حرب الظلال.. ماذا جرى في المواجهة الأمنية بين "إسرائيل" وحزب الله؟

حرب الظلال.. ماذا جرى في المواجهة الأمنية بين "إسرائيل" وحزب الله؟
تحميل المادة

خرج حزب الله من الجولة القتالية مع جيش الاحتلال -التي تطورت من جبهة إسناد لقطاع غزة، منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إلى حرب واسعة- بخسائر ثقيلة على مستوى القيادات التاريخية في صفوف أجهزته السياسية والأمنية والعسكرية، على رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، ورغم أنه استطاع الوقوف سريعًا بعد الضربات العدوانية الإسرائيلية واستعادة القدرة على التنظيم والتحكم والدفاع والهجوم في الميدان العسكري في المقام الأول، والسياسي على مستوى القيادة والحضور في الواقع اللبناني عقب انتخابه الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًّا، إلا أن قدرة استخبارات الاحتلال على تحقيق ضربات مثل التي وقعت في الأيام الأولى من العدوان الواسع يطرح أسئلة وإشكاليات حول الأسباب في الإطار الواسع الذي لا يقف عند حدود الأمني المباشر المجرد بل يتسع إلى مداخل مختلفة شكّلت الواقع على ما عايناه.

بنى جيش الاحتلال عدوانه على حزب الله ولبنان في المقام الأول على عمليات أمنية استخباراتية مسبقة، وفّرت للأذرع العسكرية المختلفة إحداثيات وبيانات عن مواقع حساسة للتنظيم العسكري والأمني والسياسي للحزب، كانت بداية الذروة الأخطر فيها في الهجمات الإرهابية بتفجير أجهزة البيجر والاتصالات، ثم عمليات اغتيال نصر الله، ورئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين الذي طرح اسمه بقوة خليفة للأمين العام، ومسؤول وحدة الأمن الوقائي نبيل قاووق، وقائد قوة الرضوان إبراهيم عقيل وعدد من أركانها، وعلي كركي مسؤول المنطقة الجنوبية، ومسؤول وحدة الإعلام محمد عفيف، وقبلهم فؤاد شكر المسؤول العسكري الأعلى في الحزب، وآخرين من القادة الميدانيين في مختلف المستويات خلال جبهة الإسناد وفي الحرب.

كشفت الاغتيالات والضربات التي وجهها جيش الاحتلال لحزب الله عن كثافة في العمليات الاستخباراتية والأمنية؛ نُفّذت طوال السنوات الماضية، خاصة في الفترة بين حرب 2006 وانطلاق العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية في 2023. جمعت استخبارات الاحتلال بمختلف أجهزتها (الاستخبارات العسكرية، الموساد) وغيرها، إحداثيات وبيانات وبنك أهداف حول البنية التنظيمية بمختلف اختصاصاتها في الحزب.

البدايات… الأمن في زمن الولادة الصعبة

منذ بدايات تأسيسه الذي جاء ردًّا مباشرًا على اجتياح جيش الاحتلال للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، في 1982، عمل الحزب على تأسيس جهازه الأمني والاستخباراتي الخاص، وعادة لا يكشف الحزب عن معلومات حول أجهزته الخاصة المرتبط منها بمهمات الأمن والعسكر وتطوير السلاح وتنفيذ العمليات، وفي الواقع اللبناني شديد التعقيد الذي ولد فيه الحزب، لجهة الحرب الأهلية التي كانت تفتك بالبلاد، والانتشار الاستخباراتي لعديد الأجهزة الغربية والعربية، والاختراق الإسرائيلي الواسع الذي وصل إلى حد التحالف مع قوى سياسية (اليمين الانعزالي) ضد منظمة التحرير الفلسطينية وقوى اليسار والحركة الوطنية اللبنانية، كانت الحاجة إلى جهاز أمني له مهمات متعددة أبرزها الحماية من الاختراقات حاجة لتنظيم بدأ حياته العامة في العمل العسكري المادي المباشر.

تشير أدبيات الحزب التاريخية إلى شخصيات مختلفة تولت مهمات أمنية في الحزب، بينهم عماد مغنية القائد التاريخي الذي تتهمه الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية بالمسؤولية عن عدة عمليات كبيرة بينها تفجيرات مقرات "المارينز" والقوات الفرنسية والحاكم العسكري الإسرائيلي، بعد اجتياح 1982، ومصطفى بدر الدين قائد هيئة الأركان الذي قضى خلال الحرب في سوريا، وأسد محمود صغير المعروف باسم "الحاج صالح" وتوفي العام الماضي بعد معاناة مع مرض السرطان، وكان من الشخصيات المركزية في أمن الحزب وله دور كما أعلن نصر الله في خطاب النعي أنه أشرف على تطوير الجهاز الأمني وبناء الخطط والاستراتيجيات وتفكيك شبكات العملاء واختراق القوى المسلحة المعارضة في سوريا خاصة في فترة تنفيذ عمليات تفجيرية في لبنان والضاحية الجنوبية، في أوج الحرب السورية.

استفاد حزب الله دروسًا أمنية وعسكرية من مصادر مختلفة، بينها تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وقد جاء عدد من القادة الرئيسيين خاصة في الجهاز العسكري للحزب من صفوفها (أبرزهم مغنية)، بالإضافة للتدريبات التي قدمها ضباط الحرس الثوري الإيراني الذين دخلوا إلى البقاع عقب الاجتياح الإسرائيلي، كما كان لعامل المواجهة المباشرة وسنوات الاحتكاك والحرب الأمنية دور في صقل تجربته، ومع السنوات توسعت أجهزة الاستخباراتية كما تشير المصادر، وكانت له تجربة دمج العمل العسكري والأمني معًا في وحدة واحدة كما في وحدة "العباس" التي عملت خلال الفترة التي سبقت تحرير جنوب لبنان، في أيار/ مايو 2000، واعترف قادة سابقون في جيش الاحتلال عملوا خلال فترة احتلال الجنوب أن أمن الحزب نجح في تحقيق اختراقات خاصة لميلشيا العميل أنطوان لحد ووصل في عدة حالات لضباط رفيعي المستوى بينهم قائد فرقة لبنان العميد إيرز غيرشتاين الذي قتل في انفجار عبوة ناسفة، في شباط/ فبراير 1999، وفي عمليات أخرى بينها عملية أنصارية التي تكبدت فيها الوحدة البحرية الخاصة "شييطت 13" خسائر قاسية. وتقول وسائل إعلام وتقارير غربية وعربية إن الحزب عمد في عقود من حياته العسكرية والأمنية إلى الفصل بين أجهزته التي تختلف مهماتها بين التصدي لمحاولات الاختراق، وقلب الاختراق على العدو والأجهزة الحليفة له، وتنظيم عمليات في الخارج، والعلاقة مع الحلفاء، والعمل داخل فلسطين المحتلة.

من هذا الحديث عن أجهزة الحزب وانشغاله التاريخي في عمل أمني واستخباري يظهر حجم المعركة الأمنية مع دولة الاحتلال وحلفائه خاصة الاستخبارات الغربية على رأسها الأمريكية.

 ما بعد 2006… ورشة استخباراتية مكثفة

خرج جيش الاحتلال من الحرب التي اندلعت مع حزب الله، في تموز/ يوليو 2006، بدروس قاسية بعد النجاحات التي حققها الحزب ضده بداية من عملية أسر الجنود، ثم صموده رغم الضربات الجوية القاسية، واستمراره في تنظيم عمليات صاروخية طوال أيام الحرب، ثم تكبيده القوات الغازية في الجنوب خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وشكّل لجنة للتحقيق في الأسباب الحكومية والسياسية والعسكرية المختلفة للفشل عرفت باسم "لجنة فينوغراد".

أبرز الدروس والعبر التي ركز عليها ضباط ومسؤولون في دولة الاحتلال هو أن غياب مخزون استخباري على شكل "بنك أهداف"، يمنح الجيش مساحة واسعة للضرب في مفاصل الحزب المختلفة، يحدث على الأقل تصدعًا في الهيكل الأساسي فيه، أو ضربة تربكه بشدة وتؤخر المشاريع والأهداف الاستراتيجية العسكرية والأمنية له؛ هو من أسباب الفشل، رغم أن جيش الاحتلال شن حملة قصف جوي واسعة ثاني أيام العدوان أطلق عليها اسم "الوزن النوعي"، وقال إنه استهدف منصات ومخازن صواريخ للحزب، لكن الأمين العام الراحل حسن نصر الله قال لاحقًا إن القائد العسكري والأمني للحزب حينها عماد مغنية نفّذ عملية تضليل استخباراتي وأشرف على عمليات تبديل واسعة حمت مقدرات الحزب الصاروخية من الضربة الإسرائيلية التي استغرق التخطيط وجمع المعلومات لها سنوات سابقة كما كشف باحثون إسرائيليون بينهم زئيف شيف وعوفر شيلح في كتابهما "أسرى في لبنان".

انطلقت استخبارات الاحتلال بعد حرب 2006 في هجوم أمني مكثف على حزب الله بما يُمثّل من منظومة تشغيلية، وبما يحيطه من بيئة اجتماعية وسياسية، وفي الأفق الأوسع البلد الذي ينخرط في الحياة العامة فيه (لبنان)، وحلفائه في الإقليم (سوريا، وإيران) وغيرهما، وهو ما يؤكده قادة الحزب كما في تصريحات لمسؤول وحدة التنسيق والارتباط وفيق صفا (تعرض لمحاولة اغتيال خلال الحرب)، حين ذكر في لقاء مع قناة المنار أن الاستخبارات الإسرائيلية تسلط جهودًا تجسسية ومتابعة مكثفة على كوادر المقاومة في مختلف الأجهزة والمستويات والمواقع وتسعى لرصد إمكانياته خاصة الاستراتيجي منها وبناء بنك أهداف للحرب المقبلة.

تدخل استخبارات الاحتلال في خدمتها أدوات مختلفة، بينها تشغيل عملاء ومحاولة تحقيق اختراقات في المجتمعات العربية، وفي حالة حزب الله في المجتمع اللبناني، وللجسم التنظيمي للحزب نفسه، بالإضافة لمجموعة واسعة من القدرات التكنولوجية والتجسسية التي تملكها دولة الاحتلال التي تُصدّر نفسها للعالم كأحد عناوين منظومات التجسس، بالتزامن مع عملية مسح واسعة للميدان اللبناني باستخدام الطائرات المسيَرة بأنواع مختلفة، رغم أن القرار 1701 الذي أوقف حرب 2006 وعاد التفاوض لوقف حرب 2023 - 2024 وفقًا لأحكامه؛ يمنع الاحتلال من تسيير طلعات جوية فوق الأراضي اللبنانية. وفي سنوات بين الحربين أعلن حزب الله أن جهازه الأمني فكك شبكات عملاء لجهاز "الموساد" الإسرائيلي في لبنان كان لها دور في تنفيذ عمليات اغتيال ضد قادة عسكريين فيه، بينهم غالب عوالي الذي كان أحد المسؤولين عن الملف الفلسطيني خلال فترة انتفاضة الأقصى، وعلي صالح أحد ركائز ذات الملف، والقياديين في حركة الجهاد الإسلامي في المخيمات الفلسطينية في لبنان محمود ونضال المجذوب.

أثمرت العمليات الأمنية هذه في بداية الحرب العدوانية على لبنان، عن نجاحات لاستخبارات الاحتلال أبرزها اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وبقية القيادات، وقبلها في تفجير أجهزة "البيجر"، واعترف الأمين العام الذي انتخب خلال الحرب الشيخ نعيم قاسم أن هذه الضربات "أصابت الحزب بالإرباك لمدة 10 أيام"، كما قال في أحد خطاباته أثناء العدوان، قبل أن يستعيد المبادرة ويُنفّذ عمليات قصف صاروخي تدرجت إلى "تل أبيب" الكبرى في قلب دولة الاحتلال، ومحاولة اغتيال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بعد قصف منزله في قيساريا المحتلة بطائرة مسيَرة، وعمليات أخرى بينها استهداف معسكر لواء "جولاني" في واد عارة.

لبنان… البلد الذي تعرفه استخبارات الاحتلال

يتحرك حزب الله في بلد معقد حيث دولة تتقاسمها الطوائف، وما زالت الحرب الأهلية ترخي بكثير من آثارها على العلاقات الاجتماعية بين طيف واسع منها، والخلافات السياسية بين أحزابها ومكوناتها الاجتماعية تصل إلى حدّ مفاهيم أساسية مثل تعريف "من العدو؟"، وهذا الإطار السياسي - الاجتماعي الواسع له تأثيرات عميقة في الصورة الشاملة التي تقع الأوضاع الأمنية - العسكرية فيها.

لعقود عملت استخبارات الاحتلال على تأكيد حضورها في الساحة اللبنانية، عبر تجنيد العملاء، ثم التحالف مع قوى معادية للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، بداية من سنوات السبعينيات، والإشراف على تشكيل ميلشيات وجيش عميل في الجنوب، وفي سنوات الاحتلال للجنوب التي امتدت من 1978 - 2000 أشرفت أجهزة عديدة على عمليات التجسس والاختراق (الشاباك، الموساد، 504) بالإضافة لأجهزة أمنية تابعة لميلشيا العملاء كانت الاستخبارات الإسرائيلية تشرف عليها.

هذه السنوات الطويلة من العمل الاستخباري الإسرائيلي في الساحة اللبنانية، أنتجت آثارًا مختلفة؛ بينها تجنيد عملاء واصلوا العمل ضد المقاومة، إلى جانب أن إطلاق سراح طيف من العملاء الذين عملوا خلال فترة الاحتلال في ميلشيا لحد، جعل من مهمة التصدي لاختراقات الاحتلال صعبة ومرهقة وتتطلب جهدًا واسعًا.

التركيبة الاجتماعية والطائفية المعقدة في لبنان، والأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعانيها طبقات مختلفة، حاولت استخبارات الاحتلال استغلالها لتجنيد عملاء في العمل الأمني والاستخباري ضدّ حزب الله، من باب العداء الطائفي - السياسي لفئات لبنانية للحزب، أو الحاجة المادية في ظل تراجع الوضع الاقتصادي خاصة لطبقة الشباب التي تعاني البطالة المتصاعدة، في السنوات الماضية، خاصة مع الانهيار الذي تسببت به ظروف مختلفة بينها سوء الأداء الحكومي والحصار الأمريكي خاصة على المؤسسات من بيئة حزب الله. وفي سنوات ما قبل الحرب كشفت تحقيقات صحفية منها تحقيقات لصحيفة "الأخبار" المقربة من الحزب عن تجنيد استخبارات الاحتلال لشبان لبنانيين بعضهم من بيئة الحزب ومحاولات أخرى لم تنجح، باستخدام الإغراءات الاقتصادية والمالية، وهي الأدوات التي ترتكز عليها استخبارات الاحتلال في فلسطين ودول عربية وإسلامية أيضًا.

الحزب… ابن بيئته

من المعلوم أن حزب الله وُلِد في البيئة الشيعية اللبنانية، وهو يُعرّف نفسه على أساس أنه حزب شيعي إمامي إثنا عشري ويؤمن بنظرية "ولاية الفقيه"، لذلك فالبيئة الحاضنة له والتي قدّمت له القيادات والكوادر، طوال عقود، هي المجتمع الشيعي اللبناني في الجنوب والضاحية والبقاع وغيرها من مناطق لبنان، وأصبح مع مرور السنين، ممثلاً لطيف واسع منها بالشراكة مع حركة أمل، أكبر من مجرد تنظيم سياسي بل بنى مؤسسات اجتماعية واقتصادية وصحية وأمنية رعت مصالح الطائفة التي كانت ترى نفسها لعقود في موقع المظلومية والتهميش من قبل الدولة اللبنانية.

هذا التمحور للحزب بكل ما فيه من بنى تنظيمية وقيمية وسياسية في المجتمع الشيعي اللبناني، يجعل من تحديد بؤرة الاستهداف الأمني والاستخباري وإن كانت على نطاق واسع واضحة أمام أجهزة استخبارات الاحتلال والمخابرات الأمريكية والغربية المختلفة، وهذا من جوانب عدة بينها أن الشخصيات المركزية في الحزب وإن كانت تعمل في الخفاء والظل في مجالات الأمن والعسكرية، ونجحت في تجاوز إجراءات الاحتلال في ملاحقتها والحفاظ على بقائها لعقود، إلا أنها في النهاية معروفة لأوساط مختلفة في البيئة الاجتماعية التي تنتمي إليها، خاصة أن بعضهم مطلوب منذ سنوات الثمانينيات وتعرض لعدة محاولات اغتيال وشارك في معارك الحزب المختلفة ويتولى مهمات تتطلب تواصلاً مباشرًا مع الكوادر والقادة الميدانيين.

من جانب آخر فإن قيادات الحزب ومفاصله الرئيسة وكوادره هم في نسبة كبيرة أبناء قرى سواء في الجنوب والبقاع، أو تجمعات داخل مدن، ويغلب عليهم الروابط الاجتماعية القوية والعلاقات العائلية والمعرفة الشخصية، وكثير من الكوادر الحزبية معروفون لعامة الناس، مع وجود حالات لا يعرف المجتمع على وجه التحديد دورها العسكري أو الأمني أو إن كان له موقع قيادي في الحزب.

ويعمل في صفوف الحزب عشرات الآلاف من البيئة الشيعية اللبنانية، وهو ما جعل من أجهزته ومؤسساته واسعة وعلى نطاق كبير في العدد والاتساع الجغرافي، في البلاد، وهذه الأعداد الكبيرة تجعل الحاجة إلى تنظيم أمني فائق النوعية والدقة ضرورية لمواجهة محاولات الاختراق، وتقول مصادر مقربة من الحزب إن عمليات التنظيم تخضع لاختبارات أمنية واجتماعية ودينية للأشخاص المنوي ضمهم إليه.

وفيما يتصل بالبيئة الاجتماعية فإن تحدي العصر أمام الحركات السياسية والعسكرية التي تعيش حربًا أمنية مفتوحة مع أعدائها، خاصة المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان مع دولة الاحتلال التي تعتبر التكنولوجيا أحد رؤوس تفوقها العسكري، هو انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق أصبح مكونًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية بما يتصل أيضًا بالهواتف الذكية والتطبيقات المتعددة التي فتحت مجالاً للاستخبارات لبناء وحدات وقدرات تخترق منها حياة الناس المستهدفين.

تُشير بعض التحليلات حول أسباب اختراقات الاحتلال التي مكنته من تنفيذ الاغتيالات لقيادات الحزب، في جزء منها، إلى انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتقول إن مراقبة القائد المستهدف قد تكون عن طريق مراقبة عائلته ذاتها، من خلال الهواتف أو حساباتها على مواقع التواصل، أو حتى عبر أجهزة إلكترونية لا تتعلق بالاتصالات، وإن كانت هذه الشخصية تأخذ احتياطات أمنية مكثفة.

خلال خطاباته في شهور عمليات الإسناد على الجبهة الشمالية، وجه الشهيد نصر الله دعوات مباشرة لجمهور الحزب للحذر من خطورة الهواتف النقالة، والضرر الأمني الناجم عن الاستهتار باستخدامها، خاصة من قبل الكوادر والمسؤولين العسكريين، وهو ما يشير إلى حجم الاستهدافات التي تعرض لها عناصر المقاومة، من قبل جيش الاحتلال، خاصة مع دخول تقنيات جديدة نسبيًّا في المعركة مختلفة عن حروب سابقة، بينها "الذكاء الصناعي" الذي منح أدوات العدوان الإسرائيلي فرصًا جديدة في الفتك والتدمير.

هذا الانفتاح على مواقع التواصل الاجتماعي لا يتوقف على الاختراقات الإلكترونية، بل ولَّد معه ظواهر مجتمعية لا تقتصر على لبنان وبيئة حزب الله فقط، بل هي ذات طابع عالمي، لكنها تصبح أخطر في المجتمعات التي تواجه تهديدًا عسكريًّا وأمنيًّا، كما في حالة فلسطين ولبنان والدول العربية والإسلامية خاصة المستهدفة بشكل مكثف من استخبارات الاحتلال، وأبرزها ظاهرة التصوير والنشر المكثف لمعلومات قد تستخدمها الأجهزة الاستخباراتية في عمليات التحليل، وهو ما يعرف باسم "استخبارات المصادر المفتوحة"، التي تعمل أساسًا على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية وغيرها، مما يتوفر من معلومات وبيانات ينشرها الناس، وهو ما تستخدمه المقاومة أيضًا كما في عمليات استهداف المعسكرات والقواعد التي كان الجنود قد نشروا صورًا من داخلها على مواقع التواصل المختلفة.

مطاردة مزدوجة… في بلد هدف للاستخبارات

قادة حزب الله العسكريون الذين اغتالهم الاحتلال خلال الحرب مثل (فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، وعلي كركي) وغيرهم، منخرطون في العمل العسكري والأمني منذ 1982 وبعضهم في سنوات سابقة على تأسيس الحزب، ونجحوا في البقاء لنحو 4 عقود، وتتهمهم الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية بالمسؤولية عن عمليات مثل تفجير المارينز والقوات الفرنسية، ورغم أنهم بقوا في الظل لعقود وعرفتهم الأوساط الشعبية خاصة خارج البيئة الشيعية في لبنان، بعد اغتيالهم، إلا أنهم لم يكونوا غير معروفين لأجهزة الاستخبارات المعادية للحزب، التي كانت تلاحقهم وحاولت اغتيالهم سابقًا.

ولا يقتصر العمل الاستخباري والأمني في لبنان على استخبارات الاحتلال، بل لعدة أجهزة أمنية واستخباراتية عمل منظم فيه، خاصة الاستخبارات الأمريكية والفرنسية والبريطانية والغربية بالإضافة لأجهزة عربية، وهو ما أكّد عليه الحزب، منذ سنوات، وقد اتهمت وسائل إعلام مقربة منه الولايات المتحدة الأمريكية بتصميم سفارتها في المقام الأول لعمليات التجسس على الحزب وتنظيم عمليات معادية له مركبة بين الأمني والسياسي والاجتماعي والإعلامي.

ومن المعلوم بالضرورة أن استخبارات الولايات المتحدة الأمريكية ومختلف الدول الغربية وبعض الدول العربية تعقد علاقات قوية مع أجهزة استخبارات الاحتلال، التي تتبادل معها بنك معلومات واسع، خاصة حول قيادات حزب الله وهيكليته التنظيمية والعسكرية والأمنية.

 تربط كثير من التحليلات بين تدخل حزب الله في سوريا إلى جانب النظام، في مواجهة قوى المعارضة، والاختراقات التي حصلت له وأدت إلى الاغتيالات لكوادر رئيسية في جهازه العسكري.

في سوريا… هل كان الانكشاف؟

لا يعرف إلى الآن على وجه التحديد التأثير أو الرابط المباشر بين دخول حزب الله في الحرب السورية منذ 2012، في الاغتيالات الإسرائيلية لقياداته، لكن محللين يشيرون إلى أن طبيعة الجبهة السورية التي يتعدد فيها الفاعلون من جانب حلفاء النظام أو المعارضة، والاختراقات الكبيرة لها، واتساع المعارك والعمليات، واختلاط قيادات وكوادر الحزب لأول مرة في تاريخه مع هذا الطيف الواسع من المجموعات والجيوش من مختلف الدول، قد يكون ساهم في انكشاف مفاصل أساسية في جهازه العسكري والأمني ووصول معلومات عنهم إلى أجهزة استخبارات الاحتلال التي تتربص بكثافة به منذ سنوات.

دفع الحزب بقوة عسكرية وأمنية كبيرة إلى حربه في سوريا لدعم النظام، إلى جانب الحرس الثوري الإيراني ومجموعات أخرى مختلفة، ودمج في كثير من العمليات بين الأمني - والعسكري، وكان له حضور في مختلف الجبهات إلى جانب ضباط من الجيش السوري وغيره من حلفائه، ورغم أنه يحافظ على احتياطات أمنية تتعلق بعدم الكشف عن الأسماء الحقيقية أو معلومات عن كوادره وقياداته، إلا أن الانكشاف الواسع سهل أمام الاستخبارات المختلفة المعادية للحزب عمليات مراقبته وتحديد بنك أهداف لحرب مقبلة.

في السنوات الماضية أصبحت سوريا ساحة مفتوحة لجيش الاحتلال لتنفيذ عمليات قصف واغتيالات، لكوادر في الحزب، وضباط في الحرس الثوري الإيراني، وشخصيات فلسطينية لها دور في المقاومة، وترى تحليلات أمنية أن نجاح الاحتلال في هذه الاغتيالات يشير إلى اختراقات قد تكون لضباط ومسؤولين في النظام، بينما تربطها تحليلات أخرى مع الاختراقات الاستخباراتية من دول مختلفة للبلاد خلال فترة الثورة والصراعات التي ولدت خلالها والتداخلات الدولية والإقليمية فيها.

كما أن الحزب في السنوات هذه توسعت أدواره إلى جبهات أبعد من سوريا، كما في إرساله عددًا من قادته الكبار في الجهاز العسكري، إلى العراق، لدعم الحشد الشعبي في المواجهة مع تنظيم "داعش"، وإلى أبعد من ذلك نحو اليمن التي تقول مصادر عربية إن ضباطًا من الحزب ساعدوا جماعة "أنصار الله" الحوثية" في صراعها أمام التحالف الذي قادته السعودية ضدها، وهذه العملية الواسعة من الانفتاح على جبهات مختلفة توفر أرضية لمزيد من الاختراقات.

بين حماس والحزب… ما المختلف؟

الضربات الأمنية القاسية التي وصفها الأمين العام الجديد للحزب، الشيخ نعيم قاسم، بأنها "الأقسى في تاريخه"، دفعت النقاشات في جانب منها إلى المقارنة بين حزب الله والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بينها حركة حماس وجهازها العسكري، كتائب القسام.

لا تعلن حماس والمقاومة الفلسطينية كثيرًا من التفاصيل عن جهازها الاستخباراتي والأمني، وبقيت كثير من المعلومات عنه قيد الكتمان وفي الخفاء، إلا أن بدايات العمل الأمني للحركة كانت منذ سنوات الثمانينايت مع الشيخ أحمد ياسين والمجموعات الشابة التي كانت تنتمي إلى الإخوان المسلمين، قبل تأسيس الحركة، خاصة مع جيل يحيى السنوار وروحي مشتهى وإسماعيل هنية وغيرهم، الذي أثمر عن تأسيس منظمة الجهاد والدعوة المعروف اختصارًا باسم "مجد".

كانت بدايات استخبارات حماس "بدائية"، إن جاز التوصيف، في ظل انعدام المقدرات، وتعلم كوادر الحركة وقادتها العمل الأمني من التجربة المباشرة في الغالب، وتركّزت على عمليات ملاحقة العملاء والعمل على منع استخبارات الاحتلال من اختراق الجسم التنظيمي والعسكري في الحركة.

ولم تتوقف تجربة حماس الأمنية على التنظيم في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في ساحات عملها في الخارج، فقد كانت لها تجربة في داخل السجون، تعددت تقييماتها، خاصة في السنوات الأولى من عمر الحركة، ومع السنين طورت مجهوداتها في العمل الأمني، ورغم ضعف إمكانياتها في البدايات إلا أنها نجحت في قتل ضباط من جهاز "الشاباك" كما في عملية الشهيد عبد المنعم أبو حميد.

خلال انتفاضة الأقصى التي شهدت تطورًا تاريخيًّا لأجهزة حماس خاصة العسكرية والأمنية منها، استغلت الحركة انسحاب جيش الاحتلال من مساحات في قطاع غزة، بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، في تطوير بنية تنظيمية أكثر اتساعًا وتخصصية، وسعت إلى بناء جهاز استخبارات له أهداف متعددة بينها ملاحقة العملاء وحماية التنظيم من الاختراق ومتابعة الأهداف الإسرائيلية العسكرية منها أو ما يتعلق بالمستوطنين.

عقب تحرير قطاع غزة، في 2005، بدأت كتائب القسام تسير نحو عملية تطوير أكثر شمولية، ومع السنوات اللاحقة أصبح للاستخبارات قسم كامل في الجهاز التنظيمي فيها، يرأسه قائد له عضوية في المجلس العسكري الأعلى، كما في حالة الشهيد أيمن نوفل الذي قاد جهاز الاستخبارات لفترة قبل انتقاله إلى قيادة المنطقة الوسطى، في القطاع، وملفات أخرى، وصار لكل مهمة وحدة خاصة تقوم بها، كما تشير المعلومات التي ترد في وثائقيات القسام حول قادته الشهداء، وتنوعت مهام الاستخبارات بين تقديم تقدير موقف حول نوايا الاحتلال، ومحاربة التجسس، ومنع الاختراق، وتنظيم عمليات اختراق مقابلة وأحد أمثلتها البارزة عملية "حسناوات حماس" كما أسماها الإعلام الإسرائيلي التي اعترف أن أمن القسام نجح فيها باختراق هواتف أعداد كبيرة من جنود وضباط جيش الاحتلال.

فوز حماس في الانتخابات التشريعية وما تبعه لاحقًا من أحداث كبيرة، بينها سيطرة الحركة على القطاع، عقب الاشتباكات مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في 2007، منحها فرصة تنظيم عمل أمني يحارب العمالة لصالح الاحتلال، وأشرفت أجهزة الحركة على حملات لفتح أبواب التوبة للعملاء وإصلاح أعداد منهم وقطع علاقتهم مع الاستخبارات الإسرائيلية، بالإضافة لعمليات الملاحقة التي قادت لتفكيك عدد من الشبكات.

ترابط العمل الحكومي ضد العمالة مع بناء وتطوير أجهزة استخبارات داخل الحركة، وفي جهازها العسكري؛ وفّر أمامها فرصة للتحصين القوي ضد محاولات الاستخبارات الإسرائيلية لتحقيق اختراقات فيها، هذا ولم تكن هذه الرحلة من المواجهة الأمنية سهلة على حماس وكتائب القسام، أو كانت محمية من الاختراقات نهائيًّا، إلا أنها نجحت في معالجة هذه التحديات، كما تؤكد حتى وسائل الإعلام الإسرائيلية ذاتها، نقلاً عن ضباط في "الشاباك" والاستخبارات العسكرية ومختلفف الأجهزة، وكانت قسوة المعركة الأمنية في القطاع تظهر في العمليات المعقدة التي حاولت الاستخبارات الإسرائيلية تنفيذها ضد المقاومة الفلسطينية، ومن بين أمثلتها البارزة تسلل قوة من وحدة النخبة في هيئة الأركان "سييرت متكال" قبل انكشافها، في خانيونس، عام 2018، وقتل قائدها ونجاة طاقمها بأعجوبة وسط القصف الشديد من الأسر.

هذا واستفادت الحركة من علاقاتها مع محور المقاومة وأطرافه المختلفة، في التنسيق للحصول على معلومات أمنية أو دورات تطويرية أو تبادل الخبرات، بالإضافة لعلاقاتها مع قوى المقاومة الفلسطينية المختلفة على رأسها حركة الجهاد الإسلامي وجهازها العسكري سرايا القدس، وتجاوزت معها مخططات إسرائيلية كانت معدة للقضاء عليها أو توجيه ضربة قاسمة لها، كما في عملية "مترو الأنفاق" التي كانت من ضمن ذروة المخططات التي أشرف عليها كبار قادة الاحتلال بينهم أفيف كوخافي رئيس الأركان السابق، وأفشلتها المقاومة في معركة "سيف القدس".

وأبرز تجليات قدرة المستوى القيادي في أجهزة حماس، في القطاع، خاصة، على مواجهة الاختراقات، هو عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي نزلت صاعقة على دولة الاحتلال أولاً والإقليم والعالم ثانيًا، وكان لعملية "الخداع الاستراتيجي" بداية وانعدام المعلومات لدى استخبارات الاحتلال عن نوايا حماس دور كبير فيها.

تجتمع الجبهة اللبنانية والفلسطينية على مواجهة الاحتلال، ولكنها في سياق التحليل الأمني قد تفترق في سمات عديدة، بينها طبيعة التركيبة الاجتماعية والدولة والنظام السياسي التي تعمل فيه، والعلاقات الخارجية وخاصة في الدول المجاورة والإقليم، وطبيعة التنظيم، وهذه كلها قد تكون فارقة في رصد الفروقات.

الحزب أمام دروس الحرب الأقسى

في الحقيقة فإن المجال الأمني والاستخباري شديد التعقيد، وما يعلن عنه من تفاصيل أقل بكثير من المخفي وما سيبقى لعقود ربما في طي الكتمان، ولا يعلم أحد على وجه الدقة أسباب الضربات الإسرائيلية لحزب الله والمقاومة اللبنانية، وقد أعلن الحزب نفسه أنه بصدد تشكيل لجان تحقيق خاصة في قضية "البيجر" والاتصالات، وأكد أمينه العام أن ما حصل من "جروح مؤلمة"، حسب وصفه، ستدفعه إلى إجراء تقييم شامل.

لكن تبقى في المتناول عوامل تنظيمية وسياسية واجتماعية قد تساعد في الاقتراب من رسم صورة لطبيعة أو بعض أسباب الاختراقات، والعمليات الأمنية المعقدة بين أجهزة أمن المقاومة واستخبارات الاحتلال، التي من المؤكد أنها لن تتوقف بإعلان وقف إطلاق النار، بل ستعود لتكون أكثر كثافة، وسباقًا لمنع كل طرف من خرق جديد، مع ما يصاحبها من ورشة لتقييم الأضرار وتعلم الدروس، وفي الحرب فإن الركن الأساسي في النصر هو في "من يتعلم الدرس".

كانت هذه الحرب قاسية بشدة على حزب الله وستحمل الأيام المقبلة تغييرات مهمة ربما في طبيعة تنظيمه وهيكليته، وعمله الأمني والعسكري، وترى تحليلات وتقديرات أننا أمام نسخة جديدة من الحزب، بعد استشهاد طيف من القيادة القديمة التي شكلت صورته لعقود، وهذا لا يعني أننا أمام تغيير شامل فيه، خاصة أننا أمام حزب عقائدي له طبقة اجتماعية تترابط مع مفاهيم دينية وسياسية لها سمة الرسوخ، لكن خسارته أمينه العام الذي صار رمزًا تاريخيًّا له وكثير من القيادات العسكرية والأمنية التاريخية، لن تكون آثاره بسيطة، خاصة لجهة معالجة الخروقات والاختراقات التي مكنت استخبارات الاحتلال من هذه الاغتيالات.