بعد سقوط الأسد.. أي دروس تستخلصها "إسرائيل" استراتيجيًا؟!

كُتبت هذه المادة وأُرسلت للنشر قبل تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي أدلى بها في 23 شباط/ فبراير خلال حفل تخريج ضباط إسرائيليين، والتي أعلن فيها بوضوح مواقف استراتيجية حاسمة تجاه التطورات في سوريا. قال نتنياهو: "لن نسمح لجيش سوريا الجديدة بالدخول إلى المنطقة جنوب دمشق. نحن نطالب بنزع السلاح الكامل جنوب دمشق من قوات النظام الجديد في سوريا. كذلك، لن نتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا.". هذه التصريحات، التي جاءت بعد تعمق التغيرات في المشهد السوري، تؤكد النهج الإسرائيلي في استثمار التحولات الإقليمية لضمان تفوقها الاستراتيجي، وفي محاولة النفوذ إلى الدول الإقليمية من خلال اللعب على النزعات الانفصالية الجهوية أو القومية أو الطائفية، وتعكس في الوقت ذاته المخاوف الإسرائيلية المستمرة من محاور النفوذ المحيطة بها.
المادة، إذ تقرأ الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه التحولات السورية، تكشف عن عمق الرؤية الإسرائيلية لما يجري في سوريا كفرصة لإعادة رسم خرائط النفوذ، لا فقط كحالة اضطراب عابرة. في ظل انهيار نظام بشار الأسد، وانكسار النفوذ الإيراني في سوريا، اتجهت "إسرائيل" نحو ترسيخ موقعها كقوة مبادرة، معتبرة الفضاء السوري امتدادًا حيويًّا لأمنها القومي. لم تعد المسألة محصورة بمخاوف تقليدية من تمدد إيران أو تعاظم قوة حزب الله فحسب، بل باتت تتعلق بالقدرة على التحكم في مسارات السياسة الإقليمية، وتأمين خطوط رؤية استراتيجية تطل منها على دمشق ولبنان والضفة الغربية، وبالتأكيد على العمق الإسرائيلي، فضلاً عن ضمان هامش للمناورة العسكرية والسياسية في أي مواجهة مستقبلية.
غير أن "إسرائيل" تدرك جيدًا أن الفضاء السوري لا يزال ساحة تتقاطع فيها مشاريع إقليمية ودولية متضاربة، وأن انهيار النظام السابق لا يعني انتهاء التهديدات. لذلك، تُبقي عيونها مفتوحة على الأحلام التاريخية التي تغذي طموحات القوى الإقليمية الكبرى. فالإيرانيون، الذين يحملون إرث إمبراطورية داريوس في وجدانهم السياسي، لا يتوقفون عن التفكير في التمدد، ولو تكتيكيًّا، متى سنحت الفرصة. أما الأتراك، فإن نزوعهم العثماني يجد في حلب رمزًا لاستعادة عمقهم التاريخي، وهو ما تراقبه "إسرائيل" بحساسية شديدة، وهي تدرك أن السيطرة التركية أو نفوذها في الشمال السوري قد يعيد تشكيل موازين القوة في الإقليم.
في الوقت ذاته، لا تغفل "إسرائيل" الأدوار التي تلعبها قوى إقليمية أخرى تسعى لمد نفوذها خارج حدودها، مثل قطر التي توظف قوتها الناعمة لخلق امتدادات سياسية، أو مصر التي، رغم ضعفها الاقتصادي، تتدخل عسكريًّا في مناطق بعيدة كالقرن الإفريقي. هذا الحراك الإقليمي الواسع يدفع "إسرائيل" إلى التأكيد على ضرورة تأمين خطوط دفاع متقدمة خارج حدودها، ليس فقط لحماية عمقها الاستراتيجي، ولكن أيضاً لضمان مساحة للمناورة السياسية في المستقبل.
ومن زاوية أكثر حساسية، لم تكن "إسرائيل" غافلة عن التكتيكات القتالية الجديدة التي برزت في ساحات القتال في غزة وسوريا. فقد لفتت انتباهها طبيعة العمليات السريعة والمرنة التي قادتها كتائب القسام في عملية "طوفان الأقصى"، باستخدام مركبات خفيفة وطائرات شراعية ودراجات نارية، وهي التكتيكات ذاتها التي اعتمدتها المعارضة السورية في هجومها الخاطف لإسقاط نظام الأسد. هذه النماذج القتالية، بمرونتها وحركتها المفاجئة، عززت المخاوف الإسرائيلية القديمة بشأن إقامة دولة فلسطينية، حتى وإن كانت منزوعة السلاح رسميًّا. فتكرار مشهد قوات خفيفة الحركة تشن هجمات مباغتة يجعل "إسرائيل" ترى في أي كيان فلسطيني، حتى لو كان ضعيف التسليح، تهديدًا محتملاً لبنيتها الأمنية الهشة في محيطها الجغرافي الضيق.
بهذا، تكشف المادة عن مشهد معقد تسعى "إسرائيل" لفهمه وإعادة تشكيله وفق رؤيتها الأمنية، مع إدراكها أن الشرق الأوسط، كـ "نظام بيئي" متقلب وغير مستقر، لا يمنح أي قوة إقليمية ضمانات طويلة الأمد. وفي ظلّ هذه الفوضى الإقليمية المتزايدة، يبدو أن "إسرائيل" وجدت في الفضاء السوري فرصة ليس فقط لتعزيز دفاعاتها، بل أيضًا لترتيب أوراقها في مواجهة تحولات قد تفاجئ الجميع.
التحرير
لم يكن انهيار نظام عائلة الأسد وحده الذي يؤكّد على طبيعة هذه المنطقة النشطة والمتغيرة. يمكن القول إنّ انهيار نظام عائلة الأسد يتصل بلحظة انفجار الثورات العربية، بالرغم من علوّ أصوات في الحالة السورية الراهنة، لاسيما على مستوى النشطاء، هي تعبير عن الثورة المضادة في تقرّبها من القوى الإقليمية التي تولت مهمة تفكيك الثورات في البلاد العربية ودعمت قمعها، وبنحو مؤكد أيضًا، لا يمكن فصل التحوّل السوري عن عملية "طوفان الأقصى" وارتداداتها في التوازنات الإقليمية، التي اختلّت بوضوح مع نتيجة الحرب الإسرائيلية على لبنان.
من المؤكّد، إذن، أن تتقدّم "إسرائيل" في السياق الحربي والمتحوّل في المنطقة، بما في ذلك باتجاه التحولات السورية، في إطار ثنائية تعويض الفقر في العمق الإستراتيجي الإسرائيلي، والتي تأخذ حينًا أسلوب "التمدد في فضاء الآخرين" بحسب التعبيرات الإسرائيلية، والتي تعني الاحتلال المباشر لأراض في الدول المجاورة، بهدف تحويلها إلى مناطق عازلة عن المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الحدود، واستثمارها في أيّ مناورة حربية محتملة، وحينًا آخر، كما هو الآن، تتطلع إلى سياسة اندماجية في المنطقة، ولكن على قاعدة تكريس الهيمنة الإسرائيلية، وهو ما يجري التعبير عنه من بعد حرب الإبادة الجماعية على غزّة بـ "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، وصورته الأوضح، هي اتفاقات "أبراهام".
لكن وبما أنّ الحساسية الأمنية هي الغالبة في السياسات الإسرائيلية والتي تتوسّل أهدافها بفائض قوّة فادح، فإنّه يجري العمل بالثنائية في مركّب واحد دون الاختيار بينهما، كما هو حاصل في سوريا، إذ يهدف "التمدد في الفضاء السوري" فيما يهدف إليه، إلى الابتزاز بالأراضي المحتلة لتحصيل تنازلات مستقبلية، علاوة على كونه إعلانًا عن الفاعلية الإسرائيلية في التحولات الإقليمية الجارية، وتعبيرًا عن التوجس الإسرائيلي المزمن تجاه المنطقة العربية. وعلى أية حال فقد أنجزت "إسرائيل" تعزيز دفاعاتها في الجولان، وتدمير ما تبقى من سلاح سوريّ، وأظهرت فاعليتها في استثمار التحوّلات الإقليمية، وإرادتها في التأثير على مساراتها، وهي بالضرورة في حاجة إلى التأكيد على قوّتها، وقدرتها على ترميم الردع، والمبادرة في الفعل بعد عملية "طوفان الأقصى".
يعتقد بعض الإستراتيجيين الإسرائيليين، أنّ مخطّطي عملية "طوفان الأقصى" كانوا يتوقعون انهيارًا إسرائيليًّا مثيرًا، يشبه الانهيار الذي حصل لاحقًا لنظام عائلة الأسد، المتعفّن من الداخل، والآيل إلى السقوط، إلى الدرجة التي أعدمت حوافز الدفاع عنه من الجنود السوريين. بحسب بعض الإسرائيليين، فإنّ مخططي عملية "طوفان الأقصى" قد لاحظوا الصراع الأهلي الإسرائيلي المتصاعد خلال العام الذي سبق العملية، وهو ما كان يغريهم بالدفع نحو انهيار إسرائيليّ متسارع بضربة مفاجئة يصحبها هجوم مكثف من حلفاء المقاومة الفلسطينية بما يفضي إلى فوضى معيقة للفاعلية الدفاعية الإسرائيلية.
يظنّ الإسرائيليون أنّ حركة حماس، وحلفاءها، قد تفاجؤوا من قدرة "إسرائيل" على احتمال الحرب الطويلة، فقد ظلت الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي تفضل حروبًا خاطفة على أراضي الآخرين، نقطة ضعف تغري أعداءها في استثمارها. إلا أنّ هذا الافتخار الإسرائيلي بالقدرة على الصمود في حرب طويلة على عدة جبهات، الأمر الذي باتت تسلّم به قراءات عربية متعددة، لا يلاحظ أنّ الحرب أولاً جرت بالفعل على أراضي الآخرين (قطاع غزة ولبنان)، ضد حركات مقاومة لا ضد دول بجيوش تقليدية، والساحة الرئيسة لهذه الحرب كانت غزّة، الشريط الساحلي الضيق المحاصر، المتعرض للهجوم من فائض قوّة هائل، يستمدّ استمراريته من قوّة الولايات المتحدة وحلفائها في العالم والإقليم. علاوة على ذلك فإنّ حلفاء المقاومة الفلسطينية لم يخوضوا الحرب بالكثافة الخاطفة التي من شأنها أن تربك "إسرائيل" بالقدر الكافي، أو أن تجعل الحرب الطويلة ذات معنى في الدلالة على "الصمود الإسرائيلي".
المفاجأة على أرض متحركة!
ترى "إسرائيل" أنّ التحول المفاجئ في الموقف السوري، يدلّ على الطبيعة المتغيرة في منطقة غير مستقرّة، وهو ما يتطلب فهمًا إستراتيجيًّا لأهمية العوامل الصغيرة في الدفع نحو التحولات الكبيرة أو خلخلة التوازنات الهشة القائمة. هذا الوعي انعكس في استثمار المعارضة السورية لنتائج الحرب على لبنان، وهجومها الخاطف الذي أدّى إلى انهيار نظام عائلة الأسد. مثل هذا الوعي الإستراتيجي بطبيعة المنطقة، يعتقد الإسرائيليون أن كثيرين من حلفائهم في الغرب يفتقدونه، والذين، بحسب بعض الإسرائيليين، لا يُظهرِون اهتمامًا كافيًا للتحوّلات الصغيرة التي من شأنها أن تقلب المنطقة رأسًا على عقب، فنمط الاستقرار الدائم الذي يسعى إليه الغربيون لا يلاحظ ديناميكيات "الشرق الأوسط" التي تبدو وكأنها تطوي على عناصر جوهرية من التحرك والتغير وعدم الاستقرار، فأثر قبيلة أو عشيرة أو تنظيم مسلح لا يقلّ أهمية عن أثر سياسات دولة أو جيش دولة. مثل هذا الاستنتاج بالضرورة يدفع الإسرائيليين للاستثمار في التحولات الجارية، وإظهار المبادة لا بهدف الدعاية فحسب، ولكن أيضًا بهدف التأثير على التحولات، والمشاركة في شق مساراتها، والاستعداد لأيّ مفاجآت.
يصنف الإسرائيليون منطقة "الشرق الأوسط" بأنها "نظام بيئي" في استعارة من الطبيعة التي تتفاعل فيها عناصرها بنحو معقد ومتغير. الطبيعة التي فيها الأعاصير والزلازل والبراكين والحرائق والمواسم المطيرة والأخرى الجافة، وما لا يحصى من المخلوقات المتحركة فيها؛ من أصغر جزيء في الذرة إلى أضخم الأجرام السماوية. وإذا كانت عناصر الطبيعة هائلة العدد، ولا يمكن رصدها والتحكم بها بواسطة قوانين فيزيائية ثابتة، فإنّ العوامل الصغيرة تتسلّل من بين ذلك كلّه ليكون لها تأثير حاسم ومفاجئ على الطبيعة الضخمة. في مقابل هذا النظام البيئي غير المستقر، يُستعار للأنظمة المستقرة "نظام السكك الحديدية المتطور"، في هذه الحالة يتضح تمامًا خطّ السير، كلّ شيء تقريبًا متوقع، وتصبح الإدارة حينئذ سهلة. على أية حال نظام "الشرق الأوسط" نظام بيئي، الاستقرار فيه مؤقت، لاستناده إلى توازن منهجي، يتطلب مراقبة دقيقة خشية الانهيار في حال دخول عنصر صغير يؤدي إلى تغيير التوازنات. في مثال مباشر على ما نحن بصدده، فإنّ تغيرًا في بلد صغير يتمثّل في تراجع قوّة حزب الله ونفوذه في لبنان بعد الحرب الأخيرة ساهم بوضوح في تحولات كبرى في مناطق أخرى كما حصل في سوريا لاحقًا، ومن ثمّ تسابق قوى الإقليم للاستفادة من التحوّل السوري أو التأثير عليه.
يحاول الإسرائيليون فهم التصورات الضمنية لسكان المنطقة الأصليين عن طبيعة منطقتهم ونواياهم المؤسسة على ذلك. يفترض الإسرائيليون والحالة هذه أنّ سكان المنطقة الأصليين ينظرون إلى الهدوء والاستقرار بوصفهما أمرًا مؤقتًا. يعني ذلك أنّ جوار "إسرائيل"، وهو جوار ممتد يشمل بلادًا أبعد عما عُرف في الأدبيات السياسية العربية بـ "دول الطوق"، ويتجاوز البلاد العربية، لتدخل فيه بالضرورة دول مثل إيران وتركيا، يتأهب (أي هذا الجوار) باستمرار للقتال المحتمل، الذي لا بدّ وأن يأتي مهما طالت فترات الهدوء، حتى لو سُمّيت فترات الهدوء هذه بأنها سلام، وحتى لو مَرَّت عقود متواصلة بلا قتال. وإذا كان جوار "إسرائيل"، بحسب هذا الفهم الإسرائيلي يعيش التأهب النفسي، والنوايا المضمرة، والاستعداد الذهني، للقتال القادم لا محالة، فإنّ على الإسرائيلي أن يعيش متأهبًا، لا في انتظار القتال فحسب، والاستعداد للمفاجآت، ولكن أيضًا للتحكم فيها. على الإسرائيلي أن يكون فاعلاً، أو مندمجًا بفاعلية، في هذا النظام البيئي!
يمثّل الإيمان الديني الدافع الأهمّ لسكان هذه المنطقة. على الأقل، يحضر هذا العامل بقوّة في التحليل الإسرائيلي لطموحات السكان الأصليين وأحلامهم. ولكن أيضًا يحضر التاريخ، بوصفه فاعلاً في المنحدرين من ماضيهم المجيد، فدعاية العثمانية الجديدة يأخذها الإسرائيليون بجدية.
في الحدود الدنيا، أو بالاعتبار التأسيسي، ترتكز "إسرائيل" في مد أسباب ديمومتها إلى جملة أسباب أهمها هيمنتها الإقليمية. الدولة الوحيدة التي تمتلك سلاحًا نوويًّا في المنطقة، وجهاز الاستخبارات الأكثر كفاءة إلى درجة تثير إعجاب الأعداء وخوفهم، والجيش الذي استفاد صيته بأنه لا يقهر من هزيمة جيوش عربية مجتمعة. التفوق الإقليمي يراه الإسرائيليون شرطًا من شروط استمراريتهم، وتآكله يعني تآكل وجودهم نفسه، وبهذا فصعود أيّ قوّة إقليمية هو تهديد وجودي بالنسبة للإسرائيليين، ولكنّ الإسرائيليين يطوون على خوف من أن يتحوّل الصعود الإقليمي المنافس إلى قتال في يوم ما، قتال مدفوع بالقوّة الدينية، أو مدفوع بأحلام استعادة الماضي المجيد. لذلك لا يتسامح الإسرائيليون مع ما يسمونه بـ "الإخلال بالتوازن" حينما تسعى دول عربية إلى تعزيز قدراتها التسليحية بنحو يفوق الحدّ المسموح به إسرائيليًّا، حتى تلك الدول التي تربطها علاقات سلام وتطبيع معلنين معها، أو تلك التي يعلم الجميع أنه لا مشكلة لها مع "إسرائيل".
يحفظ الإسرائيليون جيدًا، أنّ محمد علي، سعى للتمدد في الفراغ الذي خلفه انسحاب نابليون من المنطقة، فأراد أن يصل سلطانه في مصر بحلب عابرًا بفلسطين. هذا المسعى لمحمد علي واجهه العثمانيون، بدعم الإنجليز في حينه، فدفعوه عن حلب إلى سيناء، في حرب امتدت من 1839 – 1841، ليستعيد العثمانيون سيطرتهم على سوريا الكبرى بما يشمل فلسطين. حلب هذه التي ارتبطت تاريخيًّا بمدن وادي حران، بما في ذلك مدينة شانلي أورفا، يراقب الإسرائيليون حلم الأتراك في العودة إليها، هذا الحلم التركي إطار تحليلي إسرائيلي للسياسات التركية الجارية.
وإذا كان الأتراك، لاسيما مع النظام الحالي، دائمي الاستعادة للعالم التركي القديم، وقواه المتتابعة وصولاً إلى العثمانيين، فإنّه لا تغيب عن الخيال الإيراني إمبراطورية داريوس الفارسية، (إمبراطورية داريوس الأول أو داريوس الكبير، حكم بين 522 ق.م – 486 ق.م)، والتي كانت تضم ما صار اليوم إيران الحديثة، وتركيا الحديثة (آسيا الصغرى) وبلاد الشام كلها، ومصر، وأجزاء من اليونان (مثل مقدونيا وتراقيا)، وأجزاء من آسيا الوسطى، وما صار باكستان اليوم، ومناطق من القوقاز، وشبه الجزيرة العربية، لقد بلغت مساحتها 8 مليون كم².
ليس بالضرورة أن يطمح الإيرانيون والأتراك إلى مطابقة جغرافياتهم الراهنة مع جغرافياتهم في تاريخهم، ولكن هذا التاريخ، بأبعاده القومية أو الدينية، أو بكليهما، محرك للسياسات في هذه المنطقة. وإذا كان خيال الأنظمة العربية لا يدغدغه طموح في استعادة أمجاد الماضي، فإنّها أنظمة في نظام بيئي غير مستقر، وتحكم مجتمعات هذا الطموح أحد نماذجها الضمنية العميقة، ولم يكن صدام حسين من زمن غابر. وعامل صغير، كقوّة مجتمعية، من شأنه أن يدخل المنطقة العربية في خلخلة لا تعرف نهاياتها.
كيف يأمل الإسرائيليون من الغربيين، ولاسيما الولايات المتحدة، أن ينظروا إلى منطقة هذا حالها؟! تمامًا كالنظام البيئي الطبيعي عندهم. عليهم أن يفهموا "الشرق الأوسط" كما لو أنّه عرضة للأعاصير النابعة من المحيط والخارجة عن نطاق السيطرة البشرية، وهو ما يتطلب التأهب الدائم. إنّ الفوضى في قلب النظام البيئي الإقليمي الشرق أوسطي، يمكن أن تُكبح أو تؤخر، بما يوفر قدرًا من الهدوء والاستقرار، لكن يجب أن تبقى اليقظة دائمة للعوامل غير المتوقعة.
درس ميداني: التكتيك الجديد في ساحات القتال
لا تقتصر الرؤية الإسرائيلية للتحول السوري، على هذا الفهم الكلّي للطبيعة الديناميكية لهذه المنطقة والدوافع الأيديولوجية المحركة للفاعلين فيها. فثمّة انتباه للتكتيكات القتالية التي تبدأ من عملية "طوفان الأقصى" ولا تنتهي بـ عملية "ردع العدوان" والتي تجاوزت اسمها إلى إسقاط النظام ودخول دمشق.
قادت كتائب القسام في غزّة عمليتها، بالطائرات الشراعية، وسيارات الدفع الرباعي، والدراجات النارية، والمشاة، وغطت ذلك بالمسيرات والمقذوفات الصاروخية المصنعة محلّيًّا. بالتأكيد سبق ذلك تخطيط استخباراتي محكم، وعمليات تعمية، وخداع إستراتيجي، وتعامل متقن مع أدوات الرقابة الإسرائيلية عالية التقنية.
لم يختلف الأمر من هذه الحيثية بالنسبة لقوات المعارضة السورية، التي تحركت في سيارات الدفع الرباعي، والمركبات المدنية، والدراجات النارية، والشاحنات الصغيرة. لقد كانت هذه القوات تتحرك بمرونة وسرعة، مستفيدة من الانهيارات السريعة لجيش عائلة الأسد. وبالتأكيد كانت مغطاة بالطائرات المسيرة، التي تقول المعارضة السورية، حينها، إنها مصنعة محلّيًّا.
ما الاستفادة الإسرائيلية الإستراتيجية من هذه الملاحظة التكتيكية؟!
يمتلك جيش الاحتلال الإسرائيلي تفوقًا كاسحًا، وهذه حقيقة لا يمكن الجدال فيها، لكن هذا التفوق الكاسح لم يمنع حركة حماس من الحركة السريعة في عموم ما يُسمى مستوطنات "غلاف غزة"، وأن تداهم بنحو خاطف وناجح المقرات العسكرية لفرقة غزة. الأمر نفسه في سوريا، تمكنت المعارضة في مركبات خفيفة وسريعة من إسقاط نظام عائلة الأسد. وإذن فلن تكون مشكلة "إسرائيل" مع الدولة الفلسطينية فقط في حال لو كانت مسلحة، بل حتى دولة بقوات شرطية، ببنادق خفيفة، وسيارات خفيفة؛ هي مشكلة إسرائيلية.
علاوة على التناقض الجوهري بين دولة فلسطينية، ودولة إسرائيلية، التناقض التأسيسي في مبدأ الوجود، والإستراتيجي في مآلات الوجود، وعلاوة على كون "إسرائيل" لا تحتمل تخليصها من عمقها الإستراتيجي في الضفة الغربية؛ فإنّ عددًا من المقاتلين بتدريب جيد، واستعداد جيد، وإيمان صادق، يمكنهم بمركباتهم الخفيفة ودراجاتهم النارية، وفي هجوم مباغت كعملية "طوفان الأقصى" أو "ردع العدوان" التسلل من مناطق الضفة الغربية المحاذية، كطولكرم أو قلقيلية، وقطع التواصل بين المناطق الساحلية، أو يمكنهم الانحدار من جبال رام الله الغربية وصولاً إلى مطار "بن غوريون". تبدو مشكلة العمق الإستراتيجي بالنسبة لـ "إسرائيل" هنا كوحش يحدق بـ "غوش دان".
الميدان السوري تحت المجهر الإسرائيلي
كما تُظهر عملية "طوفان الأقصى" محدودية المعرفة البشرية، كذلك عملية "ردع العدوان". صحيح أن عملية "طوفان الأقصى" خدعت الإسرائيليين مباشرة، في خداع استخباراتي أمني مادي، وبشري معرفي، ولكن أيضًا، يقول الخبراء الإسرائيليون، إنّ عملية "ردع العدوان" كانت مفاجئة لهم، وسقوط نظام عائلة الأسد بهذه السرعة كذلك كان مفاجئًا، بيد أنّ الإسرائيليين يفتخرون بأنهم تمكنوا من الاستجابة السريعة لهذا التحوّل السوري المفاجئ، على مستوى الجيش، والمستوى السياسي.
خطوط الاشتباك: ثلاثية الجيش الإسرائيلي في مواجهة التحولات السورية
هذه الاستجابة السريعة يلخصها الإسرائيليون في ثلاثة أهداف مُنجزة، وهي:
1. الجولان بين الأسلاك والمتاريس: درع "إسرائيل" في زمن التحولات
اندفاعًا من التحفز الأمني الدائم، وتجسيدًا لعقيدة العمل الاستباقي، وفي سياق مواجهة النشاط الإيراني في منطقة الجولان ومنه تهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية، لم تبدأ "إسرائيل" في تعزيز دفاعاتها في الجولان شرقي السياج الحدودي؛ بعد سقوط نظام عائلة الأسد، بل بدأت قبل ذلك ببضعة شهور، وتولت هذه المهمة فرقة الجولان، بتوجيه قيادة المنطقة الشمالية ودعمها، وهو الأمر الذي مكّن الإسرائيليين من التحرك الفوري والسريع بعد سقوط نظام عائلة الأسد، بتوسيع احتلالهم للأراضي السورية، داخل المنطقة العازلة المحددة وفق اتفاقية فكّ الاشتباك عام 1974. وعلاوة على ذلك، تمدد جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى قمم سلسلة جبال حرمون وهو ما يُوَفّر له قدرة فائقة على التأثير العسكري المباشر سواء داخل سوريا أم داخل لبنان.
لا يقتصر الأمر على هذا الهدف العسكري الإستراتيجي، فالتمدد في الفضاء السوري، يوفّر ورقة مساومة مستقبلية، بحسب تحولات المشهد داخل سوريا، أو استعدادات النظام الجديد في حال حظي بالاستقرار اللازم، أو تقاطعات القوى الإقليمية والدولية. اعتادت "إسرائيل" على فرض الوقائع وجعلها مرتكز أيّ تحرك تال، عسكري أو سياسي، وهي باحتلالها لأراض جديدة في سوريا، تتجاوز الجولان قضية تفاوضية، لتجعله أمرًا حاصلاً ليس محلّ تفاوض أصلاً. سيكون أيّ سلام سوري/ إسرائيلي، والحالة هذه مؤسسًا على المصلحة الإسرائيلية المنتقصة جوهريًّا من المصلحة السورية.
2. تفكيك الترسانة الصامتة: "إسرائيل" وتدمير إرث الجيش السوري
بعد سقوط نظام عائلة الأسد، دمّرت "إسرائيل" أسلحة تقول إنّه كان من الممكن أن تُستخدَم ضدها في حال لو ظلّت قيد التشغيل. تصف "إسرائيل" هجومها هذا بأنه غير مسبوق، جرى بوتيرة سريعة، وإدارة دقيقة، وقد منع ذلك من وقوع هذه الأسلحة في أيدٍ معادية، كما تقول، لكنها لا تقول أمرين مندرجين في جملة أهدافها من تدمير تركة الجيش السوي:
الأوّل- التأسيس لمنع قيام جيش سوري جديد. من الملاحظة أنه جرى تفكيك الجيوش بطابعها التقليدي في المنطقة العربية المحيطة بفلسطين المحتلة، بما يضمن اختلال التوزان بنحو كاسح لصالح "إسرائيل"، فالجيوش اللبنانية والعراقية والآن السورية هي أقرب في قدراتها التسليحية إلى القوات الشُرَطية، ويبقى الجيش الأردني بعديده وعتاده دون النمط التقليدي المكافئ لـ "إسرائيل". فقط الجيش المصري الذي ما يزال من حيث البنية والعدد والعتاد الذي يشذّ عن هذه الحالة العربية اللصيقة بـ "إسرائيل". بالرغم من معاهدة السلام المصرية/ الإسرائيلية، فإنّ "إسرائيل" لا تخفي انزعاجها من تسليح الجيش المصري.
الثاني- خلق توازن سوري داخلي. حرمان الإدارة الجديدة لسوريا من تركة الجيش السوري، يُسهّل على "إسرائيل" خلق توازن قوى سوري داخلي في حال تشظّى الوضع السوري من جديد، أو قررت هي، بنفسها، أو بدعم استخبارات دولية وإقليمية، من تحريك قوى انفصالية، أو أخرى لديها نزعات قومية أو طائفية. ولا تخفي "إسرائيل" نواياها في التواصل مع بعض القوى السورية، للعب على تناقضات عرقية أو طائفية أو جهوية.
3. الركام السوري: مسرح استعراض القوّة الإسرائيلية
تفهم "إسرائيل" المنطقة بوصفها فوضى قائمة، أو فوضى متحفزة للظهور. الحدث السوري واحد من تجليات الفوضى الإقليمية. وبقدر ما أنّ الفوضى ومفاجآتها تهديد قائم باستمرار، فإنّ التجلي السوري، من جهة أخرى؛ فرصة لإظهار "إسرائيل" قوّتها، وللتأكيد على مصالحها الإستراتيجية، لاسيما وأنّ الحدث قد جاء في ظلّ الحرب الإسرائيلية الأطول وقد رفعت فيها شعار "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، وبعد انفتاح الكرامة الإسرائيلية على جرح مرير تمثل في نجاح تنظيم فلسطيني في تحطيم الاستعداد الأمني الإسرائيلي الأسطوري، وثلاثيته "الردع، التحذير، الحسم".
أعلن بنيامين نتنياهو إزاء التمدد الإسرائيلي في الفضاء السوري، بأنّ كيانه سيحاول عدم التدخل في إعادة تشكيل النظام الجديد في سوريا. لكنه في الوقت نفسه أكد على مصالح "إسرائيل" الخاصة في جنوبي سوريا. خاصة في حوض اليرموك. تقول "إسرائيل" إن إيران والشبكة العاملة معها في هذه المنطقة تمكنت من تهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية والأردن، وبالتأكيد منع تهريب الأسلحة إلى حزب الله يبقي هدفًا إسرائيليًّا جوهريًّا، ولكنه ليس الهدف الوحيد من الناحية الأمنية. فاستهداف المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية لا يقلّ عنه أهمية. لكن نتنياهو، في غمرة حديثه عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط، يبدو كمن يسخر من الجميع، وهو لا يَعُدُّ احتلاله لأراض سورية تدخلاً في صياغة النظام الجديد. وهو وعلاوة على ذلك، يؤسّس لمرتكزات إسرائيلية فاعلة، بتمدّده داخل سوريا، للتأثير على ما يفوق التدخل في صياغة النظام الجديد. وعلى أية حال ظهرت "إسرائيل" وكأنها وحدها صاحبة الكلمة فيما يتعلق بمجالها الحيوي من الجهة السورية.
مفاتيح خلف غبار التحولات
ما يمكن استخلاصه من التحرك الإسرائيلي، هو دافع الحفاظ على التفوق الإستراتيجي. شنت "إسرائيل" عمليات استباقية، وتحكمت في عمق الفضاء السوري الممتد بمحاذاة حدود فلسطين المحتلة، وأظهرت لا استجابتها السريعة للتحولات المفاجئة فحسب، ولكن أيضًا قدرتها على المبادرة والتفرد في الفعل في مجالها الحيوي، بما يؤكد تصميمها على استعراض القوة، وضمان مصالحها الإستراتيجية، وهي بذلك تندمج في البيئة الإقليمية بنحو مركب، خاصة وأنّ السياق العربي الراهن يساعدها على ذلك بعدما انتقل من طور المقاطعة المعلنة لـ "إسرائيل" إلى التطبيع التحالفي معها، أو إلى التخلي الضمني أو العلني عن القضية الفلسطينية.
بالتأكيد تمكنت "إسرائيل" من احتلال أراض سورية جديدة، وعززت دفاعتها في وجه الجبهة السورية، وضمنت مصالح أمنية بتحكمها في مسارات المنطقة المحتلة، كما أنّها دمّرت تركة الجيش السوري، وأسست بذلك لجملة أهداف مستقبلية، إلا أنّ استعراض القوّة والتأكيد على المصالح الإستراتيجية، يبقى أمرًا نسبيًّا، وهو ما ينبغي أن تكون "إسرائيل" تعلمته من التجربة الغزية، فالردع لا يَثبُت، والتحذير غير مضمون، والحسم كثيرًا ما يكون ملتبسًا. وإذن، فضمان الهدف الاستراتيجي الثالث، يستلزم مراقبة ديناميكية مستمرة، ويتطلب متابعة حثيثة، وهو ما يعني بقاءً إسرائيليًّا طويل الأمد، واستجلاب دعم دوليّ وإقليمي يأخذ المصالح الإسرائيلية بعين الاعتبار.
إنّ الهدف الثالث معقد، لاسيما وأنّ الوضع في سوريا بحسب القراءة الإسرائيلية يتسم بعدم اليقين وهو ما يُصعِّب المهمة الإسرائيلية ويقتضي منها جهدًا أعلى، ويستوجب نهجًا إسرائيليًّا للتعامل معه، فعدم اليقين يتجاوز في قسوته وصعوبته المخاطر التي يمكن توقعها ووضع الخطط للتعامل معها. إنّ عدم اليقين، أو الغموض الإستراتيجي، لا يمكن التنبؤ بتحولاته بدقة، مما يتطلب زوايا نظر أكثر وتوقع تهديدات لا متناهية.
تهديدات جديدة خلف الرياح الخطرة
1. الطموح التركي وظلال الجهادية في المشهد السوري
بالرغم من رسائل التطمين التي لا تخلو من المبالغة من الإدارة السورية الجديدة فيما يتعلق بـ "إسرائيل"، وانصرافها بوضوح عن التعليق بما يستحقه احتلال "إسرائيل" لأراض سورية جديدة، وعدوانها (أي "إسرائيل") المتجدد على الشعب السوري ومقدراته، وامتناعها (أي الإدارة الجديدة) عن التعليق على حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة، وعدم تواصلها العلني مع قوى المقاومة الفلسطينية، في حين تواصلت مع السلطة الفلسطينية واستقبلت وفدًا ممثلاً لها، وسعيها لكسب قوى إقليمية ليست في عداء مع "إسرائيل" وبروز ظاهرة متحفزة لدى نشطاء سوريين معادية للمقاومة الفلسطينية، وقد تبدي أحيانًا تعبيرات محتقرة للقضية الفلسطينية، فإنّ "إسرائيل" غير مطمئنة لا إلى الإدارة الجديدة بإرثها الجهادي القريب، المنحدر من تنظيم القاعدة، ولا إلى الدور التركي في سوريا، بالرغم من أنه يصعب ملاحظة أيّ جهد تركي حقيقي في التصدي لـ "إسرائيل" أثناء حرب الإبادة الجماعية على غزة.
تربط "إسرائيل" بين الدور التركي الحالي في سوريا، وما تقول إنّه دعم تركيا لأبو محمد الجولاني زعيم "هيئة تحرير الشام" سابقًا، أحمد الشرع الرئيس السوري حاليًّا، بالطموح التركي لإحياء الإرث العثماني، وتربط ذلك كله، بالإرث الجهادي للجولاني وتنظيمه الذي يمثل اليوم عصب النظام الجديد. هذه السيطرة السنية على دمشق، تثير مخاوف الإسرائيليين من أن توفر الأرضية الكافية لتأسيس قاعدة إسلامية للقوى السنية المعادية لـ "إسرائيل".
2. ظلال الخطر فوق الشرق الكردي: تهديدات تتربص بفرات مضطرب
تنظر "إسرائيل" بقلق لاحتمالات شنّ عملية عسكرية تركية، أو سورية واسعة بدعم تركي، تستهدف القضاء على القوات الكردية شرقي الفرات، وبما يمنع قيام حكم كرديّ ذاتيّ. بقدر ما تفكّر "إسرائيل" وبنحو تقليدي ومعروف عنها، في إمكانية الاستثمار في النزعات الانفصالية في الإقليم، ومنها الآن الحالة الكردية السورية، فإنّها مهتمة بملاحظة التصرف الأمريكي حيال أيّ هجوم جذري يستهدف وجود القوّة الكردية المتمردة والمستقلة لاسيما مع التحولات الجيوسياسية المتتابعة والتي تتسم بعدم اليقين. من المهم بالنسبة للإسرائيليين دائمًا التدقيق في التصرف الأمريكي سواء إزاء حلفائهم، أم في هذه المنطقة عمومًا، علاوة على الاختبار المستمرّ للقدرة الإسرائيلية في التأثير على السياسات الأمريكية في المنطقة.
3. حين تتصدع الحدود المرسومة: سقوط نظام سايكس-بيكو وإعادة تشكيل المشرق
يحاول الإسرائيليون دائمًا خلق تناقض بين القضية الفلسطينية، والنزعات الاستقلالية على أساس عرقي أو طائفي لا في المنطقة المحيطة بفلسطين فحسب، ولكنها تمد ذلك إلى ما هو أبعد. وعلى أية حال، فإنّها ترى أنّ نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، نظام سايكس- بيكو، في طور الانهيار، وهو ما يُذَكِّر باشتراط الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي تولى المنصب بين عامي 1913 و1921، تفكيك الإمبراطوريات ومنح الأمم التي لا تملك دولاً حقّ تقرير المصير، للدخول في الحرب العالمية الأولى.
الذي حصل، كما يرى الإسرائيليون، في مغالطة تاريخية منهم، أن التركيز العالمي ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى كان على القضية الفلسطينية، في حين أنّ "الظلم التاريخي"، ومرة أخرى بحسب المقولة الإسرائيلية، وقع على 30 مليون كردي، في حالة من "التناقض وازدواجية المعايير"، ليبقى هؤلاء الأكراد ضحية التهميش دون أيّ إمكانية لمنحهم دولتهم. وإذن، وبحسب القراءة الإسرائيلية لسيولة المنطقة وتحولاتها، هناك فرصة للسعي إلى تقسيم جديد. ومن نافلة القول إنّ ثمة مصلحة وجودية إسرائيلية في الدفع نحو التقسيم على أساس عرقي أو طائفي، وذلك لكيلا تبدو "إسرائيل" في طبعتها اليهودية شاذة أو نافرة أو عنصرية، وهو ما من شأنه، وفي بيئة مغرية كهذه البيئة، أن يعزز الطموح لتقسيم بلاد عربية أخرى، هي في غفلة تامة عن الخطر الإسرائيلي.
4. واشنطن بين الفوضى والنفوذ: اختبار القوة في متاهة "الشرق الأوسط"
كما تراقب "إسرائيل" التصرف الأمريكي حيال الأكراد في سوريا، فإنها تراقب حدود القدرة الأمريكية، ومستويات الاستبصار الأمريكي في بيئة متحولة وتتسم بالفوضى والغموض واللايقين. الإمبراطورية هنا، وبقدر ما هي مهتمة بالحفاظ على مصالحها الإستراتيجية، فإنّها تلاحظ أنّ قدرتها ليست مطلقة في شمول جميع التحولات الناشئة في هذه المنطقة، ممّا يحفز التطلع الإسرائيلي لملاحظة أي مراجعات إستراتيجية جديدة لأمريكا في "الشرق الأوسط".
5. "إسرائيل": امتحان المصير على عتبة المجهول
التحول الجوهري في المنطقة الآن، لاسيما في سوريا، هو انمحاء الهوية السياسية الواضحة بفعل التشكلات الجديدة، أو التباس التشكلات الجديدة، بخلاف ما كان عليه الحال في حروب "إسرائيل" السابقة، كما في حروب 1948 و1967 و1973، إذ خاضت حروبها مع دول كانت موجودة قبل الحرب وبعدها، ومع هذه الدول وقّعت اتفاقيات فض الاشتباك، أمّا القوى الجديدة غير متبلورة في صورة واضحة ومستقرة بعد. وهو ما يستوجب قرارات إسرائيلية إستراتيجية في نظام متغير، مما يعطي هذه القرارات صفة مصيرية لكونها تتعامل مع وقائع متغيرة وقوى غير متبلورة.
حين يسقط الجار: مراجعات إسرائيلية في مرايا التحولات السورية
يبالغ الإسرائيليون في الادعاء بأنّ مقولة "فيلا في غابة" لم تكن تعبيرًا عن فرادة "إسرائيل" المتحضرة والديمقراطية في غابة "الشرق الأوسط" الفوضوية فحسب، ولكنها أيضًا تعبير عن العزلة الإسرائيلية، التي اتخذت طابعًا دفاعيًّا سلبيًّا، بينما هي اليوم بعد الحدث السوري، مبادرة واندماجية باحتلالها لأراض سورية جديدة تفرض من خلالها نفوذًا عسكريًّا يؤسّس لمصالح إسرائيلية مستقبلية.
لكن على أية حال، يمكن تفسير الادعاء الإسرائيلي، بأنّ حروبها السابقة جرت في ظرف معاد مقابل، بما في ذلك دخولها لبنان عامي 1978 و1982، لكنّ الدول التي التزمت صمت البنادق تجاهها لم تتحرك "إسرائيل" نحوها بالتمدد الجغرافي من بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٧٣، وإن تحركت بالقصف، كما فعلت في سوريا طوال السنوات الأخيرة من عمر نظام عائلة الأسد. الآن بعدما سقط النظام بادرت إلى احتلال أراض جديدة، بالرغم من سقوط النظام المعادي السابق، وعدم مبادرة النظام الجديد إلى أيّ موقف تجاه "إسرائيل".
ما ينبغي الانتباه إليه هو أن حديث الإسرائيليين عن العزلة والاندماج، لا يعني الاختيار بين حالتين سلميتين، وإنما الاختيار بين حالتين حربيتين. فالانعزال والحالة هذه هو انعزال دفاعي داخل الحدود، والاندماج هو نشاط مؤثّر على تفاعلات "الشرق الأوسط". ما بين أن تنكفئ "إسرائيل" دفاعيًّا داخل حدودها، أو أن تتقدم بفاعلية خارج حدودها، تجاوز النقاش الإستراتيجي في أطره النظرية، إلى التخطيط الهندسي للعمران الاستيطاني، وهو ما يمكن ملاحظته بين دفعات الهجرة الصهيونية الاستيطانية إلى فلسطين، فمستوطنات الجيل الثاني من مستوطني الهجرة الأولى (الصعود الأول بحسب التعبير الصهيوني الاستيطاني وهي الهجرة التي استمرت من 1882 - 1903) بنيت قريبًا من المحاور الرئيسة، بينما مستوطنات الهجرة الثالثة (جرت من عام 1919 – 1923 خلال الانتداب البريطاني)، وما تلاها من هجرات، كانت أقرب إلى الانغلاق عن الاحتكاك بالجوار العربي.
يزعم بعض الإسرائيليين أنّ هذا الانعزال الاستيطاني في الدفعات اللاحقة من الهجرة باعثه فلسفة دفاعية انعزالية، ولكن قد يكون باعثه الإحساس العميق بالتمايز، والرغبة اللحوحة بها، ونضوج المشروع الصهيوني، علاوة على اختلاف الظرف السياسي بين الاستيطان في الفترة العثمانية والاستيطان فترة الانتداب البريطاني، واكتمال البناء العسكري الصهيوني بدعم بريطاني، وتبلور مقاومة فلسطينية واضحة للاستيطان الصهيوني في فترة الانتداب هذه.
بدأ النقاش الإسرائيلي حول الإستراتيجية الدفاعية الأفضل، انعزالية أم اندماجية، مبكرًا، قبل نكبة العام 1948 وتأسيس الكيان الإسرائيلي، وبدفع إنجليزي، لاسيما مع الضابط البريطاني أوردي وينغيت. أسس وينغيبت وحدات خاصة عُرِفت بـ "الفرق الليلية الخاصة" بالتعاون مع ميليشيات يهودية مثل الهاجاناه، بهدف مواجهة الثوار الفلسطينيين خلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). في هذه الفترة، أي فترة الثورة الفلسطينية الكبرى حاول وينغيبت دفع العصابات الصهيونية إلى تجاوز المستوطنات لممارسة دور عسكري نشط خارج سياجها.
تناقش البروفيسورة والمؤرخة الصهيونية نيتا شابيرا (أستاذة سابقة في دراسات الصهيونية في جامعة تل أبيب «كرسي روبين ميرينفيلد»، وشغلت عميدة كلية العلوم الإنسانية في الجامعة، كما كانت رئيسة مركز رابين)، هذه المسألة في كتابها الصادر عام 1992 بالعبرية بعنوان "سيف الحمامة: الصهيونية والسلطة 1881-1948"، وبالإنجليزية بعنوان: "الأرض والقوة: لجوء الصهيونية إلى القوة، 1881-1948".
يعكس الاختلاف في العنوان بين الطبعتين تباينًا فيما تريد إبرازه كل منهما؛ فالنسخة العبرية تبرز التردد في الإستراتيجية الدفاعية بين (السيف والحمامة)، والنسخة الإنجليزية تبرز موقع الأرض في السياق الصهيوني. تعرضت شابيرا لدور الضابط البريطاني أوردي وينغيت، والنقاشات الصهيونية حول أطروحات الضابط الداعية إلى إستراتيجية دفاعية مبادرة وأكثر نشاطًا، تقول شابيرا إنّ سكان بعض المناطق الاستيطانية مثل مستوطني مرج بني عامر المسمى إسرائيليًّا "وادي يزرعيل"، تساءلوا عن صوابية المبادرة الهجومية خلف سياج المستوطنات.
صحيح أن شابيرا حاولت أن تسوّق الجدل بوصفه دالاً على أخلاقية الحركة الصهيونية، باستعراضها التناقضات الداخلية والتمزقات النفسية التي ميزت مسار الصهيونية نحو شرعنة استخدام القوة، بالتركيز على صراع مفكري الحركة الصهيونية وقادتها وأنصارها، بين قسوة الواقع العنيف وبين ما قالت إنه "الحقيقة الداخلية التي نبضت في قلوبهم وألهمت رؤاهم"، وذلك باستكشاف التوتر بين الحاجة لأن تكون الحركة قوية وبين الإصرار على أن تكون عادلة، بالإضافة إلى الصراع بين الوعي بضرورة إعداد جيل من المقاتلين، والرغبة العميقة والحيوية في تربية جيل شاب يحمل ضميرًا حساسًا، إلا أنّ النقاش كان في جوهره ذا دافع عسكري عملياتي.
بالإضافة إلى وينغيت" رأى يتسحاق صدي (أحد مؤسسي الهاجاناه وقائد بارز في قوات البلماخ خلال فترة الانتداب البريطاني في فلسطين)، أنّه لا يمكن الحديث عن دفاع فعّال مع تقييد الحركة بالانحصار داخل المستوطنات، وإنما لا بد من مرونة في التحرك تتطلب احتكاكًا مباشرًا بالأعداء. تعود هذه الرؤية إلى ما قبل ذلك، من خلال تشكيل "قوات الحرس اليهودية (الهاشومير)"، التي تأسست عام 1909.
كان أفراد الحرس يتقنون العربية ويتشبهون بالبدو في مظهرهم وتكتيكاتهم لسهولة الاندماج والتنقل، واعتمدوا تكتيكات حرب العصابات والدوريات الليلية، مع استخدام الخيول للتنقل السريع في المناطق الريفية. لقد كانت هذه القوات فعالة في الاحتكاك العنيف بالفلاحين الفلسطينيين، ولاسيما في منطقة الجليل ومرج بني عامر، وأسست للعنف الصهيوني تاليًا بترسيخ القوة عنصرًا أساسًا في المشروع الصهيوني، وقد كانت نواة للمنظمات العسكرية التالية الأكثر تنظيمًا منها، فقادة الهاجاناه والبلماخ انحدروا منها، وعززت القومية اليهودية بالتركيز على بناء "المقاتل اليهودي" بديلاً عن الصورة النمطية لليهودي المسالم المنعزل.
خطى في فضاء مضطرب: مسار "إسرائيل" نحو الاندماج الإقليمي
يُفهم من ذلك أنّ مفهوم الاندماج الإقليمي الذي جرى تبنيه بالفعل إسرائيليًّا هو المبادرة إلى التأثير في الفضاء الإقليمي، أي الانفصال عن العزلة إلى المبادرة النشطة، وهو ما تبنته "إسرائيل" بالفعل منذ ديفيد بن غوريون، والذي دفع نحو سياسات إقليمية نشطة حتى في فترة التقشف الكبرى من 1949 حتى 1959، الناجمة عن موجات الهجرة الجماعية، فقد نشطت الوفود الإسرائيلية في إفريقيا في مجالات الأمن والزراعة، ثم مدتّ "إسرائيل" جسورها سريعًا مع القوى الانفصالية في المنطقة، كالدعم الذي قدمته للأكراد في العراق في ستينيات القرن الماضي.
مفهوم الاندماج هنا هو عملية تأثير في تشكيل "الشرق الأوسط"، بيد أنّ الأمن هو جوهر هذا التشكيل، يستند هذا المفهوم إلى استحالة الحفاظ على الوضع القائم ليكون مستقرًّا ونهائيًّا، فـ "إسرائيل" ليست سويسرا، و"الشرق الأوسط" ليس أوروبا. علاوة على ذلك بات الموقع الإستراتيجي لـ "إسرائيل" في هذه المنطقة لا يتحقق بضمان الاستقرار داخل الحدود السيادية، ولكن بالانخراط الفعال في تكريس النفوذ الإقليمي.
لا يتعلق الأمر فقط بنظرة أمنية لمنطقة مضطربة متغيرة تاريخيًّا كـ "الشرق الأوسط" مما يتطلب فاعلية نشطة خارج الحدود ولكن أيضًا، بالموقع الوجودي لـ "إسرائيل" في المنطقة، فتفوقها الإقليمي واحد من شروط استمرارها الوجودي، وهذا الشرط لا يتحقق إلا بالفاعلية خارج الحدود. فإذا كانت تركيا قد مدت نفوذها حتى ليبيا والقرن الإفريقي، ومصر بالرغم من ضعفها الراهن تتدخل عسكريًّا في الصومال، ودولة صغيرة كقطر تؤثر على التشكلات الإقليمية بقواها الناعمة، فالدافع الإسرائيلي يتجاوز دوافع تلك الدول، لأنه ضرورة وجودية، أكثر منه حاجة مصلحية.
يمكن القول إنّ "إسرائيل" انتهجت الأسلوب الاستخباراتي، ومد الجسور السرية، في التأثير على الإقليم، منذ تأسيسها، وقد حاز بذلك جهاز "الموساد" الإسرائيلي سمعة أسطورية، إلا أنّ التمدد العسكري المنظور مباشرة في الأراضي السورية، يكشف عن نزعة تأثير عسكري مباشر، يحاكي الخطوات الإيرانية والتركية وحتى المصرية أخيرًا المعلنة في الفضاء الإقليمي.
الخلاصة الإسرائيلية من ذلك كله، أنّ التأثير بالأدوات الاستخباراتية السرية، وبقدر ما يكشف عن عقيدة الانعزال الإسرائيلي، فإنه لا يضمن الأهداف الإسرائيلية لفترات طويلة إلى الأمام، فسرعان ما تتحرك المنطقة، وبما قد يعاكس الأهداف الإسرائيلية من العمليات السرية، وهو ما يستدعي التدخل العسكري المباشر، على الأقل في المجال الحيوي الإسرائيلي، لكن نظرية الاندماج الإسرائيلي لا تقتصر على ذلك، فاستعراض القوّة بالأدوات العسكرية، يهدف إلى اندماج سياسي، يتمثل في تكريس الهيمنة الإسرائيلية على أيّ تشكيل شرق أوسطي جديد، وهو ما يجري التعبير عنه حتى الآن باتفاقيات "أبراهام".