جامعة النجاح من القلب إلى الهامش.. كيف خسر النضال الوطني جامعته؟
أثارت الأحداث الأخيرة في جامعة النجاح الوطنية موجة من التساؤلات والاستكشافات حول دور الحركة الطلابية وعلاقتها بإدارة الجامعة، وهذه التساؤلات ليست لحظية تريد إجابةً عن الموقف نفسه، بل هي متكررة منذ سنوات الانقسام الفلسطيني، تعبّر عن مدى الأزمة المستعصية للحركة الطلابية، وتحمل في طياتها بحثًا جادًا عن الحلول والإجابات العملية والاقتراحات الممكنة التي تساعد في الخروج من هذه الحالة، وتأتي هذه المقالة محاولةً لفهم أسباب الأزمة والتنقيب عن جذور حاضرها وتتبع مسارها الزمني، وهذا أمر لا بد منه لفهم العقبات قبل خوضها، ولإدراك التحديات قبل مواجهتها، ولوضع التساؤلات في سياقها التاريخي والسياسي والأمني الذي انبثقت منه، وهذا دور المقالة، فهي لا تحاول تشخيص المشهد من بعيد، بل هي مشغولةٌ ومهمومةٌ بإعادة طليعيّة الحركة الطلابية، لا بما تمثله من دور نقابي فقط، بل بما تمثله من عصبٍ أساسي في الحركة الوطنية العامة.
الجامعة.. التأسيس ومجلس الأمناء
أكبر جامعات فلسطين اليوم بدأت رحلتها مدرسةً عام 1918، ثم كليةً فمعهدًا، قبل أن تصير "جامعةً النجاح الوطنية" عام 1977، ملتحقة بقرينتها جامعة بيرزيت التي أسست قبلها بأعوام، لتكون حركتها الطلابية في ريادة النضال الفلسطيني وصولاً إلى الانتفاضة الأولى، بخلاف تصورات الاحتلال في بداية تأسيس الجامعات الوطنية، حينما اعتقد أن الانغماس في التعليم سيشغل عن النضال، فعمد إلى إغلاق الجامعات في الانتفاضة الأولى لمنع رفد الانتفاضة بالحركة الطلابية النشطة.
عشية التأسيس كانت منظمة التحرير المنتشية بقرار قمة الرباط الاعتراف بها ممثلا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، تنافس الأردن المسيطر إداريًا وقانويًا على الضفة الغربية، الأرض والناس. شهدت الضفة استقطابا حادًا بين الطرفين، وعلى وقعه تشكل ارتباط عائلة "المصري"، إحدى أهم عائلة نابلس وأكبرها، بالجامعة الناشئة.
تميزت عائلة المصري بعدة مؤهلات جعلتها قادرة على قيادة الجامعة عند التأسيس والاستمرار في رئاسة مجلس الأمناء حتى يومنا هذا. أهم هذه المؤهلات هي التوافقات والتوازنات، فقد حظيت العائلة بإجماع بين طرفي الاستقطاب: الأردن والمنظمة، فمن جهة ربطتها علاقات وثيقة بالأسرة الهاشمية، إذ كان حكمت المصري أولُ رئيس لمجلس الأمناء نائبًا في البرلمان الأردني ثم رئيسًا للبرلمان في الخمسينيات؛ ومن جهة أخرى انفتحت على المنظمة لإدراكها أهميتها على الأرض، فحرصت على التشاور معها بخصوص قرار التأسيس، الأمر الذي لاقى قبولاً ودعمًا من المنظمة. بالإضافة لعلاقات العائلة الإقليمية والدولية، فنجح مجلس الأمناء الأول برئاسة حكمت المصري في الخروج من معركة الاستقطاب ببراعة وحكمة واتزان. أما المؤهل الثاني للعائلة فهو قدرتها على التمويل وضخ الأموال وتوفير الدعم مستثمرة مكانتها الاقتصادية في العالم العربي، إلى جانب مكانتها الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني بشكل عام وبين عائلات نابلس بشكل خاص، فنفوذها في المدينة سهّل لها التصدر في المؤسسات الأهلية وعلى رأسها جامعة النجاح.
حكمت المصري.. أول رئيس لمجلس أمناء جامعة النجاح
توثقت علاقة المنظمة بجامعة النجاح سريعًا، وأصبحت منذ الثمانينيات تُلقب بجامعة منظمة التحرير، وبعد قدوم السلطة عام (1994) تطور الأمر سريعًا ووصل إلى حد تدخل السلطة في تعيين مجلس الأمناء ورئيس الجامعة[2]، ففي عام (1998) قام صلاح المصري رئيس مجلس الأمناء وقتها بتنسيب اسم رامي الحمدالله إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات رئيسًا لجامعة النجاح ليشغل الحمدالله ذلك المنصب رسميًّا بعد مصادقة الرئيس الفلسطيني على القرار[3].
رامي الحمد الله والنجاح الوطنية.. اسمان وجامعة واحدة:
انتقل رامي الحمدالله من منصب النائب الأكاديمي إلى رئاسة الجامعة، وهو من عائلة إقطاعية منذ العهد العثماني تتميز بحضورها ومكانتها في المجتمع الفلسطيني، واستطاع من خلال علاقاته وشبكته الاجتماعية أن يحقق تقدمًا واضحًا لجامعة النجاح كتوفير الدعم والمساعدات وتقدمها في المحافل العلمية، في الوقت ذاته كان يوسع سلطته داخل أسوار الجامعة من خلال تعييناته بحيث تصبح تركيبة الجامعة خادمةً لسياساته. وبإدارة مركزية صارمة، كان يتابع من خلالها أدق التفاصيل وأصغرها، أصبح الآمرَ الناهي الأول على حساب مجلس الأمناء الذي بدأ يغيب عن المشهد تدريجيًا، في تفويض واضح للحمدالله وتسليم بقراراته. واستطاع من جهة أخرى أن يؤسس لعلاقات وثيقة مع السلطة من خلال شبكة علاقاته التي كان أهم عنصر فيها ابن قريته الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة وقتها، ومع الأيام أصبحت علاقة الحمدالله مع الرئيس الراحل عرفات ومن بعده الرئيس عباس، علاقة مباشرة من غير واسطات وقنوات، وهو ما أثمر رسوخ قدميه في رئاسة الجامعة 15 عامًا، ثمّ اختياره رئيسًا للوزراء عام 2013.
واشترط أن يبقى مقعد رئيس الجامعة شاغرًا ومسجلًا باسمه طوال مدة رئاسته للحكومة، في مخالفة واضحة للقانون الفلسطيني الذي يمنع رئيس الحكومة من ممارسته أي وظيفة أو منصب آخر[4]، ومخالفةٍ لقانون التعليم الفلسطيني الذي يمنع رئيس الجامعة من العمل لدى أية مؤسسة أو هيئة أخرى[5]، فتم تعيين قائمٍ بأعمال رئيس الجامعة طوال فترة رئاسة الحمدالله للحكومة، ليستمر منصب رئيس الجامعة باسم الحمدالله حتى عام (2019) أي لمدة 21 سنة! وبعد انتهاء حكومته حاول العودة لرئاسة الجامعة لكن السلطة وحركة فتح، وعلى إثر خلافات داخلية معه، قدموا اعتراضات قوية على رجوعه للجامعة[6] حتى تقدم رئيس مجلس الأمناء صبيح المصري بحلٍ مع رئيس السلطة محمود عباس بتعيين الحمدالله نائبًا لرئيس مجلس الأمناء، المنصب الذي مكنه بعد ذلك من السيطرة على الجامعة من جديد بصفته "الدولة العميقة" من داخلها.
الحركة الطلابية.. قبل الانقسام
بدأت الحركة الطلابية في جامعة النجاح قوية مع بداية تأسيس الجامعة، وتمايزت منذ نشأتها إلى تيارين اثنين بشكل أساسي، تيار يمثل امتدادًا لمنظمة التحرير بتنظيماته الأساسية فتح واليسار، وتيار إسلامي يمثل امتدادًا لمدرسة الإخوان ليساهم فيما بعد بتأسيس حركة حماس. اتسمت العلاقة بين هذين التيارين في البدايات بتوتر شديد، فلم تتقبل فصائل المنظمة وجود منافس لها يرفض الاعتراف بها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا، فمارست سياسة الإقصاء بالقوة بعد أن أفرزت الانتخابات فوز الإسلاميين مرات متعددة وبفارق كبير كما حصل في انتخابات عام (81/82) حين فازوا بجميع مقاعد مجلس الطلبة برئاسة ناصر الدين الشاعر، أدى هذا التوتر إلى أكبر صدامٍ طلابي شهدته الجامعة منذ تأسيسها بتاريخ (1 أيلول/ سبتمبر 1982) مما أدى لتعطيل الدراسة لعدة أشهر.
انخرطت الحركة الطلابية بكل أطيافها من أول يوم في واجبها تجاه القضية الوطنية، وأدرك الاحتلال خطورة نشاط الحركات الطلابية، فحاصر الجامعة في بداياتها واقتحمها عدة مرات ليعتقل الطلبة من داخلها في رسالة صارمة للحركة الطلابية، لكن فاعليتها في الدور الوطني ازداد على مشارف الانتفاضة الأولى، وكان ازدياد الرصيد النضالي للكتلة الإسلامية، بعد استهدافها من الاحتلال على إثر قرارها بالمشاركة في المواجهات والمظاهرات، سببًا في قبولها ضمنًا من قِبل تيار المنظمة والاعتراف بها عمليًا مكونًا أصيلاً في الحركة الطلابية، وأصبحت الجامعات رافدًا أساسيًا للانتفاضة ورافعةً لها، لتقوم سلطات الاحتلال بتعطيل الدوم الجامعي في الأراضي المحتلة لمدة أربع سنوات من (1988-1992) في عقابٍ جماعي للجامعات الفلسطينية، فتفرّغَ الطلبة للعمل الجماهيري وتراجع الدور النقابي حتى بعد انتظام الدوام الجامعي، وتلقت الكتلة الإسلامية في تلك الفترة ضربات متتالية من الاعتقالات والملاحقات لكوادرها مما أثر سلبًا عليها على كل المستويات، لتقوم بعد ذلك بالاستدراك على نفسها بعد أن قامت بعض القيادات التاريخية للكتلة الإسلامية في جامعة النجاح بإعادة هيكلة الكتلة وتشكيل قيادة مؤقتة لها لتنشط وبقوة في ساحات التعويض التي انتهجتها الجامعة بعد إعادة فتحها بحسب مذكرة داخلية للكتلة.
مع ميلاد السلطة الفلسطينية من رحم اتفاقيات السلام التي عقدتها منظمة التحرير مع الاحتلال الصهيوني، واحتساب جماهير الطلبة حركة الشبيبة الطلابية، الذراع الطلابية لحركة فتح، على السلطة وسياساتها، أمكن لمنافستها الكتلة الإسلامية تعزيز حضورها من خلال موقفها المعارض لمشروع التسوية الذي تبنته قيادة منظمة التحرير التحرير وانبثقت عنه السلطة الفلسطينية، فأصبح مجال التنافس الطلابي أعلى، وأصبح النشاط السياسي وعرض البرامج الوطنية على حساب الإيديولوجيا الصلبة هو السمت الغالب على الحركات الطلابية في أنشطتها النقابية وفي تحالفاتها الانتخابية، كتحالف الكتلة الإسلامية مع اليسار المعارض لاتفاقية أوسلو.
في تلك الفترة، كانت حماس تقود مشروع المقاومة ضد الاحتلال في سلسلة من العمليات القوية، وعلى إثر ذلك حظرت سلطات الاحتلال الكتلة الإسلامية في عام (1996)[7] من خلال تشريع قانون يجرّم الانتساب إليها والعمل في صفوفها، ويعاقب أفرادها بعقوبة السجن لكونها الذراع الطلابية لحماس الذي يمدها بالكوادر والقيادات، وبدأت أيضًا صفحةً جديدة مع السلطة الفلسطينية التي قامت بملاحقة كوادر الكتلة الإسلامية تنفيذًا لالتزاماتها الأمنية ضمن اتفاقية أوسلو، وهو الأمر الذي أدخل العمل الطلابي في طور جديد باستهداف السلطة الفلسطينية له ومحاولتها ترويضه، وبما ينعكس على تماسك الحركة الطلابية ودورها النضالي ما بين كتلة طلابية باتت تمثل على نحو ما، امتدادًا لسياسات السلطة، وأخرى معارضة لتلك السياسات.
في عام (1996) اقتحمت أجهزة الأمن الفلسطينية حرم جامعة النجاح وأطلقت النار تجاه الذين كانوا يحتجون على هذه الانتهاكات مما أدى لإصابة العشرات من طلبة الجامعة وكسر هيبتها، وعلى إثر الضجة الكبيرة التي صاحبت هذه الحادثة حضر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى جامعة النجاح معتذرًا ومعاهدًا الشعب على أنها "غلطة لن تتكرر وشطبناها"، الأمر الذي لاقى قبولًا وارتياحًا واسعًا، لكن اعتقالات السلطة استمرت حتى عام (1999)، وتميزت هذه الفترة بصدارة الكتلة الإسلامية في كل انتخابات مجلس الطلبة التي جرت حتى عام (2006) باستثناء انتخابات (2005) التي فازت بها الشبيبة الطلابية، وسميت بالفترة الذهبية للكتلة الإسلامية في جامعة النجاح، ومجمل الجامعات الوطنية العامة في الضفة الغربية، وهو ما يمكن أن يعزى إلى تعاطف الطلبة مع الكتلة المعارضة لسياسات السلطة، وانخراط العديد من كوادرها في العمل المقاوم المباشر، ولاسيما أن الكتل الإسلامية في الجامعات مثّلت واجهة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الضفة الغربية التي عانت الإقصاء عن المجال العام، فسعت للتعويض عبر كتلها الطلابية، التي اجتهدت بدورها للحفاظ على مكتسبها بالفوز المتكرر بمجالس الطلبة، وهو ما كان يقتضي منها إدارة جيدة لتلك المجالس، وخدمات واضحة لجماهير الطلبة.
كلمة الرئيس الراحل ياسر عرفات في جامعة النجاح التي اعتذر فيها عن اقتحام الأمن للجامعة عام 1996
(شاهد كلمة الرئيس الراحل ياسر عرفات في جامعة النجاح التي اعتذر فيها عن اقتحام الأمن للجامعة)
وذلك في حين عانت حركة الشبيبة الطلابية من التحول الواضح في موقعها السياسي، بعدما كانت في الطليعة النضالية في مواجهة الاحتلال في مراحل ما قبل توقيع اتفاق أوسلو، لتجد نفسها غير قادرة على أخذ مسافة من السلطة الفلسطينية التي تمثل المشروع السياسي لحركة فتح بتناقضاته مع مشروع المقاومة، وهو الأمر الذي دفّع الشبيبة أثمان سياسات السلطة، بينما كانت قوى اليسار الفلسطيني قد أخذت في التراجع تاريخيًّا، في عدد من المحطات المتتالية، فلسطينيًّا بعجزها عن الوقوف أمام سياسات ما كانت تسميه "القيادة المتنفذة في منظة التحرير"، وصعود المقاومة الإسلامية، أو عالميًّا بانهيار المعسكر الاشتراكي، وإن كان يمكن ملاحظة التحالفات الانتخابية التي حصلت في عدد من الجامعات الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو بين الكتلة الإسلامية واليسار الفلسطيني، والتي كانت امتدادًا لتحالف القوى الفلسطينية العشرة المعارضة لاتفاقية أوسلو، وأمّا الجماعة الإسلامية (الرابطة الإسلامية في ما بعد) الذراع الطلابية لحركة الجهاد الإسلامي فلم تحقق اختراقات جماهيرية على امتداد هذه السنوات كلها، وهو الأمر الذي يقتضي التركيز على الكتلة الإسلامية، بوصفها الكتلة الطلابية الأكبر المقابلة لحركة الشبيبة الطلابية، سواء من حيث الحجم والدور أم من حيث الموقع السياسي أم من حيث الاستهداف من السلطة وإدارة الجامعة.
اتسمت العلاقة بين الحركة الطلابية وإدارة الجامعة ممثلة بالحمدالله في فترة ما قبل الانقسام بالإيجابية النسبية التي كان على الطلبة العبء الأكبر في تثبيتها، فقد كانت الجامعة معنية دومًا بمنبرٍ طلابي تتحكم فيه ويتناغم مع سياساتها وتُحسِّنُ به صورتها، ولم تكن معنية بتوفير أجواء طلابية نقابية تضمن حرية العمل، وإذا وجدت فضمن سقف معين، لأن توفير تلك الأجواء يعني رفع مستوى العمل النقابي بالتالي قوة الحركة الطلابية والتفاتها إلى الملفات النقابية الكبيرة مثل ملف الأقساط وغيره من الملفات التي تزعج الجامعات، لكن قوة الحركة الطلابية وإصرارها على انتزاع حقوقها في الحريات وفرض حضورها في مواقف مفصلية كان الركيزة الأساسية التي ثبّتت معادلة لم تستطع إدارة الجامعة أن تتجاوزها، فكانت تستجيب لمطالب الكتل الطلابية وأنشطتها، مراعيةً الظرف العام والحالة السياسية النشطة في الجامعة وخارجها.
بدا وكأن من أهداف رامي الحمدالله تفريغ الكتل الطلابية من مضمونها السياسي، وضمان استقلالها عن أي امتدادٍ حزبي، وقد كان يستغل أي حدث لتعميق هذا التوجه، وهذا ما كانت تشي به سياساته، ولقاءاته بمسؤولي الكتل الطلابية. يشكّل ذلك عامل مهم لتفسير مسلكيات الحمدالله طوال رئاسته للجامعة، لكن تحت ضغط الانتفاضة والهبات الشعبية كانت إدارة الجامعة تتجاوب على مضض مع المستوى العالي من الفعاليات الوطنية والتنظيمية، وكان يصل الأمر أحيانًا إلى ما تسميه بعض إدارات الجامعات "مظاهر العسكرة" داخل الجامعات، كاللباس العسكري الذي يرتديه الملثمون من الطلبة في عروضهم داخل الجامعة، ورفع مجسمات من الأسلحة والبنادق، واليافطات التي كانت تتوعد المحتل، والمسرحيات والمهرجانات وتأبين الشهداء التي لم تكن تخلو من مظاهر عسكرية رمزية داخل الجامعة، وكانت الجامعة تبذل جهدها للحد من ذلك حتى في سنوات الانتفاضة، وقد كان ملاحظًا أن إدارة الجامعات تحسب حسابًا للبيئة المحلية والإقليمية والدولية، وكان الاحتلال يتدخل أحيانًا لمنع مثل هذه الأنشطة كما حدث حين قررت الكتلة إقامة معرض في الجامعة وأطلقت عليه "معرض سبارو" نسبة للعملية الاستشهادية التي نفذها عز الدين المصري في عام (2001) باسم كتائب القسام في القدس وهزت الكيان الصهيوني وقتل فيها 20 صهيونيًّا وأصاب العشرات، فهدد الاحتلال من خلال اتصال مباشر مع الجامعة وتوعدها، ليتم إغلاق المعرض بعد أسبوع من إقامته تحت الضغط الإعلامي والسياسي.
كانت سياسة الجامعة تقوم على التفريق بين الحركات الطلابية، ولم تقف على مسافة واحدة من الجميع، فكانت تنحاز للإطار الطلابي الذي يعد امتدادًا للسلطة "حركة الشبيبة"، لكنها كانت تحاول الحفاظ على توازنها لسببين اثنين، السبب الأول قوة الكتلة الإسلامية وقياداتها والواقع السياسي والوطني العام في الضفة، والسبب الثاني يتعلق بقوة شخصية رامي الحمدالله والكاريزما التي يتمتع بها، فقد كانت سياسته تقوم على احتواء الجميع وإبقاء هامشٍ من العلاقة الجيدة مع الكتلة الإسلامية وحماس حتى في الظروف الصعبة، ويحرص على الظهور بشكل وحدوي بصفته الرئيس الأب لكل الأطر الطلابية، وكان يهتم بسياسة التأثير الداخلي في الكتل من خلال تفضيله التعامل مع أشخاص دون آخرين من داخل الكتلة الواحدة، فمثلاً كان يمرر بعض الإنجازات الصغيرة عبر أحد وجوه الكتلة الإسلامية دون غيره ليسهل عليه بعد ذلك التأثير في الكتلة من خلاله، وكان معجبًا بسياسة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في إبقاء العلاقات مفتوحة مع الجميع والظهور بمظهر وحدوي والتحرك ضمن التوازنات، وكانت مقولته المشهورة "مثلي الأعلى في الحياة أبو عمار".
أحيانًا كانت تصل العلاقة بين إدارة الجامعة والكتل الطلابية إلى مستوى التصادم المباشر، ففي عام (2003) حدثت أزمة على خلفية نشاط وطني وجرى تعطيل الجامعة ثلاثة أيام، وتوجيه إنذار لرئيس مجلس الطلبة آنذاك، ثم تراجعت عنه الإدارة بعد ذلك، وكان مستوى تصادم الإدارة مع الكتلة الإسلامية أعلى من غيرها، فقد كانت الكتلة تكسر قرارات الجامعة بقوة وتفرض نفسها، ففي عام واحد فقط (2004-2005) قامت الكتلة بإغلاق الجامعة بالسلاسل الحديدية أربع مرات على خلفية قضايا نقابية ووطنية، وأحيانًا كانت تتفاقم الأزمة وتتدخل أجهزة الأمن الفلسطينية وتطارد الطلبة وتعتقلهم، ففي عام 1998 أرادت الكتلة الإسلامية إقامة حفل تأبين للاستشهاديين من قرية عصيرة الشمالية وبعضهم كان من طلبة الجامعة، وكان الحفل منسقًا مع الإدارة، لكن قبل الحفل بيومين اغتيل الشهيد محيي الدين الشريف وصدرت اتهامات للسلطة باغتياله، وخوفًا من أي ردة فعل تستنكر الاغتيال وتدين السلطة من خلال الحفل، حاولت إدارة الجامعة وبكل الطرق والوسائل منع الحفل لكنها فشلت فشلًا ذريعًا، وأقامت الكتلة حفل التأبين ورفعت صورة كبيرة لمحيي الدين الشريف وصدّرت مواقفها لوسائل الإعلام، وعلى إثر ذلك جرى اعتقال عريفي الحفل الأسير محمد صبحة والأسير المحرر علاء حميدان لمدة سنتين في سجن الجنيد التابع للسلطة، وطالت الاعتقالات في مواقف متكررة كثيرًا من كوادر الكتلة ورؤساء مجلس الطلبة.
الحركة الطلابية.. بعد الانقسام
تصاعدت الخلافات بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس بعد فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية بأغلبية كبيرة وتشكيلها للحكومة الفلسطينية العاشرة في عام 2006، وتطور الأمر سريعًا ليشهد صدامات عنيفة انتهت بمشهدٍ تسيطر فيه حركة حماس على غزة، وانعكست هذه الحالة على عموم الواقع الفلسطيني، فقررت السلطة استئصال حركة حماس من الضفة الغربية واستهداف كل ما يمت لها بصلة، وبحكم الوزن الكبير لحركة حماس في جامعة النجاح ونابلس فقد تعرضت الكتلة الإسلامية لضربات ثقيلة ومتتالية تستهدف اجتثاث وجودها وإبادتها، فكانت أجهزة الأمن تعتقل كل من له علاقة بالكتلة الإسلامية وتخضعه لتحقيق قاس لنزع الاعترافات منه تحت التعذيب، وكانت تشترط على بعض نشطاء الكتلة تركهم الجامعة مقابل الإفراج عنهم، وكانت تقتحم البيوت والسكنات والمؤسسات، وتصادر كلَّ ما يُشتبه بتبعيته للكتلة من أموال وممتلكات، وتمارس سياسية الترهيب والتهديد العام لنشر الخوف والرعب في كل مكان، فنشرت قوائم اغتيالات في كل مدن الضفة، وفي نابلس نشرت قائمة مكونة من واحدٍ وعشرين اسمًا، منهم سبعة -أي الثلث- من قيادات وكوادر الكتلة الإسلامية، وبما أن هذه الحملة استفادت من الانقسام وصوره الثقيلة على المجتمع الفلسطيني، وبات المشهد وكأنه صراع على السلطة بين الحركتين الكبيرتين، فقد وجدت حماس وكتلتها الطلابية، بعيد الانقسام، نفسها وحيدة، الأمر الذي يعني صعوبة اتخاذ موقف نضالي ونقابي واحد على مستوى الكتل الطلابية رفضًا لاستهداف الكتلة الإسلامية، وهو الأمر الذي أخذ يتغير في السنة الأخيرة.
مع تلك الأجواء وضمن المتغيرات التي طرأت على المشهد العام والتي كان الحمدالله يقرؤها جيدًا، تغيرت سياسة إدارة جامعة النجاح على الفور، لتبدو متاحة أكثر من أي وقت مضى للحضور الأمني فيها، والذي سوف يستفيد بالضرورة من تطابق مواقف حركة الشبيبة وخطاباتها مع السلطة الفلسطينية وفي امتداد لوقائع الانقسام في غزّة، الأمر الذي وسع بدوره من حضور الحرس الجامعي ومن أدوراه ووظائفه، وهي مشهدية استفادت منها إدارة الجامعة لإفراغ الأطر الطلابية من مضمونها الحزبي والسياسي من خلال سياسات تفضي إلى إضعاف الحركة الطلابية وتحجيم فاعليتها، وهي إرادة تلتقي مع إرادة السلطة بعد الانقسام للهيمنة على المشهد العام، فباتت فرصة إدارة الجامعة مواتية لحظر كافة أنشطة الكتل الطلابية بحجة التحسب لوقوع صدامات، وعطلت الانتخابات لسنوات متكررة.
الثلاثاء الحمراء.. اغتيال محمد رداد
في يوم الثلاثاء (24 تموز/ يوليو 2007) أقامت الكتلة الإسلامية وقفة تندد باعتقال قوات الاحتلال ممثلها، ووزعت بيانات استنكار للاعتقال، على إثر ذلك تدخل أحد أفراد الأمن الجامعي وصادر نسخًا من البيان بحجة عدم وجود الإذن بالتوزيع، مما أدى على الفور لرفع حالة التوتر بين الكتلة من جهة وبين أفراد الشبيبة وأجهزة الأمن الجامعي من جهة أخرى، نجم عن ذلك اشتباك بالأيدي وتراشق، ووقوع إصابات في صفوف أبناء الكتلة الإسلامية، وبعد دقائق انتشر مسلحون من حركة فتح بعضهم من طلبة الجامعة، بزي مدني ورسمي داخل الحرم الجامعي وفي محيطه، حيث تشير التحقيقات الميدانية الصادرة عن مؤسستي الحق والميزان العاملتين في مجال حقوق الإنسان والتي صدرت عنهم في بيان مشترك منشور بتاريخ (1 آب/ أغسطس 2007)[8]، أن الحرس الجامعي سمحوا لعشرات المسلحين من الأجهزة وغيرها بالدخول بأسلحتهم، وأن بعض أفراد الحرس كانوا من ضمن الذين أطلقوا النار في الهواء من أسلحة رشاشة
يذكر البيان في حقيقاته أن عددًا من ناشطات الكتلة الإسلامية داخل الجامعة تعرضن للشتائم من المسلحين على إثر هتافاتهن، وحاول بعض الموظفين والطلبة حمايتهن، وكان منهم الطالب محمد رداد الذي بدأ بالصراخ على المعتدين على الطالبات، ليقوم أربعة أفراد من المسلحين بالإمساك به وسحله وضربه بالركلات والبنادق، وعلى مسافة قريبة من الطالبات داخل الحرم الجامعي وبالقرب من مكتب رئيس الجامعة، أطلق أحد المسلحين رصاصة من مسدسه باتجاه مؤخرة رأس الطالب محمد رداد ومن مسافة قريبة جدًا ليتم نقله للمسعفين بعد ذلك. يوثق البيان وجود أفراد الشرطة والأمن بلباسهم الرسمي داخل الجامعة وقت الحادثة وعلى مسافة ليست بعيدة.
أمام هذا الحدث الكبير واصلت الطالبات اعتصامهن ورفضن المغادرة حتى الساعة الثانية فجرًا، وعند منتصف الليل "من اليوم نفسه" اندلع حريق في الطبقة العلوية من المبنى الذي كانت فيه الطالبات، وألحق أضرارًا كبيرة بها وبمحتوياتها، ولم تؤد التحقيقات -حسب البيان- إلى التعرف على الأسباب والفاعلين، وفي يوم الجمعة (27 تموز/ يوليو) أُعلن عن وفاة الطالب محمد رداد متأثرًا بإصابته داخل الجامعة، وقيدت الجريمة ضد شخص مجهول بقرار سياسي أمني بحجة تضارب شهادات الحادثة التي كان على رأسها شهادة رئيس الجامعة الحمدالله الذي اتهم في شهادته عناصر من حماس بإطلاق النار من خارج الجامعة مما أدى لوفاة رداد، وأصدرت إدارة الجامعة بيانًا تحمّل فيه الكتلة الإسلامية مسؤولية ما حدث، ثم فصلت عددًا من كوادرها، وحركت دعوى قضائية ضد "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" التي طالبت إدارة الجامعة بتقصي الحقائق وبتحمل مسؤوليتها الأخلاقية بعد تقرير مفصل أوردته حول ملابسات حادثة القتل وأنه تم من مسافة قريبة جدًّا.
محمد رداد الطالب في جامعة النجاح في المستشفى قبل وفاته على إثر إطلاق النار عليه في الجامعة (2007)
كانت حادثة اغتيال محمد رداد نقطة التحول الحقيقية في تاريخ الحركة الطلابية في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، فقد شكل مشهد إعدامه داخل الحرم الجامعي، الذي تحول لثكنة أمنية على يد مسلحين وبتواطؤٍ من الحرس وبعض الطلبة، علامةً فارقة على مرحلة جديدة لعلاقة إدارة جامعة النجاح مع طلابها، وكانت الحركات الطلابية عاجزة عن إحداث أي اختراق إيجابي في المشهد، فالشبيبة كانت على خصومة كاملة مع الكتلة الإسلامية فتطابقت في موقفها مع السلطة وإدارة الجامعة، ولم تكن كتل اليسار تملك القوة والحضور الكافيين للصمود في مشهد كهذا، فضلاً عن أثر صورة الانقسام في موقفها، وتعلّقها بقرارات أحزابها السياسية التي أبدت بعضها اقترابًا من السلطة، وذلك بالرغم من وقوع بعض ممثلي اليسار في دائرة الاستهداف والاعتداء كما حصل مع بعض منسقيهم الذين جرى الاعتداء عليهم بسبب دفاعهم عن الطالبات في "الثلاثاء الحمراء".
وبالرغم من أن المشهد انتهى إلى شلّ الحركة الطلابية برمّتها، فإنه عناصره الفاعلة تكاد تنحصر في السلطة وامتداداتها داخل الجامعة بما في ذلك إدارة الجامعة، وفي الكتلة الإسلامية، ولما كان الأمر كذلك فقد سعت الكتلة الإسلامية للحفاظ على وجودها، فأعلنت عام (2008) دخولها انتخابات مجلس الطلبة في قرار وصف بالجرأة والتحدي وقتها، لكنها انسحبت بعد ذلك وقاطعت الانتخابات لانعدام النزاهة والظروف المتكافأة كما قالت، فقد أعلنت أنها تلقت تهديدًا رسميًا من الجامعة بأنه في حال فوزها سيكون هناك أكثر من رداد[9].
استثمرت إدارة الجامعة ذلك بإلغاء الدعاية الانتخابية، مما يعد في جوهره تفريغًا للانتخابات من معناها السياسي، وهو ما يكشف عن إرادة لإدارة الجامعة لتحجيم العمل الطلابي وتجريده من عناصر قوته. التقت إرادة إدارة الجامعة في لحظة تاريخية مناسبة مع إرادة السلطة، وهو ما انعكس على مجمل المجال العام، ومن ضمنه الحركة الطلابية.
حتى عام (2013) يمكن القول إنّ الكتلة الإسلامية كانت محظورة عمليًّا داخل الجامعة، فغاب حضورها قسريًا وتعطلت أنشطتها، وتعرضت لعدة ضربات قاسية تستهدف بنيتها وهيكليتها من الأجهزة الأمنية والاحتلال الصهيوني فتقطعت أوصالها وتشتتت خبراتها، في الوقت نفسه، تمددت سلطة الأمن الجامعي بقرار من إدارة الجامعة وإشراف من الأمن الفلسطيني لتتحول إلى جهاز منظم داخل الجامعي بزيٍ موحد ومزود بأسلحة رشاشة، فانتشرت كاميرات المراقبة، وأصبح للأمن مكتب في كل مدخل وفي كل كلية، وتم تركيب البوابات الإلكترونية التي ترصد كل بقعة في الجامعة، ليخضع كل شيء للمراقبة، وتطلق أيدي الأمن الخشنة في الجامعة، مما حول الجامعة إلى "ثكنة أمنية" كما بات يُعرف في الأوساط الطلابية.
قاطعت الكتلة الإسلامية إذن انتخابات (2008)، ثم تعطلت الانتخابات في (2009)، وجرت بدون مشاركة الكتلة في (2010)، ثم تعطلت في عامي (2011 و2012)، إلى أن أجريت الانتخابات في العام (2013) والتي شاركت فيها الكتلة الإسلامية لتفوز بها الشبيبة بفارق عشرة مقاعد، ثم تعطلت الانتخابات بعد ذلك حتى العام (2017) ليتقلص الفارق بين الكتلتين بعد أربع سنوات إلى 7 مقاعد لصالح الشبيبة، ثم ظلت الانتخابات معطلة إلى الآن. إن تعطيل الانتخابات لسنوات متتالية، يكشف عن طبيعة الأزمة، المتمثلة في تقزيم الحركة الطلابية وتجريف الحالة السياسية والنقابية داخل الجامعة، بما يتجاوز مجرد إقصاء الكتلة الإسلامية، وإن كان إقصاؤها بالضرورة شرطًا لعملية التجريف هذه.
تعرضت الكتلة بعد عودتها في (2013) إلى العديد من الضربات المركزة والفردية من الاحتلال، فقد وصل عدد المعتقلين في بعض الأحيان إلى أكثر من 60 معتقلًا من كوادرها وأفرادها كما في عام (2014)، وتعرضت لحملة ملاحقات واعتقالات وتهديدات واسعة من السلطة الوطنية، كما تعرضت لاعتداءات الأمن الجامعي وحركة الشبيبة عدة مرات، كما حصل عام (2018) حين هاجم الأمن عددًا من طلاب الكتلة وطردهم خارج الجامعة، ليجدوا في انتظارهم أفرادًا من الشبيبة وعناصر من الأمن بلباس مدني بالأسلحة البيضاء، مما أدى لإصابة بعض الطلبة.
بالرغم من سياسة إدارة الجامعة سالفة الذكر، فإنّ الأجواء السياسية والشعبية التي أحدثتها حروب المقاومة ومعاركها من قطاع غزّة مع الاحتلال، وهبة القدس وأحداث المسجد الأقصى الأخيرة وما تبعها من صعود أسهم المقاومة في الشارع، وحالة الترهل السياسي والاقتصادي التي أصابت السلطة الفلسطينية، حسنت من فرص الحركة الطلابية لإثبات حضورها، وهو ما كان يتطلب من الكتلة الكبيرة الملاحقة، أي الكتلة الإسلامية، المزيد من المحاولة لتثبيت الذات، وهو ما سعت لفعله، إذ بدون تعافيها وفرضها نفسها، سيبقى مشهد الهيمنة الأمنية هو الغالب على حالة الحركة الطلابية في الجامعة.
الحراك الطلابي.. خطوة وعي
الآن، وبعد خمس عشرة سنة من الانقسام وآثاره المدمرة على الجامعة والحركة الطلابية، وعلى إثر خلافٍ تطور بشكلٍ متسارع بين الكتلة الإسلامية من جهة ومجلس الطلبة والأمن الجامعي وبعض أفراد الشبيبة من جهة أخرى، تجسد في اعتداء واضح على اعتصام للكتلة أمام أبواب الجامعة، تداعى مجموعة من الطلبة، وبقرار طلابي مستقل، لوقفة احتجاجية أمام إدارة الجامعة تطالبها بمعاقبة المعتدين، فردت الجامعة بقرارات فصلت بها عددًا من موظفي الأمن ومن الطلبة المعتدين والمعتدى عليهم، ليبدو الأمر مساواة بين الطرفين، وهو ما لقي رفضًا واستنكارًا من هؤلاء الطلبة المحتجين فأعلنوا عن سلسلة من الخطوات باسم "الحراك الطلابي المستقل" من بينها اعتصام داخل الجامعة، في يوم (14 حزيران/ يونيو 2022)، ليعتدي الأمن الجامعي، بلا سابق إنذار، مرة أخرى، وعلنًا، على الطلبة المعتصمين، بالضرب والتكسير ورش الفلفل في وجوههم وأمام كاميرات الإعلام، ولم تَسلَم الهيئة التدريسية من الاعتداء الذي طال المحاضر الجامعي الدكتور ناصر الشاعر الذي كان حاضرًا بطلبٍ من الجامعة لحل الأزمة.
صور من اعتداء أمن الجامعة على اعتصام الطلبة في حزيران/ يونيو 2022
انتشر المسلحون في محيط الجامعة، وسرعان ما انتشرت الفيديوهات المسجلة لشتى وسائل الإعلام لتصبح قضية رأي عام. أصدرت الجامعة بيانًا تتهم فيه الكتلة بمسؤوليتها عن توتير الأجواء وتحملها المسؤولية، وتحول الدوام إلى الإلكتروني عن بُعد لمدة يومين تجنبًا للصدامات، مما زاد من غضب الحراك الطلابي وبقية الطلبة فأعلنوا عن الإضراب الشامل ومقاطعة الدوام، ولأول مرة منذ تاريخ الانقسام ينجح الطلبة، وبقرار ذاتي موحد ومستقل، في تعطيل الدوام الجامعي الإلكتروني والوجاهي في مواجهة تغول الأمن الجامعي وضد سياسات الإدارة، الأمر الذي أحرج إدارة الجامعة وأحدث هزةً في مجلس الأمناء الذي قرر تشكيل لجنة تحقيق بصلاحيات واسعة، صدرت على إثرها قرارات تاريخية تتمثل في عزل رئيس جهاز الأمن وفصل بعض عناصره وإعادة هيكلة للجهاز بحسب مدونة سلوك تضبط وصفهم الوظيفي وتقلص من صلاحياتهم، وقدمت الجامعة اعتذرًا علنيًا لطلبتها وأبنائها بعد تبرئتهم وتعهدت بعدم تكرار ذلك، وبالرغم من أن موقف الطلبة كان عاملًا من مجموعة عوامل أخرى داخلية وخارجية أدت في مجموعها إلى هذا القرار، لكن الأحداث بدت انتصارًا للوعي الطلابي أمام محاولات تشويهه وصهره، وهو ما يحتاج إلى مراكمة وبناءٍ وعملٍ دؤوب لتأسيس معادلة التوازن وتثبيتها من جديد، ولعل في حرص الكتلة الإسلامية في الجامعة في مطلع تموز/ يوليو، على استثمار هذا التحول بتنظيم مهرجان حاشد لتخريح الطلبة، لم يخل من الشعارات السياسية والدعائية التي تنوه بنضالاتها وشهدائها وأسراها، ما يمكن عدّه خطوة أولى على طريق منع العودة إلى الوراء.
مهرجان الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح (تموز/ يوليو 2022)
خلاصات الأزمة وآفاق الحلّ..
من خلال هذا السرد التاريخي لحال الحركة الطلابية في مرحلتي ما قبل الانقسام وبعده والتغيرات التي حصلت على صعيد العلاقة مع إدارة الجامعة، فإنه يمكن التوصل إلى عدة نقاط تساهم في تشخيص الأزمة.
- الحركة الطلابية
أظهرت الحركة الطلابية قبل الانقسام قدرًا من التماسك والترابط، خصوصا في انتفاضة الأقصى، وبرغم كل الاختلافات التي كانت تصل أحيانًا حد المناوشات والاشتباكات بالأيدي بين الكتل الطلابية المختلفة، إلا أنه يمكن القول إنّ الأطر الطلابية حافظت على موقفها العام في كثير من القضايا النقابية والوطنية، وكان المناخ السياسي والحالة النضالية في الساحة الفلسطينية عاملًا جوهريًا في خلق هذا الارتباط، فالحركة الطلابية هي انعكاس لحالة الفصائل خارج الجامعة، ولذلك أيضًا حصل التنافر الشديد في مرحلة ما بعد الانقسام انعكاسًا للظرف السائد، وهو ما سبق وصفه من انتقال سياسات السلطة إلى حركة الشبيبة وبالتلاقي مع مصلحة إدارة الجامعة، وكان ثمن هذا التحفز لاغتنام الفرصة لإقصاء الخصم السياسي، هو الغياب عن الواقع النقابي والتساوق مع الإدارة، مما ألقى بظلاله على مجمل العمل النقابي داخل الجامعة فضلاً عن الخطاب السياسي وعلاقات الكتل ببعضها، وذلك في حين أن كتل اليسار لم تكن مؤثرة بالقدر الكافي، ولم تكن مستقلة في قراراتها عن أحزابها خارج الجامعة، وقد كان الأمر كذلك قبل الانقسام في أجواء بدايات الخصومة بين حركتي حماس وفتحح، كما حصل في انتخابات (2006) حين فازت الكتلة على الشبيبة بفارق أصوات مع تساوي المقاعد، وامتنع الإطار الطلابي للجبهة الشعبية من التحالف معها في ذلك الحين، بقرار من قيادة الجبهة، مما يكشف عن طبيعة الموقف لاحقًا بعد تعمق الانقسام.
- تنظيم الكتلة الإسلامية
يجري تناول الكتلة الإسلامية بالبحث، أكثر من بقية الكتل لحجمها ودورها في مقابل حركة الشبيبة الطلابية التي باتت تمثل امتدادًا لسياسات السلطة الفلسطينية، ولكون الكتلة الإسلامية الطرف الذي عانى الاستهداف المباشر من مختلف أطراف القضية (السلطة وأجهزتها، والشبيبة، وإدارة الجامعة)، ولانعكاس تحجيم الكتلة الإسلامية، بسبب حجمها ودورها، على عموم الحركة الطلابية واتصال ذلك بعموم المجال العام.
كانت الكتلة الإسلامية قبل مرحلة الانقسام تتمتع بقدر من التعافي في كيان تنظيمي له مؤسسات وأجهزة بكوادر وعناصر فاعلة، الأمر الذي ساعد على تراكمية التجربة ونقل الخبرات للأجيال والأفراد وبشكلٍ دوري من خلال الانتخابات والفعاليات، فكانت الكتلة قادرة على امتصاص الصدمات التي نتجت عن استهداف كوادرها وقياديها خصوصًا وأن كيان الكتلة لم يتعرض لضربة مباشرة استئصالية في تلك المرحلة، فالكتلة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى بداية الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) لم تتعرض لاستهداف مباشر من الاحتلال بحكم عدم دخوله لمنطقة "أ"، فانحصر استهدافها في حينه بالسلطة الفلسطينية، ومع بداية انتفاضة الأقصى واجتياحات المدن تراجع دور السلطة، وصار الاحتلال هو الذي يستهدف الكتلة وكوادرها.
في مرحلة الانقسام وما بعده تعرضت الكتلة لضربات متعددة من الاحتلال والسلطة وإدارة الجامعة خصوصًا بعد تضخيم دور الحرس الجامعي حتى أصبح جهازاً قمعيًّا، وفقدت الكتلة الإسلامية لأول مرة بُنيتها وكيانها بصورة كاملة، وكان واضحًا مدى التركيز للقضاء عليها لا لإضعافها فقط، لا سيما وأن القضاء عليها في جامعة النجاح سينعكس على المجال العام في نابلس عمومًا ومجمل شمالي الضفة الغربية.
بسبب سياسات استهداف الكتلة الإسلامية، وحالة الاستنزاف التي فرضت عليها، انقطع التواصل حتى بين الجيل الواحد، وامتنعت القدرة على مراكمة التجربة وتوريث الخبرة، والأمر الأهم في ذلك كله هو تحوّل الكتلة الإسلامية من كيان تنظيمي إلى أفراد يقودون العمل ويحركون القواعد من خلال الأنشطة والفعاليات دون الاستناد إلى هياكل وأسس وخطط مسبقة وبرامج مستقبلية، وهو ما يعني سرعة ملاحقتهم واعتقالهم بمجرد ظهور نشاطهم.
وبغياب المساحات التنظيمية والتعبوية الكفيلة باستيعاب هذا الاستنزاف وتعويضه، سيبقى الموقف رهين الفراغ التنظيمي الخالي من المراكمة والمتابعة على الإنجازات الماضية، ولن يكون ثمة إمكانية جادة لمعالجة الأخطاء السابقة، ولتجاوز الارتباك والارتجال والتردد.
وحين الحديث عن الكتلة الإسلامية والاستهداف الذي تعانيه، فإنه ينبغي التنويه إلى أن ذلك جزء من حالة الهيمنة على المجال العام في الضفّة الغربية، باستثمار الانقسام وتركيز الاستهداف لحماس، التي باتت غير قادرة على إسناد كتلتها بالكوادر القادمين من المدارس والمساجد، وبالتوجيه والإرشاد، فضعف الحركة في الخارج انعكس على الكتلة، والعكس صحيح في الوقت نفسه.
- إدارة الجامعة والأمن الجامعي
نجحت إدارة جامعة النجاح في مرحلة ما قبل الانقسام في محافظتها على معادلة التوازن وحفظ العلاقة مع كل الأطراف، كان ذلك لأسباب كثيرة منها قوة الحركة الطلابية والمناخ السياسي العام، وساعد على ذلك طبيعة شخصية رامي الحمدالله الحريصة على الاحتفاظ بصورة الوحدوي ومدّ الجسور مع الجميع، لكن إدارة الجامعة بعد الانقسام اتخذت قرارًا واضحاً بالانحياز التام للسلطة، فشرّعت كل أبوابها للأجهزة الأمنية وللشبيبة الطلابية، وشرَعت في سياسات تهدف للقضاء على الحركة الطلابية ككل مستغلة الظرف السياسي، واستهدفت الكتلة الإسلامية على نحو خاص أظهر عدم توازنها في كثير من البيانات والقرارات، وسمحت للحرم الجامعي أن يتحول لثكنة أمنية، فأحدثت تحولات مدروسة في الحرس الجامعي.
كانت العلاقة ما قبل الانقسام مع الأمن الجامعي مستقرة نوعًا ما، وتقتصر مهمتهم على المحافظة على إجراءات الجامعة وقراراتها، وبالرغم من حصول عدة اعتداءات منهم خصوصًا في (2005-2006) على الحركة الطلابية كانت تصل أحيانًا لاستخدام أسلحة نارية إلا أنها كانت توصف بأنها أعمال فردية، فقد كان بعض أفراد الحرس الجامعي من أفراد الأجهزة الأمنية أو المتعاونين معها، لكن بعد الانقسام تضخم الحرس الجامعي ليصبح جهازًا أمنيًا مسلحًا، وتحولت تجاوزات أفراد الحرس إلى مظهر عام للجهاز، وقدا بدا ذلك تجليًّا لإرادة أمنية للسلطة تسعى لترسيخ نفسها داخل الجامعة من خلال حرس الجامعة تلاقت مع إرادة الجامعة التي كانت تسعى لتحجيم الحركة الطلابية، وقد تعزّز ذلك بعد تسلم الحمدالله رئاسة الوزراء في عام (2013) حيث عبرت من خلاله بحكم موقعه السياسي سياسات السلطة إلى الجامعة على نحو أكثر عمقًا، وقد تركز عناصر الأمن الجامعي من منطقة واحدة لتسهيل ضبطه ومنع التسيب داخله.
وأخيرًا
يمكن الخروج من هذا العرض الموسع للسياقات التاريخية والسياسية لأزمة الحركة الطلابية في جامعة النجاح، خطأ خيارات الحركة الطلابية التي تجاوبت مع اجتهادات داخلية نادت بإرجاء أولوية العمل الطلابي، وتجميده تجنبًا للصدامات والاستهدافات، فضعف الحركة الطلابية كان ضمانة لضعف المجال العام برمّته، كما أن الأنانيات الضيقة، والسياسات الحزبية والطلابية التي لم تلحظ خطورة استهداف الحركة الطلابية باستهداف الكتلة الإسلامية، واستهداف المجال العام باستهداف حماس، قد أفضى إلى حالة كارثية على المستوى الوطني والسياسي والاجتماعي والنقابي، وهو ما يبدو أن ثمة محاولات لتجاوزه بأنماط من التنسيق والتعاون على قاعدة استنهاض المجال العام والتلاقي على أرضية المقاومة.
كما أنه من المتوقع بعد مشكلة الحرس الجامعي، والاعتداء على الحراك الطلابي المستقل، والإضراب الطلابي العام الناجح، وقرارات مجلس الأمناء التي ذهبت باتجاه مغاير لسياسات إدارة الجامعة في السنوات الأخيرة، أن تدرك الأطراف المعنية بجامعة النجاح، الأضرار التي لحقت بالجامعة محلّيًّا ودوليًّا، جراء الصورة التي تَصدّرها الأمن الجامعي، والواقع المتمثل بتعطيل الحياة الطلابية سنوات متتابعة، وذلك بالمقارنة مع جامعة بيرزيت التي ظلت تجري فيها الانتخابات، وتفوز بها الكتلة الإسلامية، بالرغم من كونها امتدادًا للخصم السياسي للسلطة الفلسطينية، الأمر الذي جعل من جامعة بيرزيت، ومن مثابرة حركتها الطلابية، والأنماط التعاونية التي جمعت عددًا من الكتل فيها سواء في مواجهة سياسات السلطة أم بعض سياسات إدارة الجامعة.. نموذجًا يحتذى.
[1]. كُتبت هذه المادة قبل حادثة إطلاق النار على الدكتور ناصر الشاعر بتاريخ 22 تموز/ يوليو 2022 في بلدة كفر قليل، في ما يبدو أنه غير بعيد عن أحداث جامعة النجاح. * التحرير.
[2]. انظر قرار رقم (54) لسنة 2008م بشأن إعادة تشكيل مجلس أمناء جامعة النجاح، https://bit.ly/3AZCqwm
[4]. نص القانون الأساسي المعدل على أنه لا يجوز لرئيس الوزراء "طوال مدة وزارته أن يكون عضواً في مجلس إدارة أي شركة أو أن يمارس التجارة أو أي مهنة من المهن أو أن يتقاضى راتباً أخر أو أي مكافآت أو منح من أي شخص آخر وبأي صفة كانت غير الراتب الواحد المحدد للوزير ومخصصاته."، كما نص قانن الخدمة المدنية، ودليل الموظف العام على أنه: يحظر على الموظف " الجمع بين وظيفته و بين أي عمل آخر يؤديه بنفسه أو بالواسطة".
[5]. نص قانون رقم (11) لسنة 1998 بشأن التعليم العالي على: "يرأس كل مؤسسة تعليم عال شخص يتفرغ لهذه المهمة ولا يعمل لدى أية مؤسسة أو هيئة أخرى، على أن يكون رؤساء الجامعات من حملة مرتبة الأستاذية."
[7]. بخصوص تاريخ حظر الكتلة، راجع: دلال باجس، الحركة الطلابية الإسلامية في فلسطي.. الكتلة الإسلامية نموذجًا (رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2012): ص36 - 37
[8]. انظر: "الحق" و"الميزان" تجرينا تحقيقًا توثيقيًا بخصوص أحداث جامعة النجاح وتطلبان الجهات المختصة بالتحقيق في حيثياتها وفي ظروف مقتل الطالب رداد،https://bit.ly/3aNdrSj
[9]. بيان هام صادر عن الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح الوطنية.. حماية الطلبة من الملاحقات والتهديدات والاعتداءات .. دستورية وقانونية العملية الانتخابية، 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2008