جذور عدوان 1967: حفريّات في مشروع السيادة الصهيونيّ/ الكولونياليّ .. (3) الاقتصاد السياسيّ للحربِ والتوسّع
هدفُنا في هذهِ القطعة الأخيرة هو تأطير دوافع الحرب والتوسّع والاستيطان وممكناتها؛ كي نتمكّن من استيعابٍ كاملٍ لجذورِ هذهِ الحرب، علينا أيضًا فهم الدوافع التي تحدّثت بها أو أشارت إليها القيادة العسكريّة والسياسيّة، ولكن أيضًا، الواقع الذي خلقتهُ الحرب، هو أيضًا هدف ودافع لهذا الحرب، وإن كان بأثرٍ رجعيّ، حيثُ إنّ احتلال مساحات جغرافية؛ والاستيطان والمستوطنات؛ والقواعد العسكريّة وغير ذلك، مما خلفته الحرب يمكن أن ينظر إليه بوصفه دافعًا لها.
لنبدأ من الأرقام الأوليّة، قبلَ الحرب، تميّزت النشاط الاقتصادي خلال الفترة من 1961- 1965 بمستوى مرتفع من إجمالي الطلب لم يقابلهُ مستوى مكافئ من إجمالي العرض. نتيجةً لتباطؤ نموّ العرض كان الضغط يتزايد على الأسعار وبلغ متوسط التضخم 7.1٪ سنويًا خلال هذهِ الفترة. خلال الربع الأخير من عام 1964 والنصفُ الأوّل من عام 1965 ارتفع التضخم إلى مستوى سنويّ يبلغ حوالي 12٪، أثارَ هذا المعدّل المقلق مخاوف صانعي السياسة الإسرائيلية، من خروج التضخّم عن السيطرة.
ارتفع معدل البطالة بشكلٍ كبير كذلك، فالمعدل الذي وقفَ عند 3.3- 3.7٪ فقط في 1961-1965، وصلَ حتى 7.4٪ في عام 1966 ثمّ ارتفعَ إلى مستوى قياسيّ بلغَ 10.4٪ في عام 1967. فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل ما يزيد عن 33 ألفًا في عام 1965، وارتفع إلى ما يزيد عن 96 ألفًا في عام 1967. أدّى ارتفاع مستوى البطالة إلى هجرةٍ معاكسة إلى خارج "إسرائيل"، وفي المقابل انخفضت جاذبيّة الهجرةِ إلى "إسرائيل" والاستيطان فيها. ورغم أنه لم يمضِ على نشوء الدولة عقدان إلا أننا بدأنا نرى تراجعًا واضحًا في الفكرة المؤسّسة للدولة "العودة إلى أرض الآباء والأجداد"، حيثما تجد "العسل والحليب". وبالطبع هذا شكّل هاجسًا كبيرًا لدى صانعي القرار والقيادة العسكريّة والسياسيّة.
مستوطنة "ياميت" في سيناء
أصبحت الحرب أداةً مهمةً لحلّ هذهِ المُشكلات، وخصوصًا بعدَ فشل "السياسة الانكماشيّة" كما سيتضح أيضًا من خلال الأرقام، فأعادت الحرب، أولًا، تفعيل ثنائيّة الطلب- العرض من جديد، وهذا ما حقّق "المعجزات" للاقتصاد الإسرائيليّ، حيثُ إن التغيير الرئيسي في إجماليّ الطلب جاء من متطلّبات إحكام السيطرة على الأراضي الجديدة (سيناء وهضبة الجولان وغزّة والضفة الغربية) على شكل استثمارات كبيرة، على سبيل المثال: إنشاء قواعد عسكرية جديدة؛ وتوسيع انتشار القوات؛ وشقّ طرق جديدة؛ وتجديد المعدات العسكرية؛ وإعداد بنية تحتيّة ملائمة لتخزين الذخيرة وغيرها من المعدات العسكرية.
يتبّين أن الحرب ونتائجها وأهوالها، كانت سببًا في إحياء الاقتصاد الاستعماريّ الاستيطانيّ: حيثُ إن "الزيادة الكبيرة في إجمالي الطلب، عزّزت النشاط الاقتصادي، وكانت مسؤولة عن التحول الدراماتيكي في الاقتصاد". والسنوات الخمس التي تلت الحرب، حقّقت معدّلات نموّ مرتفعةً، وتجاوزت السنواتِ الخمس التي سبقت الركود، وهذا مؤشّر مهمّ لنفهم إلى أنّ نتائج الحرب لم تكن فقط علاجًا جيّدًا لمُشكلات "إسرائيل" الراهنة، مع أهميّة ذلك، ولكنّها كانت تحوّلًا استراتيجيًّا في مكانتها الاقتصاديّة. على سبيل المثال، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي في عام 1968 بنسبة 15.4٪، وبمتوسط 11.9٪ سنويًا في الفترة 1968-1972. وكما تحدّثنا سابقًا في سنوات الركود عن نسب مرتفعة في أرقام البطالة، نستطيع أن نرى الانخفاض السريع والمباشر والمستدام، من مستوى قياسيّ بلغ 10.4٪ في عام 1967، إلى انخفاض بلغ 2.6٪ فقط في عام 1973[1].
بالإضافةِ إلى ذلك، فإن إحدى نتائج الحرب واحتلال مساحات شاسعة بلغت أضعاف ما كانت تسيطر عليهِ "إسرائيل" قبلَ الحرب، هو الرفض الفرنسيّ لتصدير أسلحة ثقيلة للاحتلال، إذ إنها كانت الموّرد الأول قبلَ ذلك، طبعًا لم تُعلم بالضبط مدى جديّة المقاطعة، ولكن ما يهمّ هو القرار الذي صدرَ في "إسرائيل" لبدء صناعات أسلحة ثقيلة، وتقنيّة عالية، على مستوى واسع، وأصبحَ هذا الخيار متاحًا بعد استحواذها على الأراضي العربيّة. وشكّلت الحاجة إلى تطوير معدّات عسكرية متطوّرة، قوّةً لتغيير هيكليّ على مستوى الدولة والتخطيط العامّ، وهي الحالة التي لقبت لاحقًا بـ "الثورة الصناعيّة الصغيرة"، ونجد أنّ النفقات الدفاعية، للمنتجات الصناعية المحلية، نمت بنسبةِ 120٪ بين عامي 1967 و1972. وكان معدّل النموّ أكثر وضوحًا في صناعةِ الطائرات (232٪) وأنظمة الأسلحة المتطورة (رافائيل مثلاً بلغت 214٪) والإلكترونيات (218٪). كما ينعكس التغيير الكبير في الهيكل الصناعي بشكل جيد في أرقام التوظيف، فبينما نما التوظيف في الصناعة (غير العسكريّة) بحوالي 50٪ في 1966-1974، نما التوظيف في الصناعات العسكريّة والدفاعيّة في الوقت نفسه بنسبة 160-170٪.
ومن المهمّ رصد علاقة هذهِ الصناعات بالاستيطان اليهودي في فلسطين بشكلٍ عام، والأراضي المحتلّة عام 1967 وعلى رأسها الضفّة الغربيّة على وجه الخصوص، إذ أصبحت الضفة المساحة الأكثر استيطانًا من حيثُ العدد والسرعة، وفي صدارتها منطقة شرقي القدس، حيثُ إن الدفاعات والصناعة العسكريّة الفائضة كانت تُخصّص لحمايةِ المستوطنين، وهذا أيضًا جُزء من ديناميكيّة دفعِ الاقتصاد إلى الأمام، وفي المُقابل فإن عمليّة الاستيطان ذاتها هي عمليّة اقتصاديّة كما سنرى في ثلاثة محاور أساسيّة[2].
الأرض والزراعة: بعد الحرب، بدأت سلطات الاستيطان الإسرائيلية على الفور بوضع خطط بهدف توطين اليهود في وادي الأردن، وقد تضمنت هذه المخططات إنشاء عدد من المستوطنات الزراعيّة التي من شأنها أن تستند إلى المزايا المناخية لوادي الأردن، إضافةً إلى موضعتها عسكريًا لتكون خطًّا لوقف إطلاق النار مع الأردن. استندت هذه المرحلة الأوّليّة من الاستيطان الإسرائيلي إلى المفهوم الاستراتيجي والسياسي المتجسّد في "خطة ألون". وبما أنّ الأرض مورد مهم في الضفة الغربية، وتنبع أهميته من استخدامات متعددة في الزراعة والسياحة والصناعة، فقد طوّرت الصهيونيّة استراتيجيّة الاستحواذ على الأرض للاستيطان فيها، إما عن طريق المصادرة أو الشراء أو من خلال بناء القواعد العسكريّة.
عدّت "إسرائيل" نفسها صاحبة الملكيّة على الأراضي في الضفّة الغربيّة بعد الاحتلال؛ فقد بلغت الأراضي المسجّلة أراضي دولة 75 ألف هكتار، فيما كانت 50 ألف هكتار غير مسجّلة بشكل صحيح للملكية بموجب القانون الأردني، و32 ألف هكتار صنّفتها سلطات الاحتلال "ممتلكات مهجورةً".
كانت معظم الأراضي الصالحة للزراعة المصادرة هي أراض عربية خاصة، جرى نقلها إلى مستوطنات يهودية. فمن بين ما يقدر بـ 20 ألف هكتار من الأراضي القابلة للزراعة التي صادرتها "إسرائيل" للاستخدام الحصري للمستوطنات (حتى تموز/ يوليو 1982)، لم يزد ما كان تحت تصنيف أراضي الدولة عن ألف هكتار، بينما بلغت الأراضي الخاصة أكثر من 18 ألف هكتار، - أي: 5٪ أراضي حكومية و95٪ خاصة[3].
يبدو أنّ الأهداف السياسة الإسرائيلية قد تم الاقتراب منها في إطار نموذج "المحيط- المركز"، حيثُ تصبح "منطقة تل أبيب" (جوش دان) الحضرية نواةً، وتصير الضفّة الغربية محيطًا هامشيًا تابعًا لها، حيثُ إن عمق "تل أبيب" فعليًا هو الضفّة الغربيّة. وتحقّق بذلك: أولًا: استغلال القطاعات الاقتصادية الأساسية في الضفة الغربية، وخاصّة الزراعة والصناعة والتعدين والسياحة. ثانيًا: اقتلاع الفلسطينيين وإعادة توطينهم في مناطق جديدة خارج أراضيهم. ثالثًا: تطوير شبكة المواصلات وتوسيعها حتى تتمكّن المنظمة الصهيونية من توجيه تدّفق الموادّ من الضفة الغربية المحتلة نحو المناطق المركزية الإسرائيلية.
ومن هُنا نستطيع أن نعرض عمليّة اقتلاع "الفلاحة" من أراضي الضفّة الغربيّة، كما أنجزت العمليّة نهائيًا في الأراضي المحتلّة عام 1948، باعتبار الزراعة المورد الاقتصاديّ المعيشيّ الأوّل للفلسطينيين. كان التغيير الأول والأكثر تدميرًا هو إغلاق مساحات كبيرة من الأراضي العربية ومصادرتها، إما للاستيطان أو لأغراض عسكرية، حيثُ إنّ أكثر من نصف مساحة الضفّة الغربيّة لا يستطيع الفلسطينيون الوصول إليها، ويتبيّن أن الأراضي الزراعية العربية التي جرى الاستيلاء عليها بالفعل أكبر بكثير مما يدّعي الإسرائيليون رسميًا. نفّذت السلطات الإسرائيلية سياسةً زراعيةً ترمي إلى أن يصبح المزارعون العرب في وضع خطير، وعملت بشكلٍ منظّم على إضعاف الروابط بين المزارعين وأراضيهم.
الآليّات التي استخدمتها "إسرائيل" هي ربط الزراعة باحتياجات السوق الإسرائيليّة، وهذا أدّى إلى تدمير الفلاحة الفلسطينيّة بوصفها أساسًا معيشيًّا؛ وكان ذلك من خلال عدد من المسارات: الأوّل: قامت من خلاله "إسرائيل" بتهميش العمل الزراعيّ حيثُ لم يعد يحقّق متطلبات المعيشة الأساسيّة، وفي المقابل أصبحَ العمل المأجور في المستوطنات أكثر جاذبيّة بسبب الأجر المرتفع نسبيًا. الثاني: شجّعت الفلّاحين الكبار في "إسرائيل" من خلاله على زراعة الحبوب والزيتون ومحاصيل الزراعة الجافة الأخرى، لتغطية حاجاتها. وهذهِ الخطوات هدفت أساسًا لتحويل الضفّة الغربيّة منذُ احتلالها إلى مساحةٍ هامشيّة بالنسبةِ إلى المدن- مراكز الاقتصاد الإسرائيليّ. ومن هُنا نستطيع أن نقفز إلى المحور الثاني وهو العمل والصناعة.
مزرعة استيطانية في الأغوار
العمل والصناعة: الضفة الغربية غنيّة بالقوى العاملة، وخصوصًا بعد التدمير المنهجيّ للفلاحة، لهذا السبب كان من الممكن أن يَستوعب قطاع الصناعة هذهِ الأعداد الكبيرة من السكان. لكن الاحتلال بالطبع لن يتيح قطاعًا صناعيًّا عربيًا متطورًا، لذا واجهت الصناعة العربية (الصغيرة نسبيًا قبل الاحتلال) العديد من العوائق والقيود الناجمة عن سياسات سلطات الاحتلال- وفي المقابل، أخذ الاستيطان الإسرائيليّ شكلًا صناعيًا اقتصاديًا للنموّ والتطوّر. وازدادت تدريجيًا عدد المنشآت الصناعية في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية خلال السبعينيات والثمانينيات. في عام 1983، أنشئت ستّ مؤسسات صناعية على مساحة 125 هكتارًا موزّعة في عدد من المستوطنات.
كان هناك 46 منشأةً صناعيةً صغيرةً في المستوطنات حتى عام 1985؛ واستفادت هذه المنشآت من دعمِ "المنظّمة الصهيونية" بقيمة 20 ألف دولار لكل منها. ووضعت خطّة "100 ألف مستوطن في الضفّة"، وهي تسعى إلى إنشاء سبع مدن صناعية على مساحة 1375 هكتارًا. واجتذبت هذه المنشآت الصناعية أعدادًا كبيرة من العمال العرب الذين تركوا الفلاحة، أو من خرّيجي الجامعات العربية في الضفّة الغربيّة. غالبية الوظائف والمهن المخصّصة للفلسطينيّ؛ هي أشغال لا تحتاج مهارةً، بل هي أشغال شاقّة جسديّة كالبناء والعمل الزراعي، ووظائف الخدمات مثل التنظيف، والعمل في المطاعم، وما إلى ذلك؛ باعتبار أنّ هذهِ الأشغال هي في أدنى سلّم الأجور الاسرائيليّة.
المنطقة الصناعية التابعة لمستوطنة "بركان" التي أقيمت غرب سلفيت عام 1982
استغلال المياه: عملت "إسرائيل" مباشرةً على سلبِ المياه كما عملت على سلبِ الأرض، وخصوصًا موارد المياه الأساسيّة في الضفّة الغربيّة، فقد عرقلت السياسات المائية الإسرائيلية بشكل عامّ التنمية العربية. في المقام الأوّل، الإسرائيليّ لا يهتمّ بتطوير الثقافة الزراعية الفلسطينية التي قد تنافس إمكانيّتهم. بالإضافةِ إلى أنّ المستوطنين عمومًا حيثما كانوا يستهلكون معدّلًا مرتفعًا للغاية من المياه، لا سيّما من يعمل منهم في قطاع الزراعة المروي بكثافة، والذي يستهلك حوالي 75٪ من إجمالي حجم المياه المستهلكة كل عام.
ونتيجةً لذلك، وضعت ضوابط صارمة على استخدام الفلسطينيين للمياه داخل الضفّة. وتزداد المعاناة تدريجيًا من نقصِ المياه في أشهر الصيف الجافّة كلّ عام. وتعمل "إسرائيل" على تفعيل آليّات المراقبة الاستعماريّة، من خلال قياس الآبار، فتعاقب الفلسطينيين الذين يضخّون فوق الحدّ الأعلى؛ كما تحظر السلطات بشكل عام حفر آبار جديدة. على العكس من ذلك، فإن المستوطنات اليهودية ليست مقيّدة في استخدام المياه، ويسمح لها بحفر الآبار العميقة. على سبيل المثال، حفر المستوطنون في وادي الأردن حوالي 20 بئرًا تتراوح أعماقها بين 400-700م. ويبدو أن هذا أدى في عدة حالات إلى جفاف الآبار العربية الضحلة المجاورة أو انخفاض تدفقها، ومن أفضل الحالات الموثّقة آبار العوجا وأريحا وغيرها في وادي الأردن.
وتجدر الإشارة إلى أن المياه الجوفية الساحلية معرّضة الآن لـ"خطر التملّح" بسبب استخدام الإسرائيليين المكثّف لها، فحوالي ثلث موارد المياه الحالية في "إسرائيل" مستمدة من المياه الجوفية في منحدرات الضفة الغربية. من الواضح أن هذا يجعل السيطرة على موارد الضفة الغربية أمرًا بالغ الأهمية- ليس فقط لمنع الفلسطينيين من استغلال مواردهم المائية بحُرّية، ولكن أيضًا لتلبية احتياجات كل من الإسرائيليين، لا سيما مستوطني الضفة، من المياه. وعلى إثر ذلك فرضت السلطات الإسرائيلية حظراً (مع استثناءات قليلة) على حفر آبار عربيّة جديدة لأغراض الريّ، هادفةً إلى الحفاظ على طبقات المياه الجوفية في الضفة الغربية لصالح المستوطنين.
صورة لبدايات العمل الإسرائيلي على تحويل مياه نهر الأردن من شماليّ فلسطين المحتلة إلى النقب
[1] Ben-Zion Zilberfarb (2018): The short- and long-term effects of the Six Day War on the Israeli economy, Israel Affairs, DOI: 10.1080/13537121.2018.1505476
[2]Ibid.
[3] Saleh, H. A. K. (1990). Jewish Settlement and Its Economic Impact on the West Bank, 1967-1987. GeoJournal, 21(4), 337–348. http://www.jstor.org/stable/41144845