حتى آخر طلقة.. قراءة في كتاب: يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري

حتى آخر طلقة.. قراءة في كتاب: يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري
تحميل المادة

 صدر كتاب يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري - دراسة ووثائق (من جزأين) عن سلسلة" ذاكرة فلسطين"، وهي واحدةٌ من مشاريع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. والكتاب من تأليف بلال شلش، المؤرخ المتخصص في المقاومة الفلسطينية المسلحة، وقد أهداه "لمن أريق دمه دون يافا".

جاء الجزء الأول في مقدمةٍ وتمهيدٍ وثلاثِ دراساتٍ، تضمنت بشكل أساسي قراءة المؤلف الخاصة لبنية حامية يافا وفعلها العسكري بين كانون الأول/ ديسمبر 1947- نيسان /إبريل 1948. شرحت المقدمة دوافع صدور الكتاب، وبيَّنت أنَّ الكتاب جاء لسد فجواتٍ كبيرةٍ عانت منها الأدبيات العربية التي اختزلت معارك المقاومة في أيام المدينة الأخيرة، ووقعت تحت تأثير الهزيمة ومفاعيلها، في مقابل تركيز الأدبيات الصهيونية على التأريخ للعمليات العسكرية الصهيونية الرئيسة، وأيام يافا الأخيرة كذلك. أمَّا التمهيد فكان عبارةً عن موجزٍ حول تاريخ الاستيطان الصهيوني في يافا وجوارها، وذِكْرٍ لحضور المدينة المركزي في المحطات الكفاحية التي خاضها الفلسطينيون خلال الاستعمار البريطاني.

تناولت الدراسة الأولى المقاومةَ المسلحة في يافا حتى شباط 1948، وكشفت عن وجود إجماع فلسطيني على تمثيل الهيئة العربية العليا للفلسطينيين، وأنَّها مصدر شرعية مجمل الفعل الفلسطيني في يافا خلال تلك المرحلة، وذكرت دور الهياكل المؤسساتية المحلية في الدفاع عن المدينة، خصوصًا لجنة يافا القومية والبلدية، ورصدت البدايات الجنينيّة لتشكيل المقاومة الفلسطينية المسلحة داخل المدينة ودور القائد حسن سلامة وتنظيمه "جيش حماة الأقصى" فيها، وحيثيات المعارك الأولى على الأرض. في حين ركَّزت الدراسة الثانية على حامية يافا وتجربتها العسكرية بين شهري شباط/ فبراير – نيسان/ أبريل 1948، وبيَّنت أثر التدخل العسكري العربي عليها. واهتمت الدراسة الثالثة بالأيام الأخيرة من معارك يافا وانهيار الحامية أواخر نيسان/إبريل وبداية أيار/مايو 1948. وقد اعتمدت الدراسات الثلاث على وثائق حامية يافا، بالإضافة إلى سِيَر ومذكرات وصحف عربية، ودراسات متخصصة عربية وصهيونية.

أمَّا الجزء الثاني فخصّصه المؤلف لمجموعة وثائق حامية يافا، وافتتحه بمقدمة شرح فيها طبيعة الوثائق، وتاريخ كتابتها، ومحتوياتها، ودوافع كتابتها، وقيمتها العلمية مقابل المصادر الأخرى، والمنهجية التي اتبعها في تحريرها. تضمّن الفصل الأول مجموعة وثائق "يوميات جيش حماة الأقصى/ حامية يافا" بين شهري شباط/ فبراير – نيسان/ إبريل عام 1948. وحوى الفصل الثاني مختاراتٍ وثائقيةً شملت تعاميم إدارية، ووثائق قيادة الحامية، وتقارير المفتش العام للحامية، ومختارات من وثائق الجبهات، وبيانات عامة عن الحامية، ومختارات من وثائق الهيئات الوطنية في يافا أثناء الحرب. وقد استغل الكاتب هوامش الفصليْن في التعليق على محتويات الوثائق وإجراء مقارنات بينها وبين ما جاء في مصادر أخرى عربية وصهيونية وبريطانية. واشتمل الفصل الثالث على قائمة بمجاهدي الحامية وشهدائها. واختُتم الجزء الثاني بخاتمة وملحق وقائمة مراجع وفهرس عام، وقد ضمَّ الملحق 28 صورة منها صور لشهداء، وصور عامة ليافا، وصور ليافا أثناء الحرب، وسبعة نماذج لوثائق، وخريطة للمدينة وجوارها صادرة عن مسح فلسطين عام 1944، أضاف لها أسماء الأحياء الصهيونية والمستوطنات بجوار يافا، وتوزيع جبهات القتال الصهيونية، وتسعة وأربعين موقعًا وخريطةً أخرى لمنطقة المحطة والمنشية صادرة عن مسح فلسطين عام 1938، أضاف لها جبهة القتال الصهيونية، واثنين وثلاثين موقعًا.

 

الحرب في يافا.. تنوع أشكال القتال   

قدَّم النص شرحًا تفصيليًا لشكل القتال في يافا، ومساره من بداية تَشَكُّل الحامية وانخراطها في المواجهة مع القوات الصهيونية حتى انهيارها واستسلام المدينة. وحسب المؤلف بلال شلش فقد عاشت المدينة توترًا بين العرب واليهود قبل قرار التقسيم الصادر أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، فقد شهدت هجمات متبادلةً بينهما في آب/ أغسطس عام 1947 أوقعت قتلى وجرحى بين الطرفين، أمَّا أحداث النكبة، فبدأت بمناوشاتٍ في سوق الكرمل بين باعة الخضروات العرب واليهود في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وتصاعدت وتيرتها واتخذت أشكالًا متعددة، كان من أبرزها حرب الاستحكامات بين الطرفين والتي اندلعت أوائل كانون أول/ ديسمبر 1947، وعمليات القنص، التي كان للعرب اليد الطولى فيها، إذ أوقعوا خلال أشهر المواجهة 1027 إصابة في الجانب الصهيوني منها 171 قتيلًا، وكذلك حرب المواصلات، التي حاول الصهاينة من خلالها حصار يافا وقطعها عن محيطها، في حين عمل العرب على فك الحصار واستهداف خطوط المواصلات بين المستوطنات الجنوبية و"تل أبيب"، وشارع يافا- القدس، وعمليات النسف، إذ تمكَّن الصهاينة من نسف أبنيةٍ واستحكاماتٍ عربية ابتداءً من شهر كانون أول/ ديسمبر 1948، قابلها تنفيذ الحامية لـ 44 عملية نسف لمواقع صهيونية بين شهري شباط/ فبراير ونيسان/ إبريل 1948، والهجمات المركزية، التي افتتحها الصهاينة بعدة هجمات على الأحياء العربية مثل أبو كبير والجبالية وتل الريش وغيرها، وقابلها هجمات للحامية على المواقع الصهيونية، مثل هجومها على استحكامي السبيرتو والسكب أواخر شباط/ فبراير 1948، والهجوم على مبنى حزبون، وعمليات القصف المتبادل، فقد قصفت فرقةُ التدمير العربية "تل أبيب" باستخدام مدفع/ راجمة، وقصف الصهاينة الأحياء العربية باستخدام مدفع " دافيدكا" محلي الصنع.

 

إعادة قراءة دور الهيئة العربية العليا في الدفاع عن يافا

يتتبع النص دور الهيئة العربية العليا في الدفاع عن يافا، ويشرح كيف أنَّها بادرت إلى تشكيل اللجنة القومية في المدينة في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، وبذلت جهدها لاستيعاب أغلب الشخصيات اليافاوية فيها، وأشرفت تشكيلاتُها العسكرية على وضع اللبنات الأولى للحامية، حين زار القائد حسن سلامة حي الجبالية في 6 كانون الثاني/ يناير 1948 وشرع بتكثيف التجنيد، واستكمال الاستحكامات، الأمر الذي انعكس إيجابيًا على أداء المدينة العسكري. وحتى بعد التدخل العربي في مسار الأحداث في يافا؛ وتصنيف اللجنة الفنية العسكرية للمدينة بأنَّها "قلعة محصورة" تتبع دمشق مباشرة، وبعد وصول أول آمر عربيٍّ معينٍ للحامية في 7 شباط/ فبراير عام 1948 وهو الضابط العراقي عبد الوهاب الشيخ علي، ثم تعيين المقدم العراقي عادل نجم الدين بديلاً له، ورَفْد الحامية بفصيل عراقي قوامه 38 جنديًا، ثمَّ بمفرزة ألبانية/ يوغسلافية قوامها 34 جنديًا وضابطًا، وفرقة من الحمويين قوامها 87 جنديًا، وسَرية يقودها العراقي عبد الجبار الشمري، وعدد من المجاهدين المصريين، و16 جنديًا يوغسلافيًا، وسَرية القادسية المكونة من 117 جنديًا، وإمداد الحامية بالسلاح، وإنشاء معامل لاستصلاح الذخيرة الفاسدة والأسلحة؛ حتى بعد ذلك كله، فقد ظل الجزء الأساسي من القيادات الميدانية لجبهات يافا، وكذا عناصرها، من الفلسطينيين ومن جملة الموالين للهيئة العربية العليا، والذين مارسوا سلوكًا عسكريًا منضبطًا ومنسجمًا مع قيادة الحامية، كما أن القائد حسن سلامة قدَّم نموذجًا إيجابيًا في التعاون مع اللجنة الفنية وقيادة الحامية وساهم موقفه في تحقيق انتقالٍ سلسٍ للقيادة، وكانت العلاقة المتبادلة بين الحامية والمجموعات المحلية المسلحة التي كانت تعمل في ساحة يافا مثل: منظمة الشباب العربية وجماعة الإخوان المسلمين، ومجموعة مؤتمر العمال العرب، ومجموعة جمعية زهرة الأقحوان العربية، وفرقة النجدة في العجمي؛ جيدة طوال فترات القتال. 

تشير الفقرة أعلاه إلى إحدى مقولات شلش الأساسية والمتعلقة بالدور الإيجابي للهيئة العربية العليا في الدفاع عن يافا، وهي مقولة معاكسة تمامًا لما خَلُصت له بعض الأدبيات العربية والصهيونية التي أدانت الهيئة ورأت أنّ نشاطها في المدينة كان عاملًا من عوامل سقوطها، ولا نغالي إن قلنا إن نقاش شلش لمزاعم قصور الهيئة في الدفاع عن المدينة وادعاءات تواضع مكانتها بين اليافيين كان رصينًا، وقد تمكَّن من حشد جملة من الأدلة التي أثبتت دور الهيئة المركزي في مسار الأحداث، خصوصًا في البدايات، والتفاف اليافيين حول خياراتها، وحرصها على إنجاح خطة الدفاع عن يافا، ومَنْحِها رموز المعارضة في المدينة هامشًا معتبرًا للمساهمة في حماية المدينة، في محاولة منها لاستغلال كل الطاقات في ذلك الظرف الحساس، وتعاطيها الحكيم مع الأزمات الداخلية سواءً التي خلَّفها سلوك بعض القيادات المحلية أو نتجت عن تضارب استراتيجية الهيئة مع اللجنة العسكرية العربية أو مع مشاريع إقليمية عربية.

إن أهمية ما توصل إليه شلش حول الهيئة العربية العليا ودورها في معارك يافا، لا يقتصر على إعادة الاعتبار للهيئة بما يتناسب ومكانتها التمثيلية وحقيقة أدائها وحجم تضحيات كوادرها ومنتسبي تشكيلاتها العسكرية، بل يتعداه إلى التأثير في النظرة لدورها في مجمل حرب عام 1948، ومن ثمّ في التصور العام لما جرى في النكبة، وما يتضمنه من إعادة النظر في جملة الأدبيات التي تناولت نكبة فلسطين، خصوصًا تلك التي ركَّزت على الهيئة وحملَّت الحاج أمين الحسيني ومناصريه المسؤولية الأولى عن الهزيمة في الحرب.

 

دور بريطانيا في نكبة يافا

جاء حديث شلش عن الدور البريطاني في أحداث يافا في سياق الحديث عن الحامية وفعلها المقاوم، وأَبَان عن استراتيجية بريطانية تتركَّز في السعي لضبط أوضاع المدينة بما يكفل انسحاب القوات البريطانية منها بهدوء وفي موعده المحدد، وشمل ذلك تأمين الطرق الرئيسة، ومن ثمّ جاء تدخل بريطانيا في الصدامات التي جرت بين العرب واليهود في أكثر من مرة للحيلولة دون تفاقمها حتى لا يُشكِّل ذلك إعاقة لاستراتيجيتها، مثل تدخلها في إخماد المناوشات بين العرب واليهود في سوق الكرمل صبيحة 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وفرضها طوقًا على حيي ارشيد والمنشية وتفتيشهما في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1947، ومنع التجول عليهما في 2 نيسان/ إبريل 1948، واصطدام قواتها مع عناصر من الإيتسل هاجموا حي أبو كبير، واعتقالها بعض الصهاينة ومصادرة أسلحتهم بعد هجوم صهيوني على تل الريش في كانون الأول/ ديسمبر 1947، وتدخلها لمنع استمرار احتلال الإيتسل لحي المنشية، ومعاونتها للعرب في هجومهم على استحكامي السبيرتو والسكب، وعملها على فرض وقف إطلاق نار في عموم المدينة أواخر نيسان/ إبريل 1948.

ومع ذلك كان واضحًا دور بريطانيا في التأكيد على تفوق الجانب الصهيوني ومنع العرب من تعزيز قدراتهم، ومن مظاهر ذلك منعها تعزيز الحراسات الشرطية العربية في المدينة، ورفضها توسيع صلاحيات شرطة البلدية، ووضعها فيتو على أية تدخل لقواتٍ عربية رسمية خصوصًا الجيش العربي الأردني قبل الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، الأمر الذي ساهم في حرمان العرب من فرصة تقوية دفاعات المدينة والحيلولة دون استسلامها، أو على الأقل تأخير هذا السيناريو المقيت.

 

تفكك الحامية واستسلام المدينة.. عوامل ومسببات

تتبع النص مسار تفكك الحامية وانهيارها ثم استسلام المدينة، وحشد جملة من العوامل التي ساهمت في ما آلت اليه الأوضاع أواخر نيسان/ إبريل وأوائل أيار/ مايو 1948، وسأورد هنا أربعة من العوامل الرئيسة وهي متعلقة أساسًا بالحامية واللجنة العسكرية والصورة العامة للقتال على مختلف الجبهات وإمكانيات القوات الصهيونية، فبرأي شلش لم تكن قوة الحامية كافية لحسم معركة المدينة، أمَّا اللجنة الفنية العسكرية في دمشق فتتحمل جانبًا من المسؤولية، إذ لم تكن قادرة على إمداد الحامية بالمزيد من القوات والسلاح، وأصرَّت على الاستمرار في استراتيجيتها الدفاعية التي كانت مقتصرةً على مواجهة تطورات الميدان، وتلكَّأت في تعيين قائد بديلٍ لعبد القادر الحسيني بعد استشهاده، رغم حاجة المعارك الماسة لذلك، ولم توافق على اقتراح الحاج أمين الحسيني حول الشخصية المناسبة لقيادة المنطقة الوسطى، وفرضت القاوقجي قائدًا جديدًا لها والذي أسهم بسياساته في تعميق الخسارة وتفكيك الحامية، وانسحاب من تبقى فيها باتجاه رام الله  في 5 أيار/ مايو 1948، بعد إعلان اللجنة القومية والبلدية وآمر الحامية الرغبة في تحويل المدينة إلى مدينة مفتوحة، كما ألقت نتائج المعارك في فلسطين عمومًا بظلالٍ قاتمة على مصير المدينة، من قبيل استشهاد القائد عبد القادر الحسيني قائد الجهاد المقدس والقطاع الشرقي من المنطقة الوسطى، ونسف الصهاينة مقر القطاع الغربي، وحسمهم للمعارك في بعض المدن مثل طبريا وحيفا وبعض أحياء القدس، فضلاً عن تحسن قدرات القوات الصهيونية المهاجمة ليافا، خصوصًا مع وصول شحنات من الأسلحة من الخارج، فنجحت في احتلال مواقع استراتيجية جوار يافا مثل معسكر "تل لتفنسكي" في 25 نيسان/ إبريل 1948، وقطعت مواصلات المدينة الرئيسة وفرضت الحصار عليها، وبدأت بتنفيذ عمليات هجومية بقصد احتلال أحياء المدينة ومقر قوة الحامية مثل عملية "حيمتس" في 27 نيسان/ إبريل 1948، في الوقت الذي تدخلت فيه الإيتسل عسكريًا ولعبت بذلك دورًا رئيسًا في إرباك الخطة الهجومية الجديدة للجنة العسكرية.

 

وقفة حول جدوى النص وأهميته

يعدّ نص شلش الأول من نوعه من جهة تقديمه دراسة عميقة حول حامية يافا وفعلها العسكري، وتكمن أهميته بجزأيه في قدرته على إعادة قراءة ما جرى في يافا، وتقديمه نتائج جديدة، ونقده لبعض الخلاصات التي جرى تداولها في الأوساط الأكاديمية لسنوات باعتبارها حقائق، وهو بهذا النتاج يؤكد أن السؤال عمّا جرى عام 1948 ما زال مفتوحًا، وأن تاريخ الحرب على المدن الفلسطينية الكبرى عام 1948 يعاني من ثغرات كثيرة ويحتاج إلى مزيد من الجهود البحثية، وأن الرواية الصهيونية حول الحرب مليئة بالمغالطات وتتسم بالهشاشة، على الرغم من امتلاك الباحثين الصهاينة للوثائق وسهولة تمكُّنهم من الوصول للمعلومة والتحقق منها، كما ظهر ذلك جليَّاً في تناولهم لأسباب سقوط يافا وادعائهم وجود انقسام اجتماعي اقتصادي داخل المجتمع العربي في يافا كان مقدمةً للهزيمة العسكرية، ومبالغتهم في تعظيم دور المعارضة الفلسطينية في مواجهة سياسة الهيئة العربية العليا (أطروحات أيتمار راداي)، وزعمهم وجود انقسام بين التشكيلات العسكرية العربية (حسب ادعاءات يوسف أولتسكي، يعقوب بلج، بني موريس وغيرهم).

لقد أبانَ النص عن وجود مناطق بِكرٍ لم تتمكن الدراسات الفلسطينية والعربية من تغطيتها، ومناطق أخرى غطَّتها لكنها تعاني من مشاكل بحثية ومن تصوراتٍ يشوبها الخلل، كما ظهر واضحًا في مناقشته لنصي محمد سعيد اشكنتنا (مذكرات) وعارف العارف (كتاب النكبة الفردوس المفقود) اللذين حمَّلا دور الهيئة العربية العليا وزعيمها الحاج أمين الحسيني ما لا يحتمل، وفي كَشْفِه عن خطأ تقديرهما لمواقف العديد من القادة الميدانيين، منهم آمرا الحامية عبد الوهاب الشيخ علي وعادل نجم الدين.

لقد زاد من أهمية النص اعتماده على كمٍ كبيرٍ من وثائق الحامية وما يتعلق بها من تقارير ويوميات ومراسلات، ومذاكرات مسؤولي جبهات المدينة مع قيادة الحامية، ومذكرات اللجنة القومية والقيادة العسكرية في دمشق، استخلصها المؤلف من "أرشيف دولة إسرائيل"، ونشرها في الجزء الثاني، وهي مصادر أولية غضةٌ وطازجة وبِنتُ يومها، وأبعد ما تكون عن التحريف أو التشويه أو المبالغة، ولا تعتريها ما يعتري كُتَّاب المذكرات من النسيان أو شهوة تبيض السِّيرة، ولا هي متأثرةٌ بحدثٍ مزلزل بحجم النكبة، وهي أقرب ما تكون للدقة كون ناحتيها من الجنود والمقاتلين الخاضعين للصرامة العسكرية والرقابة الإدارية، والمطلوب منهم إعطاء تفاصيل دقيقة عن مجريات الأحداث يومًا بيوم، ونظرًا لأن أغلب كوادر الحامية وعناصرها من الفلسطينيين، فإن توصيف الأحياء والأمكنة والتحصينات والشوارع سيكون دقيقًا، خصوصًا وأنهم أهل البلد وأعرف الناس بها، وغالبًا ما كانت غاية كَتَبَة التقارير والرسائل وهم في قلب المعركة توصيف ما يجرى بعناية فائقة خدمةً للموقف العسكري.    

خاتمة

هذا نصٌ جديد في التأريخ للمقاومة الفلسطينية المسلحة، قدَّم فيه المؤلف قراءته لحامية يافا وفعلها العسكري أثناء أحداث النكبة، وأجاب فيه عن الكثير من التساؤلات المتعلقة بدورها وناقش العديد من المقولات حولها، وقد سبق ذلك تمكُّنه من الوصول إلى مصادر أولية مهمة بنى عليها تصوراته، وهو مساهمة لافتة يمكن أن تضم لقائمة الدراسات التي تعنى بحروب المدن التي جرت في فلسطين والمنطقة خلال السنوات السابقة (بيروت 1982، جنين ومخيمها 2002، غزة 2014، الموصل 2016..)، ولا شك بأنَّ صدوره سيشجع المهتمين والدارسين على بذل المزيد من الجهد في البحث والتقصي عن الوثائق العربية الخاصة في كل مدينة وبلدة فلسطينية جرى فيها القتال، وخلاصة الأمر أننا أمام عملٍ تأريخيٍ راقٍ، يستحق الإشادة والاهتمام.