الولايات المتحدة: تاريخ الهيمنة على الأمم المتحدة

الولايات المتحدة: تاريخ الهيمنة على الأمم المتحدة
تحميل المادة

الولايات المتحدة: تاريخ الهيمنة على الأمم المتحدة

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل حتّى تاريخ نشر هذه المقالة، استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض داخل مجلس الأمن مرّتين لتعطيل قرارات وقف إطلاق النار في غزة. لكنّ النقض الأميركي في قرارات مجلس الأمن لا يتعدى كونه استراتيجيّة إلهاء عن الطريقة الفعليّة التي سيطرت بها الولايات المتحدة على الأمم المتحدة عبر إعادة التفسير القانونية لقراراتها عشية حرب الخليج الأولى عام 1991، انطلاقًا من وعيها المتزايد بنفسها كإمبراطوريّة جديدة تتسيّد العالم، حيث بدأت تخترق دول العالم الثالث والأول على حد سواء بإعادة تنظيم شؤونها الاقتصادية والسياسية الداخلية وسحق أي قوى للتغيير الاجتماعي فيها.

انتهى مؤتمر سان فرانسيسكو بشكلٍ لائق بحفلٍ ختامي نظّمه نيلسون روكفلر في "نادي يخوت سان فرانسيس"، تميَّز بظهور الفنانة كارمن ميراندا "القنبلة البرازيليّة". ثمَّ أُتبعَ ظهورها باستعراضٍ ختامي صُمّم بشكل رائعٍ في دار الأوبرا، بكشّافاتٍ تُلقي بإنارتها الوهّاجة على ديكوراتٍ من الدّعاماتِ المسرحيّة الخلابة بدرجاتٍ متباينة من اللون الأزرق، وخريطةِ جلوسٍ لمتابعة حركةِ المندوبين وتدريبات لكل واحدٍ من التوقيعاتِ على الميثاق في حجرةٍ توارت عن الأنظار خلفَ المنصّة، ومناورات عاجلة لمنع الأرجنتنين من تصدّر العرض الأبجديّ للموقّعين. ما إن انتهَى الاستعراض "حتّى أخذَ الحراسُ الميثاقَ إلى طابقٍ علويّ ثمّ وضعوه في خزنةٍ بوزنِ 75 باوند عازلة للرصاص". نُقلت هذه الأمانة الثمينة على متنِ طائرةٍ عسكريّة خاصّةٍ وقَد غلّفتها مظليّة هبوطٍ تلافيًا لحدوث مكروه، ثمّ حلّقت باتّجاه واشنطن تصحبُها شخصيّة مرموقة هو ألجِر هيس الأمين العام لمؤتمر سان فرانسيسكو. ظنًّا منه أنَّ حفلَ استقبال لائقٍ سيكونُ بانتظاره عندَ تسليم الأمانةِ للبيت الأبيض، فوجئ هيس عندما وجد الرئيس يسترخي بقميصهِ ذي الكُمين، وفي يدهِ جرعةٌ من ويسكي البوربون دونما اكتراثٍ لعظمةِ الميثاق الجديد الذي يتوسّد صندوقًا من الفولاذِ المحميّ بقفلٍ توافقيّ.

 لم تكن نتائج المؤتمر أقلّ رمزيّةً من هذا المشهد؛ فبينما قضى أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي على عصبة الأمم، بدأوا يهنّئون بعضهم بعضًا بالأمم المتحدّة في نشوةٍ غامرةٍ داخل مبنى الكابيتول هيل. سرّع المشرّعون المجتمعونَ من عمليّة المصادقة على الميثاقِ في استعجالٍ يكاد يكون مخزيًا. اعترضت على الميثاق دولتانِ فحسب - فمن بينِ التسعة وأربعينَ موقّعًا على الميثاق وحدهما نيكاراغوا والسلفادور توقّعتا ما سيحدث. في حين أدلى السيناتور فاندنبرغ الذي يعدُّ نفسه بجدارةٍ أحد مهندسي النجاح في دار الأوبرا بخطابٍ حماسيّ قائلًا "إنني مستعدٌّ لمواصلةِ هذه المغامرةِ الرائعة ولا أجدُ سبيلًا سواها. إنني مؤمنٌ بأنَّ بركتها ستحلُّ على الأرض…الخ". ما أتاح للناسِ القولُ بأنَّ بعض الموقّعين "يقولونَ ما لا يفعلون حتّى في أثناء توقيعهم على الاتّفاق". غير "أنني أجيب بأنّه كلّما كنّا أقرب إلى الحقّ في مواجهةِ هكذا اتهامٍ بغيضٍ كانت الحاجةُ أكبرَ إلى النمطِ الجديد الذي يعدُ باستئصالِ شأفة هذه التيّارات الشّريرة…كلّما اقتربنا من الحقّ ازدادت الحاجةُ لاستنهاض الحريّات التي يتبصّرها ميثاق سان فرانسيسكو". ما من تجسيدٍ أفضل من المذكور أعلاه يمكن أن يلخّص طبع النفاق الذي سيدمغُ الأمم المتحدّة: كلّما غالت قواته المهيمنة في وحشيّتها وكلبيّتها كان ضروريّا استنهاض واستبصار مبادئه السامية. أمّا مصير ستاتينيوس الذي تخلّص منه ترومان بشكلٍ غير رسميّ في غضون أيام على إتمام مهمّته في سان فرانسيسكو، فكان أوضح مؤشّرٍ على المكانةِ الفعليّة التي مُنحت للأمم المتحدة في ظل التخطيطات الأميركيّة الكبرى في قادم السنوات. فعلى مدار الحرب الباردة سارت الاستراتيجية الأميركيّة العالميّة على الخطوط التي رسمها دين أتشيسون.

ينتشي كتاب ستيفن شليزنجر بعنوان "قانون الخلق: تأسيس الأمم المتحدة" بأنَّ تأسيس الأمم المتحدة كان منذ البداية مشروعًا للولايات المتحدة، ابتدعته وزارة الخارجيّة الأميركيّة، قادهُ باحترافٍ اثنان من الرؤساء العملييّن، وكانت تدفعهُ القوّة الأميركيّة. وهو لا يخفي حقيقة أنَّ "ستاتينيوس أشرف" أثناء مكوثه في سان فرانسيسكو "على مشروعٍ كانت تهيمنُ عليهِ بلاده وتقولبه سلفًا". وعلى حدّ قوله فقد تمخّضت النتيجة عن إنجاز مذهل؛ "بالنسبة إلى بلدٍ يحقّ له الفخرُ بإنجازاته غير المحدودة فإنَّ هذا الإنجاز الفريد ينبغي أن يتصدَّر لائحته المهيبة دائمًا" بينما يتعيّن على بقيّة البشريّة الشعورُ بالعرفانِ للأميركيّين لأنهّم تفضّلوا به. يهتف شليزنجر" قد يتضح في نهاية المطاف أنَّ الأمم المتحدة هي الهديّة الأكثر وهجًا التي منحتها الولايات المتحدة للعالم". فهل هذه الرؤية التلطيفيّة المتمثلة في الهديّة الأسمى التي قدّمتها أمريكا للبشرية نتيجة لسيطرتِها عليها واقعيّة من منظور تاريخي؟

 

أجندة أكثر تقدمًّا

بالنظر إلى حقيقة مفادُها أنَّ التصميم الروزفيلتيّ للأمم المتحدة كان قد كفل الهيمنة الأميركيّة على سياسات العالم الرأسمالي (مع الحصانة التي قدّمها حقّ النقض للاتحاد السوفييتي)، قد يبدو غريبًا بأن يجد القادة الأميركيين أنَّ المنظّمةَ غير كافيةٍ كأداة رئيسيّة لتحقيق الهيمنة الأميركيّة. ويمكننا أن نجد دليلا آخر على صحّة هذا الافتراض في ملاحظات أتشيسون حول المنظمة الدولية، فقد زعم بأنَّ الأمم المتحدة فكرةٌ تنتمي إلى القرن التّاسع عشر. هذه مبالغةٌ بالتأكيد، لكنَّه أرادَ القول بأنَّ التصوّر ينتمي إلى مرحلةٍ سبقت الهيمنة الأميركية.

كان المسوّغ الرّسمي لوجود الأمم المتحدة، مثل عصبة الأمم التي سبقتها هو وضع حدٍّ لحروب القوى العظمى في أوساط الدول الرأسمالية عبر سنّ عدد من قواعدِ العمل الجماعي لإنهائها. وبالنّسبة إلى البريطانيين وغيرهم من القوى التي شاركت في سنوات الحربين العالميّتين كان هذا المبدأ مثيرًا للإعجاب. كانت لندن بحلول ذلك الوقت قد حصلت على ما تريد  وأكثر في أنحاءِ العالم، حيث لبّى مصالحها الالتزام بالقانونيّة الليبراليّة التي تجسّدت في عصبة الأمم وجُعلت أساسا لفقها القانوني. وقد ظلّت هذه القانونيّة الليبراليّة في صميم تصوّر روزفيلت للأمم المتحدة، على الرغم من تعديل الرئيس ويلسون بضمان حق تقرير المصير الذي ساهم في تفكيك الإمبراطوريّات البريطانيّة والأوروبيّة الأخرى.

 غير أنَّ مهمّة الأمن الجماعي التي تمثّلت في الدفاع عن الوضع القائم ضدَّ القوى الرجعيّة لم تكن ذات أهميّة تحت الهيمنة الأميركيّة لسبب بسيط: هو أن أمريكا، على عكس بريطانيا، قد حازت كل الموارد اللازمة لفرض سيطرة القطب الواحد على القوى الرأسمالية الأخرى كافّة في غرب أوروبّا وشرق آسيا. بهذا المعنى كان أتشيسون محقًّا،  فقد كان مبدأ الأمن الجماعي قديم الطراز وزائدًا عن الحاجة تحت الهيمنة الأميركيّة. لأنه انبرى يعالج أكثر المشكلات استعصاءً لعالم المركزيّة الأوروبيّة الذي سبق الهيمنة الأميركيّة.

بطبيعة الحال، لكي تلعب الولايات المتحدة دور الوصي والحارس للنواةِ بأكملها، فلا بدَّ من تسليح الدّولة الأميركيّة على أساس دائم. وقد بدا ذلك الإجراء في المقابل كما لو أنَّه سيساعد في حلّ المشكلات الصعبة للاقتصاد السياسي المحليّ. وبناءً على ما سبق فلم تكن الأمم المتحدة فائضةً عن الحاجة فحسب، كأداةٍ لضمان الاستقرار الداخلي في أوساط المراكز الرأسمالية الرئيسة. بل إنها من المنظور الأتشيسونيّ كانت أسوأ من ذلك، لأنها قدَّمت مبدأ قانونيًا لم يكن مفيدًا في أفضل الأحوال ألا وهو السيادة القومية المطلقة للدول. وقد كان هذا مرّة أخرى مبدأ متناغمًا مع العهد البريطاني أكثر منه مع الإمبرياليّة الأميركيّة. فلم يحدث أبدًا أن حاز البريطانيون القدرة على إعادة تشكيل الترتيبات الداخلية للدول الرأسمالية بالإكراه. كان اختصاصهم هو الاستيلاء على المجتمعات الما قبل رأسمالية وإعادة تشكيلها وهزيمة القوى التقليديّة للمقاومة داخلها. لذا فإنَّ مبدأ الحق المطلق للدول ومبدأ عدم التدخّل كانا مقبولين بالكامل للبريطانيين بمجرّد أن يصل حدود إمبراطوريّتهم. واشنطن كانت لديها أجندة مختلفة وأكثر تقدمّا: أوّلًا، اختراق الدول الرأسمالية القائمة وإعادة تنظيم ترتيباتها الداخلية بحيث تلائم الأهداف الأميركيّة، والثاني هو هزيمة أي قوى اجتماعية داخلها ترفض المسار الأميركيّ للحداثة ليس لأنها قد تكون قوى تقليدية ولكن لأن لديها حداثة بديلة.

 لم يعالج نظام الأمم المتحدة ببساطة هذه القضايا التي كانت جدّ مركزيّة لواشنطن. ذلك أنّه قدّم دفاعًا نظريًا ضد التدخل الأميركي في تركيزه على مبدأ السيادة القومية. نتيجةَ لذلك، فقد كان النظام القانوني السياسي للأمم المتحدة عقبةً مرهقةً إلى حدّ كبير لأنشطة ما بعد الحرب الأميركيّة، ما دفع بجزء كبير من أعمالها في تغيير أنظمة الحكم الداخلية لأن تتم سرًّا. سرعانَ ما تعامل مبدأ أتشيسون القائم على توحيد عالم  السوق الحر ضد كل أشكال المقاومة للأسلوب الأمريكي في تنظيم الحياة الحديثة - والمبرّزة بـ "الشيوعيّة"- مع أساليب الصياغة التي وضعها ميثاق الأمم المتحدة. ومع تزايد الخطر السوفياتي، حوّل المبدأ اثنين من المراكز الرأسمالية الرئيسة في أوراسيا المتمثلة في أوروبا الغربية واليابان إلى شبه محميّات أميركية - ما أتاح لواشنطن إعادة بناء ألمانيا واليابان كمراكز صناعيّة لهذه المناطق دون الخشية من أنّها قد تطوّر مرة أخرى استراتيجيات جيوسياسيّة تعيد تنظيم مناطقها كمناطق معادية للولايات المتحدة. بالتبعية، فقد كان شلّ نظام الأمم المتحدة بالمكانة الرمزية البارزة التي مُنحت للاتحاد السوفياتي مكونا ضروريا في السيادة الأرتشيسونيّة.

 

ما بعد السقوط

كانت حرب الخليج الأولى 1991 بمثابة خيبة أمل من نظام الأمم المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة مثلما كانت كوريا خيبة أمل عند بدايته. بانتهاكِ مبدأ السيادة القوميّة غير المشروطة، مكّن غزو صدّام حسين للكويت الولايات المتحدة من استغلال الأمم المتحدة لأقصى حدّ بهدف إثباتِ المدى الجديد للسيادة الأميركيّة مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي. مع الغزو العراقيّ، كان استغلال الولايات المتحدة للأمم المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة يقتضي انتهاء العمل بمبدأ سيادة الدول أكثر من أي وقت مضى. نصَّ ذلك المبدأ على أن الدول حرة في تنظيم شؤونها الاقتصادية والسياسية على النحو الذي تريد، بينما تعتمد الموارد الربحية للأعمال التجارية الأميركية (والأوروبية حتى، لا سيما البريطانية) بشكل حاسم على الترتيبات الداخلية في الدول الأخرى بحيث توفّر حريّة غير مقيّدة للشركات المالية الخارجية، وحقوقا غير مقيّدة للشركات الأجنبية بحيث تستحوذ على الشواغل الداخلية [كأنظمة الرعاية الصحيّة وغيرها] وحماية غير مقيّدة للريوع الاحتكارية على الملكيات الفكرية. وميثاق الأمم المتحدة بالتأكيد لا يضمن أيا من هذا: نظريًا فهو بالتأكيد يعمل ضدّه.

هكذا خلال عقد 1990 سعى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إعادة العمل على الخطاب التقليدي للأمم المتحدة، مجادلين بأن السيادة لم تكن غير مشروطة بل ينبغي أن يُنظر إليها كرخصة قابلةٍ للإزالة يكفلها "المجتمع الدولي" للدول، حيث يتم منحها أو سحبها بحسب استساغة النظام الحاكم لهذه الدولة من عدمه. في حال فشلت الدول في ملاقاة المعايير الدولية المناسبة فإنَّ الحصار أو الغزو مكفولان ضدّها. في بناء هذه المراجعة التي جُيِّش من أجلها الخبراء القانونيّون والديبلوماسيّون، تمكّنت واشنطن (وحتّى لندن) من الاعتماد على أساساتٍ أخرى من بنودِ الأمم المتحدة للحصول على نتائج جيّدة. كان المخزون الانتقائي نفسه للميثاق بتوليفته غير المتجانسة من البنود المتناقضة يقدّم ترياقا جاهزًا لأي إصرار مهما بدا ضئيلًا على السيادة القومية. ولأنَّ الميثاق أيضًا كانَ بيانًا مدويًا لحقوق الإنسان العالمية، فقد أضفى ذلك الشرعية على "الإنسانية العسكرية" الجديدة للدفاع عنها. في البلقان مثلا، كان يمكن لحلف شمال الأطلسيّ أن يشنّ الحرب باسم حقوق الإنسان والسوق الحرّة في آن معا بتبريكاتٍ من الأمين العام للأمم المتحدة، وخدماتِ دعم المستهلك التي يُديرها مجلس الأمن. في العقد 1990، بدا وأنَّ من الممكن إعادة إحياء رؤية روزفلت الأصلية للأمم المتحدة كأداةٍ للقوّة العالمية الأميركيّة بما يفوق توقّعاته حتّى بما أنَّ روسيا أيضا يمكن أن تُعدَّ من ضمن الدول التي تحتاج الإعالة بطريقةٍ لم يكن له أن يتصوّرها في يالطا حيث عقد مؤتمر عام 1945.

لكن حتّى هذا التغيير لم يكن كافيًا لإقناع الرؤساء المتعاقبين بالاعتماد على الأمم المتحدة كأداتهم لفرض الهيمنة. وظلّ البيت الأبيض ملتزمًا بنموذج السيادة الذي نظّمه عبر تحالفات أمنيّة في أرجاء المركز  والهوامش والذي يبُقي الدول الرأسمالية الكبرى الأخرى معتمدةً في أمنها على الولايات المتحدة. مع ذلك، فقد قُلبت جيوسياسيّات أرتشيسون القائمة على "الاحتواء" تحت حكم إدارة بوش رأسًا على عقب، فقد لجأ نحو الدفع بقوة الولايات المتحدة إلى المواجهة مع المنطقة الممتدة من شرق المتوسط  التي تمر بالخليج، ومنه إلى منطقة وسط آسيا ثم الحدود الصينية الغربية. تولّد هذه المنطقة المضطربة التوتّرات لكل القوى الأوراسية الرئيسة. كما أنها تحتوي مخزونات للطاقة التي يحتاجونها جميعًا باستثناء روسيا. بسيطرتها على هذه المنطقة، بإمكان واشنطن أن تأمل باكتسابِ تأثيرٍ يتجاوز السيادة التي تمتّعت بها خلال حرب الباردة، يشمل حتى منافسينَ مثل موسكو وبكين. في ضوء ذلك، فإنَّ الانقسام العالمي الجديد حول "الإرهاب" يقدَّم تأسيسا أقوى بكثير للنزعة التدخليّة الواسعة النطاق عن أي صيغةٍ قانونية يمكن أن توفّرها الأمانة العامة للأمم المتحدة مهما كانت حسنة النوايا.

وإن تحقق هذا الاحتمال، سيتم تضمين  الأمم المتحدة في إطار عمل الهيمنة الأميركيّة بوصفها آلة مساعدة مرة أخرى، كما كان الحالُ وقتَ الحرب الباردة، لكن هذه المرة مع أربعة أعضاء دائمين في مجلس الأمن خاضعين بحزم للتوجيهات الأميركية في محرّك رائع للدكتاتورية العالمية. لئن شعرت واشنطن بالإحباط، سيكون بوسعها على الأقل التأكّد من أنَّه لا مجال لأن تستخدم أي قوة أخرى الأمم المتحدة كأداةٍ فعّالة لضبط الغرائز الافتراسية للولايات المتحدة وصديقتها البريطانيّة. لكثيرٍ من السنوات،كانت الولايات المتحدة هي الوحيدةُ التي استخدمت حقّ النقض في مجلس الأمن. 

كانت النزعة الانفرادية لإدارة بوش تمثل إعادة إحياءٍ لبنية الانقسام العالمية بين الأعداء والحلفاء،  بمجموعةٍ جديدةٍ من الترتيبات القائمة على التحالفات الأمنية والترتيبات الإسناديّة الموسّعة المطابقة لها.  بالنسبة إلى الحلفاء الذين اعتادوا على أعراف التسعينات من القرن الماضي، كان ذلك بمثابة صدمة. في أعقاب أكثر الحروب الأميركيّة وقاحةً في انتهاكِ ميثاق الأمم المتحدة ألا وهو غزو العراق عام 2003، لوّحت كل يدٍ كانت في مجلس الأمن -بعضها بحماسةٍ بينما كان بعضها الآخرُ أكثر استحياءً- بتأييد السلطة العميلة التي نصّبها الغزاة مُصادقين على غزوها.

هزَّت جماعات المقاومة العراقية التي تمكّنت ليس فقط من ضرب الاحتلالين الأمريكي والبريطاني، بل معاونيهم في الأمم المتحدة أيضا أركان ثقة "المجتمع الدولي" بالقوّة المهيمنة. بل إنَّ أمينها العام كوفي عنان قد تأثر عندما قال للعالم بأنَّ "على المرء أن يتوخّى الحذر بعدم الخلط بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة"، كما لو أنَّ خطأ من ذلك النوع يمكن أن يكون قد حدث تحت ولايته. لكن المؤشرات شحيحة على إمكانية حدوث تغيير داخل الأمم المتحدة. إنَّ أي إصلاح حقيقيّ ربّما سيتطلّب - كما يشير دانيلو زولو، أحد أشدّ المنتقدين لمجلس الأمن حدّة - انسحاب بلد أوعدة بلدانٍ من دول العالم الثالث من المنظّمة لإرغام حدوث تغيير في توليفة مجلس الأمن، وحدوث انتقالٍ صريحٍ للسلطة للجمعيّة العامّة. فقط هذا النوع من الصدمة يمكن أن يحطّم التسوية المصفّحة التي وُضعت في 1945. لكن تكفينا لمحة من القيادات الفاسدة أو المذعنة في أكثر الدول المرشحة لكي نرى كم هو طوبوي هذا الاحتمال.

 

رابط المقال الأصلي:

https://www.versobooks.com/en-gb/blogs/news/us-un