دون العشرين.. كيف قبض مهند على الزمن وفتح الباب؟!
لم يكن مهند الحلبي قد أتمّ السابعة من عُمُره، حينما كانت معركة مخيم جنين ما تزال دائرةً، بعدما أطلق شارون حملته "السور الواقي" على الضفّة الغربية. وبعد ثلاثةَ عشرَ عامًا فقط، على هذه الحملة، يُطلق مهند الحلبي، حملتَه الخاصّة التي احتار الناس في تسميتها، من "انتفاضة السكاكين" إلى "هبّة القدس".
كيف قبض مهند الحلبي على الزمن وماذا فعل بالناس؟!
استُشهد مهند قبل أن يُتمّ العشرين من عمره، ولكنّه عاش حياةً كاملةً طويلةً عريضةً ناضجةً مثمرةً، لم يزل الناس يتفيؤون ظلالها. وهل يمكن القول، إنّ الموتَ قطف مهند عن شجرة الحياة وهو لم يزل في مهيع شبابه؟!
ما أكبر هذا القول إثمًا! وأعظمُ إثمِه؛ تنكّبه عن الأمر الإلهي: ﴿وَلا تَقولوا لِمَن يُقتَلُ في سَبيلِ اللَّهِ أَمواتٌ بَل أَحياءٌ وَلكِن لا تَشعُرونَ﴾، وإن كان لا يمكن للذين من خلف مهند أن يقطعوا بمآله، فإنّهم يعرفون ظاهرًا من فعله يتجلّى به بعض باطنه، ففي الحديث عن أبي قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله تكفّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبلٌ غيرُ مدبر"، فكيف بالذي خَفَّ بنفسه طائرًا إلى المسجد الأقصى، فيَقتُل ثم يُقتَل، وهو في هذا العمر الطريّ، مُصدّقًا ماضيَ كلامه، الذي امتدّ بلا انقطاع، حتّى فسّره في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015، بما أدهش بمحضه، الناس، ثمّ ظلّ يدهشهم، كما بقي يحملهم!
فتى الصدق والواجب
كيف عاش مهند حياة طويلةً وعريضةً وحقيقيّةً قبل أن يُتمّ العشرين؟!
اكتشف مهند حقيقة الحياة، باكتشافه حقيقتي الصدق والواجب، ومن كان كذلك، يُغبط على اختصاره الحياة، بعيشها كلّها، بقليل من السنوات، في ميزان الناس، وفي الحديث، "أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلّغه ستين سنة"، وكأنّ الأصل في اكتشاف الحقيقة، والقيام بالواجب، أن يكون قبل ذلك، وهنا يَلتزمُ الصدقُ الواجبَ فلا انفصال بينهما، إذ القيام بالواجب، فرع الصدق في دعوى الإيمان وزعم إدراك الحقيقة، ومن ذلك يتولّد الفهم لحقيقة الحياة، فالفهم وليد الإيمان، والقيام بالواجب دليل على الفهم.
فإنّ ما أدركه مهند في قليل من عمره، أدركه، من قَبْله، أعرابيّ في قليل من زمن إسلامه، ففي الحديث، أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك. فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوةٌ؛ غَنِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبيًّا، فقَسَمَ وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قِسْمٌ قَسَمَه لك النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك". قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة. فقال: "إنْ تصدق الله يصدُقْك". فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهو هو؟" قالوا: نعم. قال: "صدق الله فصدقه". ثم كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبّته "صلى الله عليه وسلم"، ثم قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك".
اكتشف مهند حقيقة الحياة، باكتشافه حقيقتي الصدق والواجب، ومن كان كذلك، يُغبط على اختصاره الحياة، بعيشها كلّها، بقليل من السنوات، .. هنا يَلتزمُ الصدقُ الواجبَ فلا انفصال بينهما، إذ القيام بالواجب، فرع الصدق في دعوى الإيمان، ومن ذلك يتولّد الفهم لحقيقة الحياة، فالفهم وليد الإيمان، والقيام بالواجب دليل على الفهم.
هنا يتضح التزامُ الصدقِ القيامَ بالواجب مع الفهم الكامل لحقيقة الحياة في زمن يسير من الإسلام، وفي قلب ذلك، الوعي بالزمن، فالزمن الكامل، ثمّ العمر الكامل، هو الذي يؤدَّى فيه الواجب كاملاً، ولا كمال في أداء الواجب يعلو على أن يترك المرء كلّ شيء خلفه، ساعيًا إلى حتفه في موضع النهوض بالواجب، فيخلّف الدنيا خلف واجبه، أو بعبارة أخرى، يبيع نفسه وماله لله تعالى.
لقد كانت حياة مهند، وبعد ما كان له عند الله من حياة حقيقية يجري فيها عليه رزقه، طويلة عريضة، بقيامه بواجبه في قليل من الزمن. إنّ الزمن الفاصل بين الساعي والواجب، طويل بحسب الشوق الذي في نفس الساعي إلى الواجب، كالزمن الفاصل بين المحب والمحبوب، وبحسب ما هو المحبوب، يكون طويُ الزمن، واستكثارُ قليله، حياةً طويلةً عريضةً حقّةً، وهو تمامًا، كما في شأن عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنصاريّ، في بدر، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض". قال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم". قال: بخٍ بخٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟" قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءةَ أن أكون من أهلها. قال: "فإنّك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم، حتى قتل.
اكتمال الحياة
إنّ الوقت المستهلك في أكل بضع تمرات طويل جدًّا ما دام يفصل عن جنّة عرضها السماوات والأرض، وفي قوله جنّة عرضها السماوات والأرض، كشف لحقارة هذه الدنيا، ثمّ لحقيقة هذه الحياة. والتأمّل في معنى الزمن، بعد التأمّل في المعاني الهائلة المطويّة في قوله "جنّة عرضها السماوات والأرض"، من الشفافية الخالصة التي تتغيّا المعرفةَ والصدقَ في الوجود، والدورَ في الحياة، وهذه من الأركان التي تنهض عليها الصدّيقية، إذ الحياة المعنوية في أصلها، استجابةٌ فمسارعةٌ، وبهذه الاستجابة تنفصل الحقيقة الإنسانية عن الحقيقة البهيمية، لاشتراكهما في مظاهر الحياة الماديّة، ﴿أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعونَ أَو يَعقِلونَ إِن هُم إِلّا كَالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبيلًا﴾، فالاستجابة، المندفعة عن حسن الاستماع والتعقل، هي التي تُحمل عليها الكرامة الآدمية، وتُستدعى بها الحياة الحقيقية ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ إِذا دَعاكُم لِما يُحييكُم وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ يَحولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾، فالعمل، أي القيام بالواجب من بعد الإيمان، تمامُ الحياة، وسبيلُ الثبات على الحق ﴿وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ يَحولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ﴾.
ولمّا كانت الحياة الكاملة، هي تلك التي يُؤدَّى فيها الواجب كاملاً، كانت استحالة طبيعة الحياة، بعد مفارقة الدنيا، للشهداء والمرابطين، ممتازةً عنها لغيرهم، ففي الحديث عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأمن الفتّان"، إذ يظل عمل المرابط الذي اعتاده في الدنيا يجري وكأنّه لم يزل في الدنيا، ثم يُجرى عليه رزقه، في ضرب من المشابهة بينه وبين الشهيد، والله أعلم بالدلالة الدقيقة لهذا القول في شأن المرابط، بيد أنّ الاشتراك بينه وبين الشهيد، في كونه مات في موضع جهاد، وهو الرباط لحماية الثغور، والشهيد قتل في المعركة، فسبيل الله الجامع بينهما، والهجرة إليه، وتوطين النفس في موضع هو مظنة القتل.
والملاحظ أن اختلاف الحياة، في نوع استمرارها، بعد مغادرة الدنيا، يكاد يكون بعد الأنبياء، والله أعلم، في الشهداء والمرابطين، والجامعُ بينهما الجهاد في سبيل الله، وحين ذِكْر المرابطين، يحضر النهوض للقيام بالواجب، فأصل الرباطِ الهجرةُ من موطن الأمن والاستقرار إلى الثغورِ البعيدة التي يَنفُذ منها العدوّ، وهذا باعثُه السعيُ إلى الواجب، إبراءً للذمة، ونصرةً للحق، ومثالُه المتكرِّرُ في القرآن، الرجلُ الساعي من أقصى المدينة، ولمّا كان السعي، ممتلئًا بالواجب، والباعثُ أقوى من باعث الركون إلى الدنيا، كانت حياة هذا الساعي، طويلةً عريضةً بالمعنى الكامل الظاهر للكلمة، من وجهيْن: الأولُ استمرار احتسابِ عملِه له حتى بعد انقلابه عن الدنيا وكأنّه لم يزل فيها، مع أنّه لو ظلّ فيها ربما لفتر عن شيء من عمله، والثاني جريان رزقه عليه، في إشارةٍ إلى نوع حياة حقيقية.
وهذه الحياة غيبيةٌ، لكنّ مضمونها الدنيوي، بتمامِها، وتمامُها في إنهاء الغرض الدنيوي منها، فحياة الإنسان تنتهي بانتهاء الغرض من وجوده في الدنيا، ومن ثَمّ استُنبطَ قُرْبُ انتقال النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، من قوله تعالى: ﴿إِذا جاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ وَرَأَيتَ النّاسَ يَدخُلونَ في دينِ اللَّهِ أَفواجًا فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إِنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾، فالتسبيح والاستغفار بعد انقضاء المهمة، فالساعي الكامل لا يستعظِمُ دوره، ولا يدّعي كماله، ويشكرُ ربه لاتخاذه لهذا الدور، ويمكنُ التأمّل حينئذٍ، في الكسب العظيم، حينما يحوز ذلك شابٌ دون العشرين، وأوّل ما حازه أنه عرف دوره، فتمكّن من إنجازه في زمن يسير، يعني نال الحياةَ الكاملة في زمن يسير!
أصل الرباطِ الهجرةُ من موطن الأمن والاستقرار إلى الثغورِ البعيدة التي يَنفُذ منها العدوّ، وهذا باعثُه السعيُ إلى الواجب، إبراءً للذمة، ونصرةً للحق، ولمّا كان السعي، ممتلئًا بالواجب، والباعثُ أقوى من باعث الركون إلى الدنيا، كانت حياة هذا الساعي، طويلةً عريضةً بالمعنى الكامل الظاهر للكلمة، من وجهيْن: الأولُ استمرار احتسابِ عملِه، والثاني جريان رزقه عليه
"ادخلوا عليهم الباب" .. فقد فتحه مهند
لكن هل كانت حياة مهند الحلبي طويلة عريضة بهذا المعنى الغيبي فحسب؟!
لقد فتح مهند الحلبي من باب الأسباط للفلسطينيين زمنًا جديدًا، قد يكون أطول أزمنتهم وأعظمها، فالزمن الذي انفتح من باب الأسباط بقوّةِ الإيمان المندفعةِ من قلب مهند إلى ساعده، لم يَنْغلق، ويبدو أنّه قد أخذ في الاتساع، فالثورة هذه المرّة من المسجد الأقصى وإليه، وتبني نفسها بالشهداء الذين ظلّت أعدادهم تترا خلف مهند، وتستحيل من السكين التي هدى الله مهندًا إليها إلى البنادق التي تتلمس إضاءة الطريق للبقية بفوّهاتها، فانظر كيف بورك في الزمن من بعده، وكيف منحَ الفلسطينيين حياةً جديدةً، وفتح لهم بابًا واسعًا، ووحده الغافل الذي لا يرى هذه الاستطالةَ الذكية من النور من عزيمة مهند من باب الأسباط وصولاً اليوم إلى عموم فلسطين.
مهند الذي كان طفلاً، بالكاد يغادر الصفّ الأوّل الابتدائي، حينما بدأ العدوّ بتفكيك انتفاضة الأقصى، كان، في ذكرى انتفاضة الأقصى، يحفر للفلسطينيين، ثورةً بطيئةً، ولكنها أعمق من انتفاضة، وكان يربط مسعاه، في تجديد الفلسطينيين، ونفْخِ الحياة فيهم من جديد، بالمسجد الأقصى، لتلتقي، والحالة هذه، بركة السعي ببركة المسجد، فكم حياةً عاش مهند، وكيف قبض على الزمن، وماذا فعل بالفلسطينيين من بعده؟!
لقد فتح مهند الحلبي من باب الأسباط للفلسطينيين زمنًا جديدًا، قد يكون أطول أزمنتهم وأعظمها، فالزمن الذي انفتح من باب الأسباط بقوّةِ الإيمان المندفعةِ من قلب مهند إلى ساعده، لم يَنْغلق، ويبدو أنّه قد أخذ في الاتساع
حين النظر في بعض ما كتبه قبل استشهاده، يمكن إدراك وعيه بدوره، وإرادتِه على أن يكون مفتاح تلك البوابة العظيمة لزمن الفلسطينيين الآتي، "حسب ما أرى فإن الانتفاضة الثالثة انطلقت"، هكذا قال، وإلى هذا كان يسعى، فلم يكن يترقب، ولا كان يحلّل، ولا كان يستدعي الإعجاب من الناس، ولا الإكثار من الكلام، وإنما كان يفتّش عن أوّل الطريق إلى زمان الفلسطينيين الجديد. كتب ذلك قبل واحدة وعشرين ساعةً من استشهاده. هو لم يكن يبحث عن انتفاضة يعيش فيها، وإنما كان يبحث عن السبيل لانتفاضة يعيش فيها غيره، فبادر هو بشقِّ الطريق بنفسه. فبورك ما فعل، وجرى ببطءٍ ولكن بعمق في الناس!
كان مهند على طريقة الرسول صلّى الله عليه وسلم، يحسن الظنّ بالناس، ولا ييأس منهم، فهو وإن كان يقوم بالواجب، إلا أنه كان يفتح الطريق لشعب، يدرك مهند بفطرته الذكيّة قابليته للحياة المتجددة، فكتب: "ما يجري للأقصى هو ما يجري لمقدساتنا ومسرى نبيّنا، وما يجري لنساء الأقصى هو ما يجري لأمهاتنا وأخواتنا، فلا أظن أنا شعب يرضى بالذل. الشعب سينتفض، بل ينتفض".
حين النظر في بعض ما كتبه قبل استشهاده، يمكن إدراك وعيه بدوره، وإرادتِه على أن يكون مفتاح تلك البوابة العظيمة لزمن الفلسطينيين الآتي، "حسب ما أرى فإن الانتفاضة الثالثة انطلقت"، هكذا قال، وإلى هذا كان يسعى، فلم يكن يترقب، ولا كان يحلّل، ولا كان يستدعي الإعجاب من الناس، وإنما كان يفتّش عن أوّل الطريق إلى زمان الفلسطينيين الجديد
مهندًا .. للناس
ولا أحسب أنني قرأت عبقريةً مسطورةً كهذه في هذه الأزمنة. فأوّل ملاحظته، كانت تجديد الانتفاضة، ثم انعطف ليبين حقيقة المسجد الأقصى من كونه مقدّسًا ومسرى نبيّنا صلّى الله عليه وسلم، فأذكى الدافع في الناس، ثم عزّز الدافع باستعادة مفهوم الرَّحِمِ الجامع، فكلّ فلسطينيةٍ هي أمٌّ لنا وأخت، ثم بعد ذلك ماذا يُتوقع من شعب الانتفاضات والثورات العظيمة؟ هذا شعب سكونه محض قشرة. لم يكن مهند ليزكِّيَ نفسه على الناس، ولا ليَيْأس من الناس، وهو وإذ لم يكتفِ بالأمل في الناس، جعل من نفسه داعيةَ هذا الأمل، وهو يتحدث عن الناس لا عن نفسه، ثم بدا له أن الشعب قد انتفض بالفعل، وكأنّه لا يرى نفسه طليعة هذا الشعب، ولا فاتح الباب له، وإنما يستفيد عزيمتَه منه، وهذه غاية الغيبة عن النفس، وإهدار حظّها، وملاحظة معدن الزكاة، الذي هو من الله وحده ﴿فَلا تُزَكّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعلَمُ بِمَنِ اتَّقى﴾، ﴿وَلَولا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ ما زَكى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكّي مَن يَشاءُ وَاللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ﴾.
كيف أدرك مهند الخير الصاعد في الناس فسارع لتعظيم هذا الخير. كيف أحبّ مهند الناس، فسارع إلى فداء الناس بدمه؟
هذا شعب سكونه محض قشرة. لم يكن مهند ليزكِّيَ نفسه على الناس، ولا ليَيْأس منهم، وهو وإذ لم يكتفِ بالأمل في الناس، جعل من نفسه داعيةَ هذا الأمل، ثم بدا له أن الشعب قد انتفض بالفعل، وكأنّه لا يرى نفسه طليعة هذا الشعب، ولا فاتح الباب له، وإنما يستفيد عزيمتَه منه، وهذه غاية الغيبة عن النفس، وإهدار حظّها
الشهداء يصدرون عن الشهداء، وهكذا، يولد مع كل شهيد شهيد آخر، فالشهادة ولادة، وتناسل. كان رفيق درب مهند، وصاحبه، الشهيد ضياء تلاحمة، قد استشهد في ميدان الواجب، ثمّ ماذا فعل مهند؟ نظر في الناس في حفل تأبين ضياء، فرأى حشدَ الناس الكبير، وبكاءَهم، وتبسّم والديه، فخاطب الناس: "قمتم بواجبكم على أكمل وجه، أحييكم على وطنيتكم وانتمائكم وإخلاصكم وجهودكم، مشكور من شارك في هذا العرس، دمتم فخرًا للوطن وللقدس وجامعة القدس، رفعتم الرؤوس عاليًا، دمتم فخرًا لجامعتكم ووطنكم. بعدما رأيت اليوم؛ اطمأننت وأيقنت بأنّ هذه الجامعة ستخرّج جيلاً يُحتذى به وستخرج جيلاً بناء ينتمي للوطن".
الشاب الذي فتح الزمن الجديد بدمه، يرى حضور تأبين شهيد قيامًا كاملاً بالواجب! فهل يمكن للمرء أن يسأل عن حقيقة النفس الشفافة الرفيقة العطوفة الرحيمة المحبة بعد هذا المثل الحيّ لها؟! ولكنّه لمّا أدرك أن الشهيد آخذٌ في العودة معيارًا للناس، أدرك أنّ الناس آخذةٌ في القيام بالواجب، والزمنَ آخذٌ في التجدّد، وأنّ ما تبقّى عليه، هو أن يعطيَ من دمه ونفسه للزمن الدفعةَ الباقية لاستكمال دورة التجدّد، أو أدرك أنّ هذا الدور المنوطُ به، أو المختارُ له، فسارع بالاستجابة، وأتمّ حياته الكاملة!
في الحديث: "إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلكهم"، فالذي يزعم هلاك الناس، إما أنه أكثرهم هلاكًا، أو هو من أسباب هلاكهم، ومهند في جمع عجيب بين إحسانه الظنّ بالناس، وإقدامه لفتح الباب لهم بنفسه، مع عدم ملاحظته نفسَه في الوقت نفسِه، كان يقبض على الزمن ثم يبسطه للفلسطينيين من جديد، ويرسل لهم تحياته: "مسا الخير لكلّ شخص الأقصى شاغل باله"، وإذا بها تحية تزداد انبساطًا على مساءات الناس وخيرًا في صباحاتهم، وإذا بها تحية، ستذهب مثلاً، في الرجل الذي يستبدّ به همّ مقدس، ويمتلئ انشغالاً عظيمًا!
الشاب الذي فتح الزمن الجديد بدمه، يرى حضور تأبين رفيقه الشهيد ضياء تلاحمة قيامًا كاملاً بالواجب! فهل يمكن للمرء أن يسأل عن حقيقة النفس الشفافة الرفيقة العطوفة الرحيمة المحبة بعد هذا المثل الحيّ لها؟! ولكنّه لمّا أدرك أن الشهيد آخذٌ في العودة معيارًا للناس، أدرك أنّ الناس آخذةٌ في القيام بالواجب، والزمنَ آخذٌ في التجدّد، وأنّ ما تبقّى عليه، هو أن يعطيَ من دمه ونفسه للزمن الدفعةَ الباقية لاستكمال دورة التجدّد