جهود الفصائل لإحياء المقاومة في الضفة (1): حماس والضفة .. في البحث عن بعثٍ مقاوم
على سبيل التقديم..
تُكتب هذه المقالة، لتكون باكورة سلسلةٍ من المقالات التالية التي تحاول التأريخ للجهد الفصائلي في استنهاض حالة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة منذ ما بعد انتفاضة الأقصى وحتى اليوم. ومع التأريخ تقرأ المقالات في طبيعة هذا الجهد، وأهميته، وآفاقه، والثغرات التي حالت دون تطوره، وإمكانات البناء عليه.
تنطلق هذه المحاولة من الإيمان بأهمية الفعل المنظم في أي حالة ثورية أو مقاومة، لأنّه الفعل الأقدر على الديمومة والتطور والتمدد والرسوخ زمانًا وجغرافيا، كما أنّه فعل تزداد صعوبة تفكيكه على الاحتلال نظرًا لتمدده العمودي والأفقي.
تبدأ هذه المقالة بـ "حماس"، الفصيل المقاوم الأهم والأكبر منذ سنوات ما بعد أوسلو، الفصيل الذي كان العمود الفقري الأساس لانتفاضة الأقصى مطلع الألفية الجديدة، مع بوادر حالة ثورية جديدة في الضفة.
التحرير
"أتحدث إليكم اليوم وكلي يقين أن غزة بداية المشوار، وما تضحيات أهلنا في جنين ونابلس والخليل ورام الله والقدس وبيت لحم وطولكرم وقلقيلية، وكل مدننا وقرانا ومخيماتنا في الضفة إلا مبشرٌ بأن المرحلة القادمة بعون الله ستكون دحر الاحتلال من عندكم، فشمروا، ولنشمر جميعًا، ولا نقول لكم إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدم الدم، والهدم الهدم، فصبرًا وثباتًا على درب المقاومة وطريق النصر"، كانت هذه رسالة القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف بعد تحرير قطاع غزة، عام 2005، بعد انتفاضة امتدت لسنوات كان للضفة الغربية دورٌ مركزيٌّ في فعلها العسكري.
تؤكد رسالة الضيف للمجتمع الفلسطيني، في الضفة الغربية، على مركزية العمل العسكري في ساحتها لدى العقل الاستراتيجي لحماس وجهازها العسكري، رغم ما يمكن تقديمه من ملاحظات على أداء الحركة في جوانب مختلفة، أضعفت أحيانًا قدرتها على المناورة والحركة في مجالات التنظيم والسياسية، في المنطقة الجغرافية التي تتوسط قلب فلسطين وتُجمع الأوساط الأمنية والعسكرية في دولة الاحتلال الإسرائيلي، على أنها "الخاصرة الرخوة" التي تهدد العمق الاستراتيجي لها.
التزام التنظيم الهرمي
التزمت حركة حماس وجهازها العسكري في مساعيها لإعادة ترميم ما تضرر من بنيتها، في الضفة والقدس المحتلتين، سياسة بناء تنظيم مركزي يقف على رأسه مسؤول أو أكثر ويتولى مهمة تنظيم كوادر، ويرتبط بصورة ما مع جهة تنظيمية، في الخارج أو غزة، وهي السياسة التنظيمية التي صاحبت سيرة الحركة وسيرورتها في العمل النضالي الفلسطيني، خلال السنوات اللاحقة على انطلاقتها، وإن اختطت في بعض المراحل استثناءات ما.
منذ نهاية انتفاضة الاقصى في 2005، اتحّدت مجموعةٌ من العوامل ليتَضاءَل على إثرها العمل المقاوم في ساحة الضفة الغربية إلى مستوياته الدنيا، فبالإضافة إلى تكسّر بنية المقاومة واستنزافها العميق بفعل الاجتياحات والاغتيالات والاعتقالات التي استمرت لسنوات الانتفاضة، برز كذلك التقدير السياسي لفصائل المقاومة بإمكانية استثمار نتائج الانتفاضة في تعزيز حضورها السياسي والشعبي من خلال الانتخابات، ما دفَع الكادر الأساس لهذه الفصائل للتوجه إلى هذا المضمار؛ ثمّ كان "الانقسام" الفلسطيني، الذي زاد من ضعف بنى فصائل المقاومة وتراجع حضورها، لا سيما حماس، في الضفة الغربية، وما رافق سنواته من قمع وتجريف للحالة الوطنية، ومحاولةٍ لخلق فلسطينيٍ جديد لا يؤمن بالمقاومة بالكلية.
غير أنّ كل هذه العوامل لم تقضِ على محاولات الفعل المقاوم تمامًا، ما يدلّ على تجذّره في مقولات حماس وتنظيراتها وعقليّة كادرها وجمهورها الأساسي، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2010، فتح نشأت الكرمي ورفيقه مأمون النتشة النار على مركبةٍ للمستوطنين قرب بلدة بني نعيم قضاء الخليل، اعترف جيش الاحتلال حينها بمقتل أربعة مستوطنين في العملية الأضخم بالضفة منذ انتهاء انتفاضة الأقصى. العملية كانت فاتحةً لمرحلة مطاردة خاضها الكرمي والنتشة، استمرت لعدة أسابيع، قبل أن يستشهدا في اشتباك مع قوات كبيرة من جيش الاحتلال حاصرتهما داخل منزل في الخليل.
الكرمي صاحب الشخصية القيادية والتنظيمية الفذة، كما يروي رفاقه وأصدقاؤه، كان له تجارب سابقة في العمل العسكري داخل حركة حماس، إذ اعتقل في عام 2004 بعد أن أصابته القوات الخاصة الإسرائيلية، واتهمته مخابرات الاحتلال لاحقًا بالانخراط في خلية لكتائب القسام خططت لتنفيذ عمليات ردًا على اغتيال الشيخ أحمد ياسين.
لم تقضِ العوامل المختلفة على محاولات الفعل المقاوم تمامًا، ما يدلّ على تجذّره في مقولات حماس وتنظيراتها وعقليّة كادرها وجمهورها الأساسي، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2010، فتح نشأت الكرمي ورفيقه مأمون النتشة النار على مركبةٍ للمستوطنين قرب بلدة بني نعيم قضاء الخليل، اعترف جيش الاحتلال حينها بمقتل أربعة مستوطنين في العملية الأضخم بالضفة منذ انتهاء انتفاضة الأقصى
بعد عملية بني نعيم، شنت مخابرات الاحتلال وجيشه حملة اعتقالات واسعةً في الخليل طالت عشرات الكوادر المحسوبة على حركة حماس، وأخضعت عددًا منهم لتحقيق عسكري قاسِ. التحقيقات التي أجرتها مخابرات الاحتلال كشفت عن بنية تنظيمية واسعة أقامها الشهيد الكرمي في الخليل، وربما امتدت إلى شمالي الضفة، إذ نفذ جيش الاحتلال عملية اغتيال لأحد أصدقاء نشأت المقربين، الأسير المحرر إياد شلباية الذي اغتالته القوات الخاصة وهو ينام في فراشه بين زوجته وأطفاله في منزله الكائن في مخيم نور شمس بطولكرم.
لم تكن البنية التنظيمية التي شكلها الشهيد الكرمي، المحاولة الوحيدة لحماس لإعادة بناء جهازها العسكري في محافظات الضفة الغربية. في رمضان 2011 بينما كان المصلون الذين تجاوزوا إجراءات الاحتلال الأمنية والعسكرية ووصلوا لإحياء ليلة القدر، في المسجد الأقصى المبارك، يستعدون لقيام إحدى أكثر الليالي قداسة للمسلمين، دخلت قوة خاصة من مخابرات الاحتلال وشرطته إلى المسجد، واختطفت الشاب سعيد القواسمي ونقلته إلى مركز تحقيق "المسكوبية".
اتهمت مخابرات الاحتلال سعيد بالتخطيط لتنفيذ عملية استشهادية، ضمن خلية لكتائب القسام كان على رأسها حسين القواسمي الذي يقضي الآن حكمًا بالسجن المؤبد. قبل اعتقال حسين كان قد شكّل خليةً وضم إليها الناشط في حماس، إسحاق عرفة من مدينة القدس المحتلة. بداية مهمات عرفة في الخلية كانت زرع عبوة ناسفة في المدينة المحتلة، أدت لمقتل إسرائيلية وإصابة أخرى.
اعتقال الخلية قاد مرة أخرى مخابرات الاحتلال إلى اكتشاف تنظيم عسكري جديد لكتائب القسام، مركزه في مدينة الخليل، التي ما زالت تعدّ من مراكز قوة حركة حماس في الضفة الغربية.
الملاحظة الأبرز في المرحلة ما بعد 2007، العام الذي شكل معلمًا فاصلاً في تاريخ حركة حماس، في الضفة الغربية، أن جهود جهازها العسكري تركزت في السنوات الأولى داخل الخليل، المدينة التي قيل إنها دخلت انتفاضة الأقصى "متأخرةً"، لكن مساهمتها في الفعل العسكري الفلسطيني كان له تأثيرات استراتيجية على مسار الصراع خلال الانتفاضة، وهنا يمكن قراءة استمرار المدينة في القدرة على العمل اللوجستي والميداني داخل التنظيم، لسنوات متأخرة بعد الانتفاضة، هو أن مستويات الاستنزاف كانت أقل من محافظات أخرى خسرت الصف الأول فيها والكوادر المتقدمة في الأجهزة السياسية والعسكرية في السنوات الأولى من الانتفاضة.
الالتزام بشكل التنظيم الهرمي والمجموعات كبيرة العدد، ينسحب أيضًا على المسارات السياسية والاجتماعية في الحركة، وهي ذات تأثير بكل تأكيد على المسار العسكري فيها، ويمكن قياس هذا الالتزام على التنظيم الذي أعلن الاحتلال في صيف 2014 عن كشفه بعد ضربة أمنية وعسكرية وجّهها له. زعم الاحتلال أن التحقيقات قادته إلى اعتقال عشرات الكوادر من حركة حماس، الذين توزعت مهماتهم بين العسكري والسياسي والدعم اللوجستي، بالإضافة إلى مصادرة عدة قطع سلاح ومبالغ من المال.
تتواتر جهود القسام في إطلاق عملياتٍ ضد الاحتلال في الضفة، عبر تجارب متعددة، في الخلية التي شكلها الأسير عاصم البرغوثي مع شقيقه الشهيد صالح البرغوثي، ووجهت ضربات لقوات الاحتلال والمستوطنين، وفي الخلية التي ضمت الشهداء أحمد زهران ومحمود حميدان وزكريا بدوان، الذين اغتالتهم قوات خاصة من جيش الاحتلال في جبال شمال غرب القدس المحتلة، وادعى "الشاباك" لاحقًا أنهم كانوا ضمن تشكيل عسكري لحماس، خطط لتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية في القدس والداخل، وضم هذا التشكيل نشطاء من جنين والخليل.
العمليات النوعية
أبرز العمليات في مسار حركة حماس لإعادة ترميم بنيتها التنظيمية العسكرية، في الضفة الغربية، كانت في صيف 2014. تمكنت خلية لكتائب القسام من خطف ثلاثة مستوطنين، تبيَن لاحقًا أنهم قتلوا خلال العملية ودفنوا في أرض قرب الخليل.
نفذ العملية الشهيدان عامر أبو عيشة ومروان القواسمي بإشراف حسام القواسمي، الذي يقضي حاليًا حكمًا بالسجن المؤبد ثلاث مرات، وهو شقيقٌ لشهيدين وللأسير حسين القواسمي، وقد تعرض كل أفراد عائلته للاعتقال عدة مرات. وهذا البعد العائلي نراه بارزًا في أكثر من تجربة للمقاومة في تاريخ الصراع الفلسطيني ضد الوجود الصهيوني.
أبرز العمليات في مسار حركة حماس لإعادة ترميم بنيتها التنظيمية العسكرية، في الضفة الغربية، كانت في صيف 2014. تمكنت خلية لكتائب القسام من خطف ثلاثة مستوطنين، تبيَن لاحقًا أنهم قتلوا خلال العملية ودفنوا في أرض قرب الخليل .. نفذ العملية الشهيدان عامر أبو عيشة ومروان القواسمي بإشراف حسام القواسمي، الذي يقضي حاليًا حكمًا بالسجن المؤبد ثلاث مرات
العملية التي أعلنت حماس لاحقًا أنها كانت بتوجيه من قيادتها في الخارج، شكلت نقلةً نوعيةً في مسار تجدد المقاومة في الضفة الغربية. الاقتحامات الواسعة التي نفذها جيش الاحتلال في مناطق الضفة بحثًا عن المستوطنين الثلاثة، ولاحقاً جريمة المستوطنين بإحراق الطفل محمد أبو خضير، كانت عوامل أنضجت قرار المقاومة بالدخول في حرب مع العدو على جبهة غزة. يجمع اليوم معظم المراقبين والمحللين أن حرب 2014 بما قدمته المقاومة فيها من تجارب عسكرية مميزة، وإن خالفها الحظ على المسار السياسي، خلقت دافعيةً معنويةً بارزةً في الجيل الجديد الذي ولد في الضفة والقدس المحتلتين، في سنوات الألفية الجديدة، متحررًا من عملية "كي الوعي" التي مارسها العدو على المجتمع الفلسطيني، خلال انتفاضة الأقصى، وآثار الانقسام الذي أصاب الواقع السياسي الفلسطيني بعد أحداث عام 2007 في قطاع غزة.
في أوج اعتداءات الاحتلال على المرابطين في المسجد الأقصى المبارك، في الأسابيع الممتدة من أيلول/ سبتمبر إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2015، ضمن مسار لتأسيس التقسيم الزماني والمكاني للمسجد، نفذت خلية لكتائب القسام عملية إطلاق نار قرب مستوطنة "إيتمار" المقامة على أراضي محافظة نابلس، أدت لمقتل مستوطنيْن.
العملية التي شكلت مع وقائع أخرى بينها استشهاد الكادر في الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، ضياء التلاحمة، وعمليةِ الطعن في شارع الواد بالبلدة القديمة التي كان بطلها الشهيد مهند الحلبي، دافعًا لاندلاع ما اصطلح عليه "هبة القدس"؛ كانت من تنفيذ خلية ضمت كرم المصري، وسمير الكوسا، ويحيى الحاج حمد، وأمجد عليوي، والأسير الشهيد بسام السائح.
في مطلع أكتوبر 2015، نفذت خلية لكتائب القسام عملية إطلاق نار قرب مستوطنة "إيتمار" المقامة على أراضي محافظة نابلس، أدت لمقتل مستوطنيْن. العملية التي شكلت مع وقائع أخرى بينها عملية مهند الحلبي في القدس، دافعًا لاندلاع ما اصطلح عليه "هبة القدس"
بعد شهور من اندلاع "هبة القدس"، تحديدًا في بداية تموز/ يوليو نفّذ محمد الفقيه مع مساعده الأسير حاليًا محمد عبد المجيد عمايرة، عملية إطلاق نار قرب معسكر "المجنونة" على الطريق الالتفافي قرب مدينة دورا جنوب الخليل، أدت لمقتل المستوطن "ميخائيل مارك" وإصابة آخرين بجروح.
الفقيه الذي استشهد بعد 27 يومًا، من المطاردة، عقب اشتباك خاضه لعدة ساعات مع قوات كبيرة من جيش الاحتلال، كان مسؤولاً عن خلية لكتائب القسام، كان تعدادها قليلاً مقارنة بخلايا أخرى شكلتها الكتائب.
وبين عملية "إيتمار" ومعسكر "المجنونة"، نفذت كتائب القسام عدة عمليات، وكشف الاحتلال عن اعتقالات نفذها لإحباط مخططات خلايا أخرى لتنفيذ عمليات إطلاق نار وتفجير. من بين أبرز مجهودات القسام لتنفيذ عمليات ضد أهداف الاحتلال، عملية إطلاق النار التي أدت لمقتل ضابط من شرطة الاحتلال قرب الخليل، ونفذتها خلية للقسام من قرية دير سامت غربي المحافظة.
حافظت كتائب القسام خلال سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى، على مسار عمليات إطلاق النار، وإن كانت أعدادها قد بفعل عوامل ميدانية وأمنية مختلفة. تزامنًا مع عملية الشهيدين نشأت الكرمي ومأمون النتشة، في الخليل، نفذ الأسيران عاطف الصالحي وإسلام حامد عملية إطلاق نار شرق رام الله. وأطلقت الكتائب حينها على العمليات التي نفذتها خلاياها في تلك الفترة اسم "سيل النار".
في حزيران/ يونيو 2015، وقرب مستوطنة "شافوت راحيل" المقامة على أراضي رام الله، أطلقت خلية من كتائب القسام 25 رصاصةً نحو مركبة للمستوطنين موقعة فيها قتيلاً وعدة إصابات قبل أن تنسحب من المكان بسلام. بعد أيام أعلن الاحتلال أن الخلية المسؤولة عن العملية تضم: معاذ حامد، وأحمد الشبراوي، وفايز حامد، وعبد الله اسحاق، وأمجد النجار.
هذه المبادرة للعمل العسكري لدى كوادر حماس، قد لا ترتبط في بعض التجارب بالتواصل المباشر مع قيادة الكتائب في الخارج أو في قطاع غزة، وربما يمكن الدلالة على هذا المسار بعملية الشهيدين قاسم جابر وأمير الجنيدي.
اعتقل الشهيد جابر لعدة سنوات في سجون الاحتلال، على خلفية مشاركته في خلية للمقاومة في الخليل ضمت المقاومين شكيب العويوي ولؤي العويوي وموسى وزوز ومحمد الجولاني، أدت عملياتها لمقتل 8 من جنود جيش الاحتلال.
وفي أوج "هبة القدس" نفذ قاسم جابر عملية مزدوجة (دهس وإطلاق نار) مع أمير الجنيدي، قرب مستوطنة "كريات أربع" في الخليل، وأدت لإصابة عدد من جنود الاحتلال.
ومن العمليات التي قام بها كوادر في حماس، عملية إطلاق النار التي نفذها الأسيران يوسف عاصي ويحيى مرعي، عند مدخل مستوطنة "أرئيل"، في العشر الأواخر من شهر رمضان الماضي، والتي أدت لمقتل جندي، وتبنتها كتائب القسام.
خطف الجنود… المسار الثابت
خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل كان تتويجًا لمسار لم ينقطع للجهاز العسكري لحركة حماس، منذ بدايات تأسيسه، التزامًا باستراتيجية ثابتة في عمله وهو "تحرير الأسرى".
لا تنقضي شهور حتى تعلن مخابرات الاحتلال عن اعتقال خلايا تابعة لحماس، خططت لتنفيذ عمليات خطف للجنود والمستوطنين. وفي بعض الخلايا التي نفذت عمليات إطلاق نار، تبين بعد اعتقالها أن أحد البنود الرئيسية ضمن مهامتها النضالية، هو تنفيذ عمليات خطف.
لا تتسع المقالة لتعداد خلايا خطف الجنود التي زعمت مخابرات الاحتلال اعتقالها، في الضفة الغربية والقدس، خلال سنوات، ولكن الثابت أن الأخبار لم تنقطع عن تشكيل مثل هذه الخلايا.
الإعلانات الإسرائيلية المتواصلة عن اعتقال وكشف خلايا لحماس وفصائل المقاومة المختلفة، في الضفة الغربية، لها أوجه مختلفة في القراءات السياسية والميدانية، بعضها مرتبط بإرادة دائمة لدى مخابرات الاحتلال لتصدير صورة "المسيطر" لمجتمع المستوطنين، وبعضها الآخر له بعد فلسطيني داخليّ يتعلق بآليات التواصل بين المقاومة في غزة والخارج مع كوادرها في الضفة والقدس المحتلتين، وهو ما أثار مطالبات بإعادة النظر في مسار تجديد بنى المقاومة في الداخل، بالأخذ بعين الاعتبار الواقع الأمني والاستخباراتي المستجد على البيئة الفلسطينية، في سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى.
إدخال أسلحة استراتيجية في ساحة الضفة
لم تتوقف مساعي الجهاز العسكري لحركة حماس على تشكيل خلايا لتنفيذ عمليات إطلاق نار أو زرع عبوات، بل حاولت الحركة خلق مسار استراتيجي جديد في الصراع، داخل الضفة الغربية والقدس، من خلال تكليف كوادر فيها بصناعة مقذوفات وصواريخ، وهي النقطة "الحمراء" بتوصيف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دولة الاحتلال، التي يُمنع وصول الضفة لها، بفعل موقعها المشرف على عمق الكيان في الساحل.
في عام 2010، اعتقل جيش الاحتلال خليةً لحماس من قرى رام الله وصلت إلى مراحل متقدمة في صناعة الصواريخ.
مسار تنفيذ عمليات ضخمة لم ينقطع من تفكير القسام، ففي عام 2014 كشف الاحتلال عن اعتقال خلية للكتائب تضم 30 كادرًا خططت لتفجير استاد رياضي في القدس المحتلة، واقتحام مستوطنات وتنفيذ عمليات خطف لجنود ومستوطنين.
مخططات استهداف مواقع مركزية إسرائيلية يعود لسنوات قبل الإعلان عن اعتقال الخلية المذكورة، ففي القدس المحتلة زعمت مخابرات الاحتلال اعتقال خلية من القسام خططت لاستهداف ملعب رياضي بالصواريخ.
لا تنقضي شهور حتى تعلن مخابرات الاحتلال عن اعتقال خلايا تابعة لحماس، خططت لتنفيذ عمليات خطف للجنود والمستوطنين. كما حاولت الحركة إدخال سلاح الصواريخ النوعي إلى ساحة الضفة، ففي عام 2010، اعتقل جيش الاحتلال خليةً لحماس من قرى رام الله وصلت إلى مراحل متقدمة في صناعة الصواريخ.
كوادر متفردون
شهدت تجربة حماس العسكرية خلال سنوات، ما بعد الانتفاضة، أسماء متفردة خاضت تجربة المقاومة بمجهودات فردية، وإن في البداية عند بعضهم.
من بين هؤلاء الشهيد أحمد جرار الذي شكل حالةً شعبيةً، خلال فترة مطاردته، وأشرف نعالوة منفذ عملية مستوطنة "بركان"، الذي تمكن من التخفي عدة شهور بمساعدة كوادر من الحركة، وكشفت تحقيقات الاحتلال عن مخططات وضعها مع مساعدين له لتنفيذ عمليات فدائية، قبل أن يرتقي في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، ويُعتقل عدد من كوادر حماس الذين وفروا له المأوى والدعم اللوجستي أو خططوا لتنفيذ عمليات فدائية معه.
ومن النماذج البارزة في هذا المسار، الشيخ فادي أبو شخيدم منفذ عملية البلدة القديمة في القدس، والشهيد مصباح أبو صبيح أحد الكوادر البارزة للحركة الإسلامية في بيت المقدس، وقبلهم بسنوات الشهيد علاء أبو دهيم الذي أعلنت الكتائب بعد سنوات مسؤوليتها عن عمليته، ثم تحضر تجربة الشهيد حمزة أبو الهيجا ورفاقه في مخيم جنين. بالإضافة إلى عشرات الأسماء الأخرى التي نفّذت أو خطّطت لعملياتٍ فرديةٍ خلال سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى. ورغم كون الفردية وعدم التنظيم بمعناه الكلاسيكي طابعًا لهذه العمليات، إلّا أن لها طابعًا تنظيميًا من جهاتٍ أخرى، منها توفير البنية التنظيمية التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون ثقافة المقاومة لدى كوادرها، وامتلاك بعضٍ منهم لخبرةٍ قتاليةٍ سابقة من خلال تجربته التنظيمية.
حماس… في المرحلة الثورية الجديدة
تشهدُ الضفة الغربية في الشهور الماضية مرحلةً جديدةً في صعود المقاومة، كان أبرز ملامحها انتشار مجموعات من المقاومة بأعداد أكبر مما نعرفه عن الخلايا السرية، وأقرب إلى المجموعات الكبيرة التي شاركت في التصدي للاجتياحات خلال انتفاضة الأقصى، خاصة في شمالي الضفة، وتحديدًا في نابلس وجنين.
أحمد جرار .. أشرف نعالوة .. مصباح أبو صبيح .. فادي أبو شخيدم .. علاء أبو دهيم .. حمزة أبو الهيجاء .. بالإضافة إلى عشرات الأسماء الأخرى التي نفّذت أو خطّطت لعملياتٍ فرديةٍ خلال سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى، تشير -ورغم كون الفردية -طابعًا لهذه العمليات، إلّا أن لها طابعًا تنظيميًا من جهة توفير البنية التنظيمية التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون ثقافة المقاومة لدى كوادرها
يحضر في هذه المرحلة تساؤل كبير عن دور حماس في هذه المرحلة من المقاومة، في الضفة الغربية، إلا أنه وإن كان يغلب على العمل المقاوم في جنين ونابلس مشاركة أكبر لكوادر سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى، إلا أن حماس حافظت على حضورها في مجموعات المقاومة.
مؤخرًا، برز اسم مجموعات "عرين الأسود" في الفضاء المقاوم والسياسي الفلسطيني، واتخذت لها دورًا متقدمًا مع بقية مجموعات المقاومة في جنين ونابلس. صعود "عرين الأسود" ارتبط بعدة أسماء ارتقى بعضهم شهداء (إبراهيم النابلسي، وعبد الرحمن صبح، ومحمد العزيزي، ومحمد الدخيل، وأشرف المبسلط، وأدهم مبروكة "الشيشاني"، وإسلام صبوح) وغيرهم.
من بين النشطاء الذين ارتبطوا بمجموعات "عرين الأسود"، مصعب اشتية أحد كوادر حركة حماس الذي تعرض للاعتقال في سجون الاحتلال سابقاً على قضايا عسكرية، والمعتقل حاليًا في سجون السلطة، والمقاتل سلمان عمران، الكادر في حماس، والذي خاض اشتباكًا طويلا مع قوات الاحتلال على أرض دير الحطب شرق نابلس قبل اعتقاله إثر نفاد ذخيرته. تنفي المجموعات في بياناتها المختلفة أن يكون لها ارتباطات بأي من التنظيمات، ولا يعرف على وجه التحديد طبيعة تركيبتها، لكن الثابت أن توجهاتها تجاوزت الفصائلية لصالح كيان تنظيمي جامع لكل من يريد مقاومة الاحتلال.
مشاركة مصعب وسلمان (وربما غيرهما) في هذه المجموعات، يمكن أن يشير إلى قراءات مختلفة بعضها يشير إلى توجه كوادر من حماس للعمل العسكري مع مجموعات من مختلف الفصائل، وتوجّه الحركة لدعم مثل هذه التجارب المتجاوزة للمسميات الفصائلية التقليدية على المستويين اللوجستي والبشري، وهي تجربة فريدة من نوعها على مستوى الضفة، وإن كانت الأجنحة العسكرية لها تجارب سابقة في العمل العسكري المشترك.
صعود "عرين الأسود" ارتبط بعدة أسماء ارتقى بعضهم شهداء (إبراهيم النابلسي، وعبد الرحمن صبح، ومحمد العزيزي) وغيرهم، ومن بين النشطاء الذين ارتبطوا بمجموعات "عرين الأسود"، مصعب اشتية أحد كوادر حركة حماس الذي تعرض للاعتقال في سجون الاحتلال سابقاً على قضايا عسكرية، والمعتقل حاليًا في سجون السلطة، والمقاتل سلمان عمران، الكادر في حماس، والذي خاض اشتباكًا طويلا مع قوات الاحتلال على أرض دير الحطب شرق نابلس قبل اعتقاله إثر نفاد ذخيرته
لا يتسع المقال لإحصاء تجارب حركة حماس لإنعاش العمل المقاوم، في الضفة الغربية، في سنوات ما بعد انتفاضة الأقصى لكنّ المؤكد أن الحركة وجهازها العسكري حافظا على مسار ثابت من تفضيل إعادة الروح إلى بينتها التنظيمية والعسكرية، وإن تمركزت القوة الرئيسية للحركة في غزة، بعد أن أصبح القطاع مدار تركيزها وتجربتها السياسية والحكومية، الأمر الذي يدفع البعض إلى تحذير الحركة من "الغرق" في مشاكل غزة بعيدًا عن أولويات العمل المقاوم، إلا أنها بقيت وفيةً لبرنامجها في دفع المقاومة بالضفة الغربية.
قيل ويقال الكثير في نقد كثير من "التفاصيل التقنية" لسلوك أجهزة الحركة السياسية والعسكرية، في التواصل مع كوادرها بالضفة والقدس، وتنظيم خلايا جديدة، إلا أن الحركة تمكنت رغم ظروف صعبة من إبقاء حضورها في الميدان، وإن تفاوتت قوتها بين مرحلة وأخرى، وحاولت استثمار الأحداث الكبرى على الساحة الفلسطينية في تقوية رصيدها في ميدان المواجهة، ودعم حالة المقاومة، إلا أن الارتباك في الأداء السياسي في بعض المراحل، خاصة في العلاقة مع السلطة، يزيد من التشويش في ساحة الضفة، التي ينطوي مستقبلها على مجهولات كثيرة.
قيل ويقال الكثير في نقد كثير من "التفاصيل التقنية" لسلوك أجهزة الحركة السياسية والعسكرية، في التواصل مع كوادرها بالضفة والقدس، وتنظيم خلايا جديدة، إلا أن الحركة تمكنت رغم ظروف صعبة من إبقاء حضورها في الميدان، وإن تفاوتت قوتها بين مرحلة وأخرى، كما تركزت جهود حماس في الضفة الغربية على العمل العسكري، وكان حضورها ضعيفًا في ما يطلق عليه "المقاومة الشعبية" وهو ما يدعو إلى إعادة النظر في ممكنات العمل في ساحة الضفة
تركزت جهود حماس في الضفة الغربية على العمل العسكري، وكان حضورها ضعيفًا في ما يطلق عليه "المقاومة الشعبية"، وإن كنا لا نعترف بالتقسيمة الرائجة التي أطلقتها مؤسسات دولية ومحلية حول "المقاومة اللاعنفية والعنيفة"، إلا أن ميدان مواجهة الاستيطان والجدار وغيرها لم يحظَ بالاهتمام الكافي من الحركة، وإن كان لكوادرها مشاركة هامة في بعض المواقع، مثل نعلين التي ارتقى فيها الشهيد عقل سرور أحد كوادر الحركة خلال مواجهات مع قوات الاحتلال، وبيت دجن التي ارتقى فيها الشهيد عاطف حنايشة، وبيتا التي شهدت مشاركةً من كوادر الحركة، وارتقى خلال مواجهاتها الشهيد زكريا حمايل.
عند مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي رام الله كان كادرٌ جديدٌ في حماس ينفّذ عملية إطلاق نار قبل أن يرتقي شهيداً، يمثّل قيس شجاعية الدليل، والإجابة، والنموذج، الدليل على تأصل المقاومة في الحركة والجماهير التي ينتمي إليها، والإجابة عن سؤال الممكنات الذي يقف في وجه الفعل الضروري على الأرض، والنموذج الملهِم لأقرانه، ولجيل جديدٍ يصنع حالة مقاومةٍ جديدة.
تحمل المرحلة الحالية فرصًا متعددة أمام حركة حماس وفصائل المقاومة، لتثمير واقع جديد يتجاوز كل عوائق المراحل الماضية، خاصةً مع جيل جديد من المقاومين يستند إلى إرث عميق من المقاومة ويتجاوز في الآن ذاته ما علق في الوعي الفلسطيني من قمع انتفاضة الأقصى وآثار أحداث ما بعد الانتخابات التشريعية في عام 2006.
عند مستوطنة "بيت إيل" المقامة على أراضي رام الله كان كادرٌ جديدٌ في حماس ينفّذ عملية إطلاق نار قبل أن يرتقي شهيداً، يمثّل قيس شجاعية الدليل، والإجابة، والنموذج. الدليل على تأصل المقاومة في الحركة والجماهير التي ينتمي إليها، والإجابة عن سؤال الممكنات الذي يقف في وجه الفعل الضروري على الأرض، والنموذج الملهِم لأقرانه، ولجيل جديدٍ يصنع حالة مقاومةٍ جديدة.