دراما من فلسطين وعنها .. في البحث عن قوة ناعمة ممكنة
قبل أكثر من ستة عقودٍ من الزمن، سأل الشاعر الأمريكي كارل ساندبيرغ سؤالًا: "أيهما أكثر أهميةً، هوليود أم هارفارد؟" ثم أجاب: "هوليود ليس لها نظافة هارفارد ولكنها مع ذلك أقدر على الوصول إلى أمد أبعد"، وذلك لأن وسائل الإعلام بكافة أشكالها وما يتفرع عنها من أدوات وما تنتجه من تغطيات إخبارية وبرامج ومسلسلات وأفلام، "تلعب دورًا مهمًا في تشكيل حياة الناس، وتؤثر في أفكارهم وأيديولوجياتهم وتعمل على توجيههم للتفكير بالطريقة التي ترغبها" بحسب الفيلسوف الجزائري الفرنسي لويس ألتوسير.
أدركتِ الدول هذا الدور الكبير الذي تلعبه المسلسلات التلفزيونية في التأثير على أذهان الشعوب وتوجيهها ومخاطبة عقولهم وعواطفهم، فأخذت تنتج مسلسلات تتضمن رسائلها إلى شعوب الدول الأخرى، وتشرح قضاياها السياسية والثقافية والاجتماعية، ويمكننا القول إن المسلسلات التلفزيونية أصبحت تملك أهميةً يمكن معها وصفُها بأنها وسيلةٌ مهمة من وسائل الدبلوماسية الدولية، وعنصرٌ مهمٌ من عناصر القوة الناعمة التي تعتمد عليها الدول في تحقيق أهدافها الخارجية من خلال التأثير على المشاهدين وتوجيههم، وكسب التعاطف والتأييد نحو القضايا التي يجري طرحها في هذه المسلسلات، فهل انتبه الفلسطيني لأهمية هذه القوة والوسيلة الدعائية الهامة لقضيته العادلة؟
فلسطين في الدراما غير الفلسطينية
أُنتجت العديد من الأعمال الدرامية التي تناولت القضايا الفلسطينية، وتنوعت هذه الأعمال من حيث الإنتاج، وكان أبرزها ما أنتج في سوريا. انطلقت هذه الإنتاجات في وقت مبكر عام 1981 بإنتاج مسلسل عز الدين القسام الذي يروي حكاية شيخ سوري قاد ثورة في فلسطين واستشهد في جبالها.. قبل أن يعرض مسلسل "عائد إلى حيفا" الذي أنتج عام 2007 مجسدًا معاناة اللجوء الفلسطيني عام 1948، ومسلسل "الاجتياح" الذي أنتج في العام نفسه، ليروي حكاية صمود مخيم جنين ومقاومته للحصار والاجتياح الإسرائيلي عام 2002، ومسلسل "أنا القدس" – 2010، بإنتاج سوري مصري مشترك وهو دراما ترصد مأساة الشعب الفلسطيني بين عامي 1917 و1967.
أما أبرز عملٍ في تاريخ الدراما المجسدة للقضية الفلسطينية فهو مسلسل "التغريبة الفلسطينية" الذي أنتج وبث عام 2004 بمشاركة كبار الفنانين السوريين، وباجتماع بين الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي. كان لهذا المسلسل أثرٌ كبير على المستوى الفلسطيني والعربي، إذ جسّد بحرفيةٍ بالغةٍ جمعت بين التأريخ الحقيقي والحكاية المحبوكة والصورة المميزة، معاناةَ التهجير الفلسطيني في الـ48 ثم الـ67، وقد حقق هذا المسلسل انتشارًا واسعًا وغير مسبوق في تاريخ الأعمال الدرامية التي حكت عن فلسطين.
ومن الجدير بالذكر القول هنا إن مسلسل التغريبة الفلسطينية هو نسخة مطوَّرة لمسلسل "الدرب الطويل" الذي حكى القصة ذاتها بالسيناريو ذاته عام 2000 بكتابة وليد سيف وإخراج صلاح أبو هنود، لكن المسلسل فشل فشلًا ذريعًا على مستوى التسويق، تبعًا لضعفه على مستوى الإنتاج، وهو الأمر الذي حدا بوليد سيف إلى إعادة إنتاجه باسم آخر مع أدواتٍ أكثر تطورًا وخطة تسويقية يمكن القول إنها نجحت بشكل كبير.
الإنتاج الدرامي التركي كذلك لم يخلُ من الحديث عن القضية الفلسطينية، ففي عام 2009 أنتج مسلسل باسم Ayrılık aşkta ve savaşta Filistin ويعني "الانفصال: فلسطين في الحب والحرب" والذي يجسد تلذذ جنود الاحتلال بتعذيبهم الفلسطينيين وقتلهم الأطفال، وقد جرت دبلجته إلى العربية وبثَّ عبر قناة MBC باسم "صرخة حجر".
هذا العمل، بالإضافة إلى عمل آخر أيضًا باسم "وادي الذئاب - فلسطين"، أغضبا الاحتلال الإسرائيلي الذي طالب بمنع بثهما، واستدعى السفير التركي لديه في 20 كانون الثاني/ يناير 2010 لتبليغه باحتجاج "إسرائيل"، حيث تعمد نائب وزير خارجية الاحتلال آنذاك "داني أيالون" إهانة السفير التركي بإجلاسه على مقعد منخفض. كما طالبت "إسرائيل" حينها بقطع بث قناةMBC عن الأراضي المحتلة بعد بدء القناة بدبلجة العمل وبثّه فورًا لأنه، حسب ادعائها، يحرض على الكراهية، كما وصفته صحيفة يديعوت أحرونوت التي تساءلت: "هل كُره إسرائيل يؤدّي إلى رفع نسبة الاهتمام؟ لقد لاقى المسلسل رواجًا تركيًا وعربيًا واسعًا، وقد وصفته صحيفة الوسط البحرينية بـأنه (مسلسل ذو نفسٍ ملحمي، يُدافع عن أعظم قضية لدى العرب)".
وقبل الغوص في الدراما الفلسطينية الفلسطينية –أي التي تناولت القضية الفلسطينية وأنتجت داخل فلسطين عبر ممثلين فلسطينيين وبإمكانات فلسطينية- لا بد من ملاحظتين، الأولى أن القضية الفلسطينية غابت بشكل شبه تام عن الشاشة العربية منذ أحداث الربيع العربي إلى يومنا هذا لأسباب عديدة منها: الضعف الكبير الذي أصاب الدراما العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص بعد الثورة السورية، -والدراما السورية كانت الأكثر إنتاجًا لأعمال تتعلق بفلسطين بعد خفوت هذا النوع من الإنتاجات في مصر بشكل كبير في السنوات الأخيرة-، إضافةً إلى ما خلقه الربيع العربي والثورات والأحداث من قضايا داخلية أصبحت المجتمعات العربية تعج بها، الأمر الذي أدّى إلى تبدل في اهتمامات المنتج العربي نحو قضاياه الداخلية، والملاحظة الثانية هي أن الشاشة العربية شهدت لأول مرة أعمالًا تروج للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي خاصة مع موجة التطبيع التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة، وذلك على غرار مسلسلي "أم هارون" و "مخرج 7".
في ظل هذه المعطيات يطل علينا سؤال هام: هل سيعبّر الفلسطيني عن قضيته بنفسه؟
دراما فلسطينية .. الأماني والحقائق
يمكن التأريخ لبداية "المحاولات" الحقيقية نحو صناعة دراما فلسطينية ملتزمةٍ بفلسطين موضوعًا وقضيةً، بالعام 2014، وتحديدًا بعد معركة العصف المأكول إحدى أكثر جولات الحروب المباشرة بين الاحتلال والمقاومة في غزة طولًا وملحميةً، فقد ظهرت خلال هذه المعركة أهمية أدوات القوة الناعمة في تثبيت الجبهة الداخلية وإيصال رسائل الفلسطينيين ونشر وجهة النظر الفلسطينية في العالم، فكانت الانطلاقة الفعلية في صناعة الأعمال الدرامية المعبّرة عن القضية الفلسطينية.
في العام 2014 أنتجت قناة الأقصى الفضائية مسلسل "الروح"، والذي يسلّط الضوء على المقاومة الفلسطينية في الضفة وغزة، ويجسّد نجاح المقاومة الفلسطينية في فرض صفقة تبادل يفرج من خلالها عن أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال. بعدها بعام، وعلى مدار عامين، أنتجت الفضائية ذاتها مسلسل "الفدائي" بجزأيه الأول والثاني، والذي جسد المقاومة الفلسطينية في حواري مدينة الخليل.
وفي عامي 2017 و2018 أُنتج مسلسل "بوابة السماء" بجزأيه الأول والثاني والذي يستعرض الحياة والصراع مع الاستيطان في العاصمة الفلسطينية المقدسة. أما آخر أعمال قناة الأقصى على مستوى المسلسلات فكان مسلسل "قبضة الأحرار" الذي جاء بعد معركة سيف القدس، ليحكي قصّة انكشاف قوة خاصة إسرائيلية تسللت إلى غزة، وما تلى ذلك من مواجهة بين المقاومة والاحتلال، وقد جرى تصوير عددٍ من مشاهده داخل أنفاق المقاومة الفلسطينية.
أعمال درامية فلسطينية مقاومة أخرى أنتجت خلال السنوات الأخيرة أهمها "ميلاد الفجر" (1+2) ، و"شارة نصر جلبوع" الذي يُجسّد عملية الهروب الكبير لـ6 أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع، ومسلسل "حساب مفتوح". وفي السنوات الأخيرة ذاتها شهدت الشاشة الفلسطينية محاولات حثيثة من المخرج بشار النجار لتصوير الوضع الاجتماعي والوطني الفلسطيني من خلال المسلسلات التي أخرجها من مسلسل "الأغراب" 2015، إلى "كفر اللوز" 2016 والذي عاد وأنتج الجزء الثاني منه عام 2020، ومسلسل "أولاد المختار" 2019، و"سوق ربع مركزي" 2019، ومسلسل "أم الياسمين" الذي أنتج في 2023.
والمسلسل الأخير "أم الياسمين" يمكن عدّه أحد أقوى المحاولات لصناعة درامة فلسطينية مرتبطة بالواقع، سواء من اختيار الاسم "أم الياسمين" نسبة إلى حارة الياسمينة في البلدة القديمة بنابلس والمرتبطة بشكل وثيق بانطلاقة حالة "عرين الأسود" المقاومة خلال العام الأخير، إضافة إلى اسم بطل المسلسل "وديع" الذي يمثل شخصية الفلسطيني المقاوم للاحتلال البريطاني، تماثلًا مع اسم قائد عرين الأسود الشهيد وديع الحَوَح.
هذا سرد سريع لأهم الأعمال الدرامية التي تناولت القضية الفلسطينية، سواءً تلك التي أنتجت بأيدٍ غير فلسطينية، أو التي أنتجت داخل فلسطين وارتفع عددها بشكل ملحوظ خلال السنوات التسع الماضية، أي بعد العام 2014.
ولكن هل يمكن تصنيف هذه الأعمال أدواتِ قوةٍ ناعمة فلسطينية تسهم في إيصال رسالة القضية الفلسطينية إلى العام؟
صورة من مسلسل قبضة الأحرار
في البحث عن القوة الناعمة
بالعودة إلى قواعد القوة الناعمة الأولى، فإن المسلسلات التلفزيونية تندرج ضمن الوسائل الثقافية للقوة الناعمة لأيّ دولة أو جهة، وحتى تكون هذه الوسيلة الثقافية فعالة داخليًا وخارجيًا فعليها أن تخاطب الجمهور بالطريقة التي تناسبه وباللغة التي يفهمها كذلك، بالإضافة إلى وجوب حملها مضامين تؤثّر في هذا المتلقي سواء كان هذا المتلقي داخليًا أم خارجيًا، وكذلك وضعها في قوالب تجعل من المتابع غير المطلع يفهمها بسهولة وانسيابية دون الحاجة للبحث والتعقيد.
بالنظر إلى المسلسلات التي تناولت القضية الفلسطينية وإخضاعها للمقاييس أعلاه، يمكن القول إن مسلسل التغريبة الفلسطينية تفوّق في جميع المستويات، فقد قدّم حكاية القضية الفلسطينية من خلال أسلوب سردٍ بسيط وقصة سهلة الفهم، وأداء تمثيلي وإخراجي وإنتاجي عالي المستوى، إضافة إلى تقديم القصة بقالب ومضامين عقلية وعاطفية تجيب على الكثير من الأسئلة المتعلقة بالقضية الفلسطينية وقصة النكبة، لكن يبقى القصور في مسلسل التغريبة الفلسطينية أنه ظلّ موجهًا للجمهور العربي ولم ترَ الجهود التي بُذلت من أجل ترجمته وإيصاله إلى الجمهور الأجنبي النور، ولذلك يفتقد التغريبة الفلسطينية إلى أهم ركن من الأركان التي تجعله قوةً ناعمةً حقيقيةً للقضية الفلسطينية.
أما المسلسلات والدراما التي أنتجت بأيد فلسطينية وفي الداخل الفلسطيني، فإن أفضل توصيف لها هو أنها محاولات، وليست دراما حقيقية، نظرًا لمعاناتها من مشاكل عدّة أهمها عدم وجود الحاضنة الأكاديمية لها، إذ إن معظم ممثليها هم من الهواة ومحبي التمثيل، إضافةً إلى الصعوبات التي يفرضها وجود الاحتلال من عدم توفر مواقع تصوير احترافية وإمكانيات حقيقية، لكن يبقى القصور الأكبر هو بعدم التفات صانع القرار الفلسطيني إلى أهمية هذا المجال في إيصال الرسالة الفلسطينية، لتظل الدراما الفلسطينية بلا راعٍ وداعم مادي حقيقي.
يمكن القول إن هذه الأعمال، وخاصةً تلك التي أنتجت في غزة بوصفها نوعًا من الدراما المقاومة، كانت موجهة للجبهة الداخلية بالدرجة الأولى، فأسهمت في تمتين هذه الجبهة وتعظيم دور المقاومة في النفوس، وإبراز عملياتها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وقد قال آفي سخاروف كاتب مسلسل فوضى الإسرائيلي عن هذه المسلسلات: "مسلسلات غزة تصنع بعناية كبيرة تحريضًا مستمرًا على إسرائيل".
هذا الأمر يقودنا إلى القول إن هذه المسلسلات شكّلت قوة ناعمةً جزئيةً استهدفت الجمهور الداخلي ونجحت بالتأثير في شريحة معينة منه، كما يقول وزير حرب الاحتلال الأسبق أفيغدور ليبرمان: "من الواضح أنَّ صناع المسلسلات الفلسطينيين يعرفون كيف يؤثّرون في الرأي العام". وقد تجلّى تأثير هذه المسلسلات على جزء من هذه الشريحة الداخلية حين دفعت مقاومين إلى محاكاة بعض المشاهد التمثيلية لعملياتٍ فدائية افتراضية عرضتها هذه المسلسلات، كما حدث في إحدى العمليات بعد بث مسلسل الفدائي 2015-2016. الأمر الذي جعل السياسي الصهيوني آفي دختر يقول: "الفلسطينيون يشاهدون المسلسلات ثم ينفّذون ما يشاهدون في اليوم التالي".
مسلسل ميلاد الفجر
الشواهد السابقة تقول وباختصار إن للمسلسلات الفلسطينية أثرًا لدى شريحة معينة، لكن غالبية هذه الشريحة منحصرة في المشاهدين الفلسطينيين، ومن ثمّ تشكّل هذه الدراما قوةً ناعمةً داخليةً تحشد التأييد حول المقاومة، غير أنها ما زالت غير قادرة على مخاطبة الجمهور الخارجي سواء الجمهور العربي أو الأجنبي بسبب شح الإمكانيات الأكاديمية والمادية وعدم القدرة على صناعة دراما احترافية تخاطب الجمهور الخارجي برسائل القضية الفلسطينية وهمومها، إضافة إلى أن كثيرًا من الأعمال التي أنتجت في فلسطين لم تراعِ محدوديةَ المعرفة لدى الجمهور الأوسع من غير العرب مثلًا بالقضية الفلسطينية، ما يصنع مساحةً مانعةً بسبب ضرورةِ معرفةٍ سابقةٍ على المشاهدة، وهو ما ينتقص من قدرتها على أن تكون قوة ناعمة خارجية، الأمر الذي يحصر تأثيرها في التحشيد الداخلي.
ختامًا .. لو أخبرت أحدًا من غير المطلعين على سير الأحداث اليومية أن رئيس دولةٍ ما عقد مؤتمرًا صحفيًا في المطار قبل ذهابه في زيارة رسمية إلى دولة في قارة ثانية قال فيه إن أهم الملفات التي سيدرسها رفقة نظيره هي ترجمة مسلسلات دولته ودبلجتها وبثها في تلك الدولة التي سيزورها ربما لن يصدقك، لأن من يتولى ترويج الأعمال الدرامية وبيعها هي القنوات التلفزيونية وشركات الإنتاج، والمسلسلات –كما يبدو- لا تمتلك من الأهمية ما يجعل رئيس الدولة شخصيًا يتحدث عنها .. لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فعل ذلك خلال زيارته لدولة كولومبيا في أمريكا الجنوبية عام 2015.