تتبع تاريخي: محطات من نضال الحركة الفلسطينية الأسيرة

تتبع تاريخي: محطات من نضال الحركة الفلسطينية الأسيرة
تحميل المادة

على سبيل التقديم...

تعد الحركة الأسيرة الفلسطينية أحد أبرز مكونات النضال الوطني الفلسطيني، إذ شكل الأسرى على مدار العقود الماضية بعدًا مهمًا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فقد تحوّلت السجون الإسرائيلية إلى ساحات نضال ومواجهة، أسست لوعي جمعي وثقافة مقاومة داخل الزنازين، وأسهمت في بلورة مفاهيم الحرية والصمود والانتماء الوطني. وتهدف هذه المقالة إلى دراسة تطور الحركة الأسيرة تاريخيًا منذ العام 1967، وتحليل أدوارها النضالية والتنظيمية والسياسية.

خلفية تاريخية

انتهجت العصابات الصهيونية سياسة القتل الفوري بعد الاعتقال والتحقيق القاسي في عقد الأربعينيات، ففي عام 1949 اعتقل خمسة جنود إسرائيليين فتاة فلسطينية عشرينية العمر، وقتلها بعد اغتصابها وتعريضها لتحقيقٍ قاس، واعترف الجنود خلال محاكمتهم بأن القتل والاغتصاب تم بعد أوامر صريحة وواضحة[1]. وما بين عامي 1948 و1967 استخدم الاحتلال الإسرائيلي العديد من المعسكرات التي ورثوها عن الانتداب البريطاني، وزج فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين فانتشرت الأمراض والأوبة بسبب سوء المعاملة واكتظاظ الأعداد[2].

مراحل تاريخ الحركة الأسيرة: المرحلة الأولى: 1967-1970

منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي باعتقال آلاف من الفلسطينيين والعرب وذلك بعد انطلاق المقاومة المسلحة من داخل وخارج البلاد، التي ألقت بظلالها على واقع الحركة الأسيرة؛ فقد بدأ الباحثون بتوثيق تاريخ الحركة الأسيرة منذ عام النكسة وصاعدًا، وفي مقابلة حصرية أجرتها الباحثة أثناء إعدادها لرسالة الماجستير في 15 آذار/ مارس 2019، مع محمود بكر حجازي أول أسير محرر فلسطيني اعتقل داخل عزل سجن الرملة[3]، حدثها عن ظروف الاعتقال الأولى التي تعرّض لها خلال فترة اعتقاله الممتدة من 17 كانون الثاني/ يناير 1965- 21 شباط/ فبراير 1971، وكان فيها معزولًا عن العالم الخارجي وتحت مراقبة السجان على مدار الوقت والذي كان يُبدل كل ثماني ساعات، وأضاف قائلًا:  "بعد اعتقالي تعرضت إلى تعذيب جسدي وضغوط نفسية بغرض الاعتراف على زملائي وكنت أعاني من جراح جراء إصابتي خلال تنفيذ عملية اشتباك مع الجيش الإسرائيلي، مع بداية عام 1967 ارتفع عدد الأسرى الفدائيين، لم يسمح لي بالعيش معهم أو مقابلتهم، وكنت أنادي عليهم بصوت مرتفع وأرفع معنوياتهم، كانت المراقبة علي دائمة ولم يسمح لي بالتواصل مع أي مخلوق"[4]. حكم الاحتلال على محمود حجازي بالإعدام وكان أول أسير فلسطيني يحكم بهذا الحكم، بعد إعدام كل من عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي في سجن عكا عام 1933،والشيخ فرحان السعدي ويوسف أو دية عام 1939[5]، وسقط عنه حكم الإعدام خلال جلسة الاستئناف وتحرر في 28 شباط/ فبراير 1971.

لم تكن معاملة الأسيرات في تلك الحقبة الزمنية أفضل حالًا من الأسرى، تقول الأسيرة المحررة فاطمة برناوي التي اعتقلتها قوات الاحتلال في تشرين الأول/ أكتوبر 1967، أن مصلحة السجون أجبرت الأسيرات الفلسطينيات على العمل في جمع الملاقط والزراعة في حقل سجن الرملة، وجُمعن مع الأسيرات الجنايات على خلفيات الدعارة والمخدرات. لم يكن انتزاع الاستحقات لتمكين الحقوق الاعتقالية بالأمر السهل على الأسيرات في أواخر الستينيات، ما أجبرهن على خوض العديد من الإضرابات عن الطعام للحصول على بعض الاستحقاقات الاعتقالية[6].

يمكننا القول أن ظروف الاعتقال الأولى كانت ظروفًا صعبة وهي شكل من أشكال العبودية وأداة لممارسة العنف والإرهاب بهدف ترسيخ وحشيتها في ذهن الفلسطيني، وجعلها رادعًا عن أي عمل نضالي ما يوفر فرصة لتصفية المشروع النضالي التحرري قبل بدايته[7]. وثّقت الأسيرة المحررة عائشة عودة  والتي اعتقلت في 1 آذار/ مارس 1969 تجربتها الاعتقالية في كتابها أحلام بالحرية، واصفة بشاعة ظروف التحقيق الأولى المتمثلة بالضرب الجسدي المتواصل يرافقه البصق والشتم والتهديد بالاعتداء الجنسي واستخدام الكهرباء، ناهيك عن سماعها لأصوات تعذيب آخرين في الزنازين المجاورة، ورؤيتها لجثث تسحب على الأرض بينها وبين الموت نفس بطيء[8]، وفسرت السبب وراء هذه الوحشية بصدمة الاحتلال مشاركة النساء الفلسطينيات النوعية في المقاومة وتميّزها، مؤكدة أن عام 1969 شهد عدة عمليات نضالية متتالية للمرأة أمثال عايدة سعد ومريم الشخشير ولطفية الحواري ورسمية عودة وغيرهن.

تجرّع الأسرى في هذه الحقبة الزمنية مرارة معاملة مصلحة السجون الإسرائيلية القاسية، واستهدافهم الممنهج عبر سياستي التجويع والتجهيل، في محاولة لتغييب الذات النضالية واستبدالها بأخرى خاضعة مستسلمة مرهقة، فقد حُرموا من كميات الطعام المشبعة والتي كانت تصنّع بأيدي الجنائيين بأسوء طريقة، مثل شوربة (الزربيحة) والتي كانت عبارة بعض حبات الخضار داخل كمية كبيرة من المياة، ونصف بيضة مسلوقة من أيام تقدّم على الإفطار[9]، أما الزي فقد كان لباس سجن موحد ولا يسمح بإدخال الملابس، وتعمدوا تزويدهم بأقل الحقوق التي نصت عليها اتفاقية جنيف الرابعة لحقوق أسرى الحرب؛ كتزويدهم بغطائين (بطانية) لكل أسير مع مفرش من الجلد الرفيع بديلًا عن السرير، والنوم كان محرمًا عليهم بسبب عدد مرات العد التفقدي للأسرى خلال اليوم والذي يبدأ الساعة الخامسة والنصف صباحًا، ويفرض فيه على الأسير طي فراشه وترتيبه وعدم السماح له بالعودة إلى النوم، والرد على السجان بعبارة "حاضر يا سيدي"، أما النزهة فلا تتعدى النصف ساعة يوميًا وبأفضل حالتها ساعة.

أما العمل الإجباري فقد تمثل بالآتي وفق ما أورده الأسير المحرر وليم نصار في كتابه "تغريبة بني فتح"[10]:

 1-أعمال التنظيف القسري؛ وتشمل تنظيف الزنازين والممرات ومكاتب السجانين تحت التهديد بالعقاب أو العزل.

2-العمل في الورش؛ مثل ورش صيانة الأثاث أو صنع شبك دبابات الجنود المستخدم لأغارض التمويه العسكري.

3-الأعمال الشاقة في ساحات السجن؛ مثل جرف التراب، نقل الحجارة، ترتيب الساحات دون أي مقابل.

4-الخدمات الإجبارية؛ مثل كي الزي العسكري للسجانين، تقديم القهوة والشاي والطعام لهم، أو تنفيذ أوامر الشخصية المهينة.

لم يكن للحياة الفصائلية أو المنظمة وجود في هذه الفترة لأن الأسرى اعتبروا أنفسهم أبناء ثورة واحدة، وبرزت سياسة الشللية والمناطقية بدعم خفي من مصلحة السجون لتعزيز هدف إشغال الفكر بكل شيء إلا الوطن والتحرير[11].

وقد شكلت هذه المرحلة رغم صعوبة تفاصيلها النواة الأساسية لخطوات التمرد والعصيان اللاحقة في السجون الإسرائيلية وانتهاج طريقة الإضراب عن الطعام التي سنأتي على ذكرها.

المرحلة الثانية: 1970-1973

بعد ارتفاع نسبة الاعتقالات في صفوف رجالات الثورة أصحاب الخلفيات التنظيمية رفضوا سياسة العمل الإجباري المفروضة عليهم، الأمر الذي كبدهم التعرض لعقوبة العزل الانفرادي، والمنع من الزيارات والضرب المتواصل، ومع تشكيل نوى التنظيمات بين الأسرى مثل فتح والجبهة الشعبية بدأ التمرد على العمل الإجباري وزيادة عدد الرافضين، واللجوء إلى الإضراب عن الطعام كسلاح لتحقيق الحقوق الاعتقالية.

شرع الأسرى في هذه المرحلة بأول إضراب عن الطعام في 18 شباط/ فبراير 1969 في سجن الرملة، واستمر 11 يومًا ولم ينجح الإضراب بسبب تعرض الأسرى للقمع والعزل والعقوبات[12]، تركز هذا الإضراب على عزل قياداته من الأسرى، مثل عبد الحميد القدسي وكامل النمري ووليم نصار وغيرهم، واستفرد مدير سجن الرملة بهم وعرضهم للضرب المبرح إلى أن نقلهم إلى سجن عسقلان[13]، وتزامن معه إضراب سجن كفار يونا الذي استمر ثمانية أيام، ولكنه نجح بتحقيق بعض المطلب مثل إدخال بعض القرطاسية للكتابة وإلغاء كلمة "حاضر سيدي" في كفار يونا فقط[14].

يقول الأسير المحرر شوقي شحرور: " نُقلت برفقة قيادات الإضراب إلى سجن عسقلان، وهو سجن مخصص لتدمير النفسية وإهانة الشخصية وأهدافه تأديبية، استقبلنا بحفلة ضرب كنا نطلق عليها (التشريفة)، كنا نسير في ممر طويل على يمينه ويساره جنود يحملون الهراوات وكأسلاك الكهرباء، ونُضرب ونحن عراة حتى نشارف على الموت بحجة أننا مجرمون، أذكر أن رأسي كان متورمًا وكل جسدي ينزف دمًا، ثم نُرش بمادة DDT ويزج بنا في كل غرفة عشرون أسيرًا، بلا علاج ولا طعام كافٍ ويستمر ضربنا داخل الغرف وفقًا لمزاج السجان، وممنوع علينا مخاطبة السجان إلا بعبارة "حاضر سيدي"[15].

كان الوضع الاعتقالي في سجن عسقلان إذلاليًا، أجبر فيه الأسرى على خوض إضرابًا عن الطعام في 5 تموز/ يوليو 1970، واستمر مدة أسبوع تقريبًا، لم يحقق فيه الأسرى إلى القليل مثل زيادة وقت الفورة وإدخال الملابس من الأهل وإدخال القرطاسية، ورغم ذلك استطاع الأسرى كسرحدة التوغل التي كانت تمارس على الأسرى[16].

المرحلة الثالثة: 1973- 1980

تميزت هذه المرحلة بالعمل على تقوية النظام الفصائلي داخل السجون، وفرضه كنظام حياة داخلي أمام السجان، وتحويل حياة الأسرى من الفوضى إلى النظام، مع ضرورة انتزاع الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية والتي دفعتهم نحو خوض عدة إضرابات عن الطعام خلال هذه المرحلة من بينها:

-إضراب سجن عسقلان والذي امتد من 13 أيلول/ سبتمبر 1973 ولغاية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

-إضراب مفتوح عن الطعام انطلق من سجن عسقلان وشمل كل السجون في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1976، واستمر قرابة 45 يومًا، بعد أن رتبوا وضعهم تنظيميًا فأصبح لكل غرفة ممثل يتحدث باسمها وانتخب لكل السجن ممثل عام يتحدث باسم الأسرى من كل الفصائل، وقُدمت قائمة مطالب لإدارة سجن عسقلان على رأسها وقف سياسة الضرب الدائمة، تحقق بعضها مثل استلام الأسرى للمكتبة وستبدال فرشات الأسرى المهترئة بأخرى جديدة، ونكثت الإدارة بالوعود الأخرى ما اضطر الأسرى لخوض إضراب آخر في 24 شباط/ فبراير 1977 واستمر 20 يومًا للمطالبة بتنفيذ الوعود السابقة[17].

المرحلة الرابعة: 1980 – 1985

أدركت مصلحة السجون الدور القوي الذي لعبته التنظيمات الفلسطينية داخل السجون، ولمست المستوى الثقافي الذي وصل إليه الأسرى، فقد كان الأسرى يعقدون الجلسات الثقافية ويصدرون مجلات شهرية تكتب على ورق أغلفة الأطعمة؛ منها مجلة الثورة وصحيفة الحرية التي تتيح مشاركة الأسرى بمقالات تثق الأسرى حول مواضيع عديدة[18]، ولذلك قررت فتح سجن نفحة عام 1980 وزج قيادات الأسرى فيه ضمن ظروف اعتقال صعبة تمثلت بالطعام السيء كمًا ونوعًا، وجمع أكبر عدد من الأسرى في غرف بلا فتحات تهوية، وسحب القرطاسية منهم وعزلهم عن الجتمع الخارجي، ما دفعهم إلى التنسيق مع سجني عسقلان وبئر السبع لخوض إضراب عن الطعام بدأ في 14 تموز/ يوليو 1980 واستمر 33 يومًا[19].

يقول الأسير المحرر عزمي منصور عن هذا الإضراب: "استشهد في هذا الإضراب راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحاق مراغة وأنيس دولة؛ وقد كان علي صديقي وكنا في غرفة واحدة، قتلوه بعد إجباره على أخذ (الزندة)[20]، وادعوا بأنه انتحر"[21]، فاتسعت رقعة الإضراب وشملت كل السجون، وانتهت بتحقيق كل مطاالب الأسرى وخاصة إدخال الأسرة وتوسيع مساحات الغرف، وتميّز بحركة التضامن الشعبية والإعلامية التي تبعت استهاد الأسرى الأربعة.

عام 1984 حقق الأسرى في سجن جنيد نسبة أعلى من المطالب، بعد خوضهم إضرابًا عن الطعام استمر 13 يومًا، وحظي بتضامن الشارع الفلسطيني بشكل كبير ما أدى لنجاحه، وإدخال التلفاز والمذياع والسماعات والمسجلات للسجون، والشراشف والبيجامات من الأهل، وانعكست على حياتهم العامة، ووف لهم حالة من الاستقرار مكنتهم من الالتفات لثقافتهم والنهوض بذواتهم النضالية.

المرحلة الخامسة: 1985 – 1993

بعد عملية الجليل التي تحرر فيها أكثر من 1000 أسير فلسطيني من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات في عام 1985، التفت الأسرى لإعادة بناء التنظيمات الفلسطينية، وخاصة بعد وجود التنظيمات الإسلامية، فقررت مصلحة السجون سحب إنجازات الأسرى السابقة وإعادتهم إلى الصفر،  ما أجبرهم على خوض إضراب عن الطعام في 27 آذار/ مارس 1987 تزعمه سجن جنيد وتبعه السجون الأخرى ليستمر 20 يومًا دون تحقيق أي شيء.

اعتقل آلاف الأسرى مع بداية الانتفاضة الأولى في كاون الأول/ ديسمبر 1987، وألقت الحرب بظلالها على السجون التي شهدت القمع وسحب الإنجازات، واستمرت لسنوات حتى عام 1992 الذي خاض فيه الأسرى إضرابًا عن الطعام 23 حزيران/ يونيو 1991 باء بالفشل لا سيّما بسبب حرب الخليج وتوتر الوضع السياسي الإقليمي العام.

قرر الأسرى خوض إضرابًا مصيريًا في 25 أيلول/ سبتمبر 1992شمل كل السجون بأسراها الذين بلغ عددهم حوالي 7000 أسيرًا، وحقق نجاحًا كبيرًا وإعادة توازن الحياة الاعتقالية بعد انتزاع الأسرى عدة مكاسب منها؛ وقف التفتيش العاري، إغلاق قسم االعزل في سجن الرملة، إعادة زيارات الأهل وزيادة وقتها والسماح بالزيارات الخاصة، توسيع قائمة المشتريات وإدخال (البلاطة) إلى الغرف[22]، والسماح بالتعليم الجامعي في الجامعة العبرية المفتوحة[23].

المرحلة السادسة: 1994 – 2000

بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو)، ودخول السلطة الفلسطينية انعكس ذلك ضمنيًا على وضع الأسرى في السجون الإسرائيلية، انقسم الأسرى إلى فريقين؛ الأول مؤيد للاتفاقية اعتقدوا أنها ستفضي إلى الإفراج عنهم ضمنيًا، والثاني تبناه الماركسيون والإسلاميون المعارضون للاتفاقية ولا يؤمنون بأنها ستبيّض السجون[24].

تميّزت هذه المرحلة بالاستقرار الاقتصادي للأسرى، لا سيما بعد تفعيل دور نادي الأسير وإنشاء هيئة الأسرى والمحررين لاحقًا، وحصل فيه الأسرى على الكثيرر من الحقوق بحكم انعكاس الوضع السلمي العام على السجون، فالزيارات الدورية لمحامي نادي الأسير وهيئة الأسرى جسّرت العلاقة مع السلطة الفلسطينية التي ساهممت في تحقيق العديد من المطالب على رأسها إكمال التعليم الجامعي، ترتيب مخصصات الأسرى المالية الخارجية وداخل السجن وفق سلّم رواتب خاص، ما وفر استقرارًا نسبيًا في حياة الأسرى، ورغم ذلك بقي السؤال الذي شغلأذهان الأسرى يمحور حول إمكانية تحريرهم في ظل اتفاق أوسلو والعلاقة السلمية بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي، ما أدى إلى تراجع الحضور التنظيمي الداخلي وتراجع في مستوى الثقافة التنظيمية و الوضع العام[25].

تحرر عدد من الأسرى بعد اتفاق أوسلو، ضمن مبادرات حسن النوايا ولكنها لم تشمل الأسرى القدامى والأحكام العالية، وأدى ذلك إلى ضعف معنويات الأسرى وزعزعة ثقتها بقيادة السلطة الفلسطينية، يقول الأسير المحرر أسرار سمرين بأنه أصيب بإحباط شديد بعد رؤية الأسير أحمد أبو السكر الذي لم يحرره اتفاق أوسلو وتساءل: "إن لم يتحرر أبو السكر فمتى سنتحرر نحن؟"، ما دفع الأسرى لخوض إضرابًا سياسيًا تحت شعار "إطلاق سراح الأسرى والأسيرات دون استثناء" في 18 حزيران/ يونيو 1995، وأوقف بعد 18 يومًا وكان غايته ايصال رسالة سياسية للسلطة والشعب الفلسطيني في ظل الوضع السلمي الراهن[26].

تميزت هذه المرحلة  بالإضرابات السياسية، التي وجهت رسائل عدة للسلطة الفلسطينية، فبعد إضراب عام 1995 تبعه إضرابًا آخر في 5 شباط/ فبراير 1998، استمر لمدة 10 أيام فقط وخاضه أسرى منظمة التحرير فقط دون مشاركة أسرى الحركات الإسلامية، ثمّ إضراب في 1 أيار/ مايو 2000 واستمر 30 يومًا، وبدأ بعد افتتاح سجن هداريم وعزل عدد من الأسرى محاولة فرض العازل الزجاجي بديلًا عن الشبك خلال زيارة الأسير وعائلته، وشهد هذه الإضراب حركة تضامن شعبية واسعة كان نتيجتها استشهاد عدد من الفلسطينين، واتساع رقعة الإضراب بعد انضمام سجون عسقلان ونفحة وشطة، وبلغ عدد المضربين قرابة 1500 أسيرًا، انتهى بتحقيق غالبية المطالب الإنسانية مثل؛ إخراج المعزولين من العزل، السماح بالتعليم الجامعي، وقف سياسية الفتيش العاري، ولكنها سحبت بالكامل بعد انفجار انتفاضة الأقصى عام 2000[27].

المرحلة السابعة: 2000- 2006

بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 أيلول/ سبتمبر 2000 واعتقال أعداد كبيرة من الأسرى، فتحت مصلحة السجون الإسرائيلية سجون وأقسام جديدة وإعادة افتتاح سجون قديمة، مثل سجون الرملة وكفار يونا وهداريم وجلبوع وريمون، وسُحبت غالبية إنجازات الأسرى وفرض سياسة تفتيش يومي لغرف الأسرى، وساءت فيه أوضاع الأسيرات في سجن الرملة وخضن إضرابًا عن الطعام مدته ثمانية أيام في 26 حزيران/ يونيو 2001، تبعه مشاركتهن في إضراب السجون الشامل في 15 آب/ أغسطس 2004، وحقق بعض الإنجازات البسيطة بعد 19 يومًا من الإضراب عن الطعام.

أدى اعتقال عدد كبير من الفلسطينيين في أعقاب هذه الانتفاضة إلى اهتزاز العلاقة بينهم وبين الأسرى القدامى ووجود فجوة في التفاهم والتناغم، يقول الأسير المحرر فخري البرغوثي: " كانت فترة صعبة، لم يرغب فيها أسرى الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية الانخراط في التنظيم العام في السجن، وتغلبت فيها المصالح الشخصية على العامة" ووصف المرحلة بأنها أتعبت الأسرى القدامي بسبب الفجوة العمرية والفكرية والتنظيمية مع الأسرى الجدد[28].

المرحلة الثامنة: 2007-2019

ألقى الانقسام الفلسطيني الفلسطيني بظلاله على الحركة الاسيرة، وقسم حياتهم في السجون الإسرائيلية على أساس تنظيمي، وبات لكل تنظيم ممثليه وأقسامه وحياته الخاصة، ما أضعف وجودهم مقابل مصلحة السجون الإسرائيلية، وشرخ الصف الوطني للأسرى، ما دفع عدد من أسرى التنظيمات الفلسطينية إلى إطلاق مبادرة مصالحة عرفت بوثيقة الوفاق الوطني في 27/6/2007، ولكنها لم تساهم بإصلاح الوضع الداخلي للأسرى. وبعد اعتقال عدد كبير من شريحة الأطفال بعد انتفاضة القدس عام 2015 هاجمت مصلحة السجون الأسرى في كل السجون ما كلف الأسرى جهدًا كبيرًا من أجل استيعاب الأسرى الجدد وحماية حقوقهم واحتوائهم. تميزت هذه المرحلة بضعف الوحدة الداخلية للأسرى وضعف الخطط الإستراتيجية والموقف العام[29].

شهد عام 2011 الإفراج عن أكثر من 1000 أسير فلسطيني وأسيرة في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، بعد صفقة تبادل بين الجانب الإسرائيلي وحركة حماس، وبعد أشهر قليلة خاض أسرى العزل الانفرادي من حركة حماس والجبهة الشعبية إضرابًا عن الطعام في 17 نيسان/ أبريل 2012، بهدف إنهاء عزلهم والانضمام إلى عموم الأسرى، شهد هذا الإضراب حالة تضامن تنظيمية لم تشمل كل التنظيمات انتهت بنجاح الخطوة، وخلّفت هذه الصفقة الإحباط لدى من تبقوا بسبب عدم شمولهم في الإفراجات، يقول الأسير المحرر أمجد أبو لطيفة: "بعد الصفقة وفرض قانون شاليط، أُعيدت الإجراءات العقابية وسلبت أغلب الاستحقاقات، وخاصة أسرى قطاع غزة الذي ضوعفت بحقهم الإجراءات وحرموا من زيارة الأهل تمامًا، وعُزلوا في أقسام لوحدهم"[30].

انعكاس الانقسام الفلسطيني الفلسطيني على الحال العام للأسرى، دفع الأسرى الإداريين لاتخاذ قرار الإضراب عن الطعام في 24 نيسان/ أبريل 2014، مطالبين بإلغاء سياسية الاعتقال الإداري، وشهد هذا الإضراب حركة تضامن واسعة واستمر 63 يومًا واعتبر أطول إضراب إداري في تاريخ الحركة الأسيرة، انتهى بتعليق الإضراب بعد تحديد سقف الاعتقال الإداري بعام واحد فقط[31].

شهدت هذه المرحلة ظاهرة الإضرابات الفردية والتي دفعت البعض لانتهاجها بسبب تصدع الوحدة الوطنية للحركة الأسيرة، وتجاوز بعضها مئات الأيام، فقد شهر عام 2012 أكثر من إضراب فردي مثل؛ إضراب خضر عدان واستمر 66 يومًا، وإضراب ثائر حلاحلة 76ودام  يومًا، إضراب هناء الشلبي ل 44 يومًا، وسامر العيساوي الذي قفر حدود التوقعات واستمر 265 يومًا واعتبر أطول إضراب فردي في تاريخ الحركة الأسيرة[32].

المرحلة التاسعة: 2020 – ما بعد حرب طوفان الأقصى

عانى أسرى هذه المرحلة من فايروس كورونا الذي تفشى بين صفوفهم، بلا منظفات ولا معقمات ولا أية إجراءات وقائية، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الأسرى المصابين، تخللها محاولة ستة أسرى الفرار من سجن جلبوع في سبتمبر 2021 وهم: زكريا الزبيدي، محمود العارضة، يعقوب قادري، أيهم كممجي، محمد العارضة، ومناضل نفيعات، تبعها سلسلة تشديدات أمنية بعد إعادتهم وإحباط عملية الهروب، ما أجبر الأسرى على خوض إضرابين عن الطعام في عام 2022 تكللا بتلبية مطالبهم بعد تهديد الأسرى بحل التنظيمات وتمرد الأسرى[33].

وفي أعقاب حرب 7 أكتوبر2023 ( طوفان الأقصى) ارتفع عدد المعتقلين إلى أكثر من 16 ألف أسيرًا ، واستشهد قرابة 59 أسيرًا منذ بداية الطوفان[34]، واستخدمت مصلحة السجون الإسرائيلية  مع الأسرى والأسيرات وسائل تعذيب جديدة غير مسبوقة من تحرش واغتصاب جنسي، الترويع بالكلاب، مصادرة كافة منجزات الحركة الأسيرة وأعادتهم إلى نقطة الصفر، وافتتحت سجن سدي تيمان وخصصته لأسرى قطاع غزة، وارتكبت بحقهم جرائم حرب مخالفة للقانون الدولي واتفاقات جنيف، ولم تكشف عن أسماء المحتجزين فيه لأي جهة حقوقية. نقل المحامي خالد محاجنة شهادات أكثر من أسير احتجز في سديه تيمان ومنها: تقييد الأسير على مدار 24 ساعة وتعصيب عيونه، عدم السماح باستبدال الملابس، انتشار الأمراض والأوبة وخاصة الأمراض الجلدية كالجرب، الخضوع لحراسة مشددة بالسلاح، منع الأسرى من تبادل أطراف الحديث أو ممارسة الشعائر الدينية، السماح بالاستحمام مرة واحدة في الأسبوع، تقليص كمية الطعام، الضرب المتواصل والمفاجئ للأسرى[35]، وفي باقي السجون الإسرائيلية عزلت مصلحة السجون قيادات الأسرى القدامى واعتدت بوحشية عليهم، ومنعت تقديم الأدوية أو إجراء العمليات، ناهيك عن محاولة اغتيال العديد من الأسرى وقياداتهم ومصادرة مقتنياتهم وتشتيتهم بين السجون[36].

ورغم الإفراج عن أسرى فلسطينين على سبع دفعات متتالية في تفاهمات المرحلة الأولى من صفقة طوفان الأقصى بين حركة حماس والجانب الإسرائيلي، إلا أن الاعتقالات ما زالت مستمرة، وأوضاع السجون تزداد سوءًا يومًا بعد يوم مع استمرار الحرب.

خاتمة...

يضم تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية سجلًا حافلًا بالتضحيات والتطورات، التي تعكس صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على نيل حريته، ويشكل محورًا أساسيًا في فهم تطور النضال الوطني الفلسطيني، إذ يعكس مدى التحول الذي طرأ على مقهوم المقاومة داخل السجون، ورغم محاولات القمع والإقصاء التي مارسها السجان إلى أن الأسرى استطاعوا أن يرسخوا حضورهم في الوعي الجمعي الوطني، ومن هنا، فإن دراسة هذه الحركة تُعدّ ضرورة لفهم أحد أهم أركان النضال الفلسطيني الحديث، وضرورة لإبقاء قضيتهم في صلب الاهتمام الفلسطيني والعالمي.


[1] التميمي، أحلام عارف، الأنشطة الإتصالية للأسرى الفلسطينيين في سجون الإحتلال الإسرائيلي: نحو تأصيل نظري لمفهوم إعلام الأسرى، رسالة ماجستير منشورة، 2019، جامعة الشرق الأوسط، الأردن.

[2] اللداوي ، مصطفى يوسف، الأسرى الأحرار صقور في سماء الوطن ، الطبعة الأولى، 2013، دار الفارابي ، بيروت، لبنان.

[3] توفي محمود بكر حجازي في 22 آذار/ مارس 2022 في رام الله.

  [4] التميمي، مصدر سابق.

[5] موقع هيئة شؤون الأسرى والمحررين، الحركة الأسيرة النشأة والتطور، نشر في 29/3/2029، زيارة الموقع بتاريخ 13/4/2025، https://2u.pw/6ZiuGML.

[6] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسيرة المحررة فاطمة برناوي، تم زيارة الموقع في 13/4/2025، https://2u.pw/MCmyl.

 

[7] قراقع، عيسى، الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بعد أوسلو 1993-1999، رسالة ماجستير منشورة، 2001، جامعة بيرزيت، فلسطين.

[8] عودة، عائشة، أحلام بالحرية، 2004، مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام اللة، فلسطين.

[9] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسير المحرر شوقي شحرور ج2، تاريخ زيارة الموقع 13/4/2025، https://2u.pw/iBDHh.

 

[10] نصار، وليم، تغريبة بني فتح أربعون عامًا في متاهة فتحاوية، 2005، دار الشروق للنشر والتوزيع، الأردن.

[11]  شؤون الأسر والمحررين، مصدر سابق.

[12] مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، أشهر الإضرابات عن الطعام، تاريخ زيارة الموقع 14/4/2025، https://info.wafa.ps/pages/details/32928.

[13] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسير المحرر عبد الحميد القدسي ج2، تاريخ زيارة الموقع 14/4/2025، https://2u.pw/t9lUL.

 

[14]  مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، مصدر سابق.

[15] موقع ذاكرة فلسطين، مصدر سابق.

[16] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسير المحرر عزمي منصور، تاريخ زيارة الموقع 14/4/2025، https://2u.pw/UJIBG.

 

[17] العزة، مهند، تاريخ الإضراب عن الطعام في سجون العدوّ الإسرائيلي، موقع الآداب الألكتروني، تاريخ زيارة الموقع في 14/4/2025، https://2u.pw/7Eu7o.

 

[18] المصدر نفسه.

[19]  المصدر نفسه.

[20] الزندة هو مصطلح يطلع على الأنبوب الذي يدخل إلى معدة الأسير من خلال الأنف، بطريقة قسرية لإجباره على فك الإضراب عن الطعام، ويمرر من خلاله محلول مغذي أو حليب.

[21]  ذاكرة فلسطين، مصدر سابق.

[22] البلاطة: هي أداة كهربائية، يستعملها الأسرى للطبخ.

[23] حمدونة، رأفت خليل، الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، ففي الفترة ما بين 1985-2015، دراسة بحثية منشورة، 2018، سلسلة إصدارات وزارة الإعلام، فلسطين.

[24] زياد، زياد موسى، تأثير حقبة أوسلو على وحدة وإنجازات الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية 1993-2012، رسالة ماجستير منشورة، 2012، فلسطين، https://2u.pw/7ov4x.

[25] التميمي، نزار، مقابلة هاتفية بتاريخ 15/4/2025.

[26] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسير المحرر أسرار سمرين ج5، تاريخ زياررة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/15kTZ.

[27] التميمي، مصدر سابق.

[28] موقع ذاكرة فلسطين، مصدر سابق.

[29] أبو محسن، جمال، تاريخ الحركة الأسيرة، 2024، إصدار الجامعة العربية الأمريكية، فلسطين.

[30] موقع ذاكرة فلسطين، تفريغ مقابلة الأسير المحرر أمجد أبو لطيفة ج3، تاريخ زيارة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/T3KXI.

[31] صادق، ميرفت، تعليق إضراب الأسرى بعد اتفاق مع الاستخبارات الإسرائيلية، موقع الجزيرة الإلكتروني، تاريخ زيارة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/nZr4J.

[32] الرجوب، عوض، أبرز الإضرابات الفردية للأسرى الفلسطينيين، 2022، موقع الجزيرة الإلكتروني، تاريخ زيارة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/ySlcD.

[33] العصا، فادي، تعرف على الأسرى الفلسطينيين الهاربين من سجن جلبوع، 2021، موقع الجزيرة الإلكتروني، تاريخ زيارة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/sX0JuEh.

[34] إحصاية نادي الأسير الفلسطيني، 2025.

[35] أول محام يزور "سدي تيمان"محاجنة للتلفزيون العربي: تعذيب يفوق الخيال، تقرير منشور على موقع التلفزيون االعربي، 2024، تاريخ زيارة الموقع 15/4/2025، https://2u.pw/bjJIq.

[36] أبو محسن، نصدر سابق.