خطة "هاليفي" .. كيف سيواجه الاحتلال أعداءه في السنوات القادمة؟

خطة "هاليفي" .. كيف سيواجه الاحتلال أعداءه في السنوات القادمة؟
تحميل المادة

تهدف هذه المقالة إلى تحليل خطة عمل الجيش الإسرائيلي للسنوات القادمة،[1] والتي أعلن عنها رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي، على هامش مؤتمر هرتسيليا المعنون بـ "الاستراتيجية والتخطيط في عصر عدم الوضوح"، وذلك في 23 أيار/ مايو 2023، حيث بدأ حديثَه بتقدير للموقف استعرض فيه المجال الاستراتيجي والموقف من أهم الفاعلين في المنطقة، ومن ثم انتقل إلى عرض خطته "متعددة السنوات متعددة الجبهات". تجادل المقالة بأنّ خطة هليفي امتداد للنظرية الأمنية وتطوير لها، وهي النظرية التي وضع أسسها رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون، والقائمة على مفهوم جيش الشعب، والثالوث الأمني (الإنذار المبكر، الحسم، الردع).

 

تقدير الموقف

يعرض هليفي تقدير الجيش الإسرائيلي للموقف على المستوى الاستراتيجي دوليًا (الساحة الدولية)، وإقليميًا (لبنان، سوريا، إيران)، و"محليًا" (الضفة الغربية وقطاع غزة).

فيما يتعلق بتقدير الموقف الخاص بالمجال الدولي الاستراتيجي فإنه يشير إلى حالة عدم الوضوح والأزمات التي يعيشها العالم، والمتمثلة في التنافس الصيني الأميركي، حيث تسعى الصين لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط، ولذلك، ومن وجهة نظر هليفي، فإن المطلوب الحفاظ على هوامش أمنية واسعة جدًا للجيش الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك الحرب في أوكرانيا حيث واجهت القوة الروسية المركّزة قوة أوكرانية مبعثرةً، ويبدو من سَيْر الحرب أن الأفضلية للقوة المبعثرة، إذ تلعب الروح المعنوية دورًا مهمًا في المعركة، وهذا يستوجب بأن يترسخ الدفاع عن "إسرائيل" بوصفه مهمةً "قيميَةً" كي تبقى الروح المعنوية عاليةً لدى الجنود وتتوفر الدافعية للقتال. علاوة على ما سبق، يؤكّد تقدير هليفي أن الولايات المتحدة الأميركية ستبقى لسنوات قادمة الحليف القوي لـ "إسرائيل"، لكن يجب الاهتمام بزيادة التحالفات التي تدمج "إسرائيل" في المنطقة.

القوة المبعثرة

يقول هليفي أن الحرب الروسية الأوكرانية أثبتت أن الأفضلية للقوّة المبعثرة لا القوّة المركزة (صورة من تدريبات المقاومة في غزّة)

إقليميًا، يتناول هليفي إيران ولبنان وسوريا في تحليله للوضع الإقليمي. يعدّ هليفي إيران دولةً كبيرةً في المنطقة وليست دولة عظمى، لكنها تعيش أجواء صراع الحضارات، وتتدخل في كل موضوع في المنطقة، مقيّمًا بأن الهدف من التقارب الإيراني مع دول المنطقة هو تخفيف "درجة الحرارة" وتهدئة الأجواء. يتطرق هليفي للتهديد النووي الإيراني، مشدّدًا على وجود "تطورات سلبية محتملة في الأفق قد تؤدي إلى عملية [هجوم إسرائيلي]"، في هذا السياق يركز على خمس نقاط، أولها: أنّ إيران تبعد 1500 كم عن "إسرائيل"، فيما صُمم الجيش الإسرائيلي للقيام بحملات على مسافات قريبة في "الباحة الخلفية"، ومن ثمّ على "إسرائيل" بناء قدرات بعيدة المدى للحرب وللتوسع. ثانيها: أن مساحة إيران تبلغ 70 ضعفًا لـ "إسرائيل"، لذلك يجب أن تعرف "إسرائيل" عند مهاجمتها أين تهاجم (في إشارة لضرورة تقوية المصادر الاستخباراتية). ثالثها: أن عدد سكان إيران أكبر من سكان كيان الاحتلال بعشرات الأضعاف. رابعها: امتلاك إيران اقتصادًا كبيرًا لكنّه ليس متطوّرًا. خامسها: أن الناتج القومي للفرد في "إسرائيل" يعادل أربعة أضعاف الناتج القومي للشخص في إيران، مما يعني وجود تفوق اقتصادي إسرائيلي عند استعراض موازين القوة بين الطرفين.

يشير هليفي إلى قوة النفوذ الإيراني في لبنان أثناء عرض تقديره للموقف بخصوص لبنان، معرّجًا على الأزمة الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي يعيشها البلد، مع التركيز على تعاظم القوة العسكرية لحزب الله، والتي يعمل الاحتلال على تأخيرها وإعاقتها من خلال أمرين، وهما: الحفاظ على تفوق "إسرائيل" النوعي، وترسيخ الردع "النسبي". يشبّه هليفي حزب الله بشخص مردوع عن خوض ماراثون في الحرّ الشديد لكنه مستعد لجري مسافة قصيرة "5 كلم مثلًا"، فالحزب، وفق تقديره، مردوع عن حرب شاملة لكنه لا يخشى من خوض مواجهة محدودة، (وهذا ما يقصده بالردع النسبي)، وبناءً على هذا التقييم يعتقد هليفي أنه يمكن لـ "إسرائيل" خلق مفاجآتٍ للحزب، فجهوزيتها للحرب على الجبهة الشمالية عالية، ورغم أن الحالة ستكون صعبة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية في حال نشبت جولة قتال ما، لكنها ستكون أصعب بكثير على لبنان المأزوم اقتصاديًا واجتماعيًا، وفق رؤيته.

حزب الله

هليفي يقول إن حزب الله مردوع عن حرب شاملة لكنه لا يخشى مواجهة محدودة (صورة من جنوب لبنان تظهر علم حزب الله وسيارة للأمم المتحدة)

يقدّر هليفي بأن سوريا بدأت تتعافى من أزمتها الداخلية، لكن طريقها للتعافي طويل، مع إشارته إلى محافظتها على علاقات قوية مع إيران، التي بدورها تستخدم سوريا مجالَ قتال محتمل مع "إسرائيل". يلفت هليفي الانتباه إلى أنّ رجوع سوريا بعد اثنتي عشر سنةً إلى الجامعة العربية سيدفع "إسرائيل" لمراقبة الوضع، وهل سيتمخض ذلك عن خلق فرصة للعلاقات مع الدول العربية في مقابل العلاقة مع إيران، أم أنّ علاقة سوريا مع إيران ستظلّ قويةً على حساب العلاقة مع الدول العربية.

وفي الشّق الذي أطلق عليه هليفي الشق "المحليّ" والذي يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة، يعزو رئيس أركان جيش الاحتلال الارتفاع في وتيرة عمليات المقاومة بالضفة الغربية إلى ظهور جيل شاب غير مردوع، فهذا الجيل لم يعايش حملة السور الواقي سنة 2002، يضاف إلى ذلك حالة الإحباط الناتجة عن الأمور القليلة التي تقدمها السلطة الفلسطينية فيما يتعلق بالعلاقة مع "إسرائيل" والعالم.

يتناول هليفي الجانب التكتيكي والاستراتيجي فيما يتعلق بالضفة الغربية، فبالنسبة للجانب التكتيكي تشنّ قوات الاحتلال حملاتٍ أمنية في كل مكان وزمان، أمّا في البعد الاستراتيجي المتعلق بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فبحسب هليفي يجب الامتناع عن التوجه لـ "الخيارات السلبية"، مفسّرًا: "نفضّل سلطةً فعّالةً على فوضى في الضفة الغربية، أو على صعود حماس للحكم بدلًا من السلطة الفلسطينية"، وفي هذا الحالة يقصد هليفي بـ "السلطة الفعّالة"؛ سلطةً قادرةً على القيام بواجباتها الأمنية تجاه "إسرائيل" من ناحية، وإدارة الشؤون المدنية للسكان من ناحية أخرى.

أمّا في قطاع غزة، فإن "إسرائيل" تدير الأمور ضمن مثلث استراتيجي زاويته العليا المركزية هي "الردع والجهوزية"، وزاويتا قاعدة المثلث هما: منع تعاظم القوة العسكرية لفصائل المقاومة، وضمان استمرار المجهود الإنساني المدني "الذي يساعد في استقرار غزة مردوعة".

يقيّم هليفي الحملة العسكرية الأخيرة في قطاع غزة من زاوية تنفيذ "ضربة استباقية" لحركة الجهاد الإسلامي، عبر اغتيال ستة من قياداتها، معللًا استهداف الجهاد دون حركة حماس بأنّ الجهاد خرجت عن "سكة" الهدوء، فكانت الحملة لإعادتها إليها. وعن سبب عدم استهداف حماس في العملية زعم هليفي أن هناك أدواتٍ مدنيةً متعلقةً بكون حماس من تدير شؤون 2.2 مليون مواطن في قطاع غزة، تستطيع "إسرائيل" من خلالها أن تعمل ضد الحركة، مع تأكيده أن الخيار العسكري ضدها جاهز في حال استدعى الأمر ذلك.

يدّعي هليفي في تقييمه بأنّ المقاومة في قطاع غزة خرجت من المواجهة الأخيرة مردوعةً. وهو ادّعاء متكرّر من القادة الإسرائيليين بعد كل حملة عسكرية، ما يلبث أن يتضح عدم صحته في المواجهة التي تليها.

 

أسس الخطة

       يمهد هليفي لذكر الأسس التي بنيت عليها خطته من خلال الإشارة إلى أن "إسرائيل" تخوض حربًا مع تنظيمات وليس مع جيوش نظامية، وبالتالي عليها ملاءمة قدراتها مع هذا الأمر، بحيث يكون الجيش الإسرائيلي مهيأً لخوض الحروب القادمة من خلال التركيز على ثلاثة أمور، وهي: المعرفة والعلم، والدقة، والقوة. المعرفة والعلم من خلال استخدام التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والدقة بحيث تستهدف "إسرائيل" من تريد بدون تبذير الموارد البشرية والمادية. أما القوة فتستخدم بحيث يتأثر الخصم ويصل إلى حالة نفسية يدرك من خلالها أنّه لا يستطيع تحمّل الفعل الإسرائيلي. يعدّ هليفي أن دمج المقومات الثلاث (العلم+ الدقة+ القوة) سيساهم في تحقيق نتائج أفضل، وسيساعد في الرد بسرعة أكبر على أيّ هجوم تتعرض له "إسرائيل".  

يحدّد هليفي أربعة أسس للخطة متعددة السنوات والجبهات، أولها: الأشخاص وعلاقة المجتمع بالجيش في "إسرائيل"، في هذا السياق يتناول هليفي مصطلح "جيش الشعب" ليشير إلى ضرورة الإبقاء على منظومة التجنيد الإجباري، ورفد جيش الاحتياط بالكفاءات اللازمة لاستمرارية التطور في أداء الجيش، فضباط اليوم سيكونون خلال 20 عامًا قادة ألوية. في السياق ذاته يغمز هليفي من طرف الحريديم بالإشارة إلى ضرورة التجند بالجيش، قائلًا إن الجيش سيوفر فرصةً كبيرةً لوحدة المجتمع الإسرائيلي وتقوية اقتصاده من خلال رفده بكفاءات وقيادات فاعلة بعد إنهاء الخدمة العسكرية، وفي موضع آخر يحدّد هليفي ثلاثة أهداف متعلقة بأساس "الجيش والمجتمع" وهي: الحفاظ على كفاءة الجيش لكل يوم وكل ساعة، والحفاظ على وحدة الجيش، وترك الخلافات خارج الجيش.

       تمثل إيران والمواجهة المتعددة الجبهات الأساس الثاني من خطة هليفي، فيصرح: "يجب أن تكون لدينا قدرات أكثر وكميات أكثر كي نستطيع أن نخوض معركة واسعة ضدّ إيران"، يعرّف هليفي سيناريو الجبهات المتعددة بأنّه حالة تحارب فيها "إسرائيل" ضد عدة جبهات بالتزامن، مدعيًا بأنّ لدى إسرائيل قدراتٍ قويةً وقواتٍ كبيرةً، وفي حال فرضت عليها معركة ضد عدة لاعبين في الوقت نفسه سيفعّل الجيش الإسرائيلي قوّته بشكل أكبر، مما سيتطلب جهوزية "إسرائيل" لمثل هذا السيناريو.

يتطرق هليفي لموضوع الاجتياح والحدود في الأساس الثالث للخطة، بقوله: "يوجد مستوىً معينٌ من الإنجازات في الحرب لا يمكن تحقيقه بدون اجتياح"، يوضح هليفي الفلسفة الكامنة خلف الاهتمام بانتهاج أسلوب الاجتياح وهو التركيز على العامل النفسي، بحيث يجري التأثير على العدو نفسيًا ليصل إلى قناعة بعدم جدوى مهاجمة "إسرائيل". بحسب هليفي كي ينجح الاجتياح يجب أن يتمتع بثلاثة أمور وهي: الاستخبارات الجيدة، والنيران الدقيقة، وعلاقات تدمير قوية. تنظير هليفي لفكرة الاجتياح وفلسفته على أساس التأثير نفسيًا بالخصم، يذكّرنا بعقيدة "الجدار الحديدي" التي نشرها زئيف جابوتينسكي (الأب الروحي لليمين الإسرائيلي) سنة 1921، والتي تنص على ضرورة صناعة وعي لدى العرب (من خلال العنف) بعدم جدوى مهاجمة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، لأنه لا يمكن التغلب عليه.

يختم هليفي بالأساس الرابع لخطته وهو ترسيخ "الثقافة المهنية" (المسؤولية والمبادرة)، والتي يمكننا القول بأنّها تتشابه مع مفهوم اللامركزية المستخدم في علم الإدارة. فبحسب هليفي يجب منح الضباط الصغار الصلاحية لاتخاذ القرارات دون الرجوع للمستويات العليا، فقيادة المهمات أمر ضروري لتطوير ثقافة عملياتية عند الضباط الصغار. يمكننا الاستنتاج بأن انتهاج مثل هذه السياسة قد يشجع الضباط والجنود على اتخاذ قرارات أكثر عنفًا تجاه المقاومة وأفرادها، فمنح الصلاحية المترافق مع عدم وجود محاسبة لهؤلاء الضباط فيما يتعلق بالدم الفلسطيني، يعني استسهال اتخاذ قرارات القمع بحق الفلسطينيين.

 

خاتمة واستنتاجات

       تتماهى خطة هليفي مع الأسس التي وضعها دافيد بن غوريون في نظريته الأمنية التي خطّها في خمسينيات القرن العشرين، والمكونة من أساسين: جيش الشعب، والثالوث الأمني المتمثل بـ (الإنذار المبكر، الحسم، الردع)، لكن الشيء الجديد في المفاهيم التي يطرحها هليفي هو مفهوم "الردع النسبي"، في إقرار غير مباشر بعدم إمكانية تحقيق الردع الكامل للخصم، وهذا ما يتقاطع مع ما صرح به الجنرال تامير هايمان (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية- أمان)، تعقيبًا على عملية اجتياح مخيم جنين في بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2023، بقوله: "استعادة الردع ليس هدفًا عمليًا لأنه غير قابل للقياس".[2]

       اهتم هليفي بتوضيح موقف الجيش من السلطة الفلسطينية وحرصه على عدم انهيارها خشيةً من تولي المسؤولية المباشرة عن السكان الفلسطينيين، وحتى لا تصل الأمور إلى خلق حالة من الفراغ القيادي قد تقود إلى الفوضى، أو صعود قوى مسلحة لتستلم دفة القيادة.

       يمكننا القول بأنّ القادة الإسرائيليين (ومن ضمنهم هليفي) مسكونون بهاجس خلق حالة من الوعي لدى الفلسطينيين، تدفعهم إلى عدم مقاومة المنظومة الإسرائيلية الاستعمارية، ولكي يتحقق هذا الوعي لا بد من خلق حالة من الردع باستخدام قدر كبير من القوة والعنف، مما سيحطّم الأمل لدى الفلسطينيين بتحقيق أي نوع من الاستقلال أو الانتصار على المنظومة الاستعمارية الصهيونية، وسيدفعهم للتسليم بالأمر الواقع. لكن هليفي يتغافل عن الحقيقة الماثلة أمامه بعد حوالي قرن من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بأن هذا الشعب ما زال رافضًا لهذه المنظومة ويقاومها بكل الوسائل المتاحة.

 

 

 



[1] شبكة الهدهد،  خطة قائد أركان “جيش العدو” “هرتسي هليفي” متعددة السنوات لكل الجبهات، 2/6/2023. https://encr.pw/vE4eD

[2] صحيفة الحدث، مسؤول أمني إسرائيلي: العملية في جنين فاشلة واستعادة الردع ليس هدفًا، 3/7/2023. https://encr.pw/P067H