حرب الإبادة في وجوهها الأخرى.. كيف عمّق الاحتلال الفوضى في غزة؟

حرب الإبادة في وجوهها الأخرى.. كيف عمّق الاحتلال الفوضى في غزة؟
تحميل المادة

على سبيل التقديم..

"في الثامن عشر من آذار/مارس الماضي، استيقظ سكان قطاع غزة على دوي ضربات وانفجارات إسرائيلية عنيفة، في مشهد أعاد إلى الأذهان أهوال القصف، وفضح مجددًا خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير 2025، جاء هذا التصعيد ليضاعف من معاناة الغزيين، الذين كانوا يعيشون لحظات قاسية في محاولات مضنية للبحث بين الركام عن بقايا منازلهم وفلذات أكبادهم المدفونة تحت الأنقاض، خصوصًا أولئك الذين عادوا مؤخرًا من الجنوب سيرًا على الأقدام، بعدما اضطروا إلى النزوح القسري عن مناطقهم مع بدء الاجتياح البري الإسرائيلي للقطاع في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2023.

كان الهدف الأساسي من اختراق الهدنة التي استمرت قرابة شهرين، هو ضرب ما تبقّى من مفاصل العمل الحكومي والإداري في قطاع غزة، سواء على الصعيد الأمني أو المحلي، وذلك عبر استهداف القيادات وعائلاتهم. فقد باتت هذه السياسة نهجًا معروفًا لدى "إسرائيل".

وتصفي، بحسب السياسة التي تبعها الاحتلال، الكفاءات الشرطية والإدارية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار من جهة، ونشر الفلتان الأمني من جهة أخرى، مستغلة حالة الفراغ التي قد تخلّفها هذه الاغتيالات في مواجهة مجموعات خارجة عن القانون، فكانت حتى وقت قريب  تتحاشى الصدام مع أجهزة الشرطة والقضاء في غزة، إلى أن بدأت ملامح هذا الفلتان تتضح خلال الأشهر القليلة الماضية، من خلال تجنيد" إسرائيل" مجموعات مسلحة يقودها تاجر المخدرات السابق في جنوب القطاع، ياسر أبو شباب.

وعليه، كان الثامن عشر من شهر رمضان الماضي فاجعة حقيقية لسكان القطاع، إذ استيقظ الفلسطينيون على نبأ اغتيال أربعة من أبرز قادة العمل الحكومي والأمني والإداري في غزة وهم: رئيس متابعة العمل الحكومي عصام الدعليس، ووكيل وزارة العدل في قطاع غزة المستشار أحمد الحتة، إلى جانب وكيل وزارة الداخلية اللواء محمود أبو وطفة، والمدير العام لجهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان.

 كانت أسماء الأربعة لامعة في متابعة ملفات حيوية تمسّ حياة المواطنين بشكل مباشر، سواء على الصعيد المحلي في الجوانب الاجتماعية والإدارية والتعليمية، أو في المجال الأمني والشرطي، إذ أدّوا دورًا محوريًا في حفظ الأمن وملاحقة المتلاعبين بأسعار السوق من جهة ومرتكبي جرائم القتل والسرقة من جهة أخرى.

تشكيلات مسلحة

في السياق نفسه، لم تكن هذه المرة الأولى التي تعمد فيها "إسرائيل" إلى ضرب الأمن والنسيج الاجتماعي في قطاع غزة، إذ دأبت منذ تولي حركة "حماس" إدارة القطاع سياسيًا وأمنيًا عام 2007 على اتباع سياسة ممنهجة تستهدف تفكيك المؤسسات المدنية والإدارية، من خلال تصفية القيادات الأمنية البارزة، وخلق فراغ أمني متعمد، إذ سعت "إسرائيل" إلى إحداث شلل منظم في بنية الأجهزة الأمنية، بما يفتح الباب أمام الفلتان الأمني، خاصة في ظل الانقسام السياسي بين "حماس" و"فتح".

 ولم تكتف "إسرائيل" بذلك، بل سارعت إلى رعاية مجموعات خارجة عن القانون وتغذيتها بالمال والسلاح، بهدف إشاعة الفوضى، وتكريس حالة من انعدام الأمان في وعي المواطن الفلسطيني، هذه الاستراتيجية لم تكن عشوائية، بل كانت أداة ضغط مركّبة لضرب الاستقرار الداخلي، وتفتيت المجتمع من الداخل من خلال سياسات "التفكيك الناعم" المبطنة بالعنف والإرهاب المنظم.

ومع استمرار حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها "إسرائيل" على سكان قطاع غزة، لم تقتصر سياستها على القتل والتدمير فحسب، بل اتّجهت بشكل ممنهج نحو تفكيك البنية المؤسسية للقطاع، عبر اغتيال القادة الأمنيين، واستهداف مديريات الشرطة، وتدمير مراكزها الحيوية، في محاولة لشلّ الجهاز الأمني بالكامل.

كما نفّذت أيضًا تصفيات دقيقة للكوادر المختصة بمكافحة الجريمة، في إطار خطة لإزالة الأعمدة الحارسة للنظام العام المعمول به سابقًا في غزة، بالتوازي مع إذكاء النزاعات العائلية والقبلية، وتوسيع رقعة الفوضى بفعل غياب سلطة القانون. إذ أن هذا التفريغ المتعمّد للفراغ الأمني فتح المجال أمام تدخل أطراف مشبوهة وعميلة، وظيفتها الأساسية إشعال الفلتان الأمني، وتنظيم عمليات سلب ونهب ممنهجة، لتبدو غزة في أعين سكانها أولًا وكأنها كيان فاشل عاجز عن إدارة شؤونه أو فرض القانون على أراضيه.

مع دخول حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزة عامها الثاني، برز اسم ميليشيا "ياسر أبو شباب" كأحد أخطر التشكيلات المسلحة الخارجة عن القانون، والتي يُعتقد أنها تعمل بتنسيق مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي، مثل "ياسر أبو شباب" والذي كان معتقلًا في سجون الشرطة الفلسطينية التابعة لحكومة "حماس" منذ عام 2015 بتهم تتعلق بتهريب المخدرات والانخراط في أنشطة إجرامية منظمة، خرج إلى العلن مجددًا بعد أن استهدفت الطائرات الإسرائيلية مقارّ الأمن الداخلي في الساعات الأولى من عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023.

وعليه، استغل أبو شباب الانهيار الأمني في قطاع غزة بفعل الاستهداف المتعمد لقيادات أمنية وشرطية، ليحول نفسه إلى زعيم ميليشيا مسلحة تعرف باسم "القوات الشعبية"، وهي تشكيل مكوّن من نحو 100 إلى 300 مسلح، يعتقد أن معظمهم من المنشقين عن أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، وممن التحقوا سابقًا بجهاز الأمن الوقائي أو المخابرات العامة أيضًا.

تلقّت هذه المجموعة دعمًا عسكريًا ولوجستيًا مباشرًا من "إسرائيل"، باعتراف رئيس وزراء الاحتلال "بنيامين نتنياهو" ومسؤولين في جهاز "الشاباك"، في محاولة لإنشاء ذراع محلي مسلح يعمل على تفكيك ما تبقى من نفوذ حماس في غزة، تحت غطاء "حماية قوافل الإغاثة" أو "فرض النظام"، بيد أن نشاطها الحقيقي تمثّل في نهب المساعدات، تنفيذ عمليات تصفية، وتغذية الفوضى الأمنية، بما يخدم الرواية الإسرائيلية حول "فشل غزة في إدارة الحكم الذاتي.

سياسة قديمة متجددة

في الموضوع نفسه، يمكن اعتبار ميليشيا "ياسر أبو شباب" تجسيدًا عمليًا لاستراتيجية "إسرائيل" التقليدية في تفكيك المجتمعات من الداخل عبر مبدأ "فرّق تَسد"، إذ استغلت الفوضى الأمنية الناتجة عن استهدافها المباشر لمؤسسات الشرطة والأمن في قطاع غزة، لتفتح المجال أمام نشوء مجموعات مسلحة محلية مدعومة بشكل غير مباشر تحت ذرائع إنسانية أو أمنية، مثل "حماية المساعدات" أو "مكافحة الإرهاب".

إلا أن هذه الميليشيا لم تكن سوى أداة تنفيذ، بالوكالة، وظّفتها "إسرائيل" لضرب النسيج الداخلي الفلسطيني، وإضعاف أي بنى تنظيمية بديلة يمكن أن تشكّل تهديدًا لسيطرتها، فتحولت هذه الجماعة إلى ذراع ميداني للاحتلال في عمق القطاع.

المفارقة أن هذه الخطوة أثارت انتقادات حادة حتى داخل الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، التي حذّرت من خطورة تمكين جماعات مشبوهة الهوية والانتماء، واحتمال تحوّلها لاحقًا إلى تهديد أمني منفلت لا يمكن السيطرة عليه، بينما على مستوى الشارع الفلسطيني داخل غزة ، فقد أسهم هذا التحرك في تعميق حالة عدم الثقة، وتكريس الإحساس بانعدام الأمان، وولّد قناعة بأن "إسرائيل" لا تسعى فقط لهدم المباني، بل لتفكيك المجتمع من الداخل، عبر دعم وكلاء محليين للفوضى.

تعيد ميليشيا "أبو شباب" إلى أذهان الفلسطينيين مشاهد الانقسام الدموي الذي بلغ ذروته عام 2007، في أعقاب فوز حركة "حماس" الساحق في الانتخابات التشريعية عام 2006، وهو الفوز الذي لم يُقابل بتسليم سلمي للسلطة من قبل حركة "فتح". فبدلاً من احترام نتائج الصناديق، شهدت الساحة الفلسطينية تصاعدًا حادًا في التوترات السياسية والأمنية، خصوصًا في قطاع غزة، حيث تفجّرت حالة من الفلتان الأمني والصراع على النفوذ.

في خلفية هذا المشهد، أدن الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابق" جورج بوش الابن" دورًا محوريًا في تأجيج الانقسام، من خلال تقديم دعم مباشر للقيادي الفتحاوي محمد دحلان، الذي كان يقود جهاز الأمن الوقائي، شمل هذا الدعم تدريبات عسكرية متقدمة لعناصره، وتزويدهم بأسلحة نوعية تم تهريبها عبر الأراضي المصرية، في محاولة لخلق توازن قسري أو حتى لإضعاف "حماس" بالقوة.

وردًا على هذه التحركات، بادرت "حماس" إلى تأسيس جهاز أمني موازي أطلقت عليه اسم "القوة التنفيذية"، والذي سرعان ما تحول إلى الذراع الأمني الفعلي للحركة في القطاع، وقاد عمليات ميدانية انتهت بإحكام السيطرة على معظم المقرات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية،  وبحلول منتصف عام 2007، كانت غزة قد خرجت فعليًا من قبضة السلطة، وهرب دحلان وعدد كبير من قيادات "فتح" وأجهزتها الأمنية إلى الضفة الغربية أو إلى الخارج، معلنين بدء مرحلة جديدة من الانقسام الفلسطيني ما زالت تداعياتها قائمة حتى اليوم.

وفي الموضوع ذاته، بات الخوف وانعدام الأمن سمتين يوميتين في حياة السكان، وسط شعور عارم بانهيار النظام الاجتماعي والأمني، فقد استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية بشكل ممنهج الكوادر الأمنية والشرطية، وحتى الإدارية، التي كانت تشكل العمود الفقري لإدارة الحياة المدنية في غزة.

 ومع غياب تلك المنظومة التي كانت تضبط الشارع وتحفظ النظام، بدأت تطفو على السطح ظواهر خطيرة، كان أبرزها تصاعد نشاط العصابات الإجرامية ووقوع حالات سلب ونهب في وضح النهار، دون وجود سلطة رادعة أو جهة قادرة على التدخل.

تفاقمت حالة الفوضى الأمنية والانهيار المجتمعي في غزة بشكل غير مسبوق، مع اعتماد الاحتلال الإسرائيلي استراتيجية ممنهجة لاستهداف رجال تأمين المساعدات الإنسانية، الذين كانوا يشكّلون خط الدفاع الأخير في وجه السلب والنهب وانفلات "قطاع الطرق"، إذ لم يكن هذا الاستهداف عرضيا، بل جزءًا من خطة تهدف إلى تفكيك ما تبقّى من البنية الأمنية والمدنية، التي حافظت رغم المجازر والحصار على قدر من التماسك المجتمعي وسط الخراب.

وبالتالي، فإن رجال الشرطة، والدفاع المدني، والكوادر الإدارية الميدانية، أدوا دورًا محوريًا في تنظيم توزيع المساعدات، وحماية قوافل الإغاثة، وضبط النظام العام، لكن اغتيالهم المتعمد، تحت نيران الاحتلال، فتح الباب واسعًا أمام الفوضى والانهيار، فغابت السلطة الرادعة، وانتشرت حوادث النهب العلني، وتحول الشارع إلى ساحة للفوضى. وبهذا المسار، سعى الاحتلال إلى ترسيخ صورة "الانهيار الكامل" للمجتمع الغزي، لا كأثر جانبي للحرب فحسب، بل كهدف مباشر لاستكمال حرب الإبادة بالسلاح والفوضى معًا، لتصبح غزة مكانًا بلا نظام، ولا أمان، ولا كرامة إنسانية.

الأمن قبل حرب الإبادة

في السياق نفسه، يجمع الفلسطينيون الذين تحدثت إليهم "منصة إطار" على أن الواقع الراهن في غزة يفوق كل تصور، ويصفونه بأنه الأسوأ في تاريخ القطاع، لا سيما من حيث الانفلات الأمني وانهيار القيم المجتمعية تحت ضغط البقاء، وما يزيد من مرارة المشهد هو أن الشرطة التي كانت تقف سدًا منيعًا في وجه هذه الظواهر قبل السابع من أكتوبر، أصبحت الآن إما شهيدة أو ملاحقة أو عاجزة، فأصبحت أمنيات السكان تتعالى بوقف العدوان وعودة الحياة إلى طبيعتها، بل ويزداد الحنين إلى الأيام التي كان فيها الأمن حاضراً، حتى في أصعب الظروف، مقارنة بما آلت إليه غزة اليوم من ظلام.

يرى المواطن محمد شعبان، موظف في بلدية غزة أن الانهيار المجتمعي الذي يعيشه القطاع أفقد الناس الشعور بالأمن والأمان، مضيفا "نحن نشهد اليوم تمزقًا للسلم الأهلي لم يسبق له مثيل، وهو تمزق مدفوع ومقصود يسعى فيه الاحتلال إلى تفتيت النسيج المجتمعي، عبر تحطيم ثقة الناس بمحيطهم، وتحويل كل حي وكل شارع إلى منطقة تهديد محتمل".

أعادت حالات الفلتان الأمني والمجتمعي داخل غزة المواطن أبو شعبان إلى ما قبل عملية السابع من أكتوبر، إذ أظهرت الفارق الهائل في حالة الأمن ما قبل حرب الإبادة وبعدها، قائلا" قبل حرب الإبادة، رغم كل ما كنا نواجهه من تحديات وحصار وضغوط سياسية واقتصادية، إلا أن الأمن الداخلي كان حاضرًا بقوة، فكانت هناك مؤسسات قائمة، شرطة فاعلة، محاكمًا، ونظامًا مجتمعيًا راسخًا يعالج المشاكل بآليات منظمة، ولم تكن الجريمة منتشرة بهذا الشكل، ولم يكن هناك ما يُسمى بعصابات مسلحة خارجة عن القانون تعبث في الشوارع".

في المقابل، فإن اليوم، ومع غياب القيادات التي اغتيلت عمدًا، وتدمير البنى التنظيمية، وانقطاع التواصل والتمويل والدعم، أصبحنا في حالة تشبه "الفراغ المجتمعي"، إذ يصارع الناس من أجل البقاء في ظل التجويع والحصار، والاحتلال يراهن على أن تتحول هذه البيئة إلى مستنقع داخلي تنهار فيه قيم التماسك والنجدة والتكافل، لتحل مكانها مشاهد الفوضى والخوف والنهب، على حد قوله.

في حين يرى المواطن جهاد المدهون أن حالة الأمن التي كانت سائدة في غزة لم تبنَ على أسس أخلاقية، بل كانت نتيجة الخوف من قبضة النظام الحاكم، مؤكدًا أن الانهيار الأخلاقي وانتشار السرقة تصاعدا بشكل لافت بمجرد غياب الأجهزة الأمنية وتدمير مقراتها، ما أتاح لعديمي الضمير استغلال الفراغ الأمني لتنفيذ ممارساتهم.

ويشير المدهون، وهو في العقد الثالث من عمره، في حديثه لـ"منصة إطار"، إلى أن غياب الردع الأمني شجّع بعض التجار على استغلال الأزمة، فارتفعت أسعار الخضروات والمواد الأساسية بشكل فاحش، حتى بات تأمينها أمرًا شاقًا على الميسورين، فما بالك بالفقراء الذين لا يملكون مصدر دخل، في ظل مجاعة تضرب غزة، على حد وصفه.

هاجس يومي مرهق

في الموضوع نفسه، يرى المواطن الأربعيني "أبو شادي" أن ما يجري على الأرض لا يمكن تفسيره إلا كجزء من سياسة ممنهجة لتفكيك المجتمع الغزّي، فبحسب روايته، فإن استخبارات الاحتلال تدّعي أن لا استهداف يتم دون مبرر، إلا أن الواقع يكشف نوايا مغايرة؛ فاستهداف موزّعي الغاز البسطاء يفهم منه السعي لتفتيت النسيج المجتمعي، بينما استهداف المعلمين يبدو كضرب مباشر لجذور القيم التربوية والأخلاقية التي يقوم عليها التعليم. مضيفا" قبل الحرب، كانت الحكومة التي تديرها حماس قادرة على استدعاء أي شخص، مهما كان شأنه، إلى أقصى نقطة أمنية في غزة، أما الآن، فهي عاجزة حتى عن تأمين كيلوجرامات من الطحين للناس".

ويتحدث أبو شادي لـ" منصة إطار" عن تحوّل مقلق في المشهد الأمني الداخلي، إذ فقدت الأجهزة الأمنية سيطرتها، وانفلت زمام العائلات التي باتت تمسك بزمام الأرض حول أماكن سكنها، وتفرض نفوذها بالقوة، وتسيطر على مرور قوافل المساعدات، وكأنها سلطة بديلة تفرض منطق الغلبة.

ويختم بالتحذير من استهداف سيارات مياه البلديات، الذي بات هاجسًا يوميًا للسكان، رغم أن المياه الصالحة للشرب أصبحت شديدة الملوحة، متجاوزة الحدود المسموح بها بعشرات الأضعاف، وكل ذلك، كما يقول، جزء من حرب الإبادة الجماعية التي لا تستهدف فقط البشر، بل تُمعن في تفكيك ما تبقّى من حياة.

في حين ترى معلمة اللغة العربية، سمية البلبيسي، أن حالة الفلتان الأمني التي يعيشها قطاع غزة اليوم ليست عشوائية ولا طارئة، بل نتيجة مباشرة لسياسة "إسرائيلية"  ممنهجة هدفت إلى ضرب العمود الفقري للأمن الداخلي، مستدركة" ااستهداف الاحتلال المتعمد لقادة الأجهزة الأمنية، والكوادر الحكومية، والمسؤولين عن ضبط النظام، لم يكن سوى خطوة أولى في خطة لإغراق القطاع في الفوضى".

ولفتت العشرينية البلبيسي، بصفتها شاهدة على تفاصيل الحياة اليومية تحت نيران حرب الإبادة، أن هذا الفراغ الأمني خلق بيئة مثالية لانتشار الجريمة، فباتت المساعدات الإنسانية تنهب في وضح النهار، والممتلكات تُنهك بالسطو والاعتداء، دون وجود يدٍ رادعة، بعدما استُشهد كثير من عناصر الأمن أو اضطروا للنزوح قسرًا، على حد قولها.

وترى البلبيسي في حديث مع" منصة إطار" أن ما تعيشه غزة يذكرها بما قبل العدوان، بل يتجاوز ذلك إلى مشهد أكثر قتامة، فقد كانت غزة، قبل الحرب، تنعم بقدر معقول من الاستقرار، إذ كانت الشرطة حاضرة، والقانون يحترم، والسلوك العام مضبوط بضوابط أخلاقية وقانونية، أما اليوم، فالوضع يشبه الانهيار التام، مجتمع بلا حماية، وبلا سلطة، وبلا أمان.

في سياق متصل، نوه إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أن القيادات المجتمعية التي استُهدفت خلال العدوان الإسرائيلي كانت تمثّل أعمدة أساسية في تثبيت النسيج الاجتماعي وتعزيز صموده، خصوصًا في ظل الحصار الطويل. هذه الشخصيات لم تكن مجرّد أفراد، بل كانت بمثابة مظلّة جامعة للتماسك الوطني، تسهم في التوجيه والتعبئة، وتُعنى بالإغاثة وحل النزاعات، وتقدّم المبادرات الشعبية التي تُبقي المجتمع حيًّا وفاعلاً.

وفي حوار خاص مع "منصة إطار"، أشار الثوابتة إلى أن استهداف هذه القيادات لم يكن مجرد خسارة بشرية، بل أحدث صدمة جماعية وخلّف فراغًا إداريًا وتنظيميًا في مناطق عدة، غير أن الإرادة المجتمعية، كما يوضح، لم تسمح لهذا الفراغ بأن يتحوّل إلى انهيار، بل بادرت إلى ترميمه عبر الدفع بقيادات جديدة لسد الثغرات والاستمرار في إدارة العمل المجتمعي والخيري، رغم استمرار محاولات الاحتلال الممنهجة لشلّ هذه الحيوية.

أما على المستوى المجتمعي والنفسي، فيؤكد الثوابتة أن الأثر كان مركبًا، ففقدان رموز لها مكانة راسخة في وجدان الناس ولّد حالة من الحزن العميق والصدمة، لكنه، في الوقت ذاته، عزز الشعور بالمسؤولية الجمعية، ودفع المجتمع نحو مزيد من الالتفاف حول قيم المقاومة والصمود، على حد وصفه.

ويرى الثوابتة أن الاحتلال كان يراهن على أن استهداف العناصر الفاعلة سيحدث انهيارًا داخليًا، مضيفًا: "لكن ما حدث كان العكس تمامًا؛ فقد ولّدت هذه الجرائم وعيًا شعبيًا متجددًا، وأدرك الناس أن ما يُستهدف هو روحهم الجمعية، فهبّوا للدفاع عنها، وتجذّرت لديهم قناعة بأن الصمود هو الرد الحقيقي على مشروع الإبادة الإسرائيلي".