الهبسوراه: أسطورةٌ أخرى للذكاء الاصطناعي يجرفها الطوفان

الهبسوراه: أسطورةٌ أخرى للذكاء الاصطناعي يجرفها الطوفان
تحميل المادة

 

الهبسوراه: أسطورةٌ أخرى للذكاء الاصطناعي يجرفها الطوفان

تقديم

كانت الأسطورة التي باعتها إسرائيل لحلفائها المطبعين وغيرهم حول العالم بأنها قادرة على حمايتهم سيبرانيا، لأنّها واحة البرمجيات الأمنية الفائقة في العالم، وقد تمكنت بفعل الدعاية الإعلامية من تحقيق مبيعاتٍ ضخمة، وتعزيز أهميّتها باعتبارها حليفًا ليس عنه غنى لجيرانها وبقية زبائنها، لكنّ هذه الأسطورة تخضع لتشكيكاتٍ متزايدة بالنظر لسرعة انهيار المنظومة الأمنية يوم السابع من أكتوبر، وتقدّم المقالة واحدًا من هذه التشكيكات المنطقية بما تقول اسرائيل إنّه نظام ذكاء اصطناعي لم يسبق له مثيل يسمى "هبسوراه" أو "التوراة"، يمتلك القدرة على توليد قائمة أهدافٍ ضخمة بالإضافة إلى العدد التقريبي من الخسائر الجانبية في صفوف المدنيين لكلّ ضربة، من أجل غايتين: أولًا، تسويق منظومتها الأمنية والعسكريّة حول العالم، وثانيًا لإيجاد مسوّغ يخلو من النية المبيتة لأكثر من 150,000 غزيّ بين جريح وشهيد منذ بداية الحرب.

في عام 2021، زعمت إسرائيل بأنها استخدمت نظام ذكاء اصطناعي في صراعها القصير المدة ضدّ الفصائل المقاتلة في قطاع غزة، ما أثار عناوين إخباريّة بشأن "أول حرب للذكاء الاصطناعي". في ما تزعم تقارير صدرت مؤخرًا استخدامًا أوسع بكثير للأنظمة المشغلة بالذكاء الاصطناعي في حرب إسرائيل الحالية على القطاع، وذلك على نُدرةِ التفاصيل المتاحة بشأن هذه الأنظمة بالنظر لطبيعتها فائقة السرية بالنسبة إلى الاستخبارات الإسرائيلية، وبسبب طبقات من المعلومات المضللة والمزيفة المرتبطة بالحرب الحالية. لكن على الرغم من شح المعلومات، ثمة سبب لضخّ الحذر  إلى النقاشات المتعلقة بقدراتٍ مزعومة من هذا النوع وإلى الدور المسند للذكاء الاصطناعي الخاص بالجيش الإسرائيلي.

 

عن الهبسوراة والاستهداف بالذكاء الاصطناعي

في عام 2019، أعلنت الحكومة الاسرائيلية عن تأسيس "هيئة الاستهداف" التي سيُناط بها توليد أهدافٍ لقوات الجيش، بالأخص قوات سلاح الجو الإسرائيلي. في الصراعات السابقة، كان سلاح الجو الإسرائيلي يفرغ من الأهداف بعد مرور أسابيع على القتال، بما أنه كان ينتهي من ضرب كل الأهداف التي يعلم بوجودها. وأُسست هيئة الاستهداف من أجل الحدّ من هذا النقص عبر إنشاء "بنك" استباقي من الأهداف القتالية الذي يسبق أي قتال، وبالتبعية ضمان عدد كاف من الأهداف عند بدء العمليات القتالية. الهيئة التي تتألف من مئات الجنود والمحللين، تولّد الأهداف عبر تجميع بياناتٍ من مصادر متعددة من صور المسيّرات، الاتصالات المخترقة، بيانات المراقبة، ومعلومات المصادر المفتوحة، بالإضافة إلى بياناتٍ ترصد تحرّكات وسلوكيات الأفراد والمجموعات الكبيرة من الأشخاص.

تزعم مصادر إعلامية وأخرى تابعة للجيش بأن الذكاء الاصطناعي يُستخدم عبر هيئة الاستهداف لمعالجة البيانات المجمعة ومن ثم توليد أهداف بسرعة أكبر  من البشر. ويقال بأن نظام الذكاء الاصطناعي المستخدم والمسمى " هبسوراه" أو "التوراة" يستخدم الاستخبارات المجمعة لإنتاج أهداف قابلة للتنفيذ تتعلق بمواقع المقاتلين، بحيث يكون الاستهداف على مستوى لواءٍ أو كتيبة عسكرية كاملة. الإفادات حول البرنامج تقول بأنَّ النتائج المتعلقة بالهدف المطلوب تتضمن بياناتٍ حول العدد المرجّح للخسائر في صفوف المدنيين في حال تنفيذ الضربة. وتزعم مصادر إعلامية بأن دور المحلل البشري مقصور على تأكيد الهدف قبل أن يُعطى للقائد العسكري لتحديد قبوله من عدمه. ويصرح الجيش بأن الغاية هو "التطابق التام" بين توصية الهبسوراة والمحلل البشري بشأن الاستهداف قبل تنفيذ الضربة.

 

رأي بديل

الجيش الاسرائيلي هو أحد أكثر الجنود المتقدمة والمدمجة تكنولوجيا حول العالم، غير أنَّ احتمالات قيام هذا الجيش نفسه باستخدام ذكاء اصطناعي يكون على هذه الدرجة من التعقيد والذاتويّة هي احتمالات متدنية. على الرغم من شح المعلومات، ثمة سبب لضخّ الحذر  إلى النقاشات المتعلقة بقدراتٍ مزعومة من هذا النوع وإلى الدور المسند للذكاء الاصطناعي الخاص بالجيش الإسرائيلي

ومع أنّ "توليد الأهداف" يمكن أن يبدو باعتباره مفهومًا مبسطًا، لكنه مهمة فائقة التعقيد، ما يعني أن الهبسوراة سيفوق بأشواطٍ أي نظام تكتيكي/عملياتي آخر تنفذه جيوش حول العالم. الذكاء الاصطناعي سيحتاج لاستيعاب باقة متنوعة من أنماط البيانات الآتية من مصادر متعددة، بحيث يقوم بتقدير العلاقة النسبية لكل نقطة بياناتٍ تُدخل إليه بالهدف وتحديد مدى مصداقيتها، ومن ثم مزج هذه البيانات بالسجلات الموجودة سلفًا، وإنشاء ملفات شخصيّة لاستهدافاتٍ قابلة للتنفيذ وتقدير الخسائر في صفوف المدنيين في خضمّ ذلك، كما يزعمون.

مع أنّ قدراتٍ من هذا النوع قد تكون قابلة للتطبيق تقنيًا، لكن إمكانية السماح لنظامٍ بهذه الصلاحية الواسعة في بيئة قتالية هي إمكانية متدنيّة جدًا، لأنَّ الثقة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وبالأخص في الذكاء الاصطناعي العسكري، لا تزال معدومة. ونظامٌ مثل الهبسوراة، بما يُعرف عنه من افتقارٍ لبياناتٍ تتعلق بالأسباب التفصيلية لاختيار الهدف، من المستبعد أن يقلل من هذا التخوف من أنظمة الذكاء الاصطناعي.

حتى في الدور الأقل استقلالية، إنمّا الضبابي أيضًا، الذي يصفه الجيش الإسرائيلي لنظام الهبسوراة، ما من وصفٍ معطى لطريقة توليد النظام للأهداف، أو عما يحدث حينما لا تتوافق مشورة المحلل البشري مع مخرجات النظام. فمن المرجّح أن يرغب القادة بتدقيق أكبر في الأهداف عبر عدد من المصادر البشرية قبل تأكيد الضربة، وهو ما سيشغل عددا أكبر من المحللين البشريين في الهيئة، وبالتالي سيبطلُ جزءًا على الأقل من الفعالية المكتسبة بفضل الذكاء الاصطناعي.

كل قرار لتنفيذ ضربة ينفذ في أعقاب معرفةٍ شبه شاملة بشأن ظروف موقع الاستهداف والآثار المتوقعة للضربة بما فيها الخسائر الجانبية المتوقعة.

السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن هيئة الاستهداف تستخدم أنظمة آلية مؤتمتة في ربط الاستخبارات بعضها ببعض، بهدف تحديد أنماطٍ معينة في توليفة ضخمة من البيانات المجمّعة، بالإضافة إلى أشخاصٍ توكلُ إليهم مهمة إنشاء الهدف المطلوب. في دورٍ ثانوي من هذا النوع، سيؤدي الذكاء الاصطناعي بدون شك إلى زيادة السرعة التي تعمل بها الهيئة لتوليد الأهداف المألوفة للمحللين الذين يقومون بهذا العمل بأيديهم. لكن استخدام نظام لتجميع ومعالجة الاستخبارات أوتوماتيكيا ليس بالأمر الجديد، فقد استُخدم هذا النوع من الحوسبة في عمليات الاستهداف لعقودٍ من الزمن، على الرغم من تفاوت القدرات التقنية بين نظام وآخر. علاوةً على تلقيّ استخبارات (التي يمكن لها أن تكون أي شيء من البيانات الأرضية-الفضائية إلى استخبارتٍ بشأنِ إشارات)، فإن نظامًا آليا مؤتمتًا من هذا النوع يقتصر على الإشارة إلى مناطق جغرافية ذات أهمية، حيث يكون من المحقّ منح مزيدٍ من الاهتمام أو التحرّك عسكريًا، لكنه لن يولد أهدافًا قابلة للتنفيذ.

بالرغم من ذلك؛ فغياب نظام ذكاء اصطناعي واضح للاستهداف لا يعني أن حرب اسرائيل الجوية على قطاع غزة تفتقر للدقة، أو أنها عاجزة عن تفادي المدنيين في ضرباتها. بالرغم من استخدامها الواسع لما يسمى بالقذائف الغبية، لدى إسرائيل وصول واسع لأسلحة فائقة الدقة. هذه الأسلحة الدقيقة موجودةُ برؤوس حربية وقدرات متنوعة، ما يسمح للجيش الاسرائيلي بالحدّ أو زيادة الضرر كما يريد، الأمرُ يشير أيضا بأنّ غالبية الضرر الجانبي من  المدنيين جوا هي نتائج متعمدة وخاضعة للمسؤولية.

لقد حافظ الجيش الإسرائيلي على غابة كثيفة من أجهزة المراقبة فوق قطاع غزة للعديد من السنوات، ولا زال يحتفظ بأفضلية مطلقة في استخبارات التوجيه والقياس الإلكترونية والاتصالية والأرضية-الفضائية. كل قرار لتنفيذ ضربة يتم في أعقاب معرفةِ شبه شاملةٍ بشأن ظروف موقع الاستهداف والآثار المتوقعة للضربة، بما فيها الخسائر الجانبية المتوقعة. كما تمتلك إسرائيل نواة قانونية صارمة داخل جيشها، ينبغي أن يوقعها محاموه عند أي استهداف بشريًا كان أم موّلدًا بالذكاء الاصطناعي، حتى وإن كان هناك مئات الأهداف يوميًا. عندما تضرب اسرائيل جويا أو تقتل أو تجرح العشرات من الآلاف من المدنيين، يبدو أنه لا مجال لأي شك بأن كل هدف يتم توليده، والموافقة عليه، وتوجيهه وتنفيذه بعلم وموافقة كاملة من موظفي الجيش الإسرائيلي.

 

 

المصدر: https://www.wired-gov.net/wg/news.nsf/articles/Israels+Targeting+AI+How+Capable+is+It+09022024142500?open