حرب "إسرائيل" الطويلة: نصر كامل أم هزيمة بالاستنزاف نظرة في المفاهيم الأمنية الإسرائيلية
على سبيل التقديم
تناقش هذه المادة تحوّلات المفاهيم الأمنية الإسرائيلية، من بعد السابع من أكتوبر، وتأخذها في سياقها التاريخي، أكثر ممّا تنظر في إمكانات الأطراف المتعددة لخوض حرب استنزاف طويلة، فبالرغم من مرور عام على الحرب، وانتقال الجهد الرئيس فيها إلى لبنان، فإنّ الموقف ما يزال يتسم بقدر من الغموض الإستراتيجي، سواء بالنسبة لأهداف الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية من الحرب، أو بالنسبة لآفاق قوى المقاومة المتعددة، فالاستنزاف بطبيعته متبادل، ويملك الاحتلال قوّة نيران هائلة ودعمًا مفتوحًا من الولايات المتحدة ويتعمّد إنهاك المجتمعات المدنية المحيطة بالمقاومة، كما فعل في قطاع غزّة، وكما بدأ يفعل في لبنان، وبينما حمل قطاع غزّة المحاصر العبء الأساس من هذه المواجهة طوال السنة الماضية، بحيث يمكن تقدير آثار هذه الحرب على قدرات المقاومة ومخزون ذخيرتها، علاوة على فرض النزوح والملاحقة بالنار والتجويع للمجتمع الغزّي، فإنّه من المبكر توقّع مسارات الحرب مع حزب الله في لبنان، بما في ذلك تصوّرات الحزب لهذه الحرب، وهو ما يدعو لقراءة الآراء المتعددة لدى إستراتيجيي الاحتلال لمسألة الحرب الطويلة في إطار تاريخ المفاهيم الأمنية الإسرائيلية ومشكلاتها.
التحرير
ظلّت الدراسات الأمنية والإستراتيجية في "إسرائيل" تبحث باستمرار في جدوى المفاهيم الأمنية التي طوّرتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ تأسيس "إسرائيل"، وذلك لثلاثة أسباب جوهرية: الوجود غير الطبيعي في مكان معاد، والافتقار المزمن للعمق الإستراتيجي، وتحوّلات الصراع العربي الإسرائيلي. طبيعة هذه التحديات، والتحولات التي نشأت عن الصراع، أفضت إلى أزمة في التأسيس لمفهوم الأمن الإسرائيلي، بالدرجة الأولى لكون التجربة القتالية لجيش الاحتلال هي المؤسسة لمفاهيم الأمن الإسرائيلي، في هذا الإطار يمتلك جيش الاحتلال تفوقًا تكتيكيًّا على خصوم "إسرائيل"، هذا التفوق التكتيكي سوف يصبح المرساة للتفكير العسكري، بيد أنّ الأزمة تنشأ حينما تُستدعى الخبرة التكتيكية لتطبيقها على بيئة عملية وإستراتيجية، لاختلاف مجالات المعرفة بين التفكير التكتيكي بوصفه ردّ فعل، والتفكير الإستراتيجي والعملي الذي يفترض أن يتولّى مهمّة التخطيط المفاهيمي للمستويات الزمنية المتوسطة والبعيدة، بما يتصل بذلك من تشييد عمليات القوّة وتأسيس أنماط توظيفها واستخدامها في المستقبل، هذه الأزمة تتجلّى في عمليات الانتقال من التكتيكي إلى الإستراتيجي والعكس، كما يقول يهوشافت هركابي في كتابه "الحرب والاستراتيجية"، وفي حالة هيمنة التكتيكي وسحبه نحو الأعلى فسوف تتحوّل الاستراتيجية إلى حالة من ردود الأفعال.
يناقش العميد احتياط في جيش الاحتلال دوف تيماري في كتابه "الأمّة المسلحة: صعود وهبوط ظاهرة الاحتياطي" أنّ هذا التوليد التكتيكي للمفاهيم الأمنية في سياق ردود الأفعال الحربية، يدفع للقول، بأنّ المفاهيم الأمنية الإسرائيلية يجري إنتاجها بأثر رجعي، بمعنى أنّ الباحثين ينظرون إلى الماضي، إلى الحوادث التي جرت وانتهت، ثمّ يصوغون بناء على التجربة الإسرائيلية المفاهيم الأمنية، معتقدين أنّ صنّاع القرار في "إسرائيل" حينها قد فكّروا بمقتضى هذه المفاهيم، أو كان عليهم أن يفكروا بهذا النحو، وهو ما يعني أنّ ثمّة مشكلة مزمنة في صياغة المفاهيم الأمنية المتماسكة، وفي هذا السياق لم يتوقف النقد، لمفهوم بن غوريون للأمن، الذي جرى اختصاره في ثلاث كلمات: "الردع، التحذير، الحسم"، فالمفهوم ينطوي على تناقض داخلي، لأنّ الردع لا بد وأن ينتهي في لحظة ما، كما انتهى أخيرًا مع حماس في عملية السابع من أكتوبر، أو كما تقلص مع إيران في ضربتيها اللتين وجهتهما لـ "إسرائيل" في نيسان وتشرين الأول/ 2024، وكما أنّ حزب الله لم يكن مردوعًا بالقدر الذي يمنعه من النزول للجبهة لإسناد المقاومة في غزة، والإنذار لا يمكن ضمانه طول الوقت وهو ما تأكد في عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، والحسم لا بدّ وأن يكون مؤقتًا، أي لا يمكن فرض حسم دائم على العدو، أو على جميع الأعداء.
يمكن أن نتوقع، والحالة هذه، أن السلوك الإسرائيلي من بعد السابع من أكتوبر، وإن أعاد النظر في مفهوم الردع من حيث القدرة على ردع "المنظمات الإرهابية"، فإنّه اتسم بردّ الفعل بالضرورة، ومن ثمّ كان تطوير الإستراتيجيات في الحرب على قطاع غزّة وتاليًا في نلقها إلى لبنان في إطار ردود الأفعال، وليس ردّ الفعل في هذه الحالة فقط على عملية "طوفان الأقصى"، ولكنّه كذلك انفعال بفشل مفهوم الردع الإسرائيلي، أيّ هو ردّ موضوعي وذاتي، وذلك لأنّ عملية حماس مسّت الهويّة الإسرائيلية من حيث تكريس "إسرائيل" مكانتها الإقليمية والعالمية على أساس القدرة على الردع، كما يجادل أمير لوبوفيتز، المحاضر في جامعة "تل أبيب" وصاحب كتاب "قوّة الردع"، في مقالة له عن "الردع الإسرائيلي وهجوم السابع من أكتوبر".
سوف يعني ذلك بالضرورة عنفًا فائضًا، في تعبير عن المسّ بالهويّة، ولكنه ينطوي في داخله على رغبة في الحسم، أي الإنهاء السريع للمعركة، بتحطيم الخصم بذلك العنف الفائض، إلا أنّ الأمر، وبالرغم من النجاح الإسرائيلي في تدمير قطاع غزّة، لم يوفّر لـ "إسرائيل" القدرة على الخروج من الحرب، وهو ما اضطرها لتوسيع الحرب مع حزب الله في لبنان، لفتح مسار جديد للحرب، أي أنّ ما يحصل فعليًّا هو أزمة إستراتيجية ونجاحات تكتيكية. طول هذه الحرب بالتأكيد فتح على مجموعة من المفاهيم الأمنية الإسرائيلية، مثل "الصمود"، و"الحرب السريعة الخاطفة"، و"نقل المعركة إلى أرض العدو"، و"الضربة الاستباقية"، هذه المفاهيم، والتي هي مفاهيم إسرائيلية أصيلة، سوف تتداخل مع يمكن أن يكون حرب استنزاف طويلة.
لم يكن ثمّة سوء فهم عربي بخصوص تفضيل "إسرائيل" الحروب القصيرة الخاطفة الاستباقية على أرض العدوّ، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ "إسرائيل" غير قادرة، أو تفقد إرادة مواجهة التحديّ، فإنتاج المفاهيم الأمنية إسرائيليًّا هو إنتاج في إطار التحدّي والاستجابة، يُضاف إلى ذلك أنّ معركة "طوفان الأقصى" كانت استثنائية بالنحوّ الذي مسّ بهوية إسرائيل الأمنية، وبنظريتها الوجودية، مما يعني أنّ الاستجابة ستكون على قدر التحدّي، ليس فقط بالعنف الهائل، ولكن أيضًا بالاستعداد للحرب الطويلة، والعمل على تحويل الأزمة إلى فرصة، بيد أنّه لا ينبغي الغفلة، عن كون هذه الحرب مع تنظيمات لا مع دول، كما أنّ الحرب الإسرائيلية هذه المرّة هي حرب غربية، وأمريكية قبل أيّ شيء، وهو ما مكّن "إسرائيل" من القدرة على تعويض الخسائر الاقتصادية، والاحتفاظ بخطّ إمداد مفتوح، ثمّ إنّ الحرب ما تزال تدور على الأطراف، في غزّة، والتي هي من حيث البيئة الديموغرافية فلسطينية لا إسرائيلية، وفي الطرف الإسرائيلي الشمالي.
يتداخل إمكان تحوّل هذا الموقف إلى حرب استنزاف، مع مشكلة "العمق الإستراتيجي" والتي تمثّل واحدة من أهمّ المفاهيم الأمنية الإسرائيلية، والتي سعت تاريخيًّا إلى معالجتها من خلال "التمدد في فضاء الآخرين" كما في احتلالها لسيناء والجولان والضفة الغربية في حرب العام 1967، وغزوها المتكرر للبنان ولا سيما في العام 1982، وكذلك من خلال تطوير التقنيات، كما يقول العميد احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي أرنون زو- أريتس، أحد مؤسسي قسم تكنلوجيا المعلومات والاتصالات في جيش الاحتلال، والرئيس السابق لسلاح الإشارة فيه: "إسرائيل لديها مشكلة: لا تملك عمقًا استراتيجيًا. لذلك تقع الدولة بأكملها على خط المواجهة. نظرًا لأن الجبهة الأمامية تشمل مستوطنات، يجب إنتاج عمق استراتيجي من هذا النوع. يجب أن يعتمد هذا العمق على المقاتلين والتكنولوجيا. لا ينبغي الاعتماد فقط على التكنولوجيا، ومن ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل أنها عنصر مركزي في التفوق النسبي للجيش الإسرائيلي على العدو".
يُعرّف الاستراتيجيون الإسرائيليون، العمق الإستراتيجي بأنّه: "المسافة بين الخط الأمامي الذي يمكن لدولة ما أن تحافظ فيه على قوات عسكرية للدفاع عن نفسها (الخط الأمامي) دون المساس بسيادة دولة أخرى، وبين الأرض الحيوية لها". والمقصود بالأرض الحيوية تلك الأرض التي يعني احتلال العدوّ لها؛ القضاء على سيادة تلك الدولة، وفي حالة "إسرائيل"، حتى القضاء على وجود الدولة نفسها، ومن ثمّ بدأت "إسرائيل" سريعًا منذ تأسيسها بالتفكير بخلق عمق إستراتيجي أمامي بين الجيوش العربية والفضاء المعيشي في "إسرائيل". لم يكن الهدف من هذا التوسّع إزالة الخطر المباشر وردع الأعداء بالقوّة فحسب، ولكن أيضًا تغيير الأوضاع الجيوإستراتيجية لصالح "إسرائيل" بنحو دائم. إلا أنّ هذا التوسع لتعوض العمق الإستراتيجي من خلال أراضي الآخرين، وضع "إسرائيل" إزاء حرب استنزاف، وسوف تحيل الوثائق الإسرائيلية عادة حين الحديث عن حرب الاستنزاف، إلى تلك الحرب مع مصر بالدرجة الأولى التي توسّطت بين حرب العام 1967 وحرب العام 1973، ثمّ سوف يكون لـ "إسرائيل" خبرة جديدة مع الاستنزاف في لبنان (1982 – 2000)، وفي قطاع غزّة (1967 – 2005).
يعني ذلك أنّ "إسرائيل" باحتلالها أراضي الآخرين تهدف إلى تعزيز عمقها الإستراتيجي، سوف تكون العودة لهذا المفهوم في قطاع غزّة وفي لبنان من بعد السابع من أكتوبر، عودة لواحد من المفاهيم التأسيسية في الكيان الإسرائيلي، هذا الهدف بالتأكيد ينضمّ إلى أهداف أخرى انبثقت عن طبيعة عملية "طوفان الأقصى" التي خلخلت البيئة الإستراتيجية من حول "إسرائيل" وضربت عموم المفاهيم الأمنية الإسرائيلية ممّا جعل الحديث الإسرائيلي عن الخطر الوجودي أكثر من كونه حديثًا دعائيًّا لتعبئة المجتمع وحشد الدعم الغربي. إنّ احتلال أراض جديدة (في غزّة ولبنان هذه المرّة) يعني محاولة فرض وضع جديد ستسعى "إسرائيل" للحفاظ عليه، بينما ستهدف مقاومة الفلسطينيين واللبنانيين إلى خلخلة الوضع القائم الجديد الذي فرضه الإسرائيلي.
حتى الآن لم تتمكن "إسرائيل" من فرض واقع جديد يعوض عمقها الإستراتيجي، فقوّاتها غير مستقرّة في غزّة، وعمليتها البرية في لبنان لم تتيسّر لها كما كانت تؤمّل بعد سلسلة الضربات العميقة التي وجهتها لحزب الله منذ ضربة البيجرات وحتى اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، يُضاف إلى ذلك أنّ محاولة استعادة الردع بالتدمير الممنهج وحرب الإبادة في غزّة، وعمليات شلّ حزب الله بضرب مفاصله التنظيمية وقياداته العليا وتدمير مخزونه الإستراتيجي من الصواريخ في وقت قياسي وتخويف إيران بالحرب الشاملة والاستهداف المتكرر لجماعة أنصار الله في اليمن، لم يضمن طوال عام لـ "إسرائيل" الأهداف الدنيا من هذه الحرب، كإرجاع المستوطنين إلى غلاف غزّة وشمالي فلسطين المحتلة، وبالضرورة الأهداف الوسطى كالقضاء على حماس وتفكيك حزب الله، والأهداف العليا بتغيير البيئة الإستراتيجية في غزّة ولبنان تمامًا لصالح الأمن الإسرائيلي، علاوة على الارتكاز إلى ذلك إن تمّ؛ لضرب البرنامج النووي الإيراني وربما إسقاط النظام في إيران، وهو الأمر الذي يعيد النقاش إلى إدارة الإستراتيجيا في إطار ردّ الفعل التكتيكي.
بهذه الاعتبارات يصعب على الإسرائيلي أن يرى الحرب في نهاياتها، فقد تحوّلت إلى استنزاف حتى قبل استقرار "الانتصار الإسرائيلي" على أراضي الغير، وذلك فقط بسبب طول الحرب، وهو ما يعني أنّ الاستنزاف نفسه سوف تتغيّر طبائعه في حال لو استقرّ في غزّة، أو تمكن من فرض شريط حدوديّ في لبنان، أو كسر حزب الله، أو دفعه لانكفاء طويل بسبب عمق الاستهداف الذي طال الحزب، لاسيما وأنّه وبالنظر إلى كون الإستراتيجيا تتولّد في رحم الفعل التكتيكي، فإنّ "إسرائيل" لم تحسم أمرها بخصوص تعويض العمق الإستراتيجي بالاحتلال، إذ ثمّة مفهوم آخر يطرح، لتعويض العمق الإستراتيجي، وهو "إعادة تشكيل المنطقة"، كما يقترح العقيد (احتياط) عينات جيفنر غولدشتاين والنقيب (احتياط) عميحاي دانينو في مقالتهما المعنونة بـ "من الاحتواء إلى إعادة تشكيل المنطقة - اقتراح لإعادة التفكير في مبدأ مركزي في مفهوم الأمن القومي"، وذلك بالمنافسة على إعادة تصميم منطقة "الشرق الأوسط" دون الحاجة إلى الاحتلال المباشر، وهذا ما يمكن فهمه من تصريحات الإسرائيليين بعد توسيع الحرب على حزب الله، وعلى رأسهم نتنياهو، من قبيل: "تغيير النظام" و"تغيير الترتيب" و"تغيير الشرق الأوسط"، لكن بعد السابع من أكتوبر، هل يمكن الوصول إلى القدرة على "إعادة تشكيل المنطقة"، دون إنجاز واضح للحرب أهدافها بالقضاء الذي لا يحتمل الالتباس على حماس وحزب الله؟!
إنّ إشكالية الحرب الطويلة، في وضع لا يمكن فيه لـ "إسرائيل" إنهاء الحرب باتفاقية مع حماس، تدفع بعض الإستراتيجيين الإسرائيليين، مثل العقيد (احتياط) جور لايش الذي شغل منصب رئيس قسم التخطيط للحملات في سلاح الجو الإسرائيلي ورئيس قسم المفاهيم الأمنية في مجلس الأمن القومي، في مقالة له بعنوان: "ظاهرة الحرب الطويلة: هل هناك حاجة إلى مفهوم أمني جديد بعد 7 أكتوبر؟"؛ لطرح الأسئلة حول مفهوم النصر الكامل الذي يقتضي حربًا طويلة، من قبيل ما يلزم من الوقت والتسليح والموارد المالية وقدرة المجتمع على الاحتمال حتى القضاء على حماس ثمّ حزب الله دون وجود ضمانات بوقف القصف من اليمن أو العراق، أو بعدم تفعيل المقاتلين الذين في سوريا، علاوة على أنّه لا يمكن ضمان التحاق إيران بالاتفاقات الإبراهيمية.
بنحو مباشر يطرح جور لايش الأسئلة التالية: " إذا كانت إسرائيل ستدخل حقبة جديدة من “الحرب الطويلة”، فسيتعين على الجيش الإسرائيلي تجهيز القوات والاستعداد لحروب تستمر لسنوات. ولكن هل سيكون الاقتصاد الإسرائيلي قادرًا على تحمّل هذا العبء؟ هل سيكون قادرًا على دعم “أكبر جيش في الشرق الأوسط” (كما بعد حرب يوم الغفران)؟ وهل سيتحمل المجتمع الذي يدعم الاقتصاد على عاتقه ويخدم في قوات الاحتياط هذا الوضع؟ هل ستظل إسرائيل مركز جذب للمستثمرين في ظل هذا الهيكل الاقتصادي؟ وهل سيقوم أعداء إسرائيل بشن هجوم آخر مثل ما حدث في 7 أكتوبر، أو سيكتفون بالانتظار لانهيار نتائج مفهوم بن غوريون؟ قد تمتلك إسرائيل جيشًا مجهزًا جيدًا، لكن السؤال الحقيقي هو: ماذا سيحدث للدولة التي تعتمد عليه؟ قد يتعرض “المعجزة” الإسرائيلية للدمار من الداخل إذا لم تكن قادرة على التكيف مع هذه التحولات الأمنية والاقتصادية."
بناء على هذه الأسئلة، سنكون إزاء وجهتي نظر إسرائيليتين: الأولى تدفع نحو الاستمرار في الحرب لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بالاعتماد على الإنجازات التي قلّصت من قدرات المقاومة في غزة، ثمّ بالاستهدافات العميقة التي بدت وكأنّها أثّرت بنحو واضح على فاعلية حزب الله، مع التعويل على الدعم الأمريكي المتدفق، وعزل المحيط العربي والإقليمي عن "جبهة المقاومة"، وارتياح العمق الإسرائيلي (منطقة غوش دان تحديدًا) فالمعركة ما تزال في الأطراف، ومحدودية الخسائر البشرية، إذ هي حتى الآن أقلّ ممّا قدر الإسرائيليون لهذه الحرب، وفرض الاستنزاف على الطرف المقابل، فحروب الاستنزاف هي عملية إرهاق متبادل، ولا تنحصر نتائجها على الاحتلال، فهو واع تمامًا لقدرته على إلحاق الأذى الفادح بمجتمعات المقاومة، التي تقاتله، والمجتمعات الأوسع من حولها.
ينتظر وجهة النظر هذه تحديات من قبيل: استهداف العمق الإسرائيلي بما يجعل "إسرائيل" كلّها في مرمى حزب الله وإيران والعراقيين واليمنيين في حال حصل تحوّل على هذا الصعيد من طرف "جبهة المقاومة"، ومسارات الحرب اللبنانية المفتوحة على الغزو البري أو التسوية، بمعنى هل ستتعثر أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان بما يجعل الحرب الإسرائيلية في حالة من الجمود الذي لا يحتمل لدولة صغيرة في بيئة معادية (كأن يراوح الغزو البرّي مكانه أو تزداد كلفته دون قدرة إسرائيلية على حسم الموقف لصالحها كأن تتكيف المقاومة مع أيّ وقائع جديدة) لقد سعت "إسرائيل" للخروج من هذه الحالة بتوسيع الحرب على لبنان، لكن يمكن أن يعود الجمود ليسود الموقف في الحرب على لبنان، فهل تهرب "إسرائيل" إلى حرب أخرى؟ وبالنسبة للتسوية، المرهونة بدورها بالمسار الحربي، إمّا أن تكون شاملة، بما ينهي الحرب حتى على غزة، وإمّا أن تفكّ الجبهة اللبنانية عن غزّة ليعود الإسرائيلي للاستفراد بغزة، أو تشترط وقف إطلاق النار مع حزب الله بقبول حماس بصفقة تبادل أسرى بالشروط الإسرائيلية.
الاستفراد بغزة هو وجهة النظر الثانية، والتي تدعو إلى: إنشاء منطقة منزوعة السلاح في شماليّ غزة، وتحويل هذه المنطقة إلى أساس للحكم المدني البديل لحكم حركة حماس، مع تصميم منطقة حدودية وعوائق تحمي مستوطني ما يُسمّى بـ "غلاف غزة"، وإبرام صفقة تبادل أسرى، بما يضمن لـ "إسرائيل" استمرار الدعم الدولي، وربما إنجاز مشروع التطبيع مع السعودية، والتفرغ تاليًا لحزب الله، أو الوصول إلى تسوية تعيد مستوطني شماليّ فلسطين المحتلة.
يمكن القول إنّ "إسرائيل" تعمل بالمسارين معًا، وهو ما يتضح من العودة لاجتياح شماليّ قطاع غزّة في عملية قد يعدّها البعض مندرجة في إطار ما يُسمّى "خطة الجنرالات"، وإن كانت قد تهدف إلى تحقيق أهداف دون ذلك في سياق تعزيز عزل مناطق شماليّ قطاع غزّة عن بعضها للتمهيد لإطالة الوجود العسكري الإسرائيلي داخل غزّة، وهذا ينسجم مع التأسيس بالتكتيك للإستراتيجيا، إذ بدأت الحرب بجس النبض، وفحص الممكنات للبناء عليها، وبينما تبدو "إسرائيل" متفوقة في هذه اللحظة بقوّة النار، ودعم الولايات المتحدة، والارتياح النسبي لعمقها، ومحدودية خسائرها البشرية، وميل النظام الإقليمي لصالحها، فإنّ الهروب من حرب إلى حرب، قد يعني خسارتها بعض عناصر تفوقها على طريق تآكل قدرتها على الاستمرار في الحرب وتقلّص أهدافها، وعلى أيّة حال، فإنّ الحرب الإسرائيلية هي حرب استطلاع وتجريب، والسير في خطوط متوازية، ومحاولة لتركيب مجموع الأفكار على بعضها، أكثر ممّا هي خطة ناجزة تدفع نحوها ببرنامج عمليّ جاهز.