ثورة ظَفار.. تاريخ اليسار المنسيّ في الخليج العربي
المؤلف الأصلي: أليس ويلسون[1]
ترجمة: فرح عصام
على سبيل التقديم..
تأتي هذه المادة المترجمة في سياق اهتمام منصّة إطار بتاريخ حركات التحرّر العالمية، وعلى وجه الخصوص تلك التي كانت في العالم العربي، وواجهت الأوضاع الاستعمارية المقنّعة والمباشرة، كالحضور البريطاني في الخليج العربي، ودور هذا الحضور في التأسيس للجغرافيا السياسية الخليجية الراهنة، وبالإضافة إلى ذلك، تشرح المادة صعود الفكر الماركسي لدى حركات التحرّر في العالم العربي، من بعد هزيمة العام 1967، وانعكاس ذلك على "جبهة تحرير ظفار" التي تحوّلت فيما بعد إلى "الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي"، وتذهب المادة إلى أنّ القيم الثورية التي تبنّتها الجبهة لم تنته بهزيمتها العسكرية عام 1976، وتربط بينها وبين أحداث العام 2011 التي كان لها مشهديتها الواضحة في عُمان، كما في أماكن أخرى في بلاد العرب.
وبالرغم من بداهة أنّ المادة تُعبّر عن رأي كاتبها الأصلي، لا عن رأي المنصّة، فإنّها تُنشر لإلقاء الضوء على مرحلة مهمّة في التاريخ العربي المعاصر، وأيضًا لأجل فحص مقولة بقاء القيم الثورية، رغم هزيمة أصحابها عسكريًّا.
· التحرير
تُعرف عُمان اليوم بنظامها الملكيّ[2] المحافظ والاستبدادي. لكنّ البلاد كانت ذات يوم موطنًا لحركة تحريرٍ قارَعت سلاطين البلاد المدعومين من بريطانيا.
كانت "جبهات التحرير" واحدةً من أهمّ النضالات الثورية في جنوب غرب آسيا خلال ستّينيات وسبعينيات القرن الماضي، قبل ظهور حملة دولية واسعة النطاق لـ " مكافحة التمرد" بغية هزيمتها. وعلى الرغم من عنفها، اكتسبت حملة مكافحة التمرد تلك سمعة "الحملة النموذجية" التي هدفت لـ "كسب العقول والقلوب".[3]
كيف أضحى العُمَانيون في طليعة ثورة ضدّ-كولونياليةٍ في شبه جزيرةٍ عربية تحكمها أنظمةٌ ملكيّة؟ وما الآثار التي حملها عليهم ذلك "النموذج" من مكافحة التمرد؟ هل حالت مكافحة التمرد دون بقاء آثارٍ خالدة للثورة أم أنَّ بإمكانِ الثورة النجاةَ من براثن الهزيمة؟
توضح هذه المقالة التاريخ والموروثات والآثار الأوسع للثورة العُمانية "ثورة ظفار". فَبعد التطرّق لصعودِ التيار المناهض للكولونياليّة في عُمان، أمضي إلى تفحّص النطاق المتغيّر للثورة ومكافحة التمرد، قبل أن أرسم سياقًا لعُمان ما بعد الحرب. وأخيرًا أسلط الضوء على موروث الثورة، وآثارها على إعادة التفكير بفعل الثورة بما يتخطى هزيمته.
مستعمرة داخل مستعمرة
بدأت الحركة الثورية لمناهضة الاستعمار في ظَفار، ووضعت نصب أعينها الإطاحة بسلالة بوسعيد من السلاطين التي تدعمها بريطانيا. بعد الوصول إلى سدّة الحكم في القرن الثامن عشر، أسس البوسعيد، خلال بواكير القرن التاسع عشر، إمبراطوريةً بحريةً في المحيط الهندي ربطت شبه الجزيرة العربية، بزنجبار وشرق أفريقيا وأراضي ما يعرف اليوم بباكستان.
بينما أخذت الإمبراطورية البريطانية تتوسع شرقًا في القرن التاسع عشر، سعت بريطانيا للسيطرة على المحيط الهندي. وقد أشرفت على تقسيم الإمبراطورية البوسعيدية بين مسقط، عاصمة سلطنة عُمان الحالية، وزنجبار في العام 1861. احتفظت بريطانيا بسلطة استعمارية غير رسمية على سلطانٍ يحظى باستقلاليةٍ اسميّة ومقرّهُ مسقط. أمّا في عدن وما سيكون مستقبلًا دولَ الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر، أصبحت بريطانيا سلطةً استعماريةً رسميةً.
على هوامش إمبراطوريات البوسعيد والبريطانيين كانت ظَفار تحدُّ اليمن من الشرق، وتبتعدُ عن شمال ما يُعرف اليوم بعُمان بنحو 800 كيلومترٍ من رمال الصحراء. ازدهرت ظفار قديمًا بفضل صادرات البخور؛ حيث ينمو الراتنج في المناطق التي تتلقى هطول الأمطار الموسمية في الفترة بين حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر. وبعد التراجع في الطلب على البخور، أخذ الطيف المتنوّع إثنيًا من السكّان يعتمد بازديادٍ على الزراعة والرّعي المتنقل للماشية والإبل والماعز عبر سهلها الساحلي وجبالها وكثبانها الصحراوية النائية.
خريطة توضح حدود ظفار التي هي اليوم محافظة عُمانية تشكّل ثلث مساحة عُمان
مع أنَّ اقتصاد الكفاف الظفاري مثّل أهميةً بسيطةً للمستعمرين البريطانيين خلال العصر الفكتوري، إلا أنَّ موقعها الجغرافي كان يَعِدُ بإمكانية الربط بين الهند وعدن البريطانية. دعمت بريطانيا مطالبات البوسعيد بظفار في العام 1879 ومنعت منافسيه من حيازة التأثير هناك. وأصبحت ظفار "مستعمرةً داخل مستعمرة"، بحيث باتت تبعيةً شخصية.[4]
اتسمت ظروف غالبية رعايا السلطان بالقسوة، فقد تفشّى في الناس العوز والفقر، ومكّن الدعمُ البريطاني الحاكم من الاستبداد. بينما أدّت وضعية ظفار بوصفها تبعيةً شخصيةً، إلى استشراء الحكم القهري. وعلى سبيل المثال، فقد فرض السلطان سعيد بن تيمور، الذي تولى مقاليد الحكم بين العامين 1938 و1970، ضرائب أعلى في ظفار عن تلك التي فرضها في الشمال.
امتدّ الدعم البريطاني إلى قمع المعارضين؛ وبعد اكتشاف النفط في الجبل الأخضر بالشمال خلال خمسينيات القرن الماضي، شارك البريطانيون في سلسلة من الصراعات بهدف سحق الحركة المناهضة للاستعمار التي سعت إلى إعادة حكم الأئمة الديني.
على هذه الخلفيّة، انخرط الظفاريين، الذين هاجروا سعيًا لتلقي التعليم والعمل في شبه الجزيرة العربية وما وراءها، في الأفكار اليساريّة ومع حركات مناهضة الاستعمار الساعية للتصدي للاستعمار مثل القومية العربية. وقد استلهم بعضهم من أفكار السكان الأصليين المتمثلة في الاستقلال عن الحكم الخارجي، والتي كانت دافعًا وراء الانتفاضات السابقة في ظفار. واعتمادًا على هذه الانتماءات السياسية غير المتجانسة لرؤاهم المناهضة للاستعمار، أسس الظفاريون جبهة تحرير ظفار عام 1965.
الثورة المناهضة للاستعمار
في بواكير حملة حرب العصابات، هدفت الجبهة إلى تحرير ظفار من الحكم المدعوم بريطانيًّا. لكنَّ السياق الإقليمي والدولي المتغيّر كان شاهدًا على التطوّر الذي واكب أيديولوجيات الجبهة وطموحاتها.
بعد الهزيمة التي جرّعتها إسرائيل لمصر وسوريا في حرب عام 1967، دخلت القومية العربية في أزمة. أمّا في جنوب اليمن المستقل حديثًا حينها، وجار ظفار، كانت حركة استقلال يسارية قد وصلت إلى سدة الحكم في 1967. وكانت الماوية أيضًا آخذةً في الصعودِ في أوساط حركات التحرر العالميّة. وفي هذا السياق، انتخب أعضاء الجبهة في ظفار قيادةً ذات هيمنة يسارية في أيلول/ سبتمبر من العام 1968، واتخذت لنفسها اسمًا جديدًا هو الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتل (PFLOAG).
وباتت الجبهة تطمح الآن إلى تحرير الخليج العربي من الاستعمار البريطاني الرسمي وغير الرسمي، مما مَوْضَع الحركة في صف المحاربين ضمن النضال الإقليمي ضد الاستعمار. وتقاطر المنضّمون من ظفار ومسقط والجزء الداخلي من الجبل الشمالي والبحرين، بينما ضمّ المتطوعون متعاطفين من لبنان وإيران. أبقت "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي" على علاقات دبلوماسية مع جبهات التحرر والدولِ الداعمة، وأدارت عدّة مكاتب في مدن مثل عدن والقاهرة وبغداد.
اعتنق أعضاء "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي" المحتل الماركسيّة اللينينيّة مع العديد من السياسات المستوحاة من الماويّة. ستتبع عدة تغييرات على الاسم، تعكس في النهاية تركيز الحركة على تحرير "عُمان"، الذي فُهم في ذلك الوقت على أنها تشمل ظفار. أمّا الثابت هو تركيز الحركة المستوحى من الاشتراكية على الجمع بين التحرر الاجتماعي والتحرر السياسي والاقتصادي من الاستعمار والامبريالية والرأسمالية.
وبناءً على ما تقدّم، فقد سعت "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي المحتل" إلى تغيير المجتمع في قواعدها في جنوب اليمن وفي المناطق التي تسيطر عليها الجبهة من ظفار، وهي برامجُ عززت مكانةَ الحركة بين الثورات العربية.
وتضمنت أهداف الجبهة تحرير النساء والعبيد وآخرين تعرّضوا للتهميش التاريخي. حارب المقاتلون من كلا الجنسين جنبًا إلى جنب، ودرس الفتيان والفتيات في مدارس ثورية. ولئن كانت قدرة المرء على الوصول إلى الموارد الاقتصادية تُحدَّد بخلفيته الاجتماعية في السابق، فقد قوّضت جهود إعادةِ التوزيع التي أطلقتها الجبهةُ النزعة القبائلية.
إن التزام الحركة بالحكم الذاتي والمشاركة الشعبية قد أرسى القواعد لنظامها الجمهوري العام، وبرنامجِها لإنشاء لجان للحكم المحلي منتخبة شعبيًا. سعيًا وراء رؤية اشتراكية من التحديث، عززت الجبهة التعليم ومحو الأميّة، بالإضافة إلى إتاحة الرعاية الصحية، وأنشأ الظَّفاريون مشاريع جديدة للبنية التحتية من الطرق والآبار إلى المزارع.
طافت الصور الفوتوغرافيّة للحياة اليومية للثورة أنحاء العالم، على الرغم من البعد الجغرافي لـ "الأراضي المحررة" التي أمكن الوصول إليها فقط بعد رحلة برية شاقة من جنوب اليمن. من بين من خاض غمار هذه الرحلة المخرجة اللبنانية هايني سرور، والمصور الفرنسي جان ميشيل هومو. وقد ساهم تعاونهم في الوثائقي المتوّج نقديًا لسرور: "ساعة التحرير دقّت" (1974) في تحويل أولئك الثوار -لاسيما الإناث منهم- إلى رموز ثورية عالمية.
مكافحة تمرّد استعمارية
كذلك أدّى السياق الإقليمي والدولي المتغير إلى تحول في ركائز مكافحة التمرد. فمع بداية الصراع، كانت أهمية ظفار ضئيلةً بالنسبة إلى بريطانيا، بما أنها لم تعد تساعد في ربط المستعمرات البريطانية في عدن والهند، ولكن هذا الأمر لم يمنع البريطانيين الذين يخدمون في الجيش والقوات الجوية العمانية من إعادة لعب دورهم التاريخي ومساعدة السلطان سعيد في جهوده لإخماد الانتفاضة.
غير أنّ الصعود الإقليمي للأفكار اليسارية، من جنوب اليمن إلى حركات التحرر المجاورة، حدا ببريطانيا وحلفائها إلى الخوف من "شبه جزيرة عربية حمراء". لقد توقعت بريطانيا صعود التهديدات التي تواجه وصول الغرب إلى الموارد الهيدروكربونية الغنية في المملكة العربية السعودية وأبوظبي والكويت.
نتيجةً لما سبق، ازداد تدويلُ حركة مكافحة التمرد. كانت التدخلات البريطانية مهمةً من الناحية الاستراتيجية من ناحية التخطيط، وقيادة الحملة، وتمكين الضربات الجوية والإمدادات الجوية من غذاء وماء ومعدات، بحيث تتمكن القوات الحكومية من الصمود لعام واحد في الجبال، بالإضافة إلى نشر أفراد القوات الجوية الخاصة منذ العام 1970.
في الوقت نفسه، حشدت بريطانيا حلفاءها؛ فقد نشر الأردن طيّاريه ومهندسيه، بينما وفّرت إيران، تحت حكم الشّاه، الطائرات المروحية والمقاتلات وعدة آلاف من قوات المشاة على الأرض. بحلول العام 1974، كان هناك ما يقدّر بـ 11,000 فرد من قوات مكافحة التمرد في ظفار، يواجهون نحو 1800 مقاتل من قوات العصابات والميليشيات.
لقد حدَّ تحشيد الحلفاء من الإنفاق البريطاني ومن عُرضتها للانتقاد بتهمة التدخل العسكري في عُمان، في وقتٍ كانت الحكومة البريطانية تنكر فيه تورّطها الاستعماري هناك. وضمن محاولاتها الإبقاء على سريّة التورّط، حجبت بريطانيا التغطية الإعلامية لمُجمل فترة الحرب بطريقة ليس لنا أن نتخيلها في حروب مكافحة التمرد هذه الأيام.
ولّدت مكافحة التمرد عنفًا مدمّرًا. دمّرت الضربات الجوية المنازل والمحال التجارية. لقد شردت الحملة قسرًا العديد من الظفاريين، وفرضت حصارًا على الأغذية والمياه. التأثير الذي حملته هذه التدخلات يدحض الادعاءات القائلة بأنّها كانت "حملةً نموذجيةً" بحدّ أدنى من الخسائر في صفوف المدنيين.
بمرور الوقت، حاولت مكافحة التمرد أيضًا "الفوز بالقلوب والعقول". وبالإضافة إلى بثّ البروبجندا التي أدانت الثوريين بوصفهم معدومي الأخلاق، جندت الحملة الظفاريين في قوات عسكرية غير نظامية لصالح الحكومة. وأخذت توزّع الغذاء والمياه وخدمات الرفاه على أولئك المقاتلين، بالإضافة إلى المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.
نافست هذه المؤن برامج الجبهة لكن أثرها كان مختلفًا. فَبينما شدّدت الجبهة على المساواة الاجتماعية، أخذت حملة مكافحة التمرد توزّع الموارد عبر شبكات قبلية، ممّا أجج العداوة.
ومع ذلك، كان القهر العنيف في ظفار هو ما أدّى في النهاية إلى قطع خطوط إمداد الجبهة، وتطهير الجبال من مقاتلي حرب العصابات. وكان هذا في نهاية المطاف بمثابة عملية عسكرية لمكافحة التمرد، لا مثالاً ناجحًا على "كسب القلوب والعقول". ثمّ أعلنت مكافحة التمرد انتصارها في عام 1976.
الاستبداد المستمرّ ما بعد الحرب
شكّل صراع ظفار ملامح سلطنة عمان الحالية بعدّة طرق. فقد أخذت البلاد اسمها الحالي وشكلها الإقليمي خلال حرب عام 1970، بعد أن نظّمت بريطانيا انقلابًا لتثبيت السلطان قابوس بن سعيد الذي حكم البلاد من عام 1970 إلى عام 2020.
يُظهر السرد المميز للمؤرخ عبد الرزاق تكريتي حول الجبهة، في كتاب "ظفار.. ثورة الرياح الموسمية"، بأن بريطانيا رأت في سعيد بن تيمور عائقًا لنجاح مكافحة التمرد. وما إن علمت بأن الثوار يخطّطون لاغتياله حتى أزالته لندن من منصبه، قبل أن يتمكن الثوار من القيام بذلك.
دعمُ البريطانيين لقابوس أسّس لأسلوب من الحكم المطلق والاستبدادي المستمرّ حتى اليوم، حيث لا تسمح السلطنة بأي معارضة سياسية وتسحق معارضتها المحسوسة والملموسة.
لكن برامج الرعاية الاجتماعية المتنافسة في زمن الحرب، والتي قامت عليها كلّ من الجبهة ومكافحة التمرّد قد أسست لأجندة تنموية. في عهد قابوس، وبالاستفادةِ من زيادة إنتاج النفط بأسعار مناسبة، شهدت عُمان ما بعد الحرب تغيرات اجتماعيةً واقتصاديةً واسعة النطاق، وتضمّنت برامجَ الرعاية الاجتماعية والبنية التحتية للمواطنين والتعليم المجاني والرعاية الصحية، ودعم الإسكان وتوزيع الأراضي والوصول إلى وظائف القطاع العام.
ومع ذلك، بمرور الوقت، تطلبت قيود الميزانية من الحكومة تقليص الدعم. وقد ألهم تآكل مخصصات الدولة، إلى جانب الصعوبة المتزايدة في تأمين فرص العمل، والاستياء من القمع الاستبدادي، العمانيين، ما دفعهم للانضمام إلى أقرانهم في جميع أنحاء جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا في النزول إلى الشوارع عام 2011.
عمّت الاحتجاجات الحاشدة المدن من مسقط إلى صلالة عاصمة ظفار، بصورةٍ غير معهودة في عمان. وطالب المتظاهرون بالحريات السياسية ومساءلة الحكومة وإعادة توزيع العدالة الاقتصادية.
أعادت استجابة الحكومة إلى الأذهان أنماط مكافحة التمرد في ظفار، المتمثلة في القهر وتحصيصِ الموارد. وبمساعدة من دول مجلس التعاون الخليجي، وَعَدَت الحكومة بتوفير المزيد من فرص العمل والرعاية الاجتماعية، لكن عندما واصل المتظاهرون في صلالة المطالبة بتغيير سياسي واقتصادي أعمق، اعتقلت الحكومة المئات ونشرت الدبابات في الشوارع. لقد ترك مشهد أفراد الجيش من شمال عمان في شوارع صلالة "مذاقًا علقمًا في أفواه الظفاريين"، وفقًا لأحد المدونين.
عكست نتائج تصويت العمانيين في مجلس شورى السلطنة في عام 2011 التفاؤل الأوّلي على طريق المشاركة في الانفتاح السياسي بعد التغيير، غير أنَّ حملات القمع الحكومي وملاحقة المعارضين ظلا مستمرّين.
من أرشيف ثورة ظفار
موروثات ثورية
في ظلّ استمرار الاستبداد في عُمان، كيف استطاع تراث الثورة البقاء على قيد الحياة؟ حذفت الحكومة بعد الحرب من التاريخ الرسمي: الثورةَ، وأطوارًا أخرى من معارضة العُمانيين، وعنفَ الدولة ضد المتظاهرين. في الوقت الذي تشير فيه السمعة الدولية التي اكتسبتها مكافحة التمرد باعتبارها "حملة نموذجية"، إلى النجاح في تقويض الثورة.
لكنَّ إرث الثورة العمانية وثوارها ظلّا خالدين بأكثر من طريقة. أحد الموروثات الوطنية هي قيام دولة الرفاه في البلاد. على الرغم من أن الروايات التقليدية داخل عمان وخارجها تنسب الفضل إلى السلطان قابوس في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، إلا أن الثوار هم الذين ساعدوا في وضع الأجندة التنموية. وفي وقت لاحق، نَسبت جهودُ مكافحة التمرد وحكومة ما بعد الحرب هذا الفضل لنفسها.
ومع أن الأمر أقل وضوحًا للمراقبين من الخارج، إلا أنَّ الآثار الثورية تنغمس في الحياة اليومية للمشاركين السابقين في الثورة. فقد أعاد بعض الثوار السابقين في ظفار ما بعد الحرب، إنتاج القيم الثورية في حياتهم اليومية، كما يتقصّى كتابي "حياة ما بعد الموت للثوار"، المستند إلى عمل ميداني قمت به في عُمان.
البعض سمى أبناءه تيمنًا بأسماء شخصيات ظفارية أو عالمية، حتى أولئك المنتمون إلى أجيال ما بعد الحرب، فيما أبقى بعضهم على صداقات مارست المساواة الاجتماعية متجاوزة حدود "الجندر" والقبيلة والإثنية والهويّات العرقية. بعضهم وجد طرقًا، بالرغم من الصمت الرسمي، لإحياء ذكرى الثورة بشكل غير رسمي، على سبيل المثال، من خلال حضور جنازة أحد المشاركين السابقين المتوفين.
إن التأثير الخالد للقيم الثورية يفحص مدى صحة الفكرة القائلة بانتهاء الثورة بهزيمة عسكرية. ففي ظفار، تُظهر هذه الموروثات كيف أن عنف مكافحة التمرد، وتوزيع الموارد "لكسب القلوب والعقول"، لا يمكن أن يمحو الارتباط طويل الأمد بالقيم الثورية.
كانت القيم الثورية أيضًا أساسيةً لتحقيق التنمية في مرحلة ما بعد الحرب. كان معظم الظفاريين الذين عملوا في مشاريع التنمية المبكرة في فترة ما بعد الحرب من خريجي المدارس الثورية، فقد تعلّموا تقدير الصالح العام. وعلى النقيض من ذلك، كان الظفاريون الذين يتمتعون بخبرة أكبر في إضفاء الطابع القبلي على سياسات مكافحة التمرد، مترددين في المشاركة في المشاريع التي من شأنها أن تفيد القبائل الأخرى غير قبائلهم.
وقد ساهمت هذه القيم نفسها أيضًا في تحفيز منصات لاحقة للسياسة التقدمية. أصبحت الاحتجاجات في صلالة في عام 2011 هي الأطول أمداً في السلطنة، حيث امتدت من 25 شباط/ فبراير إلى 12 أيار/ مايو. وفي تعليقه على مظاهرات صلالة في آذار/ مارس، أشاد أحد المدونين المجهولين بقيم الشمول الاجتماعي التي روّج لها المتظاهرون والتي رددت صدى المساواة التي كانت سائدةً بين جيل سابق من الثوار.
من الأدبيات الأولى لثورة ظفار
أهمية الثورة الظفارية اليوم
عندما ألقت الثورة المناهضة للكولونيالية بظلالها على عُمان، فإنها لم تتحوّل إلى مجرد رمز للحركيّة الثورية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. بالاعتماد على التطلعات الراسخة للحرية والعدالة الاقتصادية والسياسية، فقد أسس الثوار لإرث خالد لعمان والعمانيين. مع أن عنف مكافحة التمرد وتوزيع الموارد مزق حياة الظفاريين وأعاد تشكيلها، فإنّ تلك الاستراتيجيات لم تستطع أن تمسح الانخراط مع القيم الثورية على مدار الوقت.
لم تنتهِ حكاية ثورة عمان مع هزيمتها العسكرية. إن المواريث والقيم الثورية يمكن أن تنجو من الهزيمة، أن تؤثّر على أبنائها السابقين والأجيال اللاحقة. إذن، فإنَّ أهمية الثورة العمانية تتعاظم بدلًا من أن تتضاءل مع الوقت. مع القوة والقمع والهزيمة التي تُقابل بها الثورات في أماكن أخرى، والتي تنتج أجيالًا جديدة من الثوار الخائبين، يكون علينا أن نتساءل عما إذا كانت تلك الثورات قد انتهت بالفعل، ونتساءل عن المواريث التي ربما تنتجها هي أيضًا.
[1] المادة في موقعها الأصلي: https://bit.ly/454ZeWX .
[2] لعل قصد الكاتب من وصف النظام بأنه ملكيّ الإشارة إلى طبيعته الوراثية التي يتشاركها بشكل شبه تام مع النظام الملكي، لا تحديد مسمّاه الاصطلاحي الذي هو "نظام سلطاني".
[3] كسب القلوب والعقول مفهوم يشار إليه أحيانًا، في حال الحرب والتمرد، والنزاعات الأخرى، حيث يسعى أحد الطرفين إلى الغلبة والنصر، ليس باستخدام القوة المادية المتفوقة، بل من خلال توجيه نداءات عاطفية أو فكرية للتأثير على مؤيدي الجانب الآخر.
[4] أي تبعيةً شخصية لسلطانٍ يتبع البريطانيين من أجل البقاء.