جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ - (2) مجريات الحرب وتمثّلات بنية التوسع

جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ - (2) مجريات الحرب وتمثّلات بنية التوسع
تحميل المادة

أ. الإعداد العسكريّ

"شعبٌ تعرّض للعدوان ويُدافع عن نفسهِ وينتصر- إنهُ حقّ مقدّس لهُ أن يقرّر بشكلٍ دائم وضعًا سياسيًا يضمن لهُ القضاء على مصادرِ العدوان، ولهُ الحقّ في الحفاظِ على ديمومة هذهِ الحالة، على الأقلّ ما دامت فترة العدوان لم تنقضِ"[1].

-       ليفي أشكول، رئيس الحكومة 1963- 1969

 

استكمالًا لما بدأناه في التأطير النظريّ للبنية والدولة الاستعماريّة الاستيطانيّة، وطابعها التوسعيّ، سنحاول استيعاب ذلك ضمن الشرطين العسكريّ والاقتصاديّ، اللذين حفّزا هذا الحدث (التوسّع) بوصفه المكوّن الأساسيّ للحدث الأكبر منذُ مرحلة التأسيس في عام 1948. المرحلة التي تلت الحرب التأسيسيّة 1947- 1949 (التطهير والطرد والاستيطان)؛ كانت مرحلة تشييد المستوطنات والمؤسسات والدولة والاقتصاد والجيش وتثبيتها، وفي المقابل تدمير بنية المُقاومة والوجود الفلسطينيّ السياسيّ للحفاظ على المكتسبات؛ وقد نضجت في عام 1967. في كلماتِ أشكول، ماذا نجد؟ أولًا يبيّن لنا ضمنيًا الأهداف من وراء الحرب عبر تشديدهِ على مبدأ "الحفاظ على الوضع القائم"، أي الوضع "الذي توسّعت فيه إسرائيل"، بهدفِ مُصادرة شروط "العدوان" المضاد. وما يجب أن ننتبه لهُ أنّ شروط العدوان وجذوره هي في "إسرائيل" ذاتِها وبنيتها، بمعنى أنّه حينما يذكر "العدوان" أي المُقاومة الفلسطينيّة والعربيّة، فهو يبرّر ضمنيًا العدوان التالي الذي سيقوم بهِ أو قامَ بهِ في هذهِ الحالة، وهو عمليًا التوسّع في الأراضي الفلسطينيّة والعربيّة.

مثالًا على ذلك، أثناء المُحادثات أو المُحاولات لوضع أسس للاتفاقّ بينَ مصر والاحتلال على إمكانية وجود ممرّ برّي مصريّ في النقب مقابل إنهاء المواجهة بهذا الخصوص. وفقًا لـ "بابيه" أصدر "بن غوريون" من خارج السلطة قرارًا بالعدوان، من خلال إقناع قادة الجيش بشنّ عدّة عمليات عسكريّة استفزازيّة ضدّ القوّات المصرية في قطاع غزة أثناء إجراء هذه المفاوضات تحت ذريعة "العمليات المسلّحة"، ومن المهمّ أن نرى أثر هذهِ الحوادث التاريخيّة دليلًا على تطوّر الطابع التوسعيّ بالنسبةِ للبنيةِ الاستعماريّة الاستيطانيّة. إذ إنّ هذهِ الحادثة توضّح لنا أمرًا في غايةِ الأهميّة وهو أن الدولة بأجهزتها العسكريّة والسياسيّة تتجه دائمًا نحو الفعل العدوانيّ الذي يمكّنها من استمرارِ خلق دوافع وشروط للحرب. وأَخلُص إلى أنّ هذهِ الدولة بحاجاتها البنيويّة، تُنتج وتولّد وتوظّف الشخصيّة الصهيونيّة الملائمة، بمعنى أن شخصيّات دافيد بن غوريون و/ أو ليفي أشكول و/ أو موشيه ديان، تؤدي الدور البنيويّ للدولة[2].

من المهمّ أن ننظر إلى التطوّر التاريخيّ للعقيدة العسكريّة العدوانيّة/ الهجوميّة، التي تلت مرحلة التأسيس، وأجد في الكلمات التالية تلخيصًا مهمًا، لفهمِ هذهِ التطوّرات:

"بن غوريون، الذي كان يحمل وجهة نظر متشائمة، تحمل بُعدًا قدريًّا، للصراع العربي الإسرائيلي، كان من السهل إقناعه [بالعقيدة العسكريّة العدوانيّة]. في كانون الأول/ ديسمبر 1953، عندما تقاعد لأول مرة في سديه بوكر، عَيّن بن غوريون موشيه ديّان رئيسًا للأركان. كان ديان هو الرجل الذي غرسَ العقيدة الجديدة في جيش "الدفاع الإسرائيلي"، وأدّى دورًا مهمًّا في تغيير العقيدة على المستوى السياسيّ. وكان المعنى العمليّ للعقيدة الجديدة هو أن "إسرائيل" يجب ألا تترك المُبادرة في أيدي العدوّ. كان هذا استنتاجًا ثوريًا ولم يكن عاديًا، ولم يكن مقبولًا عند وزير الخارجية موشيه شاريت. ولكن بمجرّد اعتماد العقيدة الجديدة، كانت شبه نهائية. وامتنع الجيش الإسرائيلي عن الاستثمار على نطاق واسع في تحصين الحدود، وجرى إضعاف التخطيط الدفاعي الإقليمي، وخُصّصت المشتريات العسكرية بشكل أساسيّ لقوات الهجوم. ولّدت العقيدة الهجومية مصطلحين يُمثلان نهجين منفصلين: الحرب الوقائية والهجوم الوقائي. حُدّدَ المفهوم الأول الأكثر راديكاليةً مع موشيه ديان، بينما حَدّد الثاني قائد البلماخ السابق يغال ألون"[3].

موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي عام 1967، وعلى يمين الصورة إسحاق رابين رءيس أركان جيشه في العام نفسه، في القدس بعد احتلالها

ما أطرحهُ في هذا الصدد أن تكوين هذهِ التوجّهات العدوانيّة عقيدةً عسكريّةً واضحةَ المعالم، لم يكن إلّا ضمن السياق الذي تلا مرحلة التأسيس في عام 1948، إذ إنهُ، وكما ذكرنا، فإن أحد الأهداف التي تتداخل مع فعل الحرب والعدوان، هو الحفاظ على الواقع الكولونياليّ، الذي تأسس على الدمّ والطرد والتطهير؛ أي إنّهُ لا يجوز أن نفرّق بينَ ما تسمّيه القيادات العسكريّة الإسرائيليّة "الحرب الوقائيّة" أو "الهجوم الوقائيّ" وبينَ ما نسمّيه العدوان والتوسّع، إذ إن المفاهيم، ومنذُ عام 1948، تداخلت وأصبحت عمليًا واحدة.

ويبدو أن المُشكلة الأمنيّة والاستراتيجيّة التي تؤدي إلى شنّ العدوان لا تتعلّق بالتفاصيل العسكريّة، مثل سباق التسلّح الحاصل وخصوصًا في مجال الصواريخ، وإعداد بنية تحتيّة للقنبلة النوويّة. بل ترتبط بالدافع الرئيس، وهو محاولة "إسرائيل" الدائمة لوقاية واقعها بعد عام 1948 من العرب، وهذا يتلازم مع طابعها التوسعيّ. والمثال التاريخيّ الأبرز الذي يؤطّر لنا هذا التراكب بينهما؛ مشروع المياه القُطري باعتباره جُزءًا من "مكتسبات" مشاريع التخطيط الكبرى في الأراضي المحتلّة عام 1948، وفي الوقتِ نفسه، على إثر طابعها التوسعيّ أدّى المشروع مباشرةً إلى الأزمة التي جرت بينَ سوريّة و"إسرائيل" على وجه الخصوص، ثمّ أخذت أبعادًا أوسع.

بعدَ مرور عشر سنوات على الهدنة بينَ "إسرائيل" وسوريّة، تدهورت العلاقات، ثمّ تلا ذلك تغيير الوضع جذريًّا؛ جرى تعليق لجنة الهُدنة الإسرائيلية السورية، وسُدّت طُرق الحوار، فظهرت الأزمة في أعوام 1964 إلى عام 1965 وعلى أساس الخيارات بين إحباط "خطّة التحويل العربية" بالقوّة (أي تحويل أو إيقاف مسار المياه وفقًا للأمن القوميّ العربيّ)، أو التخلّي عن مشروع المياه بالكامل. علمًا أنّه في تلك الفترة من 1964 إلى 1965 دخلَت أجزاء من المشروع حيّز التنفيذ. ومن هُنا بدأت تهديدات مُتبادلة بينَ القيادات على أساس أزمة المياه، باعتبار أن الحرب خيار "لا مفرّ منه".

مع اقتراب نهاية عام 1965، اتخّذ ناصر خطوةً غير اعتياديّة بالنسبةِ للعديد من الجهات الإسرائيليّة والعربيّة، التي سيكون لها دور مهمّ في تبرير شنّ العدوان، إذ إنّه دعا إلى عقد مؤتمر قمة لجميع رؤساء الدول العربية في القاهرة. كانت الخلفية هي الانتهاء الوشيك من "مشروع المياه القُطري" الإسرائيلي، الذي أعلن العرب مرارًا أنه عملٌ عدواني سوف يردّون عليهِ بقوّة. ومن هُنا بدأت أصوات إسرائيليّة تعلو أيضًا تُطالب بالأمر ذاتهِ.

وفي نهايةِ العام ذاتهِ أيضًا، نشر عضو الكنيست، ووزير الأمن القادم إبّان الحرب، موشيه ديان، مقالاً في صحيفة "هآرتس" أعلن فيه أنه إذا ثبت أن قدرة "إسرائيل" الرادعة غير كافية لوقف أعمال التحويل المائي، فسيكون من الضروريّ القيام بعملٍ عسكري [عدوانيّ]. وجادلَ ديان في أن التنازل عن هذه القضية يؤثّر أولًا على ملّف أمن المياه، ومستقبل الدولة في هذا الصدد، ثمّ يزيد من احتمالات الأعمال العدوانيّة على المستوطنات.

وبرزَ، رئيس الأركان رابين في حديثهِ عن الحاجة إلى إعداد الجمهور الإسرائيلي (والحكومة) لاحتماليّة حرب عدوانيّة من جهةِ "إسرائيل"، إذ إنهُ "قد لا نملك مفرًّا من ذلك". وقال رابين لزملائه الضبّاط في هيئة الأركان "السؤال هو؛ ما هو الطريق الصحيح الذي يجب اتباعه… لإشراك وزراء الحكومة، في حربٍ صغيرة أو واسعة النطاق… كل من يفكّر بجديّة في الصدام يجب أن يعطي الجمهور اليهوديّ الشعور بأنه لا مفرّ من الصدام. [الحكومة] لن تختار الصدام إذا كان هناك طريق للخروج من خلالها… الطريقة الوحيدة هي مقولة أنّه لا بديل عن الحرب". هذان الاثنان (ديان ورابين) بوصفهما أهمّ رجلين في العسكريّة الإسرائيليّة، قاموا باعتماد/ بصناعةِ/ بتشكيل مقولة "لا مفرّ من الحرب"، بحيثُ إنّ الحرب تُلبي الحاجات البنيويّة لهذهِ المنظومة الاستعماريّة الاستيطانيّة، ضمن شروط تاريخيّة وفترةٍ زمنيّة، ويتجلّى الطابع التوسعي في هذهِ الحرب، إذ إنّ "إسرائيل" لم تكتف على سبيل المثال بعمليّة صغيرة ومحدودة في الأردن، بل قامت بالتخطيط لصدام مع الأردن بهدفِ احتلال مساحات أراضٍ شاسعة، وسنصل إلى هذه النقطة، ونفصّل أكثر على أساس الأرشيف[4].

 

ب. صُنع القرار العسكريّ

خصّص الباحث محمود محارب مقالةً حولَ هذا الموضوع تحديدًا، وصف مجريات صُنع القرار ومساراته بينَ الأقطاب والأجهزة والمؤسسات والقيادات المختلفة للدولة اليهوديّة والمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ؛ يفتتح الحديث عن ذلك من خلال فهم تأثير المؤسسة العسكريّة على نظيرتها السياسيّة، في تلكَ الفترة تحديدًا، كما يبدو أنّ المؤسسة العسكريّة هي التي اعتقدت بوجوب الحرب وأهميّتها، ثمّ بادرت إلى هذا الخيار.

وتمتعّت المؤسسة العسكريّة بالسيطرة على عدّة مجالات حيويّة ساهمت في الدفعِ نحو خيار الحرب، على سبيل المثال: 1) احتكار المؤسسة للواقع، أي سيطرتها على المعلومات والمعرفة فيما يخصّ الأمن القوميّ وتجسيداتهِ، إذ إن جهاز الاستخبارات العسكريّة "أمان" هو الموكّل رسميًا بفهمِ الواقع وتفسيرهِ ضمن مجال الأمن القوميّ والتهديدات المُحيطة بالدولة. 2) التأثير على الرأي العامّ، عبر علاقاتٍ وثيقة بينَ القيادةِ العسكريّة والمحررين والصحافيين والطاقم الإعلاميّ عمومًا. 3) تمتلك المؤسسة العسكريّة سيطرةً تامّةً فيما يخصّ صوغ "أهداف الحرب". ويرى محارب، أنه في نظرِ المؤسسة العسكريّة خصوصًا، فإن الحدود الجغرافية التي جرى السيطرة عليها في عام 1948 (حرب التطهير والطرد) لم تكن كافيةً، ومن الصعب الدفاع عن الدولة الناشئة حديثًا من خلال تلكَ الحدود، من منظورٍ جغرافيّ/ عسكريّ.

حينما استلمَ رابين الأركان العامّة، كان هو من دفع بالتخطيط الاستراتيجيّ لـ "إسرائيل"، نحو "التوسّع" حلًّا لمسألة الحدود، وللدفاع عن الأراضي المحتلّة عام 1948. حيثُ إنه مع توليهِ رئاسة هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيليّ في كانون الأول/ ديسمبر 1964، عقد رابين اجتماعًا للهيئةِ، أشارَ فيهِ إلى إمكان أن تبادر "إسرائيل" إلى شنّ حرب هدفُها "تدمير قوّة العدوّ" واحتلال مناطق جديدة. لذا ساهمَ رابين بشكلٍ كبير في الممارسة العمليّة لمفهومِ التوسّع وحماية الحدود من خلال اعتماد تكتيكات هجوميّة. وقد كان المنطق الذي استندت إليه فكرة التوسع، هو أنّ الدفاع عن "الموجود" (الأراضي المحتلّة عام 1948) يكون من خلال التقدّم والتوسّع إلى "المُمكن" (الأراضي التي ستحتل عام 1967).

وضع رابين منذُ عام 1964 أربع خطط عمليّة لتحقيق التوسع؛ الأولى "خطّة كلشون" (الشوكة أو السهم) وتستهدف أساسًا مصر، وهي تطوير للخطة الثانية خطّة "موكيد" (موقد)، وتعتمد الخطة في صيغتها النهائية على ضرب المطارات العسكريّة المصريّة، ليصبح من الممكن احتلال قطاع غزّة وسيناء، في أيّام معدودة. والخطّة الثالثة "فرجول" (الكرباج) وهي تستهدف الأردن؛ من خلال احتلال القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة، ثمّ الوصول إلى نهر الأردن في أقل من ثلاثة أيّام. والخطّة الرابعة جرى تطويرها في عام 1966، وهي موجّهة إلى سوريّة، وسميت بـ "الكمّاشة"، لاحتلال هضبة الجولان حتى العاصمة دمشق[5].

شارون وديان

صورة تجمع شارون وديان أثناء الحرب

ج. عن الرغبة العسكريّة في التوسّع

الرغبة الصهيونيّة في احتلالِ مساحات واسعة من الأراضي هي عمليّة تتداخل فيها عدّة عوامل؛ اقتصاديّة وأمنيّة وسياسيّة. لذا من المهمّ أن ننظر إلى الفعل في طبقاتهِ العديدة في سياقات تاريخيّة محدّدة، هي فترةِ الستّينيات على وجه الخصوص، يبيّن المؤرّخ آدم راز، في مقالةٍ صحافيّة قصيرة، أعدّها بناءً على أبحاثهِ وانغماسهِ في الأرشيف الإسرائيليّ أن "إسرائيل" خطّطت للحربِ والتوسّع قبلَ أعوام من موعد العدوان، حزيران/ يونيو 1967.

"كان رفع السرّيّة عن بعضِ الوثائق التي يستند إليها هذا المقال ضروريًا لتأكيد ما أصررت عليه لفترةٍ طويلة. وتُظهر هذه الوثائق الاستعدادات التفصيليّة التي أجريت داخل النظامِ العسكريّ في السنواتِ التي سبقت حزيران/ يونيو 1967، من أجلِ التنظيم المُسبق للسيطرةِ على الأراضي التي قدّر جهاز الأمن -بدرجة عالية من اليقين- أنها ستُحتلّ في الحربِ القادمة، وتبيّن مُراجعة الوثائق أنّ الاحتلال والاستيلاء على الأراضي -الضفّة الغربيّة من الأردن، وشبه جزيرة سيناء وغزة من مصر ومرتفعات الجولان من سوريا - لم يكن نتيجةً ثانوية للقتال، بل كان تعبيرًا عن مفهوم استراتيجيّ واستعدادات أولية"[6].

هذا الاقتباس يكشف لنا أن مُجريات الأحاديث والبروتوكولات كان تجسيدًا لاستراتيجيّة الحرب وهدفها الرئيسي: التوسّع، في مجال المنطقة العربيّة المحيطة بها. وفقًا لآدم راز، فقد قدّم قسم العمليّات "مقترحًا لتنظيم الحُكم العسكريّ" في حزيران/ يونيو 1961، وتجد فيه تخطيطًا مفصّلًا أوّلّيًا للقوّات المطلوبة التي تضمن فرض السيطرة على الأرض المحتلّة، إثر اندلاع حرب. وبعد عامين، في آب/ أغسطس 1963، أعدّت "هيئة الأركان العامّة" وعلى رأس الهيئة، يتسحاق رابين، أوامرَ عسكريّةً متعلّقةً بالأراضي المتوقّع احتلالها: الضفة الغربية، ومنطقة سيناء حتى قناة السويس، والجولان حتى دمشق، وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني. ويتبيّن أنّ هذهِ الأوامر موجّهة لـ "قسم الحُكم العسكريّ"، حيثُ قد تتطلّب المستجدّات العسكريّة، عند اندلاع الحرب فرض السيطرة بسرعةٍ كبيرة، وتدريب الجهاز والأقسام على تحمّل أعباء التوسّع، وعلى رأسها مسؤوليّة "المجموعة السكانيّة" الموجودة في الأراضي المحتلّة، و"إسرائيل" تُعِدُّ نفسها لضغطٍ سياسيّ كبير لإعادة الأراضي، "ومع ذلك، قد تنشأ حالة سياسية مواتية من شأنها أن تسمح بامتلاك الأراضي المحتلة لفترةٍ طويلة"[7].

الارتباط واضح بينَ الخبرات -في الضبط والمُراقبة والمحو الثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ-  التي جمعتها "إسرائيل" عبر الحُكم العسكريّ الذي فرضتهُ على المجموعة الفلسطينيّة داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 لتُمارسها على مجموعات فلسطينيّة وعربيّة أخرى كما سيحدث لاحقًا في منطقةِ الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة وأيضًا منطقة الجولان السوريّ. حيثُ إن مجموعةً من الخُبراء الإسرائيليين من الجيش والخدمات المدنيّة والأوساط الأكاديميّة خطّطت وكتبت ووضعت مرجعًا إزاء التعامل مع الكتل السكانيّة الفلسطينيّة التي ستقع تحت الاحتلال، بوصفها مرحلةً تتلو إلغاء الحكم العسكريّ المفروض على فلسطينيّي الداخل المحتلّ عام 1948، وبدورهِ أصبحَ نموذجًا بالإمكان الاستفادةِ منه[8].

نجد ذلكَ جليًا عند الضابط العسكريّ، يهوشاع فارفين، صاحب الخبرات الواسعة في مجال الضبط والرقابة التي مارستها الدولة إزاء "مواطنيها الفلسطينيين" حيثُ إنّه وضع أساسات النُظم والإدارة العسكريّة التي ستُفرض على الأراضي المتوقّع احتلالها كما ذكرنا. إذ إنّه قبلَ عامين من موعد الاحتلال في عام 1965، يتضّح عبر إخطارٍ كتبهُ لـ حاييم بار ليف -وهو في رتبةٍ أعلى منهُ- أن "جهوزيّتنا ليست تامّة لفرضِ السيطرة على الأراضي المتوقّع احتلالها".

وخَلصَ راز إلى أنّ الحكم العسكريّ إزاء الفلسطينيّين داخل "إسرائيل" من عام 1948- 1966 انتقلَ في بنيتهِ التنظيميّة، في الأشهر التي تلت حرب الأيام الستة، إلى ما سميّ آنذاك "دائرة الحكم العسكري والأمن المكاني"، واليوم تُعرف هذه الدائرة باسم مختلف وأكثر جاذبية "منسق عمليات الحكومة في المناطق".

وعندَ اطّلاعنا على أرشيف لجنة "الخارجيّة والدفاع الإسرائيليّة"، في أيّار/ مايو 1967 يتبيّن أن مسألة احتلال الأراضي وُضعت على الطاولة، على ثلاث مراحل بيّنها رئيس أركان الاحتلال حينها يتسحاق رابين، خُلاصتها:

-       المرحلة الأولى: هي انتشار خبر حول "التهديد العدوانيّ" الذي تعتزم "إسرائيل" تنفيذه ضدّ الأراضي السوريّة، وتحرّك القوّات الإسرائيليّة في المنطقة. بالطبع أنكرَ رابين ذلك ولم يعلم مصدر هذهِ "الإشاعات" كما يسمّيها. وخلال تلك الفترة لم يكن هناك تركيز للقوات الإسرائيلية على الحدودِ السورية، (وقفت سريّتان إسرائيليتان أمام ثلاثة أفواج سورية).

-       المرحلة الثانية: تتعلّق بالتطوّرات التي حدثت مع الأمم المتحدة وإجلاء القوّات، وذكرَ رابين أنه على علم بنيّة عبد الناصر بإجلاء القوات الدولية جزئيًا لا كليًا، وتغيير مواقعها، ومع ذلك عمل رابين على حشد قوات الاحتلال وتعزيزها لحرب شاملة.

-       المرحلة الثالثة: هي الإعلان عن إغلاق المضيق، وهو ما مهّد فعليًا للقتال كما يرى رابين. قائلًا: "في هذه المرحلة قمنا بتجنيد معظم الوحدات الميدانية للجيش الإسرائيلي. و«مجموعة الدفاع الإقليمية» ليست متأهبة بعد، بالإضافة إلى قوّات المشاة (Senior Infantry). لا يزال هناك عشرات الآلاف ممن لم يتمّ تجنيدهم". مضيفًا أنّه: "أمام التمركز المصري في الجنوب، والذي أقدّره بـ800 دبابة، نقف مع أرقام ليست أقلّ بكثير من عدد الدبابات المصرية، إذ إن النسبة ليست 2 إلى 1، بل أفضل بكثير من 2 إلى 1. علمًا أن «جيش الدفاع الإسرائيلي» ليس بأكملهِ في الجنوب، تتعدّد القطاعات التي يتمركز فيها، أمام الأردن وسوريا وبشكل رئيسي تركيز كبير أمام مصر". موضحًا أنّه في حال قامت مصر بهجومٍ مفاجئ نستطيع مُقاومتهِ دون جهد.

وهُنا انتهت مداخلة رابين، وسألهُ مناحيم بيجن "هل تنطبق النسبة نفسها على الشمال والشرق؟" وأجابهُ الآتي: "بالنسبة للشمال، لا، الشمال الحال فيه أكثر صعوبةً بسبب محدوديّة استخدام الدروع الناتج عن طبيعة التضاريس. أما بالنسبة للشرق، فأنا أقول إن النسبة أفضل من 2 إلى 1. وفي بعض الظروف لدينا أيضًا إمكانية مهاجمة الجيش المصري بهجومٍ لا يقضي عليهِ، بل يمكن أن يحقّق إنجازات إقليمية معينة"[9]. ولم يستمرّ رابين في الحديث تفصيليًا وأيّة "أقاليم" يقصدها، حينما سألهُ عضو الكنيست ورئيس الجلسة، دافيد هاكوهين حول الموضوع، أجابهُ رابين: "لا أريد الخوض في ذلك". وفي المجمل، فإن مداخلة رابين تؤكّد لنا أنّ التوسّع في حرب عام 1967 لم يكن حدثًا فجائيًا بل جزءًا من سيرورةٍ وطابع صهيونيّ[10].

قام المؤرخ الإسرائيلي موشيه شيمش بفحص المصادر الأردنية وخلص إلى أنه بعد أن هاجمت "إسرائيل" قرية السموع في قضاء الخليل، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1966، في محاولة لكسر المجموعات الفدائيّة الفلسطينيّة، أدركت آنذاك القيادة الأردنيّة أن "إسرائيل" تعتزم احتلال الضفة الغربية من خلال القوة 18. ولم يكونوا مخطئين كما تبيّن بعد أقل من عام[11].

وأطّر بابيه هذا المشروع التوسعيّ -خصوصًا إزاء الضفّة الغربيّة وغزّة- أنّه نابع من حماسٍ مجتمعيّ مسيانيّ واسع "لتحرير الأماكن المقدّسة اليهودية"، وعلى رأس هذهِ الأماكن "جبل الهيكل". إذ إن جميع الأطياف الصهيونيّة شاركت في هذهِ الهستيريا الحربيّة ذات الطابع الدينيّ/ العرقيّ؛ يساريّون ويمينيون، وأوروبيين استعماريّون في "إسرائيل" وخارجها.

لم تكن هناك أيّة نية إسرائيلية لمغادرة الضفة الغربية وقطاع غزة فور احتلالهم، وهذا ما أجمعت عليهِ القيادة الصهيونيّة، بل إن العديد من القادة الصهاينة انتظرَ هذهِ اللحظة منذ عام 1948. وأقتبُس من بابيه خلاصتهُ حول جذور الاحتلال في عام 1967 وفقًا للمنطق الصهيونيّ التوسعيّ:

"أودّ أن أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن الاستيلاء على الضفّة الغربية على وجه الخصوص، بمواقعها التوراتيّة القديمة، كان هدفًا صهيونيًا حتى قبل عام 1948، وقد كان مناسبًا لمنطق المشروع الصهيوني ككلّ؛ وخلاصة هذا المنطق هي الرغبة في الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين. يفسر هذا الإجماعُ والنشوةُ والسياق التاريخي سبب عدم انحراف أي من الحكومات الإسرائيلية اللاحقة عن القرارات التي اتخذها هؤلاء الوزراء، كان القرار الأول الذي اتخذوه هو أن إسرائيل لا يمكن أن تستمرّ بدون الضفّة الغربية"[12].

 

١٩٦٧

ما صار عليه الاحتلال الإسرائيلي بعد عام 1967 (المصدر: https://youtu.be/QKZ_m3n53hI)



[1] معاريف. (الثلاثاء 14.11.1967). "إسرائيل لن تعود إلى الوضع نفسهِ عشيّة الحرب". النصّ باللغة العبريّة

[2]Ilan Pappe. (2002). The Junior Partner: Israel’s Role in the 1958 Crisis, in Roger Louis and Roger Owen (eds.), A Revolutionary Year: The Middle East in 1958. London and New York. pp. 245–74.

[3]Gluska, Ami. (2007). The Israeli military and the origins of the 1967 war: government, armed forces and defense policy 1963-1967. London; New York: Routledge. p24

[4] Ibid. 22- 40

[5] محمود، محارب. (2017). عملية صنع قرار حرب حزيران/ يونيو 1967 في إسرائيل. سياسات عربيّة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عدد 26/ أيّار مايو. ص12- 24

[6] آدم، راز. هآرتس (04/06/2021). أربعة أعوام قبل حرب 1967 قيل في المجلس العسكريّ: في حالة سياسيّة مناسبة نستطيع ضمان السيطرة على الأراضي المحتلّة. النصّ باللغةِ العبريّة

[7] المصدر نفسه.

[8]  Pappe, I. (2017). Ten myths about Israel. London ; New York : Verso, 2017, p97

[9] استخدم رابينَ كلمة "Territorial" وهي تُحيل مباشرةً إلى مفهوم "مكاني/ مساحات/ أراضي" وقصدَ بوضوح الإشارة إلى أننا سنستطيع احتلال أراضٍ عربيّة.

[10] “Protocol number 62 of the Israeli Foreign Affairs and Defense Committee, Friday, May 26, 1967 at 4 pm, in The Kirya, Tel Aviv,” May 26, 1967, History and Public Policy Program Digital Archive, Israel State Archives. Obtained by Adam Raz

[11] Moshe Shemesh. (2008). Arab Politics, Palestinian Nationalism and the Six Day War. Brighton: Sussex Academic Press. p117.

 

[12]   Pappe, I. (2017). Ten myths about Israel. London ; New York : Verso, 2017, p102