جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ .. (1) بُنية الحرب

جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ .. (1) بُنية الحرب
تحميل المادة

"شعبُ إسرائيل؛ لم يتصالح ولن يتصالح أبدًا مع بترِ أيّة قطعة أرضٍ من جسد الوطن".

-       مناحيم بيجن، 3 أيلول/ سبتمبر 1947

 

"دافيد بن غوريون، الذي أبقى اتفاقيّة ما قبل عام 1948 كما هي [اتفاقيّة بينَ إسرائيل والمملكة الأردنيّة]، وصفَ قرار السماح للأردن بالسيادة على الضفة الغربية، بـ 'البكاء للأجيال' (Crying for generations) وهو ما يعني حرفيًا أن الأجيال القادمة ستندب القرار. قد تختار الترجمة المجازية لكلماتهِ على أن القرار خطأ تاريخيّ فادح"[1].

-       إيلان بابيه

 

شهدت المنطقة والأمّة العربيّة بأسرها حربًا في عام 1967 أعادت تشكيل المنطقة، باعتبارها "كارثةً" في جميع معانيها السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والدينيّة، إذ إنّ عام 1967، هو المرحلة الثانية والأكثر تأثيرًا في هذا المجال الجغرافي والسياسي من نواحٍ عدّة، في تجسيدات المشروع الصهيونيّ في المنطقةِ. لذا علينا تحديد عدّة ملامح لدراسةِ جذور الحدث، ومعانيهِ، وتسلسلِ تواريخهِ المتشعّبة في ممارساتٍ وحيثيّات على مرور العقدين منذُ إعلان استقلال دولةٍ استعماريّة على الأراضي الفلسطينيّة التاريخيّة.

سنتفقّد في هذهِ الدراسة، الحرب من زاويةِ مجتمعِ المستوطنين، وضرورتها التاريخيّة لتثبيت المشروع الصهيونيّ ضمن الأبعاد التالية؛ العسكريّ/ الأمنيّ؛ الاقتصاديّ؛ الأيديولوجيّ. وجميعها تصبّ في استكمال التوسّع والاستيطان، لما هو أبعد من الحدود التي فرضتها حرب التطهير والطرد في عام 1948، ما يجبُ التركيز عليهِ ضمن هذهِ المهام هو قدرتنا على تحليل الخطاب الإسرائيليّ وفهمه، وفهم الدوافع والبنى التي جعلت من الحرب ممكنةً في ظروفٍ تاريخيّة معيّنة.

الدراسة تجتهد لفهمِ الحدث ضمن الضوابط التاريخيّة، ولاستيعابٍ حدودِه وخطابه، إذ إننا نحاول تجنّب الوقوع في مصيدةِ "التحليل بأثرٍ رجعيّ"، لذا ومن خلال تقسيم الدراسة على محورين في الزمن، الأول: استكشاف العوامل التاريخيّة البنيويّة للحدث، وفي هذا المحور نُركز على البنى التي يتأسس عليها المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين، وكيف تطوّرت تلكَ العوامل والبنى ضمن سياقات محدّدة أتاحت للحرب والتوسّع بالولوج، باعتبار أن الزمن في هذا المحور هو زمن البنية وتشكّلها. ثمّ المحور الثاني، هو زمن الأحداث اليوميّة، وهُنا سنحاول رصد التغيّرات والتفاعلات اليوميّة والأرشيفيّة عند المؤسسة الصهيونيّة ما قبل الحرب، وقُبيل الحرب وما بعدها، هكذا نستطيع تتبّع ثوابت الحرب ودوافعها الرئيسية كما تبثّها المؤسسة الصهيونيّة، ومن ثم فهمها.

ونخلق عبر المحورين، محورًا ثالثًا يبيّن لنا التداخلات بينَ البنى التاريخيّة والديناميكيّات اليوميّة عند المشروع الصهيونيّ وقيادتهِ وأجهزتهِ المتعدّدة، وكيف خلقت أساساتٍ جديدةً للمشروع بأوصافه المختلفة: حيازةً للأرض المقدّسة من جهةٍ، واستمرارًا للاستيطان/ العسكريّ العلمانيّ، واكتمالًا لمشروع السيادة الكولونياليّ، من جهاتٍ أخرى.

١٩٦٧

 

قراءة في البنية الاستعماريّة الاستيطانيّة

افتتحتُ النصّ بالاقتباسات، لتعطينا لمحةً حولَ الأهميّة الاستراتيجيّة التي يمثلها احتلال عام 1967 أو مشروع السيادة الكولونياليّة على فلسطين التاريخيّة؛ لـ "إسرائيل"، إذ إننا ننطلقُ في هذهِ الدراسة من مقولة أنّ "الاحتلال والتوسّع" هو مسار ضروريّ للاحتلال، وأن مقاومته في عام 1948 أعاقت مجال حركتهِ وهدّدت إمكانيّات توسّعه. في المقابل، فإن الأهداف البنيويّة تستمرّ في الوجود على مستوى الاستراتيجيّة العامّة والأجهزة العسكريّة، ولدينا عدّة طبقات بنيويّة لخيارِ الحرب والتوسّع الحاصل في عام 1967، والتي سنجتهد في كشفها، وربطها بالنظم الاستعماريّة الاستيطانيّة المحرّكة للصهيونيّة.

الحرب والتوسّع والسيطرة هي ممارسات تتعلّق بالبنية التأسيسيّة للمشروع الصهيونيّ، سأناقش بدايةً تنظيرات حولَ الصهيونيّة وممارساتها البنيويّة، نؤطّر ممارسة الصهيونيّة في مرحلةِ الإعداد؛ منذُ أواخر القرن التاسع عشر في حملات هجرة المستوطنين المكثّفة، مرورًا بإنشاء صناديق التمويل الأوروبيّة لـ "شراء الأراضي"، وصولًا إلى بناء المستوطنات والحاميات والكتائب المسلّحة والمشاريع الاقتصاديّة والزراعيّة والسياسيّة؛ وما تلا ذلك من مرحلة الإنشاء في عام 1948، إلى أن نصل مرحلة الاكتمال في عام 1967، بالمعنى الأيديولوجيّ، لا المادي.

ماذا أقصد بالحربِ الحتميّة أو الضروريّة؟ المقصود أنّ خيار الحرب هو الأكثر قبولًا عند المؤسسة الصهيونيّة ضمن شروط تاريخيّة تطورّت في ظلّ البنية الاستعماريّة الاستيطانيّة؛ وفهم ذلك يتطلّب منّا أولًا استيعاب مقولة البنية الاستعماريّة الاستيطانيّة وتطوّرها؛ ثمّ علينا فهم شرطها التاريخيّ في ستينيّات القرن الماضي، والتي أتاحت ودفعت بإمكانيّة الحرب.

أطّر فايز الصايغ مبكرًا، منذُ عام 1965، "إسرائيل" بوصفها دولةً استعماريّةً استيطانيّةً، تمتاز بثلاث صفات جوهريّة -ومن المهمّ الانتباه إلى أنّ مؤلّفه صدر قبل عام الحرب، وهذا ما يجعلهُ مهمًا من حيثُ مضمونهُ، وأيضًا من حيثُ موقعه في التأطير العربيّ الفلسطينيّ للمشروع الصهيونيّ الجاري-:

·      الصفة الأولى التي يتحدّث عنها هي العنصريّة؛ يرى الصايغ أن جذورها أوروبيّة استعماريّة، ولكن معانيها وتجسيدها في فلسطين، يختلف عن تجارب أخرى. فالعنصرية الإسرائيلية تمتلك ثلاث آليات: الأولى التفرقة الذاتيّة، أي أنّها تتأسّس على الفصل والتفرقة بينَ اليهود والعرب مقابل آليات "الاستيعاب والاندماج"[2].والآلية الثانية هي الاستثناء العنصريّ، بمعنى حصر مُجمل الحقوق ضمن مجال جغرافيّ سياسيّ (هو فلسطين)، في عرقٍ واحد، وهُنا يكمن الاستثناء العنصريّ، وتَجَسُّدُ ذلك في الممارسات التي اندرجت تحت العناوين التالية :"العمل العبريّ" و"احتلال العمل" و"احتلال الأرض" ومرحلة بناء المؤسسات العنصريّة الصهيونيّة. وأخيرًا تأتي الآلية الثالثة وهي التفوّق العنصريّ، الذي انتهى إلى طردِ الفلسطينيين من أرضهم، إذ إنّ التفوّق العنصريّ يتأسّس على التفرقة والفصل، ثمّ الاستثناء، وأخيرًا التفوّق، بمعنى تشريع عمليّة الطرد والتهجير في عام 1948، ضمن محرّك تفوّق اليهود الذي يقود إلى "تطهير الأرض" ممّن لا يرضون بهذهِ المقولة.

 

·      الصفة الثانية هي "العنف والإرهاب": إن ما يميّز الصايغ هو عمله على تحديد الصفات الجوهريّة، أو الملامح البنيويّة للمشروع الصهيونيّ، عبر التطوّر التاريخيّ لتشكّل بنيته تدريجيًا، فهو يسرد لنا تاريخًا زمنيًا للمشروع الصهيونيّ، ويسرد كذلك تطوّر صفاتهِ، أي تمظهرها ماديًا، وانكشافها في الواقع[3].

 

·      وتبعًا لذلك يطرح الصفة الثالثة، وهي التي تهمّنا في سياق النصّ، وهي ما يسمّيه "التوسّع الإقليميّ"، وهُنا يبرز تحليلهُ الذكي في نظره إلى الراهن، والثاقب في قراءته المستقبل: "إن التوسّع الإقليميّ يشكل العنصر الثالث للمخطّط الصهيونيّ. وفي هذا المجال أيضًا، استخدمت الصهيونيّة خدعتها المضلّلة، وهي الإنكار العلنيّ، حتى يمكنها إخفاء نواياها الحقيقيّة. ولا يختلف هذا العنصر الثالث، عن العنصرين السابقين إلّا في هذهِ النقطة: بينما هذان الهدفان قد تحققا وانتُزع القناع في نهايةِ الأمر، فإن الهدف الثالث (وهو التوسّع الإقليمي) يظلّ متحققًا جزئيًا ويظلّ الحجاب مرفوع جزئيًا".[4] وأضاف إلى ذلك في نهايةِ حديثهِ عن التوسع الإقليمي: "فإن العنصر الثالث وحدهُ هو الذي لم يزل غير متحقّق. وهذا هو العمل الذي لم يتمّ، للصهيونيّة. غير أن ذلك العنصر لن يلبث حتى يُصبح الشغل الشاغل في المستقبل للحركةِ الصهيونيّة والدولة الصهيونيّة"[5].

بالطبع نُشرت هذهِ الكلمات قبل أن تَشنّ "الدولة اليهوديّة" حروبَها التوسعيّة على الدولِ العربيّة والشعبِ الفلسطينيّ، باعتبار أن هذهِ الحرب هي تجسّد الصفة الثالثة التي تحدّث عنها فايز الصايغ، إذ إنّه لاحظ أن بنية "إسرائيل" تشير إلى عدم إمكانية التزامها بحدودٍ ما، ما يؤهلها دائمًا لاحتماليّات التوسّع وشنّ الحروب.

وفي هذا الصدد، رأى ماكسيم رودنسون أن العدوان في عام 1967 مُرتبط أساسًا ببنية الدولة التوسعيّة، وأَقتبس: "في عام 1948، وُضعت "نظرية الترانسفير" [الطرد والتهجير] موضع التنفيذ، ولم ينتج عن ذلك احتجاجٌ غربيٌ. لكن، في عام 1967، خرجت إسرائيل بوضوح من الحرب على أنّها قوة عدوانيّة، توسعية واحتلاليّة، أصبحت تحكمُ مساحات عربيةً جديدةً واسعةً بأعداد كبيرة من الجماهير"[6]. تتضح عند رودنسون العلاقة بينَ العدوان عام 1967 من جهةٍ، والطابع التوسعيّ من جهةٍ أخرى، في الدولة اليهوديّة. وبالنسبةِ إليهِ فإن الطابع التوسعيّ الذي تتّسم بهِ الدولة اليهوديّة، ناتج عن الطابع التوسعيّ الاستعماريّ الأوروبيّ، باعتباره المؤثّر على شروط تطوّر الصهيونيّة وممارساتها الاستعماريّة. قائلًا: "أتاحت أوروبيّة المنظّمة الصهيونيّة لهم تقديم مشروعهم على أنّه جُزء من حركة التوسّع الأوروبيّة التي كان كلّ فرد يُطورها بمفرده. ومن هنا جاءت التصريحات العديدة التي تشير إلى أنه من المصلحة العامة لأوروبا أو الحضارة الغربيّة، أو حتى من المصلحة الخاصة لهذهِ القوة الاستعماريّة أو تلك، دعم الحركة الصهيونية. كان هذا طبيعيًا تمامًا نظرًا للظروف التاريخيّة تلك الفترة".    

ولفتَ إسماعيل ناشف إلى أنّ الصهيونيّة تتجسّد عبر "صناعة الحدّ" في ثلاثة مواضع؛ الدمّ؛ الزمن؛ المكان (الغيتو المتخيّل)، إذ إنّ الطابع التوسعيّ للصهيونيّة ينبني على أساس "حدّ الدم"، الذي ينقسمُ إلى مجال أفقيّ، وهو ما يسمّيه بـ"الدمّ النازف"، إجابةً على سؤال عدم انكفاء الصهيونيّة في حدودٍ جيوسياسيّة، باعتبار أنّ "الدمّ النازف" يعبّر عن تتالي الأحداث الأفقيّة من معارك واحتلالٍ واستيطان، والتي تقوم بها الصهيونيّة بالتوازي مع القيمة العموديّة الثابتة لـ"حدّ الدم" الهادف إلى تشكيل الجماعة الصهيونيّة والكيان القوميّ- الاستعماريّ. وينتج عن العلاقات المركّبة بين الاثنين "الدافع المتضمَّن في بنية العلاقات الاستعماريّة- للتوسّع والسيطرة على أنواع من الفضاء وأزمنة جديدة".[7]



[1] Pappe, I. (2017). Ten myths about Israel. London ; New York : Verso, 2017, p92

[2] فايز، الصايغ (1965). الاستعمار الصهيوني في فلسطين، مطبوعات أفريقيّة آسيويّة (22). مركز البحوث بمنظمّة التحرير الفلسطينيّة. 28- 39

[3] المصدر نفسهُ. 39- 41

[4] المصدر نفسه. 43

[5] المصدر نفسهُ. 47

[6] Rodinson, M. (1973). Israel: a colonial-settler state?. New York: Monad Press; distributed by Pathfinder Press. p16

[7] إسماعيل، ناشف. (2020). عمل الحدّ: قراءة مختلفة للصهيونيّة. مجلّة تبيّن للدراسات الفلسفيّة والنظريّات النقديّة، 9/ 34. صفحة 45-79