نبض تحت الركام

يعيشُ الآلاف من الرجال مثل أحمد قنيطة الذين تركت حرب الإبادة في قلوبهم كثيرًا من الألم في فقد زوجاتهم وفلذاتِ أكبادهم دفعةً واحدةً، حتى أن المصابَ  نفسه لدى النساء اللواتي بقين لوحدهن بعد فقدِهنَّ أطفالِهنَّ، إذ أن الكثيرَ منهن لا تحظى بإلقاء قبلةَ الوداع أو الحضن الأخير، إما  بسبب إصابتها أو أن العائلة تضطرُ لإخفاء الأمر عنها لتفادي تدهور الصحة كما جرى مع  الناجية الوحيدة " أم أحمد جبر، دون أطفالها الخمسة، براء، براءة، سما، أحمد، سندس" حينما حاولت في الأشهر الأولى من حرب الإبادة الاستئناس ببيت عمها وترك بيتها، إلا أن صاروخًا غادرًا أطلقته طائراتُ الاحتلال على بيت جيرانهم الملاصق لهم فانهار البيت فوق رؤوسهم.

دخلت الثلاثينية "أم أحمد" في غيبوبةٍ ظنتْ عائلتُها وقتها أنها في عداد الشهداء بعد انتشالها من تحت الركام، إلا أن محاولات الأطباء بعد إجراء جملة من العمليات الجراحية في رأسها والجزأ الأيمن من جسدها جعلها تتعافى شيئًا فشئيًا، لتسألَ عن أطفالها الخمسة وأحوالهم فيكون الرد من أقاربها أنهم بخير كما أوصى الأطباء بذلك، خوفًا على زيادة النزيف في دماغها إنْ عرفت بحقيقة مصير أطفالها.

لم يكن متاحًا الحديث مع "أم أحمد" التي ترقدُ في أحد مشافي مصر خوفًا على تدهور حالتها الصحية التي لا تسمح أصلًا بالحديث عن أطفالها وأحلامهم البريئة، لتسرد حكايةَ الفقد عنها أمها، أم خالد  التي ترافقها في رحلة العلاج قائلةً: "كنا نُخفى خبر استشهاد الأطفال دائمًا رغم إلحاح ابنتي عن السؤال حول أوضاعهم أو الاتصال عليهم، إلا أن بعدَ شهر ونصف من إصابتها وقفت أمام رسالة أرسلتها إحدى قريباتها لعائلتها بأن أولاد أم أحمد كلهم شهداء".

حينها دخلت الأمُ المفجوعة بأطفالها في حالة من الصدمة والذهول رافقها تدهورًا حادًا في حالتها الصحية لتغادرَ على إثرها القطاع برفقة أمها نحو مشافي مصر لتلقي العلاج أواخر شهر كانون الأول عام 2024، إذ تعاني من شلل نصفي، ونزيف حاد في دماغها، إذ  يحاولُ الأطباء السيطرة عليه بعد إجراء العديد من العمليات الجراحية والتجميلية.

الأطفال الناجون والأسئلة المتكررة

حاولت منصة "إطار" الحديث مع أطفال آخرين ناجين من حرب الإبادة الإسرائيلية بعد فقدان ذويهم في قصف إسرائيلي غادرٍ واحتضان أقاربهم لهم، فباتت إجابات اثنين منهما صامتة، فلا تزالُ تدور في أذهانهما الكثير من أسئلة الطفولة البريئة، "متى ستأتي أمي، هل عاد أبي من السوق، أين ذهب إخوتي وجدتي وأعمامي، أريدُ العودة إلى بيتي؟".

تحاولُ العائلاتُ الحاضنةُ لهؤلاءِ الأيتام التخفيف عن مصابهم قدر المستطاع، تارةً باندماجهم داخل مخيمات النزوح الخاصة بالأيتام، وتارةً أخرى بالبحث عن مرشدٍ نفسي لفهم آليات التعامل مع الطفل الناجي، وهو ما تحاولُ تبحثُ عن عائلة الطفل ذي السبع سنوات "أحمد الخطيب" الذي فقد عائلته في أيلول العام الماضي، في ما أصيب بكسر في يده وقدميه.

يشرحُ عمُ الطفل المصاب "أحمد" محاولات العائلة الحثيثة توفير بيئة آمنة له في ظل استمرار حرب الإبادة، قائلًا:  "منذُ ما يقارب العام وأحمد يعاني من اضطراباتٍ ما بعد الفقد، حالة البكاء المستمر خاصةً مع سماع صوت القصف الإسرائيلي والطيران المروحي".

لا يختلفُ حالُ الطفل الخطيب عن الناجي الوحيد من عائلته أيضًا "محمد زينة" والذي سرعان ما تكفله عمه في بيته لرعايته، إذ يعيش معهم محطات من النزوح والجوع كما حالُ الجميع في قطاع غزة، ويسرد عمه لمنصة "إطار" اللحظات الأولى التي فُقد فيها والديه وإخوته، قائلًا: "نزح محمد وعائلته إلى بيت جده في المخيم الجديد حي الرحمة شمال مخيم النصيرات في الشهر الثاني من بداية الإبادة وبالتزامن مع تقدمٍ لقوات الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وإطلاق النار والقذائف العشوائية على بيوت السكان في تلك المنطقةِ، فأصابَ بيتُ جده المقيميين فيه صاروخًا أدى إلى استشهاد عائلته".

لا يختلف الأمر كثيرًا لدى الطفل محمد المقيد الذي خرج وحيدًا بعد فقدان أشقائه الأربعة ووالدته، إلى جانب جديه، إلا أنه يعتبر نفسه من الأطفال المحظوظين بعد أن حفظ الله والده حيث كان في عمله، مضيفًا: "أنا كثير بشكر رب والدي معي، وسأسير على خطاه صحفيًا، علاقتي فيه قوية جدًا بعد استشهاد إخوتي وأمي، ويحاول أن يسد فراغهم وغيابهم الموجع".

عند الحديث مع محمد ابن الرابعة عشر ربيعًا رجع إلى ما يقارب العامين من حياته ليصف آخر يوم قضاه مع عائلته التي عادة ما تخصص وقتًا لأطفالها رغم كثرة الانشغالات والالتزامات داخل العمل، مستدركًا: "قبل استشهاد عائلتي بيوم أخذت أمي توصيني كثيرا بإخوتي الصغار كأنها تودعني، وقبل قصف البيت خرجت لشراء الماء، ثم عدت ووجدت إخوتي وأمي أشلاء".

الإبادة بين الاغتراب النفسي والتعافي الطويل

على الرغم من التجارب القاسية والمؤلمة التي عاشتها غزة خلال العقدين الماضيين تحديدًا، إلا أن ما تعيشه حاليًا من حرب إبادة فاق الخيال والمنطق، وربما قدرة البعض على تحمل رحلات النزوح المثقلة بالمأساة، وعليه، يصف المختص في الإرشاد النفسي "حسن القطراوي"، الحال الذي يعيشه القطاع نتيجة حرب الإبادة، قائلًا: "إن الطبقات الاجتماعية جمعيها صارت طبقة واحدة، الكل يهرب ويجوع ويعطش ويبكي ويحزن ويخسر ويتألم ويمكن أن يفقد حياته في كل لحظة، لا توجد موانع للموت لا المال والرتبة الاجتماعية ولا العلاقات الاجتماعية، غزة تٌشبه الصراط والجحيم، الفرق أن الجحيم من كل الجهات وليس تحتها فقط".

ولا تزال حرب الإبادة فارقة من حيث الإجرام وطول المدة الزمنية وقسوة الظروف التي تعيشها غزة، إذ يرى المختص في الإرشاد النفسي" القطراوي" والذي يعيش تفاصيل الإبادة كاملة، أنه لا يوجد موت يؤلف، كل ما في الأمر أن الثبات والصبر هنا أيوبيّ، وهذا ما يعطي انطباع للناس بأن غزة أسطورة، لكن في الحقيقة هي تحزن وتبكي ويؤلمها الفقد، مضيفًا: "لا يمكن لإنسان حي بالمشاعر أن يألف الموت لمجرّد كثرته، لا أحد هنا يتجرّد من مشاعره، هذا خلط بين قوة الصبر والبلادة، الناس في غزة صابرة وليست متبلدة".

 ولفت القطراوي إلى أن غياب الروح القومية والاسلامية والإسناد الشعبي العربي عن مشاهد الإبادة يحوّل الفلسطيني إلى شخص آخر، فما قبل هذه الحرب ليس كما بعدها من الناحية النفسية لكل من عايشوها. من المؤكد أن الغياب عاظم فيهم مشاعر الحقد الداخلية نتيجة الخذلان، كيف يمكن أن ينظر الأخ لأخيه وهو ينظر إليه يموت دون أن يمد له يد العون، نحن ننظر إلى الخذلان ليس ككلمة بل كطعنة، وانعكاساتها على المجتمع الفلسطيني سلبية جدًا".

ونوه خلال حديثه مع منصة "إطار" إلى أن من أوليات التعامل مع الذين يتعرضون للصدمات النفسية هو الفحص الشامل للتعرف على درجة الصدمة، ثم التعامل مع درجتها من خلال إعادة تأهيل نفسي كي يتمكن هؤلاء مع الدمج في المجتمع من جديد، الناجي الوحيد يعيش حالة اغتراب نفسي الآن، وهو بحاجة لاحتواء مجتمعي سريع كي يتخطى حالة الصدمة، تأخر العلاج النفسي يعني تدهور الصحة النفسية للأسوأ، وبدء ظهور أعراض المرض النفسي، أو ما تُعرف بالمحكّات.

ولا يستبعد المحاضر في جامعة الأقصى بغزة أن تشكل حرب الإبادة دوافع نفسية عديدة للمجتمع الغزي، لكنها لن تكون جمعية حسب اعتقادي بل دوافع نفسية فردية، بمعنى أن يقرر كل ناجِ مستقبله بعيدًا عن الحسابات القديمة التي كانت تأخذ الأولوية كالصمود والثبات والصبر، سيبحث الناس عن الأمان أكثر، لأن النفس تميل غالبًا لاستكمال نواقصها، ولا شيء أنقص من الأمن في غزة، خاصّة أن طاقة التحمل استنفذت من كل الذين عايشوا هذه التجربة الصادمة والمريرة.

 أما عن مرحلة التعافى، فيرى المختص أنها ستأخذ مرحلة التعافي وقتًا طويلًا، لذلك، فإن الحسرات والأوجاع ستبقى صديقة للجميع في غزة فترة طويلة، ويكون تجاوزها صعبًا لكنه ليس مستحيلًا، فشعبنا تعرض لتضحيات كثيرة وتجاوزها، لكن هذه ستكون أكثر صعوبة وأكثر تأثيرًا من الناحية النفسية، وستأخذ الكثير من الوقت، على حد قوله.