"حنظلة" أيقونة الطفل الخالد .. ورمز المقاومة والصمود الفلسطيني
على سبيل التقديم
"هل سيكبر حنظلة؟ سيكبر عندما يعود الوطن، سيظل في العاشرة حتى يعود الوطن، عندها فقط يكبر حنظلة، ويبدأ في النمو، قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء، لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعية حين يعود الوطن."
يتجمد الزمن عند عمر شخصية "حنظلة" الكاريكاتيرية (10 سنوات) التي أبدعها الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي، ليجعلها تعبيرًا عن الهوية والمقاومة الفلسطينية، ومرآةً لتجربته الشخصية؛ فذلك الصبي البالغ من العمر عشر سنوات – كما أوضح الفنان – يمثل عمره، عندما قال: "شخصية هذا الطفل الصغير الحافي هي رمز لطفولتي. أنا تركت فلسطين في هذا السن وما زلت فيه."
شخصية "حنظلة"

تعتبر شخصية "حنظلة" واحدة من أبرز الرموز الفنية والسياسية في تاريخ الأدب المقوم الفلسطيني، فـ"حنظلة" لم تكن يومًا مجرد شخصية كاريكاتيرية عابرة، بل أيقونة عالمية تجسد معاناة الشعب الفلسطيني وصموده، وتعبر عن رفضه لكل أشكال الظلم والتنازلات.
ابتكر ناجي العلي شخصيات عدة في رسوماته المختلفة، وكان لها دلالات عميقة في انتقاد قيادات فلسطينية وعربية، مثل: "فاطمة العربية" و"جندي الاحتلال صاحب الأنف الطويل، الذي يظهر مرتبكًا أمام حجر صغير في يد طفل فلسطيني"، لكن أيًا منها لم ينل شهرة "حنظلة". ظل "حنظلة" في رسمات ناجي العلي طفلًا فلسطينيًا بعمر الـ10 سنوات، لا يتقدم به العمر، مهما حدث حوله من أهوال، فهو لن يكبر حتى يعود إلى أرض الوطن "فلسطين" لكن: هذا الطفل الصغير الذي لا يكبر، كان قادرًا على تغيير أساليب احتجاجه على ما يجري حوله من أحداث، فلم يكن "حنظلة" عاقدًا كفيه خلف ظهره عند ظهوره لأول مرة على صفحات صحيفة "السياسية" الكويتية عام 1969. بل كان في بعض الرسوم حاملًا للسلاح ومتحدثًا بالعربية تارة والإنجليزية تارةً أخرى، مدافعًا عن القضية الفلسطينية، يلعب الكاراتيه، يغني الزجل، يصرخ ويؤذن ويهمس مبشرًا بالثورة.
بيد أن "حنظلة" أدار ظهره إلى العالم عاقدًا كفيه خلف ظهره بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، معلنًا رفضه التسوية مع الاحتلال، ومتمسكًا برفض السياسات الأمريكية لتسوية القضية الفلسطينية. وعندما اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيروت عام 1982، ظهر "حنظلة" (الطفل العشاري) في لوحة شهيرة بعنوان "صباح الخير يا بيروت"، مقدمًا وردة لفتاة تجسد العاصمة اللبنانية، تطل برأسها من بين أنقاض جدار محطم، وعيونها تفيض حزنًا.
دلالات "حنظلة"

ـ إدارة الظهر: هذه الحركة لم تكن مجرد تفصيل فني، بل كانت بيانًا سياسيًا قويًا يرمز إلى رفض ناجي العلي للحلول والتسويات الأمريكية للقضية الفلسطينية، ويعبر عن موقفه الثابت ضد التنازلات التي لا تحقق العدالة الكاملة للشعب الفلسطيني، هو ثائر يرفض المشاركة في أي تسوية لا تعيد الكرامة والحقوق.
ـ الملابس المرقعة والقدمان الحافيتان: ترمز ملابس حنظلة المرقعة وقدماه الحافيتان إلى الفقر والمعاناة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، وإلى ارتباطه العميق بالأرض والبساطة، ورفضه لترف الحياة الذي قد ينسي القضية.
ـ الاسم "حنظلة": يأتي الاسم من نبات الحنظل، وهو نبات مرير الطعم ينمو في فلسطين، وله جذور عميقة ويصعب اقتلاعه. ويرمز هذا الاسم إلى المرارة التي يتجرعها الشعب الفلسطيني، وإلى صموده وثباته على أرضه، وإلى قدرته على التجدد والبقاء رغم كل المحاولات لاقتلاعه.
ـ الوجه المخفي: عندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة، أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته." هذا الجواب يؤكد أن حنظلة ليس مجرد شخصية، بل هو ضمير الأمة، ووجهه لن يظهر إلا بتحقق العدالة والحرية.
ـ الشعر الأشعث: علامة على التمرد ورفض التزين أو التملق للحكام أو للمحتل.
ـ العمر المتجمد (10 سنوات): يذكر ناجي دائمًا أن حنظلة في العاشرة، عمره عندما هجر من فلسطين. تثبيت العمر رمز لتجمد الزمن الفلسطيني عند لحظة النكبة، ورفض النسيان.
ـ اليدان المكتوفتان: تعبير عن العجز، لكنه أيضًا موقف ثوري رافض للمساومة أو التطبيع.
ناجي العلي، متحدثًا عن "حنظلة"[1]

يقول ناجي العلي عن "حنظلة" في حوار أجرته معه الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، عام 1984، في بودابست: شخصية هذا الطفل الصغير الحافي هي رمز لطفولتي، أنا تركت فلسطين في هذا السن وما زلت فيه، رغم أن ذلك حدث من 35 سنة، إلا أن تفاصيل هذه المرحلة لا تغيب عن ذاكرتي وأشعر أني أذكر كل عشبة وأعرفها، وكل حجر وكل بيت وكل شجرة مرت علي في فلسطين وأنا طفل.
ويضيف: "قدمته للقراء وأسميته حنظلة، كرمز للمرارة، وفي البداية قدمته كطفل فلسطيني، لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفقه القومي ثم أفق كوني وإنساني، وفي المراحل الأولى رسمته ملتقيًا وجهًا لوجه مع الناس، وكان يحمل الكلاشينكوف، وكان دائم الحركة، وفاعلًا له دور حقيقي، يناقش باللغة العربية والانجليزية، بل أكثر من ذلك، فقد كان يلعب الكاراتيه، يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس، ويبشر بالثورة." وعند سؤاله: هل سيكبر حنظلة؟ أجاب: "سيظل في العاشرة حتى يعود الوطن. عندها فقط يكبر حنظلة، ويبدأ في النمو. قوانين الطبيعة المعروفة لا تطبق عليه، إنه استثناء، لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعية حين يعود الوطن." وعن سبب تكتيف يديه فيقول: "كتفته بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعًا." ومتى يمكن رؤية حنظلة؟ يجيب ناجي: "عندما تصبح الكرامة غير مهددة، وعندما يسترد الانسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته."
تعمق دور "حنظلة" كرمز للرفض الشعبي تجاه مستجدات القضية الفلسطينية، فظل الطفل مقيد اليدين حاضِرًا في كل تطور: رافضًا حلول التسوية والاتفاقيات، ومندّدًا بسياسات الداخل والخارج. إنه الوجه الآخر للطفل الفلسطيني "عصب القضية وشعبها" الذي يواجه الاحتلال ومتاعب الحياة، وسيبقى "حنظلة" خالدًا في العاشرة من عمره حتى عودة الفلسطينيين إلى وطنهم، منفذًا وصية مبدعه ناجي العلي الذي اغتيل في أرض الغربة.
حنظلة في الذاكرة الجمعية

تبرز شخصية حنظلة في الذاكراة الجمعية بملامح مختلفة وتمظهرات في:
- استمرارية الرمز: رغم اغتيال ناجي العلي عام 1987، بقي "حنظلة" حيًا في وجدان الشعوب العربية، وظهر في كل محطات النضال الفلسطيني، من الانتفاضة الأولى إلى حرب الإبادة الجماعية على غزة. كما حضر "حنظلة" على جداريات ضخمة تزين حوائط المخيمات الفلسطينية وعواصم العالم، كشاهد حي على القضية.
- تجدد الحضور: لا تزال شخصية "حنظلة" تستحضر في الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية، وتستخدم كرمز في الاحتجاجات.
- رمز عالمي: تحول "حنظلة" إلى أيقونة عالمية للمقاومة السلمية والتمرد على الظلم، يظهر في مظاهرات فلسطين وحول العالم، من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا
- في الفن والثقافة: حظي فن ناجي العلي بمعارض عالمية، مثل: معرض "ناجي العلي: فنان فلسطيني" في معهد العالم العربي بباريس 2015، ومعارض في لندن والولايات المتحدة، وأفلام وثائقية، مثل: "ناجي العلي" لنهاد سيريس.
- الذكرى والاعتراف: أدرجت منظمة اليونسكو أرشيف ناجي العلي في سجل "ذاكرة العالم" في عام 2019، اعترافًا بقيمته الوثائقية والفنية العالمية.
خاتمة
من رحم المأساة في مخيمات اللجوء، ولدت أيقونة تجاوزت إطار الورق لتصبح ضميرًا بصريًا للأمة، إذ لم يكن "حنظلة" طفلًا عاديًا، بل جسد الزمن الفلسطيني المتجمد عند النكبة والشتات، حينها توقفت ساعة طفولته انتظارًا لتحقيق العدل وحلم العودة.
إنه ذاكرة حية تأبى النسيان، وضمير صارخ يرفض التنازل، ورمزًا يخلد التجربة الفلسطينية بمرارتها ومقاومتها وصمودها.
ملابسه المرقعة، وقدماه الحافيتان، ووجهه المخفي، ويداه المكتوفتان، كلها حروف في لغة صامتة تروي قصة شعب يرفض الاستسلام، ويأبى أن يغتال حقه أو ينسى وجعه.
ورغم اغتيال ناجي العلي مبتكر "حنظلة" فإن "حنظلة" لم يمت بل صار أسطورةً معاصرة تتسلل من مخيمات اللجوء إلى جداريات العواصم، ومن قلب الانتفاضات إلى الذاكرة الإنسانية التي حفظتها "اليونسكو". سيظل هذا الطفل الحزين، ذو الوجه المخفي والروح الحزينة، شاهدًا خالدًا وشامخًا يحمل وصية فنه ومأساة شعبه، حتى يشرق فجر العودة، فيكبر وينمو كما أراد له مبتكره.
ومؤخرًا: حقق مهاجم منتخبنا الوطني الفلسطيني وسام أبو علي رفقة ناديه الأهلي المصري إنجازًا تاريخيًا في كأس العالم للأندية 2025 بتسجيله 3 أهداف (هاتريك) قي شباك بورتو البرتغالي، وعبر عن فرحته باحتفال رمزي يذكر الجميع بـ"حنظلة".
[1] نشرت هذه المقابلة النادرة للمرة الأولى في مجلة "المواجهة" التي تصدرها لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، العدد الخامس، القاهرة، أيلول\ سبتمبر 1985 قبل عامين من اغتيال ناجي العلي بكاتم صوت في لندن، ثم أعاد نشرها الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي على صفحته على الفيسبوك، ثم نشرها ضمن كتاب حمل اسم: لكل المقهورين أجنحة.